خواطر مع غزوة بدر

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
خواطر مع غزوة بدر
في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة كان يوم بدر .. يوم الفرقان ؛ قال مجاهد : يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل ؛ وأصل الفرقان : الفرق بين الشيئين ، وقد يكون ذلك بقضاء أو استنقاذ أو إظهار حجة أو نصر .. أو غير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل ؛ وإنما سمي القرآن فرقانًا لفصله بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه بين المحق والمبطل .
ويوم بدر يوم عظيم في تاريخ الأمة ؛ لذلك سجلت أحداثه ودروسه في سورة الأنفال ، لتتلى على مسامع الأمة عبر التاريخ دروسا وعبرا تنير طريقها ، وتأخذ بيدها إلى ربها .
ما أحوج الأمة وهي تمر بمنعطف خطير في مراحل حياتها أن تستقي من معين صاف لا ينضب .. كتاب ربها وسنة نبيها ؛ ومن هذا المعين الصادق سيرة النبي e التي هي السنة العملية ؛ ومن تلك السيرة كان يوم الفرقان .. يوم بدر .. وفيه من الدروس والعبر ما يحتاج إلى قطوف وقطوف .. غير أننا نذكر هنا بعض ذلك :
طبقًا للمقاييس المادية - والتي لا يعرف أكثر الناس سواها - فالنصر للأقوى عدة وعتادا .. ولكن بدرًا قلبت مقاييس أهل الجاهلية .. فقد ندب النبي e للخروج لعير قريش من كان جاهزا فقط ، وتخلف عنه كثير ممن لم يكونوا جاهزين ؛ فخرج e في ثلاثمائة وبضع عشرة رجلا ، ليس معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا يعتقبونها ؛ وما خرجوا لقتال جيش ، ولا تهيئوا لمعركة .. إنما خرجوا لاعتراض قافلة قوامها ثلاثون رجلا ؛ لعل الله تعالى أن يجعل لهم فيها بعض تعويض عن ما اغتصبه مشركو مكة منهم . فقضى الله تعالى أن تفلت القافلة ، وتكون المواجهة مع قريش التي خرجت بحدها وحديديها متهيئة لقتال ؛ فخرجوا بين التسعمائة إلى الألف ؛ يحملون جميع أسلحتهم يركبون على الخيول أو الإبل ؛ بل كانوا يذبحون في كل يوم تسعة أو عشرة من الإبل .
هذه المقاييس المادية .. التي يقيس بها الناس حروبهم .. وبهذه المقاييس ظاهر الغلبة تكون للأكثر عددًا وعدة والأكثر تهيئة للحرب !! لكن بدرًا نكست هذه المقاييس ، ورفعت مقياس الحق : ] وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ ( الأنفال : 10 ) ؛ ] إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ ( محمد : 7 ) ، ] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ( الحج : 40 ) .
 
نصر الله تعالى الفئة القليلة المؤمنة الصابرة ؛ وأذل الله تعالى الكثرة الكافرة ، وجعل ذلك سنة له في هذه الحياة .. حتى لا تضعف الفئة المؤمنة الصابرة وإن كانت قليلة أمام الكثرة الكافرة ؛ قال الله تعالى : ] إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ ( الأنفال : 19) ؛ وتلك سنة يفهمها المؤمنون عبر التاريخ ، فقد ذكر الله تعالى عن طالوت ومن معه من المؤمنين ، قال U : ] فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ ( البقرة : 249 ) ؛ وروى أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة عَنْ الْبَرَاءِ t قَالَ : كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ e نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ ؛ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَ مِائَةٍ ( [1] ) .

[1] - أحمد : 4 / 290 ، والبخاري ( 3957 : 3959 ) ، والترمذي ( 1598 ) وابن ماجة ( 2828 ) .
 
كان أول دروس بدر التي افتتحت بها سورة الأنفال ، قوله الله Y : ] يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ [ الأنفال : 1 – 4 ] .
الأنفال هي المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله ؛ وقد ثار بين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها ؛ روى أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ ؟ فَقَالَ : فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا ، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ e بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ ؛ يَقُولُ : عَلَى السَّوَاءِ ( 1 )
وكأن الله تعالى يقول للأمة في شخص أهل بدر : ليست قضيتكم قضية النزاع على غنائم ، ] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [ أي : واتقوا الله في أموركم ، وأصلحوا فيما بينكم ، ولا تظالموا ، ولا تخاصموا ، ولا تشاجروا ، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه ، ] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ أي : في قسمه بينكم على ما أراده الله ، فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف ( 2 ) .
ثم ذكرت الآيات بعدُ صفات المؤمنين الحق ، ليقف كل من يدعي الإيمان معها ، أين هو منها قربًا وبعدًا ؛ ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ .
فقوله تعالى : ] أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [ ، يبين أن هناك من يدعي الإيمان ، وليس هو بمحقق له ؛ فمن يريد أن يحقق الإيمان فيتصف بصفات المؤمنين الحق .
إنها رسالة تحتاج إلى فهم ، وترجمة في واقع كل من يدعي الإيمان ... جعلنا الله من المؤمنين حقًّا بفضله ومنِّه .. آميييين .

[1] - أحمد : 5 / 180 .

[2] - انظر ابن جرير : 9 / 119 ، 120 .
 
هل تتكرر بدر ؟
طرح بعضهم سؤالا يقول : هل يمكن أن تتكرر بدر ؟
قلت : صورة السؤال هكذا خطأ .. ذلك لأن نصر الفئة المؤمنة – وإن كانت قليلة – سنة من سنن الله تعالى في الكون ، وقد تكررت عبر التاريخ .
أما كونها سنة الله في الكون ، فقد قال عز وجل : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الفتح : 22 ، 23] .
وأما تكرارها عبر التاريخ ؛ ففي قصة طالوت قال الله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 249 - 251] .
وتكررت في فتوحات المسلمين ، وإليك مثالين :
الأول : في معركة القادسية ؛ وكانت بين الفئة المؤمنة ، وعددها ( نحوا من 33 ألفًا ) ، وبين الفئة الكافرة ، وكانت تشكل في ذاك الزمان قوى عظمى ( فارس ) وعددها أكثر من مائتي ألف ؛ وانتصرت الفئة المؤمنة نصرًا عزيزًا ، تحدث عنه التاريخ .
الثاني : في معركة اليرموك ، وكانت بين الفئة المؤمنة ، وعددها ( نحوا من 40 ألفًا ) ، وبين الفئة الكافرة ، وكانت تشكل في ذاك الزمان القوى العظمى الأولى ( الروم ) وعددها أكثر من مائتي ألف ؛ وانتصرت الفئة المؤمنة ، وفرت تلكم الجموع وتفرقت في البلاد ، وكانت فيهم مقتلة عظيمة .
إنها سنة الله في الكون ، وهي مشروطة بتحقيق الإيمان ؛ قال الله تعالى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }[ الروم : 47 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] ، { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور: 55 ] .
 
عودة
أعلى