طارق مصطفى حميدة
New member
داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ( 3)
ففهمناها سليمان!!
طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية
- سليمان والمرأتان
أول ما يسترعي الانتباه ويستدعي الدهشة لقارئ هذه القصة، هو التساؤل عن السبب الذي جعل المرأة الثكلى تبادر وتسارع الى الادعاء بأن الابن المقتول هو ابن صاحبتها، وأن الآخر السليم الناجي هو ابنها، إذ كيف يختلط عليها هذا الأمر؟ والمفروض أن الصورة غير الصورة، والثياب غير الثياب، وربما اختلف العمر أيضاً، وإذا التبس الأمر على كل الناس فكيف يلتبس على الأم؟
أغلب الظن أنه شعور بالحسد لصاحبتها التي سلم لها طفلها، ولم يتقطع قلبها عليه أو يغمرها الحزن والألم لفراقه، بعكسها هي؛ إنها إذن تريد الولد الصغير لا لترعاه وتغمره بحنانها، ولكن لأجل إيلام والدته وإيلامه، حتى لو وصل الأمر إلى قتله كما حصل لابنها، إنها تتلذذ بالعدوان والإيذاء على الآخرين، انطلاقاً من نفسية مريضة وعاطفة سلبية، يؤكد هذا المعنى أنها لم تمانع في أن يشق سليمان الولد نصفين .
إن الصراع على الطفل، بين المرأتين: الأم الحقيقية والأم الموتورة المزيفة، يكاد يطابق الصراع بين القيادتين الإسلامية والجاهلية وكل منهما تسعى ليكون الشعب تحت زعامتها، وتعلن كل منهما أنها الأحق بقيادة ورعاية الجماهير، وأنها الأم الحقيقية للشعب والحريصة على مصالحه .
في القصة ذهبت المرأتان إلى داود عليه السلام فقضى بالولد للكبرى، مع أن الولد في الحقيقة - وكما يظهر في نهاية القصة - هو ابن الصغرى، وهذا يعني أن المظهر كثيراً ما يخدع فمن يصدق بأن الكبير يكذب؟ إن الكذب، كما يظن الكثيرون، يمكن أن يصدر عن الصغير، أما الكبير فلا .
هذا أمر، والأمر الآخر الذي يستنبط من السياق أن المرأة الكبرى - وهي الأم المزيفة - كانت ألحن بالحجة، وأقدر على التظاهر بالحرص على الولد ... وهذا السبب - فيما يبدو - هو الذي جعل داود عليه السلام يحكم بالغلام لها بعد سماعه لحجة المرأتين .
وفي الصراع بين الإسلاميين والجاهليين تبرز قضية (الحجم)؛ فالزعامة الجاهلية هي (الكبرى) من حيث القوة والعدد، وهي الأسبق زمناً في التواجد، فيما يتراءى للناظر، عندما يأتي الرسل بعد انحراف أقوامهم، أو تأتي دعوات إصلاحية تجدد للناس أمر دينهم، ويكون الإسلاميون هم الأقل عدداً وقوة والمتأخرين زمنياً ... الأمر الذي يُظهرهم بمظهر الدخيل الطارئ المعتدي، وأما الجاهليون فيظهرون بمظهر الطرف الأصيل والأحق بقيادة الشعب، حتى في أعين كثير من " المنصفين!".
إن (الكبرى) وما تمتلكه من رصيد الخبرة والتجربة في التعامل، يعطيها إمكانية التأثير حتى على القضاة والأنبياء، بعكس (الصغرى) التي لم تعركها الحياة ولم تنضجها التجارب، ولما تبسق أغصانها، وتتعمق في الأرض جذورها .
وبالتالي فأين قادة الحركات الإسلامية من الملك الفلاني، أو الرئيس العلاني، أو القائد الشعبي العريق والممثل الشرعي لقومه؟ وقبل ذلك أين موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون القائل: ﴿ أليس لي ملك مصر﴾؟ وأين محمد صلى الله عليه وسلم، من زعماء قريش والطائف بميزان القوى الأرضية؟ ولذلك قالوا:﴿ لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم﴾ .
لكن الأم الحقيقية لم تتوقف عن المطالبة بحقها في ولدها بعد الحكم الاجتهادي من داود عليه السلام في الولد للكبرى، بل تتوجه إلى سليمان لتحكي له قصتها، وهو أمر طبيعي وواجب في حق الأمهات تجاه الأبناء، ولكن المستغرب أن الأم المزيفة هي الأخرى ترافقها الى القضاء، ولا تتهرب من المحكمة لا أمام داود، ولا عند سليمان عليهما السلام، والملاحظ أنها تتحرك وتواجه بثقة، الأمر الذي يوحي بصدقها وأمومتها للطفل، ما يجعل مهمة الأم الحقيقية أكثر صعوبة .
وحين يستمع سليمان عليه السلام، الى القصة، يقوم باختبار شعور الحرص والشفقة على الغلام، فيأمر مَن حوله أن يحضروا له سكيناً ليشق الغلام بين المرأتين، فأما الكبرى فسكتت راضية بالأمر، وأما الصغرى - وهي الأم الحقيقية - فما كانت لتحتمل ذلك، فصاحت قائلة: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها .فهي هنا مستعدة لتتخلى عن حقها في ولدها وحضانته، وترضى بأن تتحمل آلام بُعده عنها، وأن يعيش مع امرأة لن تدخر جهداً في ظلمه، وهضم حقوقه وإيذائه نفسيا وجسديا، المهم – عندها - أن يعيش ويظل على قيد الحياة .
إن الحركات الإسلامية في سعيها لتولي القيادة واستلام زمام الأمور، وتنافسها مع القيادات الجاهلية، تستخدم كل الوسائل القانونية أمام محاكم العقل والفكر والعمل، لتأكيد أحقيتها وهي تحمل شرع الله، بقيادة المجتمع، ولكن حرص الزعامات الجاهلية واستمساكها بالكراسي يجعل المهمة الصعبة، وكل طرف يمسك بالشعب من جهته ويحتدم الصراع إلى درجة يصبح فيها الاستمرار في (الشد) مؤدياً إلى تمزيق الشعب، وتقطيع أوصاله، وإنهاك قوته، وإهدار طاقاته ومقدراته.
وعندها يتراجع الإسلاميون خطوة إلى الوراء، لا شكاً في أحقيتهم، أو يأساً من الوصول إلى هدفهم؛ بل حرصاً منهم على الشعب الذي يريدون له الخير والنجاة والسلامة، لأن بقاء الشعب فتره إضافية من الوقت تحت الظلم أفضل ألف مرة من سوقه الى معركة لن تحرره بل ستفنيه عن آخره.
وإذ يلمس نبي الله سليمان عليه السلام مشاعر المرأتين تجاه ذبح الولد، لا يبقى لديه شك في أنه ابن الصغرى فيحكم به لها .
والإسلاميون ليسوا على استعداد - كما القيادات الجاهلية - للتضحية بالشعب على مذبح حب الزعامة، وهذا الأمر لن يفقدهم أحقيتهم في قيادة الشارع بل سيرسخ في الأذهان أنهم الأولى والأحق إذ ضنوا بالدماء أن تسفك دون ثمن.. ولعل في هذه القصة ما يوحي بأن الله تعالى وكما ألهم سليمان فحكم بالولد لأمه، فسيقضي بقيادة الشعوب لمن حمّلهم رسالة الاسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وقد يعترض معترض بقوله إن هذا الطرح يتناقض مع الدعوة إلى الجهاد وحب الاستشهاد وطلب الموت في سبيل الله ... وأقول بأن كلا الأمرين مناسب في وقته ومحله، والدواء قد يكون عسلاً أو حنظلاً أو كيّاً بالنار، أو بتراً واستئصالاً لبعض الأعضاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيرا.
الجزء السابق من هذه المقالة كُتب قبل أكثر من ثلاثة عقود، ونشرته في جريدة ( صوت الحق) التي كانت تصدر في أم الفحم بفلسطين، ثم أعدت نشره في عدد من المواقع على الشبكة العنكبوتية مطلع القرن الحالي، وكنت سمعت فكرة المقالة من خطبة لأستاذنا الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس رحمه الله، وقد رأيت إثبات المقالة كم نُشرت أول مرة تقريباً في هذه الحلقة، مع كل ما تتضمنه من طريقة تفكير الكاتب آنذاك، والظروف المحيطة المؤثرة في الموضوع وأسلوب صياغته، وبالرغم من التغيرات الكبيرة بين واقعنا وتلك الظروف.
- ففهمناها سليمان
يلفت الانتباه أن القرآن الكريم قد عرض اثنتين من قصص التحاكم إلى داود عليه السلام، تلك الواردة في سورة (ص) التي أوردت نبأ الخصم الذين تسوروا عليه المحراب، ليقضي بينهم، وقضية الحرث الذي نفشت في غنم القوم في الآيات السابقة، فضلاً عن قصة المرأتين سالفة الذكر التي جاءت في الحديث النبوي، وحيث إن داود كان خليفة في الأرض، وورثه ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام، فلعل المقصود الأول من عرض أكثر من قضية للحكم فيها، أن يتعزز لدى محمد عليه الصلاة والسلام وصحبه، ثم الأمة من بعده، أنهم حينما سيقومون بوظيفة الخلافة في الأرض، فلا بد من قيامهم بحل النزاعات بين الناس، والحكم في خصوماتهم، وإقامة العدل، بل والسعي لتحاشي تلك النزاعات وغيرها، وتلك نماذج من خلافة سابقة لهم فليعتبروا بتجربتهم.
في هذه القصة القرآنية، كما في القصة الواردة في الحديث النبوي السابق، قضية وشكوى تعرض على النبيين الكريمين، وفي الحالين يؤتى سليمان عليه السلام فهماً خاصاً في وجود والده. لكن حضور سليمان عليه السلام في القضيتين سالفتي الذكر، يشير أن داود عليه السلام، وهو يُعدِّه لوراثته وتسلم الخلافة والحكم من بعده، كان يُجلسه عنده أو في غرفة إلى جانبه، فيتدرب على الحكم والقضاء بمشاركة والده أو بعد قيامه بالقضاء.
فالمرأتان خرجتا بعد حكم داود إلى سليمان، ما يعني أنه عليه السلام كان يعيد سماع الخصومات بعد قضاء أبيه، فيؤكد الحكم، أو يصوّب، لكن يظهر في قضية الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم أن سليمان وداود عليهما السلام كانا معاً في الحكم بدلالة قوله تعالى: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾، حيث كانا يتداولان معاً في القضية موضع النزاع، ففهّم الله سليمان الحكم الصواب، وأيده داود، ولم يرد في القرآن ولا صحيح السنة تفصيل أو تحديد لحكم النبيين أو أحدهما في هذه المسألة، وحين يرى داود ما متع الله به وارثه من حسن الفهم تقر عينه، ويطمئن إلى الدين والأمة من بعده.
ولعل من الحكمة في ذلك بيان فضل سليمان وأهليته لوراثة الخلافة بعد داود عليهما الصلاة والسلام، وهو درس مهم لأمة محمد عليه الصلاة والسلام التي ستتسلم الخلافة إلى قبيل الساعة، فلا بد لكل جيل يتسلم الخلافة أن يهيء الجيل الوارث ويدربه ويشركه في شؤون الحكم والإدارة والقضاء.
وربما أفاد تخصيص قضية الحرث الذي نفشت فيه الغنم، بيان أهمية الزراعة لمجتمع الخلافة وضرورة العناية بها، وحلّ الإشكالات التي قد تقع بين المزارعين أنفسهم، أو بينهم وبين غيرهم كما في هذه القضية، وفي السُّنة النبوية أكثر من قضية تتعلق بشؤون الزراعة.
وكذلك الأمر بالنسبة للغنم والثروة الحيوانية بعامة، إذ هي الركن الثاني في السلة الغذائية بعد الزراعة، وقد أورد القرآن قضيتين تتعلقان بالغنم: هذه، وقصة صاحب النعاج التسعة والتسعين وأخيه، حيث الغنم من جهة قد تشكل محلاً للنزاع والتعدي على الحقوق، ومن جهة أخرى فرعي الغنم ورعايتها من الأعمال التي مارسها كل الأنبياء، إذ كان رعي الغنم مقدمة لازمة لقيادة الأمم ورعاية شؤونها، ولعل في ذلك إشارة إلى ضرورة أن تولي أمة الخلافة أهمية خاصة للثروة الحيوانية وبالأخص الأغنام.
وربما يستفاد من تكرر قضايا الأغنام أن المجتمع كان لا يزال أقرب إلى المجتمع الرعوي البدوي، مع بدايات للتحول إلى المجتمع الزراعي بدلالة الحرث الذي نفشت فيه الغنم، كما أن إضافة الغنم إلى القوم ( غنم القوم) قد يشير إلى أن غالب القوم كانوا أصحاب غنم، أو أن أصحاب الغنم كانوا يمثلون جماعة مستقلة كقبيلة أو قرية مجاورة غير أصحاب الحرث، والله أعلم.