احمد منصور
New member
خلقُ السموات والأرض في ستة أيام لا تناقض فيه, من نصوص آيات الكتاب الذي لا عوج فيه. (رؤية مميزة)
مقدمة
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى, أما بعد:مقدمة
قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) الكهف), وقال تعالى: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الزمر).
قيل في تفسيرها: استقامة معناه, ونفي التناقض عن آياته أو اللبس في معناه, وبُعده عن اختلال اللفظ ومخالفة الفصاحة. أي أن القرآن الكريم هو بفصيح لغة العرب, بلسان عربي مبين, وليس فيه عوج ومعناه من ظاهر نصه دون تكلف.
هذه مقدمة قصيرة لابد منها قبل أن نشرع في موضوعنا الذي له علاقة وطيدة بفهم نصوص القرآن الكريم على وجهها الصحيح بعون وهدي من الله تعالى فله الحمد والشكر.
خَلْقُ السماء والأرض, والسؤال الجدلي الذي ما انفك يُسأل والذي قد اختلف فيه علماء التفسير منذ القدم ما بين قائل بخلق الأرض وآخر بخلق السماء أولا.
جلست متأملا قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) البقرة, فلفت انتباهي أمرٌ مهم في لغة الآية الكريمة قد يغير فهمنا لها وللآيات التي على شاكلتها مثل (12 فصلت), وأود أن أشرككم في تأمله.
لكن سوف أمهد أولا بمثال من لغتنا العربية الجميلة:
عزيزي القارئ تأمل معي هاتين الجملتين وأخبرني أيهما تسير وفق نسق اللغة العربية الفصيحة:
1. عمدت المرأةُ إلى قطعة العجين فقطعتها سبع قطع.
2. عمدت المرأةُ إلى قطعة العجين فقطعتهن سبع قطع.
لا شك أنك ستقول أن الجملة الأولى هي المستساغة لغويا.
والآن سنعود إلى الآية (29 البقرة) ونتأملها جيداً, نلاحظ قوله تعالى (فَسَوَّاهُنَّ), ولم يقل فسواها, كما في مثالنا السابق, فلماذا يا ترى؟
الإجابة: أن السماء التي استوى إليها الله (عز وجل) بعد خلقه للأرض هي ليست سماءً واحدةً كما فهم الكثيرون, بل هي سماوات متعددة (جمع) مخلوقة سلفا قد يكون قبل خلق الأرض.
فإن قيل كيف هذا وقد قال الله عز وجل عنها (السماء)؟ نقول إن لفظ السماء هنا اسم جنس يدل على التعدد ومفردها سماوة.
ومثال ذلك كثير في كتاب الله, قوله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ((47) الذاريات), وكذلك : وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ((7) الرحمن), وغيرها الكثير. فليس المراد هنا سماء واحدة بل كل السماوات.
قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: والسماء المقابل للأرض مؤنث وقد يستعمل للواحد والجمع لقوله: ثم استوى إلى السماء فسواهن.
والآن لنتأمل ماذا يقول اللسان العربي الفصيح؟
جمع المؤنث الذي لا يعقل فرق بين قليله وكثيره, فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير (هن), والأفصح في كثيره أن يفرد(هي) . ومعلوم أن جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة.
قال الناظم ( ؟ الأجهوري):
وجمع كثرة لما لا يعقل *** فالأحسن الإفراد فيه يافل
وما سواه الأحسن المطابقة *** نحو هبات وافرات لائقة
والآن لنعود إلى (فَسَوَّاهُنَّ), فعلام يدل ذلك؟ يدل على أن السماء التي استوى إليها الله (عز وجل) بعد خلقه للأرض كانت بالفعل متعددة, وعددها حسب فهم نص الآية لابد أن يكون جمع قلة أي أقل من عشرة, وهي سبعة.
فإن قال قائل: كيف ذلك والله (جل وعلا) قد قال (فَسَوَّاهُنَّ), أي بمعنى خلقهن، ويقتضي ذلك أنهن لم يكن مخلوقات قبل خلق الأرض؟
نقول: وهذا الفهم الخاطئ لمفردة (َسَوَّاهُنَّ), فالتسوية لا تعني الخلق, وقد جاء ذلك صراحة في القرآن الكريم في غير موضع, تأمل قوله تعالى:
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى )(38) القيامة.
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى )(2) الاعلى.
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (7) الانفطار.
لاحظ في الآيات الكريمة السابقة عطف التسوية على الخلق والعطف يقتضي المغايرة, وكما نرى في الآيات فإن الخلق دائما يسبق التسوية.
تأمل ايضا قوله تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) الكهف).
لاحظ عطف التسوية على مراحل خلق الانسان وهي من تراب (آدم عليه السلام) ومن نطفة (البشر) ثم تأتي مرحلة التسوية لاحقا ليكون رجلا.
ويؤيد ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا - نطفة - ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلماتٍ, ... الحديث). رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث اشارة الى مرحلة خلق الانسان والتي تتم في بطن امه, ولكن وكما هو واضح في الآية (37) الكهف فان التسوية تعقب ذلك, حتى ان العطف بثم قد يفيد تراخي الزمن بين الخلق والتسوية بالإضافة للمغايرة بين الخلق والتسوية.
لذلك نقول ان عملية التسوية هي مختلفة عن عملية الخلق وتتبعها زمنيا كما هو واضح في القرآن الكريم والسنة المشرفة.
تأمل ايضا ما يؤيد ذلك في قوله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون).
قال المفسرون: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ), بنفخ الروح فيه ويعقب ذلك تسويته رجلا. اذاً كل ذلك يؤيد ما قلنا ان التسوية مختلفة عن الخلق, والخلق هو المرحلة التي تسبق التسوية, وقد تُعطف التسوية على الخلق بحرف العطف (ثم) كما في خلق الانسان وخلق السموات, ما يفيد ان هناك تراخي في الزمن بين المرحلتين.
ورد في تفسير الطبري تفسير الآية 29 البقرة: (والتسوية فـي كلام العرب التقويـم والإصلاح والتوطئة، كما يقال سوّى فلان لفلان هذا الأمر إذا قوّمه وأصلـحه ووطأه له). انتهى للطبري.
قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا )(28) النازعات. لاحظ أنه بعد أن بنى الله عز وجل السماء ورفع سمكها ( أي خلقها في زمن الخلق), وبعد الاستواء اليها سواها, أي قومها وهيأها ووطئها. السوي: المعتدل, المستقيم, الصحيح , لا عيب فيه, سَوي فلان استقام أمره (معجم المعاني الجامع). نلاحظ عطف التسوية على اعمال الخلق وهي البناء والرفع, ما يعنى ان التسوية مختلفة عن الخلق وتأتي كمرحلة تاليه له.
قال الالوسي : (والتسوية جعل الاعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها), وقال ابن عاشور: (فالتسوية حاصلة من تمام خلق الجنين من أول اطوار الصبا, اذ التسوية تعديل الخلقة وايجاد القوى الجسدية والعقلية).
إذاً السماوات السبعة كانت مخلوقات من قبل الاستواء وما حدث بعد الاستواء هو تسويتهن وتقويمهن وتوطئتهن لا خلقهن, ولا يستقيم ان يقال انهن خلقن بعد الاستواء اذ انهن كن مخلوقات اصلا ومتعددات سبعا فكيف يقال بعد ذلك انهن قد خلقن؟
ولكن يقال انهن قد سوين والتسوية قد تشمل فيما تشمل ازالة الدخان الذي كان يكتنفهن ومن ثم اخراج الضحى والزينة, قال تعالى: (واخرج ضحاها), كأن الضحى كان مختبئ وبالتسوية تم اخراجه لا خلقه. ويناظر ذلك الدحو في الأرض فقد اخرج الماء والمرعى, والماء كان مخلوق اصلا لكنه قد اخرج بالدحو.
يقول قائل: من سبقك من أهل العلم في هذا القول؟
نقول: نعم لقد جاء هذا بحذافيره في أشهر كتاب تفسير لأهل السنة والجماعة, تفسير الإمام الطبري.
ورد في تفسير الطبري ما يلي: (قال أبو جعفر وإن قال لنا قائل أخبرنا عن استواء الله (جل ثناؤه) إلـى السماء، كان قبل خـلق السماء أم بعده؟ قـيـل بعده، وقبل أن يسوّيهنّ).
تأمل أيضا ما ورد في تفسير الطبري: (فإن قال لنا قائل فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سماوات، ثم سوّاها سبعاً بعد استوائه إلـيها، فكيف زعمت أنها جماع؟ قـيـل إنهنّ كنّ سبعاً غير مستويات، فلذلك قال جلّ ذكره فسوّاهنّ سبعاً كما حدثنـي مـحمد بن حميد، قال حدثنا سلـمة بن الفضل، قال قال مـحمد بن إسحاق كان أوّل ما خـلق الله تبـارك وتعالـى النور والظلـمة، ثم ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـماً، وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن، وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها، فجرى فـيها اللـيـل والنهار).
نواصل مع تفسير الطبري, قال: (فقد أخبر ابن إسحاق أن الله (جل ثناؤه) استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان، فسوّاهنّ كما وصف. وإنـما استشهدنا لقولنا الذي قلنا فـي ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بـياناً عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعاً من دخان قبل استواء ربنا إلـيها بتسويتها من غيره، وأحسن شرحاً لـما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التـي قال الله فـيها { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } بـمعنى الـجمع علـى ما وصفنا، وأنه إنـما قال جل ثناؤه { فَسَواَّٰهُنَّ } إذ كانت السماء بـمعنى الـجمع علـى ما بـينا).
وتأمل أيضا: من تفسير الطبري نقتبس: (قد ذكرنا ذلك فـي الـخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونزيد ذلك توكيداً بـما انضمّ إلـيه من أخبـار بعض السلف الـمتقدمين وأقوالهم. فحدثنـي موسى بن هارون، قال حدثنا عمرو بن حماد، قال حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } قال إن الله تبـارك وتعالـى كان عرشه علـى الـماء، ولـم يخـلق شيئاً غير ما خـلق قبل الـماء، فلـما أراد أن يخـلق الـخـلق أخرج من الـماء دخاناً، فـارتفع فوق الـماء فسما علـيه، فسماه سماءً، ثم أيبس الـماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين). انتهى من تفسير الإمام الطبري.
ثم لنتأمل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت.
يستند الكثيرون إلى قوله تعالى (فَقَضَاهُنَّ) بمعنى خلقهن في فهم ان خلق السموات السبع قد استغرق يومين فقط منذ بدايته, وأنه قد حدث بعد الاستواء وبعد خلق الأرض بجبالها وما فيها. وهذا لا شك فهم خاطئ, فبعد خلق الأرض ثم الاستواء إلى السماء كانت بالفعل مخلوقة سلفاً, بل ومتعددة سبعاً كما ذكرنا سابقاً في تفسير الآية (29 البقرة).
فهل الفعل قَضى يعني خَلَقَ؟ نعلم أنه لا يوجد ترادف في القرآن الكريم, وكل لفظ له معناه الذي يدل عليه, فمثلا هل الخشية تساوي الخوف؟ كلا بل أن بينهما بوناً شاسعاً وفارقا عظيما. كذلك الأمر فالفعلان قضى وخلق لابد انهما مختلفان في المعنى, وقد وردا في نفس الموضع في آيات سورة فصلت, فلماذا لم تأت هكذا: الذي قضى الأرض في يومين, ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبع سموات؟
الفعل قضى يأتي هنا بمعنى فرغ من, أو أتم وأكمل, أو انهى.
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ((60) الأنعام).
ليُقضى أي ليتم ويكمل وينهي.
وقال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) القصص.
قضى موسى الأجل: أي أتمه وأكمله.
ولو عدنا إلى الآية (29 البقرة) وتأملناها بمعية الآيات (11 و 12 فصلت) لوجدنا أن المعنى يفضي إلى أن الله عز وجل قد أتم وأنهى وفرغ من تسوية السماوات السبع في يومين, وذلك بعد استوائه (جل ثناؤه) إليها عقب خلق الأرض, وليس المعنى أنه جل وعلا قد شرع في خلقهن بعد الاستواء أو أن عملية الخلق كاملة قد استغرقت يومين بينما خلق الأرض وما فيها قد استغرق أربعة أيام.
ويؤيد كلامنا هذا ما ورد في تفسير ابن كثير في تفسير الآيات (9-12 فصلت) قوله في تفسير: ({ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ فِى يَوْمَيْنِ } أي ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين.) انتهى لابن كثير.
إذاً لا بد وأن خلق السماوات وحتى الفراغ من تسويتها قد استغرق وقتا أطول من يومين, وسوف نسوق المزيد من البراهين لاحقا على ذلك بعون الله.
بعد ذلك كله نعود إلى السؤال الجدلي: أيهما خُلق أولاً: الأرض أم السماء؟
لو استندنا إلى ما ورد آنفا في تفسير الإمام الطبري، فالإجابة على السؤال أن السماء قد خُلقت أولاً وقبل الأرض, ولكن حتى الفراغ من تسويتها وتقويمها استغرق ذلك وقتا تجاوز الانتهاء من خلق الأرض بجبالها وما فيها خلا الدحو.
لكن لو أمعنا النظر في فهم نصوص ولغة الآيات فلا يبدو أن أحدا يستطيع أن يقطع بإجابة لهذا السؤال, ذلك أن الآيات يُفهم منها نصا أن الله (جل وعلا) قد خلق الأرض في يومين وجعل الرواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في اربعة ايام, ثم استوى إلى السماء, وعلمنا حالها فقد كانت مخلوقة بل ومتعددة سبعا, لكن متى بدأ خلق السماوات؟ وكم يوما استغرقت عملية الخلق حتى وصولها للحالة التي استوى (جل وعلا) إليها ليسويها ويتم ذلك والتي حصلت في يومين أي عملية اتمام التسوية؟ علما أن خلق السماوات والأرض - وفي آيات أخرى وما بينهما - قد استغرق ستة أيام.
كل هذه الأسئلة يصعب الإجابة عليها لأن القرآن الكريم لم يصرح لنا نصا بذلك, فيجوز أن يكون خلق السماء والأرض قد حدث متزامنا، وأنه حين كانت الأرض تجري فيها عملية الخلق كانت أيضا وفي نفس التوقيت تجرى في السماوات, أليس هذا جائزا؟ فالله (جل وعلا) لا يمسه لغوب ولا يعييه أن يخلق السماوات والأرض وغيرها في نفس الوقت, فسبحانه ما أعظمه.
وهناك إشارات في القرآن والسنة قد يُفهم منها أن خلق السماء قد حصل أولا, من ذلك تكرار تقديم ذكر السماء والسماوات على ذكر الأرض في كثير من آيات القرآن الكريم, لكن لقائل أن يقول أن ذلك لا يعني أن السماء قد خُلقت أولا, بل التقديم لعظم خلق السموات وما فيها من اجرام مقارنة بالأرض.
جاء في حديث صحيح ورد في صحيح البخاري أن اناسا من أهل اليمن جاءوا ليسألوا الرسول صلى الله عليه: (قالوا : جئناكَ نسألكَ عن هذا الأمرِ، قال: ((كان اللهُ ولم يكن شيٌء غيرُهُ، وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتب في الذِّكْرِ كلَّ شيٍء، وخلقَ السماواتِ والأرضِ)) فنادى منادٍ : ذهبتْ ناقتكَ يا أبن الحصينِ ، فانطلقتُ فإذا هي يقطعُ دونها السرابُ ، فواللهِ لوددتُ أني كنتُ تركتها).
نلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قدم ذكر السماوات على الأرض في حديث متعلق بالخلق فقد يُستشف من ذلك أن السماوات خُلقت أولا.
محاولة فهم تفاصيل خلق السموات والأرض في الأيام الستة
قال تعالى:(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت). هب أننا جئنا بإنسان بسيط يتكلم اللغة العربية الفصيحة, وليس لديه دراية من قبل بكتب التفسير, وتلونا على مسامعه هذه الآيات الكريمة من سورة فصلت, وسألناه أن يُجمل لنا مجموع أيام خلق الأرض وجعل الرواسي والمباركة فيها وتقدير أقواتها, فبماذا سيرد؟
لا شك انه سيرد علينا على الفور قائلا 2+4=6 أي ستة أيام كما هو واضح من ظاهر النص القرآني الفصيح المفصل الذي لا عوج فيه, فسنقول له أحسنت وصدقت.
وألان سوف نجلي هذا الأمر بمثال بلغتنا العربية الجميلة من واقع حياتنا اليومية:
نفرض أن موظفا حكوميا قد تحدث ألينا قائلا: لقد قامت الحكومة ببناء المدرسة (س) في سنتين, وجعلت فيها الأثاث المدرسي والكتب, وأمدتها بإمدادات المياه والكهرباء في أربع سنوات, ثم أردف قائلا كم سنة مضت حتى تم بناء المدرسة بمرافقها كاملة؟
فسنرد عليه على الفور ونقول 2+4=6 أي ست سنوات. لكنه سيرد علينا قائلا: كلا لقد أخطأتم, فقد استغرق ذلك أربع سنوات وليس ستة.
عندها سنرد عليه متعجبين من مقولته هذه ونقول له كيف هذا هداك الله؟
فيرد قائلا: بُنيت المدرسة في سنتين, وجُعل فيها الأثاث المدرسي والكتب وأُمدت بالمياه والكهرباء في سنتين أخريين, وإنما أردت أن افذلك ذلك فقلت لكم أربع سنوات.
فسنرد عليه قائلين: وأنَّى لنا أن نعرف مرادك, لقد ألْبستَ علينا الأمر, فليس في كلامك هذا تفصيل وتوضيح وبيان, هلا قلت لنا تم بناء المدرسة في سنتين, وجُعل فيها الأثاث المدرسي والكتب وأُمدت بالمياه والكهرباء في سنتين أخريين فذلك أربع سنوات كاملة, هكذا نفهمك جيدا ويكون بيانك واضحا مفصلا لا لبس ولا عوج فيه.
وهذه هي الفذلكة على وجهها الصحيح, الم تسمع إلى قوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
فالفذلكة معناها إجمال المعنى في عبارة موجزة بعد بسطه في عبارة طويلة, والفذلكة في كل حساب أن يُعلم العدد جملة مثلما علم تفصيلا ليُحاط به من جهتين وناحيتين فيتأكد العلم به.
وأنت في كلامك لم تفصل لنا عدد سنين بناء المدرسة وعدد سنين تزويدها بالأثاث المدرسي وما إلى ذلك ثم تُجمل ذلك كله وتقول أربع سنوات. إذاً لا شك انك قد ألبست علينا المعنى لأنك لم تحدثنا بلغة فصيحة وكلام مفصل ومبين.
بعد هذا المثال الطويل نعود إلى آيات سورة فصلت ونتناولها بالتحليل:
ظاهر النص القرآني الصريح والفصيح والمبين أن أيام خلق الأرض وجعل رواسيها ومباركتها وتقدير أقوتها والمفصلة في سورة فصلت هي 2+4=6 أي ستة أيام. وقد سبق هذه الآيات الكريمة قوله تعالى في مطلع سورة فصلت: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)).
ورد في كشف المشكلات وإيضاح المعضلات للباقولي قوله ما يلي: (فإذا حُملت هذه الآية على الظاهر كانت ثمانية أيام, لأنه قال: [ خلق الأرض في يومين] , ثم قال: [ وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام], ثم قال: [ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ], فذلك ثمانية أيام, فيكون خلاف قوله: في ستة أيام في موضع أخر).
لكن ماذا قال المفسرون بهذا الشأن؟
قال المفسرون جميعهم إنها أربعة أيام وليست ستة, رغم أن منهم من تساءل بشأنها على أنها ستة أيام مقتفياً ظاهر النص.
ويتبادر هنا سؤالان مهمان:
السؤال الأول: كيف فسر المفسرون أن هذه الأيام هي أربعة وليست ستة, حيودا عن ظاهر النص القرآني؟
السؤال الثاني: لماذا اضطر المفسرون لجعل الأيام الستة أربعة؟
للإجابة عن السؤال الأول والرد على ذلك نقول وبالله الاستعانة:
قال الإمام الطبري: (خلق الأرض في يومين، ثم قال في أربعة أيام، لأنه يعني أن هذا مع الأوّل أربعة أيام، كما تقول تزوّجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما التي تزوّجتها أمس).
نرد ونقول: هب أن شخصين تزوج احدهما بامرأة أمس وتزوج اليوم بامرأة أخرى, وأما الثاني فقد تزوج بواحدة أمس وتزوج اليوم بامرأتين واحدة صباحا وأخرى عصرا أي انه تزوج بثلاث نساء, وقالا هذان الشخصان نفس المقولة التي قالها الطبري, فكيف لنا أن نعلم التفصيل والبيان من حديثهما, ونفهم مراد كل منهما؟ أليس هذا كلام يعوزه التفصيل والتوضيح حتى تكتمل الرؤية لدينا؟
ولو استعرضنا كل كتب التفسير سنجدها تسير على هذا المنوال, وتستشهد بقول يُعتقد انه يرجع إلى ابن الانباري قوله: (ومثال ذلك خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام, والى الكوفة في خمسة عشر يوما).
والرد على ذلك نقول: إن من يسمع هذا الكلام قد يتساءل ويقول كيف أخذتْ معك الطريق من بغداد إلى الكوفة خمسة عشر يوما؟ فيرد ويقول: كلا بل أردت المسافة كلها منذ خرجت من البصرة مرورا ببغداد, فسيقال له هلا وضحت وفصلت حتى نفهم كلامك, أي ان كلامه مبهم ويعوزه التفصيل.
أيضا لو أن شخصين قاما بنفس الرحلة ولكن احدهما سار من البصرة إلى بغداد في عشرة ايام ومن بغداد إلى الكوفة في خمسة عشر يوما, فيكون المجموع خمسة وعشرون يوما, بينما الشخص الأخر كما هو مثال ابن الانباري, وقالا هذين الشخصين نفس المقولة كيف لنا ان نعلم التفاصيل وما مراد كل منها؟ لا شك أن هذا يثير الشبهة وليس فيه بيان وتفصيل.
مثال أخر: صنعت الشركةُ السيارةَ في أسبوع والطائرة في أسبوعين. فما يتبادر للذهن ان صنع الطائرة قد استغرق أسبوعين, لكن يقول قائل كلا اعني ان السيارة صُنعت في أسبوع والطائرة في أسبوع أخر وأردت ان اُجمل وافذلك ذلك, نقول له كلا هذا كلام مبهم ولا يمكن ان يُفهم بهذه الصورة.
والسؤال الثاني: لماذا اضطر المفسرون لجعل الأيام الستة أربعة حيوداً عن ظاهر النص القرآني؟
الإجابة المباشرة هي رغبة المفسرين في تفادي التناقض الحاصل لو اُعتبر ان زمن خلق الأرض وما فيها ستة أيام, وأضيف لذلك اليومين التي قضى الله جل وعلا فيهن تسوية السموات, والتي فُسرت على أنها مدة خلق السموات منذ البداية إلى النهاية, فيكون ذلك كله ثمانية ايام وهو ما يناقض كثير من الآيات والتي تنص على ان خلق السموات والأرض حدث في ستة أيام.
رؤيتنا لحل الإشكال:
من الواضح أن الإشكال قد نشأ من اعتبار أن التسوية هي الخلق, وان خلق السموات قد بدأ بعد الفراغ من خلق الأرض وما عليها وبعد الاستواء, وان عملية الخلق هذه قد استغرقت يومين فقط.
ولقد سقنا الكثير من الأدلة في مطلع البحث على أن التسوية لا تعني الخلق, بل ان ذلك ورد صراحة في قول المفسرين أنفسهم أمثال الطبري قوله : (وإن قال لنا قائل أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلـى السماء، كان قبل خـلق السماء أم بعده؟ قـيـل بعده، وقبل أن يسوّيهنّ), وان السموات كانت مخلوقات سبعا قبل الاستواء كما ورد في الطبري قوله: (قـيـل إنهنّ كنّ سبعاً غير مستويات، فلذلك قال جلّ ذكره فسوّاهنّ سبعاً), وكذلك قوله: (أن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان، فسوّاهنّ كما وصف).
لكن دعونا نذهب إلى ما ذهب إليه المفسرون ونوافقهم الرأي ان الأرض وما فيها قد خُلقت في أربعة أيام وليس ستة, ثم ماذا بعد؟ الله جل وعلا استوى إلى السماء وهي دخان, أي ان هناك كيان مخلوق واسمه السماء, (فقال لها وللأرض), وهذا إثبات أخر ان هذا الكيان ونعني به السماء هو موجود ومخلوق قبل الاستواء إليها, وأنها قد تلقت أمراً إلاهياً هي والأرض المخلوقة بالإتيان.
والان قد جاء وقت طرح الأسئلة:
السؤال الأول: متى خُلقت هذه السماء ( التي هي دخان)؟ هل قبل الأرض أم بعدها؟ ومؤكد أنها قبل الاستواء.
السؤال الثاني والمهم: كم يوماً استغرق خلقها؟ نعلم كما قال المفسرون ان السموات التي انبثقت منها قد استغرق خلقهن يومين وحدث بعد الاستواء.
والآن دعونا نعرج من المنطق اللغوي إلى المنطق الرياضي:
نفرض ان زمن خلق السماء الدخانية بالأيام هو (س), وحيث أن خلق الأرض وما عليها كما قال المفسرون = 4 أيام, وخلق السموات السبعة بعد الاستواء (على قول المفسرون)= 2 يوماً.
اذاً مجموع خلق السموات جميعا والأرض= 4+س+2=6+س أيام.
وحيث انه ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ان أيام خلق السموات والأرض هي فقط 6 ايام, إذاً هناك تناقض لوجود زيادة وهي زمن خلق السماء التي استوى إليها الله جل ثناؤه وهو (س) أيام. إذاً مازال الإشكال قائم حتى لو سلمنا ان أيام خلق الأرض وما عليها هي أربعة وليست ستة ايام.
نقول وبالله الاستعانة انه لكي نحل الإشكال في هذه المسألة لابد من إخراج زمن إتمام تسوية السموات- والمصرح به في سورة فصلت وهو يومان- من ايام خلق السموات, حيث ان التسوية قد حدثت بعد إتمام الخلق, وان السموات حين استوى إليهن الله جل وعلا كن مخلوقات ومتعددات كما بينا من قبل مستشهدين بأقوال مشاهير المفسرين.
وان أيام خلق الأرض وجعل الرواسي والمباركة فيها وتقدير أقواتها هو على ظاهر النص القرآني المبين والمفصل والذي ورد في سورة اسمها من التفصيل وهي ستة أيام لا أربعة.
إذاً يبقى السؤال: كم يوماً استغرق خلق السموات؟
نقول انه غير مصرح في القرآن الكريم عن مدة خلق السموات, ولكن معلوم لنا بوضوح ان مدة خلق السموات والأرض وما بينهما هي ستة أيام.
وحيث انه معلوم لدينا الآن ان مدة خلق الأرض وما عليها وهي ستة أيام, إذاً مدة خلق السموات تكون ستة أيام او اقل, وكلا العمليتين قد انتهتا بالاستواء, وشرعت عملية التسوية للسماء.
وبالنظر إلى عظم السماء وما فيها مقارنة بالأرض وما عليها فيجوز ان لا تقل مدة خلق السموات وما فيها (خلا التسوية) عن مدة خلق الأرض وما عليها (خلا الدحو), أي أنها ربما كانت ستة أيام متزامنة مع خلق الأرض وما عليها.
وقد يُستشف من قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا), وإذا ما أخذنا بقول من فسر الرتق على انه التصاق السماء بالأرض والسموات والاراضين ببعضها, ان عملية خلق السموات والأرض كانت متزامنة واستغرق كل منهما ستة ايام خلا التسوية للسماء والدحو الأرض واللتين حدثتا عقب الخلق.
وبتأمل قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)), وقوله تعالى عن السموات والأرض: (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا), فنخال ان عملية خلق السماء والأرض قد حدثت وبدأت من نقطة واحدة فخلق الله جل وعلا السماء وخلق الأرض ومازالت السموات والأرض في رتق أي التصاق وبعد بناء السماء فتقها الله عن الأرض ورفعها ( رفع سمكها) ولما انتهى من خلق الأرض وما فيها استوى الى السماء المبنية مسبقا والمرفوع سمكها ليسويها وهي أي التسوية مرحلة تالية للخلق.
لاحظ قوله تعالى ( بناها, رفع سمكها) وكل ذلك حدث في فترة خلق السموات ثم ( فسواها) وهنا عطف بحرف العطف ال (ف) التسوية على البناء والرفع ما يدل على انهما عمليتان مختلفتان.
قد يسأل سائل قائلا: كيف تفسر ان الله جل وعلا قد خلق السموات والأرض في ستة ايام وهو ما تقول قبل التسوية والدحو, ثم استوى على العرش, فمتى إذاً حدثت التسوية والدحو, إذ ان الاستواء على العرش قد كان بعد إتمام الخلق؟
نقول ألم تلاحظ استعمال حرف العطف (ثم) والذي يفيد التعقيب والتراخي في الزمن, فلم يقل (فاستوى على العرش) بل قال: (ثم استوى على العرش), وهو ما يدل على ان زمناً قد مر بين إتمام خلق السموات والأرض في الأيام الستة وبين الاستواء على العرش.
ونرجح انه في هذا الزمن تم تسوية السموات ودحو الأرض والله اعلم.
متى خُلقت النجوم؟
لا يوجد نص صريح في القرآن الكريم يخبرنا متى خُلقت النجوم على وجه الدقة, وهل خُلقت في فترة أيام الخلق الستة أم بعد ذلك. لكن نميل إلى أنها قد خُلقت في فترة خلق السموات والأرض أي في أيام الخلق الستة, أي قبل الاستواء وتسوية السماوات, وذلك ان النجوم والمجرات هي من بناء السماء (والسماء ذات البروج).وقد توهم البعضُ أن خلق النجوم قد حدث إبان التسوية متأولين قوله تعالى: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً), وهذا ليس بدليل, فلا يعني اتخاذ النجوم زينة للسماء الدنيا أنها قد خُلقت في ذاك الوقت.
ولو تأملنا قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) ق), فإذا كانت النجوم تقع ضمن قوله تعالى (وَمَا بَيْنَهُمَا) كما قال بعض المفسرين, فهذا يعنى أنها قد خُلقت إبان فترة أيام الخلق الستة أي قبل الاستواء والتسوية.
وبتأمل قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) الفرقان), وعلى قول من قال من المفسرين أن البروج هي النجوم والسراج أي الشمس, ولو ربطنا ذلك بقوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) الحجر), نلاحظ عطف التزيين على الجعل وكذلك عطف الحفظ من الشياطين على ما سبق, ما يعنى أنها مراحل مختلفة في أزمنة مختلفة, ومعلوم ان حفظ السماء ورجم الشياطين قد حدث بحلول البعثة المحمدية.
كذلك لو عدنا للآية (61) الفرقان وتأملنا قوله تعالى (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً), وربطنا ذلك مع قوله تعالى في سورة فصلت: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا), وحيث ان الجعل هو نوع من الخلق ويعني فيما يعني خلق شيء من شيء أخر مخلوق أصلا, فالرواسي قد خُلقت من مادة الأرض المخلوقة, وكذلك النجوم جُعلت من مادة السماء وكل هذا نحسبه والله اعلم في فترة ايام الخلق الستة.
تأمل أيضا انه رغم ان الجبال قد خُلقت في زمن أيام الخلق الستة إلا أنها لم ترسى إلا لاحقا وبعد انتهاء فترة الخلق أي في فترة الدحو, قال تعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) النازعات). ويناظر ذلك النجوم فقد جُعلت في فترة أيام الخلق الستة, لكنها برزت وأخرجت كزينة للسماء الدنيا لاحقا في فترة التسوية.
الخلاصة وثمرة البحث
بهدي من الله جل وعلا وله الحمد والشكر تسنى لنا فهم لغة النصوص القرآنية والتي هي بفصيح لسان العرب دون عوج ولا تكلف حيث خلصنا بعون الله إلى ما يلي:- أن السماء التي استوى إليها الله جل وعلا بعد الانتهاء من خلق الأرض وما فيها هذه السماء كانت مخلوقة سلفا ومتعددة سبعا ( وهذا ما قال به مشاهير المفسرين), وما حدث بعد الاستواء إليهن هو تسويتهن أي تقويمهن وتهيئتهن وتوطئتهن لا خلقهن. وقد قُضي ذلك في يومين (فقضاهن), وهذان اليومان غير محسوبان ضمن أيام الخلق الستة لان التسوية مختلفة عن الخلق, وحدثت بعد إتمام عملية الخلق.
- ان أيام خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها هي ستة أيام على ظاهر النص القرآني الصريح والفصيح والمفصل دون داعي للفذلكة واللجوء إلى تأويل مبهم يعوزه التفصيل بغية تفادي التناقض في حساب أيام الخلق.
- زمن خلق السموات غير مصرح به في القرآن الكريم, غير انه قد يُستشف من الآيات التي تبين لنا بكل وضوح أن خلق السموات والأرض جرى في ستة أيام. وحيث أن الأرض وما فيها قد خُلقت في ستة أيام فهذا يعني أن خلق السماء أيضا قد استغرق زمنا حده الأقصى ستة أيام وهو ما يعني تزامن خلق السموات والأرض.
- عمليتي التسوية ( للسماء) والدحو (للأرض) هي خارج حساب الأيام الستة للخلق, لان هاتين العمليتين ليستا من الخلق بل للتقويم والتهيئة والتوطئة. ومن آيات سورة النازعات نفهم أن التسوية قد سبقت الدحو ( والأرض بعد ذلك دحاها).
- في هذا المقال رد واضح ومفحم, بدون تكلف أو لجوء إلى معنى مبهم, على المشككين في القرآن الكريم والذين يدعون وجود تناقض في آياته ما يخص تفصيل أيام الخلق الستة في سورة فصلت وغيرها من سور القرآن الكريم.
- لا حجة لمن يقول ان الأرض قد خلقت قبل السماء, فالنص القرآني يحتمل وجها أخر من الفهم, وعليه فانه لا حجر على من يبحث بطرق علمية شريطة أن تكون صحيحة مستندة إلى حقائق علمية مؤكدة لا نظريات تحتمل الصواب والخطأ وذلك لبحث خلق السموات والأرض.
- قدرة الله عز وجل لا تحدها حدود فبينما كان عز وجل يخلق الأرض كان أيضا يخلق السماء بصورة متزامنة وما مسه جل وعلا من لغوب, قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) ق).
ما كان من صواب فمن الله عز وجل وله الحمد والشكر, وما كان من خطأ فمن الشيطان ومني والله اسأل المغفرة والعفو.
د. احمد منصور 3 صفر 1440 هجري الموافق 13/ 10/2018 م.