يستقبل المسلمون في جميع بقاع الأرض العام الهجري عاما تلو العام ؛ وهو يذكرهم بهجرة سيد الأولين والآخرين، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة النبي محمد e، ووالله إنه لحدث عظيم، لا ينسيه مرور الأعوام، ولا تعاقب الأجيال، إنه الحدث الذي غير الله Y به تاريخ الإنسانية ، فكان سببًا في ظهور دينه وإعلاء كلمته ، وكان نصرًا استنفر به المسلمين للقتال : ] إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ [ التوبة:40 ] . وكان منة امتن الله بها على رسوله والمسلمين : ] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ [ الأنفال :30 ] . ] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ [ الأنفال:26 ] . إنه الحدث الذي نقل المسلمين من دار الاضطهاد والاستذلال إلى دار العزة والمنعة . فمنذ أن صدع النبي e بأمر ربه ودعا الناس لتوحيد الله الخالق وإفراده بالعبودية وهو يلاقي - ومن آمن معه - من كفار قريش العنت والإيذاء بكل صوره ، فقد كانوا قبل الهجرة أفرادا مستضعفين ، قد ذاقوا من ألوان التعذيب المادي والمعنوي الشيء الكثير ، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله ، وكفروا بالجبت والطاغوت ، وسجل التاريخ للنبي الأعظم والمسلمين الأول بمداد من نور صبرهم واستمساكهم بالحق ، وتضحياتهم في سبيل الإبقاء على دينهم ، ورفع راية التوحيد ، ولله در القائل :
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر
إليك أيها القارئ الكريم صورًا من هذا الصبر وتلك التضحيات : روى أحمد والشيخان والنسائي عَنْ ابن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ e وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ e سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ e رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ ابْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ " وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ e صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ. هكذا صنيعهم مع أكرم نفس على الله تعالى رسول الله e، وليس هذا وحسب، بل ورموه بكل إفك: قالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: كاهن، بل وقالوا : كذاب ، وقالوا : معلم مجنون . كل ذلك ليصرفوا وجوه الناس عنه ، ولكن للحق نور ، فتتابع الناس إليه . فلما لم يفلحوا في ذلك ، استخدموا وسيلة أخرى : وسيلة المساومة والإغراءات ، بل والتهديدات ، فجاءوا إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب ! إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه ، وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آباءنا ، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا ، حتى تسلمه لنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله e لهم ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله e فقال له: يا بن أخي ! إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا.. فأبْقِ علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله e أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال النبي e: " يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته " . هكذا كان صبره e معلمًا لأمته . الصحيفة الجائرة والمقاطعة الاقتصادية : ثم اشتد الأمر بالمسلمين ، وزاد الإيذاء بكل أساليبه وأنواعه ، حتى أجمعت قريش على التضييق على بني هاشم وبني المطلب ليسلموا لهم النبي e، فكان كتابة الصحيفة الآثمة، والحصار الاقتصادي، وكان ذلك ثلاث سنين احتمل فيها النبي e ومن معه الجهد البالغ حتى أكلوا أوراق الشجر ، وصبروا محتسبين لم تلن لهم قناة، ولم تهتز لهم عزيمة ، ولم ير منهم أعداء الله ورسوله إلا الثبات .. نعم إنه الإيمان الصادق الذي يصنع المعجزات . فهكذا واجهوا جميعًا هذا البلاء العام بصبر واحتساب .
واجه كل واحد من الصحابة بلاء خاصًا به ليمتاز بدينه ويثبته الله عليه ، فالإيمان يُبتلى ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليظهر الصادق من الكاذب ؛ قال الله تعالى: ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[ [ العنكبوت: 2، 3] . فهذا ياسر وآله رضي الله عنهم ، يعذبون عذابًا لا يتحمله بشر ، ويمر بهم الرسول e، ولا يملك أن يدفع عنهم ، فيقول لهم مواسيًا ومصبِّرًا : " صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة ". وتقتل سمية أم عمار عليهم رضوان الله ، لتكون أول شهيدة في الإسلام ، ولتضرب المثل لغيرها في الصبر والاحتساب . وهذا بلال t يضرب بالسياط ، ويُخرج به إلى الصحراء في شدة الحر ، ويوضع على صدره الصخر ، ويجوَّع ، ويعطَّش ، كل هذا لماذا ؟ ليكفر بالله العظيم ، ويؤمن بالآلهة الباطلة ، ولا يزيد على أن يقول : أحدٌ أحد ، وكان يقول : والله لو أعلم أن هناك كلمة أشد غيظًا لهم من هذه لقلتها . وأبو بكر t يضرب ضربًا شديدًا حتى يغمى عليه ، وابن مسعود يضرب ضربًا مبرحًا عندما جهر بالقرآن حتى اختلفت ملامح وجهه ، وأبو ذر يجتمع عليه كفار قريش حتى كادوا يقتلونه ، وغيرهم ... وغيرهم . فالأمثلة كثيرة . إنه الابتلاء العظيم لتمحيص القلوب ، وتمييز الصادقين من الكاذبين . ]مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ [ آل عمران:179] .
قد كان في إعداد النبي e للهجرة دروسًا للأمة أهمها : أن التماس الأسباب لا ينفي التوكل على الله تعالى ، فهذا درس عظيم في حياة الفرد والأمة : فقد التمس النبي e جميع الأسباب الموصلة إلى نجاح الرحلة من : سِرية الأمر ، وجعل عليَّ بن أبي طالب يبيت في الفراش ، واختيار الرفيق ، وإعداد الراحلة ، والاتفاق مع دليل حاذق ، والتعمية على الأعداء ، إذ انطلق جنوبًا تجاه غار ثور مع أن اتجاه الرحلة إلى الشمال حيث المدينة المنورة ، وإعداد عبد الله بن أبي بكر ليأتيهما بأخبار القوم ليلا إذا هدأ الطلب عنهما ، وأسماء بنت أبي بكر لتأتيهما بما يحتاجونه من طعام وماء ، وعامر بن فهيرة يأتي خلفهما بالغنم ليعفي على آثارهما ، وليشرب النبي e وصاحبه من لبن الغنم . كل هذه الأسباب التمسها النبي e في رحلته متوكلا على الله تعالى، وقد كان الله تعالى قادرًا أن يسري بنبيه إلى المدينة دون أن يراه أحد ، ودون أن يلقى من مشقة الإعداد ومشقة الرحلة شيئًا ، لكنه درس للأمة على مدى الأجيال .
وليأت الدرس الثاني بعد التماس الأسباب المتاحة ، وهو أن الأمة إذا التمست الأسباب في حدود طاقتها متوكلة على الله جل وعلا ثم ضاقت الأسباب عن نتائجها أمدَّ المؤمنين الصابرين المحتسبين بنصر من عنده : ] ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [ . لقد انتهى المشركون في طلبهم رسول الله e وصاحبه إلى الغار ، حتى قال أبو بكر لرسول الله e : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ! فَقَالَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ " ؛ فأخذ الله بأبصارهم أن يروا رسوله وصاحبه ورجعوا عنهم ، وتمت الرحلة التي غيرت وجه التاريخ وأضاءت للبشرية طريقها . ألا ما أحوج المسلمين اليوم لدروس الهجرة ، ومعايشة شأنها والتفكر فيها ! ما أحوج الأمة للعودة إلى الطريق التي تستحق بها نصرة ربها ! ما أحوج الأمة للرجوع إلى كتاب ربها وسنة نبيها والاستمساك بهما ! قال الله تعالى: ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ [ غافر:51 ]. وقال النبي e: " وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله " .
أيها المسلمون ! إذا كان فاتنا شرف الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ فهناك هجرة أخرى واجبة على كل مسلم في كل وقت وعلى كل أرض ؛ فمن معاني الهجرة : ترك ما نهى الله عنه ، روى أحمد والبخاري وأبو داود عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ " .
فالهجرة هي الانتقال من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة ، ومن دار الكفر إلى دار الإسلام وهي باقية ، ومن دار البدعة إلى دار السنة ، ومن المعصية إلى التوبة ... وهذه هجرة لا تنقطع ، فأين أنت منها عبدَ الله ؟!
قال بعض العلماء : والهجرة ضربان ظاهرة وباطنة ، فالباطنة : ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان ؛ والظاهرة الفرار بالدين من الفتن ، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه .
هذا والعلم عند الله تعالى .
روى الجماعة عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " لفظ البخاري، وروى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ e عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". والحديثان يبينان أهمية النية في الأعمال؛ ومن فضل الله تبارك وتعالى علينا أن يعطي العاجز عن العمل مثل أجر العامل إن حسنت نية العاجز، فالله تعالى لا يحتاج إلى عمل عامل ولا إلى جهاد مجاهد ولا إلى هجرة مهاجر، بل المسلم هو الفقير إلى ربه المحتاج إلى كرمه وعنايته..فإن عجز المرء وعلم الله تعالى منه صدق النية فإنه يكرمه بالأجر فضلا منه وكرما..فما أرحم ربك بعباده وما أكرمه..وهذا ما نبه إليه الرسول e في أمر النية ؛ فقد أخرج مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله e في غزاة فقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض ". فأخبر e أن للمعذور من الأجر مثل ما للقوي العامل؛ والظاهر من الآية و الأحاديث المساواة في الأجر؛ فمن الأحاديث قوله u: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وقوله: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا "رواه أبو داود والنسائي. وهو ظاهر قوله تعالى: ]وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ[ [النساء:100]، وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا نستبعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل؛ وروى أحمد والترمذي عن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله e يقول: " ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه " قال: " ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ( أو كلمة نحوها ) ؛ وأحدثكم حديثا فاحفظوه " قال: " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل ؛ وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء ؛ وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل ؛ وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء ". فإن كان هذا الفضل يعطاه العبد بالنية، فهلا هيأ المسلمون قلوبهم لهذه الأجور، حتى يلقى الله تعالى صاحب النية بأجر أعمالها وإن لم يعملها ؟ وفي صحيح مسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: " مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ".
قال أهل السير والتواريخ : قدم رسول الله e مهاجرا حتى نزل بقباء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى. ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم . ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة ؛ فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا ؛ فجمع بهم وخطب . وهي أول خطبة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : "الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلمُ المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه؛ فإن تقوى الله لمن عملبه على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين ربه من أمره في السر والعلانية، لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. ]ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد[ [آل عمران: 30]. وهو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك؛ فإنه يقول تعالى: "ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد" [ق: 29] . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية ؛ فإنه ]ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا[ [الطلاق: 5]. ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما . وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه . وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ هو اجتباكم وسماكم المسلمين. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى، واعملوا لمابعد الموت؛ فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ( [1] ) .
المهاجر الحق هو الذي يهجر ما نهى الله عنه ، بل قد يترك كثيرًا من مباحات الدنيا إذا اقتضى الأمر قربة إلى الله تعالى ، وكذا كان أصحاب محمد e ، ونحن في هذه العجالة نذكركم بحالهم ، ونتذكر سويا طرفا مما عانوه ليكون ذلك عبرة للأمة .. فقد خلَّد الله تعالى ذكرى بعضهم في كتابه العزيز فقال تعالى : ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [ [البقرة:207] ، قال العلماء : نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله t فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، وقال : لقد علمتم أني من أرماكم ، وأيْم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فدلهم عليه، ونزلت: ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ [ الآية ، فلما قدم على رسول الله e قال له : " ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ". وقال تعالى: ] وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا [النساء:100]. قال قتادة: لما نزلت: ] إِنّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم [ [النساء: 97] " ، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر فاحملوني . فحملوه فأدركه الموت في الطريق ؛ فقال أصحاب النبي e: لو بلغ إلينا لتم أجره ؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي e وأخبروه بالقصة ، فنزلت هذه الآية : ]وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً[الآية. قال سليمان بن عامر : كان فضالة بن عبيد برودس (جزيرة بأرض الروم ) أميرًا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي ؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: ] وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [ [الحج:58]. قال العلماء وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه ؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم.