خواطر منتصر - كثرة الخوض في الشبهات كظلمات أمواج متلاطمة فاحذر من الغرق

إنضم
14/05/2012
المشاركات
1,111
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الأردن
في نهاية كتابة أطروحتي للدكتوراه طلب مني طالب علم نسخةً من المادة العلمية التي جمعتها فيما يختص بشبهات مواقع الإنترنت غير الإسلامية حول القرآن الكريم، وكانت في حوالي 3500 صفحة بحجم A4 ثم أعادها بعد أسبوع، وسألني مازحاً: عشتَ بين هذه الشبهات سنتين ولا زلتَ مسلماً؟

فخطر ببالي أن أكتب هذه الخاتمة للباب الثالث من الأطروحة:

وفي خاتمة هذا الباب، يجب التنبيه إلى أن كثرة الشبهات ودعاوَى وجود أخطاء وتناقضات في القرآن الكريم، من حيث الموضوعات والإعجاز والأسلوب والعلوم المتعلقة به.. لا تدل على حتمية وجود الأخطاء؛ لأن " العدل في الشيء صورة واحدة، والجَور صوَره كثيرة، ولهذا سَهُلَ ارتكاب الجور، وصَعُبَ تحري العدل. وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها؛ فإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعاهد، والخطأ لا يحتاج لشيء من ذلك ".([1])

بل الأصل في الدعاة الفرح بمخالفة أولئك القوم لنا، وهذه حكمة الله تبارك وتعالى،
" فمن قدّر أنه يسلم من طعن الناس، وعيبهم فهو مجنون.. من حقّق النظر، وراضَ نفسه [من الرياضة] على السكون إلى الحقائق ـ وإن آلمته في أول صدمة ـ كان اغتباطه بذم الناس إيّاه أشدّ وأكثر من اغتباطه بمدحهم إيّاه؛ لأن مدحهم إياه: إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله. وإن كان بباطل فبلغه فسرّه فقد صار مسرورًا بالكذب، وهذا نقص شديد.

وأما ذمُّ الناس إيّاه: فإن كان بحقٍ فبلغه، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لايزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل فبلغه فَصَبَرَ ـ اكتسب فضلاً زائدًا بالحِلم والصبر، وكان مع ذلك غانمًا لأنه يأخذ حسنات من ذمّه بالباطل، فيحظى بها في دار الجزاء ".([2])

صحيح إن الشبهات المثارة كثيرة، لكن الكثرة لا تعني الصحة، وكثرة أتباع فكرةٍ ما لا تعني بالضرورة صحة ما هم عليه، نعم هم كثير " ولكن الحق لا يتبع الكثرة؛ فإن الحق خفي لا يستقل بدركه إلا الأقلون، والباطل جلي يبادر إلى الانقياد له الأكثرون. وأنتم فقد بنيتم الترجيح على قيام الشوكة بكثرة الأنصار والإشباع، وهذا إنما يستقيم لو كانت الإمامة في أصلها تنعقد باجتماع الخلق على الطاعة ".([3])

إن ظلام الشبهات يزول بنور العلم: فـ " الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكاً؛ لأنه قد رسخ في العلم. فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة ".([4])


[1]) هذا القول منسوب لأفلاطون، انظر: لباب الآداب، أسامة بن منقذ، ص 456.
[2]) الأخلاق والسير، ابن حزم، ص55.
[3]) فضائح الباطنية، الغزالي، ص 174. ويقصد بالجملة الأخيرة: إن الباطل قد تساعده دولة متمكنة (صاحبة شوكة)، فتسخر إمكانياتها لنشره وتأييده، وهذا يكون عاملاً مساعداً لنشر الباطل، ويزيد من غربة الحق وأهله.
[4]) مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية 1/ 140.
 
الحق خفي، والباطل جلي، وتحري العدل صعب .. كلام مرجوح بالشارع والواقع، ففي القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، والواقع يشهد من الناس من أسلم وآمن وأحسن بعد التمعن في ترجمة لمعاني القرآن؛ ولكن نقول الحق بسيط والباطل مركب {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه}. وأرى أن كثرة الشبهات بشيء ذكره القرآن وتنبأ به وهو ( الإعراض ) كما قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وهم وجدوا هذا الإختلاف الكثير لأن {عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فظنوا أن مفاتيحها في تلك السبل - من خلال قراءة القرآن بأحكام مسبقة وعلى خلفية تلك السبل - فضلوا الصراط إذ إختلقوا الشبهات وأكثروا في ذلك وهذا نتاج حتمي يسري على كل شيء قابل للمعرفة، ولو طلبوها من جهة التدبر لوصلوا ولقلَّ الإختلاف حتى يندثر ولا يبقى إلا الذي هو كذلك لغيره لا لذاته ففوق كل ذي علم عليم ولا كمال إلا لله عز وجل. ثم تأتي الأسباب الفرعية على رأسها التعصب حيث لا مجال للإحتمالية التواصلية {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} عند محاولة التعرّف على الآخر، ثم المغالطات العقلية التي ذكرها القرآن الكريم من الإحتكام إلى السلطة، والكثرة، والكبراء، والقياس الناقص والتعجل بالقرآن قبل تحقيق وتنقيح وتخريج السياق العام والخاص إلى غير ذلك .. ولا ننسى المسببات الداخلية مما أنتجه العقل المذهبي-الطائفي وسطره في التراث من غث وباطل ومزيف مردود وموقوف ومما لا يرجى منه فائدة معرفية ولا عملية، ولهذا نرى أن المخالف المعاند الذي اطلع على التراث صاحب حرفة في بث الشبهات لا يتصف بها المعاند الجاهل بما في التراث!! أليس كذلك أستاذنا د/ الشريف ؟

بل العكس هو الصحيح حيث الدفاع عن الباطل أصعب من إظهار الحق وعندما يحاول صاحب الباطل الدفاع عن باطله ترى صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، فيشرق ويغرب ويذهب بك شمالا وجنوبا ليوصل في الأخير فكرة حاملة لعوامل هدمها، وهذا قابل للتجريب فخذ أي شيء في المذاهب والمدارس مما يبنى عليه التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل وقل لهم إن كان لهذا الأمر أهمية بالغة إلى تلك الدرجة فلابد من أن يكون في محكم القرآن مفصلا أو في محكمه مجملا تفصيله في سنة يقينية الثبوت والدلالة، فسترى العجيب العجاب من تأويل بعيد ولي أعناق النصوص وخلط وجلط وطحين وعجين..

وإنا لنلاحظ أن الإنسان يعمل قاعدة ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)) في كل ما يتعلق بشؤون المعاش في الأمور الدنيوية إلا عندما يتعلق الأمر بطلب الحقيقة تراه ينقلب على عقبيه، ولو طبق المسيحيون القائلون بالتثليث هذه القاعدة والتي لها علاقة واضحة بنصل أوكام في تعاملهم مع الكتاب المقدس لما كانت هناك حاجة لكل تلك التعقيدات، والحجب التي اصطنوعها بينهم وبين الكتاب من إجماع هذه الكنيسة وتلك، هذه المجامع وتلك، مع العلم أن هذا الكتاب لا يعلم له أصل ولا وصل على وجه التحقيق والظن الغالب، إلا أنه كان كافيا لطوائف مسيحية أخرى لا تقر بالتثليث. وهنا يأتي دور ( الهوى ) لنرى من يدافع عن معتقده وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته إذ ذاب المعتقد وصار جزء من الهوية، ونقد الذات ليس بشيء يقدر عليه كل من هب ودب، فوجب تذكير الإنسان قبل محاورته أو تعليمه، وكل ميسر لما خلق له.
 
نعم، هذا في صفوف الباحثين عن الحقيقة، وليس عامة أهل الأرض وأكثرهم ممن استمرأ ما وجد عليه آباءه.

فقد ردت جملة " أكثر الناس " في القرآن الكريم حوالي 20 مرة
وتوقف كثير من المفسرين عند سبب أنها كلها في سياق الذم:
" لا يعلمون .. لا يؤمنون .. لا يشكرون .. بمؤمنين .."
وكل تلك التفاسير تعود إلى معنى واحد
وهو أن طريق الحق واحد لا يتعدد
وطرق الضلال كثيرة متشعبة
الصراط المستقيم (واحد) - في مقابله: السبل (متعددة)
النور (واحد) - في مقابله: الظلمات (متعددة)

وتناول بعضهم الأمر من زاوية أخرى وهي سهولة الهدم وصعوبة البناء وذلك بسبب استجابة أكثر الناس لما يصرفهم عن النظر إلى طريق الحق الواضح - بمنظاري العقل والفطرة - كالشهوات والشيطان ومتاع الدنيا.

فالمنتصر للحق بحاجة إلى تخلية ذهن الطرف الآخر عن الشهوات والشبهات المتراكمة ثم تحليتها بالحق.
ونظراً لكثرة تلك الطرق: فمن المتعذر أن يحيط أي منتصر للحق بها جميعها، وأن يجد وقتاً لحوار العدد الكبير منهم، ولقلة المناصرين له (البنائين)، ولكثرة العاملين على إفساد الناس (الهادمين)، ولا شك بأن الهدم أيسر من البناء.. فكيف إن كان البناؤون قلة والهادمون كثرة!
 
نعم مولانا الشريف، لكن هل نحاول هنا تحليل "كثرة الشبهات" أم "كثرة المشتبه عليهم" فالفرق واضح ؟ قلتُ لا علاقة لكثرة الشبهات بصفتي الخفاء والجلاء للحق والباطل تباعا، بل العكس هو الصحيح؛ أما كثرة المشتبه عليهم من الجهلاء والمعاندين والمفسدين والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل فموضوع آخر حيث نتحدث عن إخفاء الحق أو الجهل به أو الإهمال وإظهار الباطل لا على أن الحق خفي والباطل جلي، فلابد من التمييز بين الأمرين. فلنتذكر هنا الجدال القديم بين أهل السفسطة وأهل الحكمة، والذي عاد في حلة جديدة، حول المعرفة هل ممكنة هي، أم نتوقف (لاأدرية) أو نعاند (عنادية) أو نعندن (عندية) في أمرها؟ أما أهل طلب الحكمة فقالوا المعرفة ممكنة لأن هذه الحقيقة فطرية فالإنسان حيوان عاقل أي هو كذلك بطبعه، وأن العقل السليم يؤكد ذلك، وبما يحمله الباطل من تهافتات ذاتية، وأما أهل السفسطة بإتجاهاتها الثلاثة - بل أكثر - فركبوا العديد من الشبهات وسخروا الكثير من الملاحظات والخطابات للإعتراض، فهل نقول عن إمكانية المعرفة أنها شيء خفي؟
 
في نهاية كتابة أطروحتي للدكتوراه طلب مني طالب علم نسخةً من المادة العلمية التي جمعتها فيما يختص بشبهات مواقع الإنترنت غير الإسلامية حول القرآن الكريم، وكانت في حوالي 3500 صفحة بحجم A4 ثم أعادها بعد أسبوع، وسألني مازحاً: عشتَ بين هذه الشبهات سنتين ولا زلتَ مسلماً؟

فخطر ببالي أن أكتب هذه الخاتمة للباب الثالث من الأطروحة:

وفي خاتمة هذا الباب، يجب التنبيه إلى أن كثرة الشبهات ودعاوَى وجود أخطاء وتناقضات في القرآن الكريم، من حيث الموضوعات والإعجاز والأسلوب والعلوم المتعلقة به.. لا تدل على حتمية وجود الأخطاء؛ لأن " العدل في الشيء صورة واحدة، والجَور صوَره كثيرة، ولهذا سَهُلَ ارتكاب الجور، وصَعُبَ تحري العدل. وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها؛ فإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعاهد، والخطأ لا يحتاج لشيء من ذلك ".([1])

بل الأصل في الدعاة الفرح بمخالفة أولئك القوم لنا، وهذه حكمة الله تبارك وتعالى،
" فمن قدّر أنه يسلم من طعن الناس، وعيبهم فهو مجنون.. من حقّق النظر، وراضَ نفسه [من الرياضة] على السكون إلى الحقائق ـ وإن آلمته في أول صدمة ـ كان اغتباطه بذم الناس إيّاه أشدّ وأكثر من اغتباطه بمدحهم إيّاه؛ لأن مدحهم إياه: إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله. وإن كان بباطل فبلغه فسرّه فقد صار مسرورًا بالكذب، وهذا نقص شديد.

وأما ذمُّ الناس إيّاه: فإن كان بحقٍ فبلغه، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لايزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل فبلغه فَصَبَرَ ـ اكتسب فضلاً زائدًا بالحِلم والصبر، وكان مع ذلك غانمًا لأنه يأخذ حسنات من ذمّه بالباطل، فيحظى بها في دار الجزاء ".([2])

صحيح إن الشبهات المثارة كثيرة، لكن الكثرة لا تعني الصحة، وكثرة أتباع فكرةٍ ما لا تعني بالضرورة صحة ما هم عليه، نعم هم كثير " ولكن الحق لا يتبع الكثرة؛ فإن الحق خفي لا يستقل بدركه إلا الأقلون، والباطل جلي يبادر إلى الانقياد له الأكثرون. وأنتم فقد بنيتم الترجيح على قيام الشوكة بكثرة الأنصار والإشباع، وهذا إنما يستقيم لو كانت الإمامة في أصلها تنعقد باجتماع الخلق على الطاعة ".([3])

إن ظلام الشبهات يزول بنور العلم: فـ " الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكاً؛ لأنه قد رسخ في العلم. فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة ".([4])


[1]) هذا القول منسوب لأفلاطون، انظر: لباب الآداب، أسامة بن منقذ، ص 456.
[2]) الأخلاق والسير، ابن حزم، ص55.
[3]) فضائح الباطنية، الغزالي، ص 174. ويقصد بالجملة الأخيرة: إن الباطل قد تساعده دولة متمكنة (صاحبة شوكة)، فتسخر إمكانياتها لنشره وتأييده، وهذا يكون عاملاً مساعداً لنشر الباطل، ويزيد من غربة الحق وأهله.
[4]) مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية 1/ 140.
 
سمية إبراهيم سعد

سمية إبراهيم سعد

بارك الله فيك
 
عودة
أعلى