هذه خلاصات وتصورات استقرت عندي حول تاريخ كتابة القرآن وجمعه وأود أن أطرحها أمام أنظار الأساتذة والمشايخ الكرام طالبا منهم التوجيه :
- تفرد القرآن بنزوله وحيا منطوقا و منجما في مناسبات كثيرة متفرقة ، أما بقية الكتب السابقة فلم تنزل كذلك ، بل نزلت دفعة واحدة أومكتوبة !
- كان المحفوظ في الصدور حجة على المكتوب في زمن الصحابة رضوان الله عليهم جميعا قبل المصحف العثماني .
- أليس لو أن القرآن لم يكتب ما كان لذلك أثر على وصوله إلينا ؟
- طرق الحفظ التي كانت معتمدة وشائعة زمن الصحابة هي الحفظ في الصدور لا في السطور حيث كانت أمة صدر الإسلام أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب في عمومها وكان اعتمادها على الحفظ ، أما الكتابة فلم تكن شائعة فيها !
- حفظ الذكر - الذي تعهد به الله عز و جل - فيه تحد وإعجاز للناس ، فلو كان القرآن وجد مكتوبا ( كاملا ) عند عدد كبير من الصحابة ، أما كان ذلك يقلل من مستوى هذا التحدي والإعجاز ؟
- ألم يكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن لترتيب سوره وآياته حتى اكتمل نزوله حيث كان ينزل منجما وفي مناسبات كثيرة ومتفرقة ؟
وجزى الله خيرا علماء الأمة السابقين واللاحقين الذين عنوا بدراسة تاريخ كتابة القرآن وجمعه وكل من سعى في تدوينه أو طباعته ونشره .
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
الأخ محمد عبد الله
قولكم : كان المحفوظ في الصدور حجة على المكتوب في زمن الصحابة رضوان الله عليهم جميعا قبل المصحف العثماني .
غير دقيق فالمحفوظ مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ، والمكتوب كذلك كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم. وعندما جمع القرآن الكريم أول مرة زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يؤخذ من المقروء ، بل طلب زيد بن ثابت شاهدين (نوعين من الشهادة ؛ ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإثنين يشهدان على أنه كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم)
وقولكم: أليس لو أن القرآن لم يكتب ما كان لذلك أثر على وصوله إلينا ؟
لا محل لهذا السؤال لأن القرآن الكريم كتب كلّه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الحرص على أن يكتب كل ما ينزل به الوحي.
وقولكم : طرق الحفظ التي كانت معتمدة وشائعة زمن الصحابة هي الحفظ في الصدور لا في السطور حيث كانت أمة صدر الإسلام أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب في عمومها وكان اعتمادها على الحفظ ، أما الكتابة فلم تكن شائعة فيها !
بل كان الحفظ من الجهتين، أما مسألة فشو الأمية فنوقشت كثيرا بإمكانك الرجوع إليها في مظانها، وقد تحدث عنها الدكتور غانم قدوري في رسم المصحف . وقد كان العرب يتفاخرون بالشعر والمعلقات ولو أن أحدا منهم لم يكن يقرأ لما ظهرت ميزة تعليقها على الكعبة .
وقولكم : حفظ الذكر - الذي تعهد به الله عز و جل - فيه تحد وإعجاز للناس ، فلو كان القرآن وجد مكتوبا ( كاملا ) عند عدد كبير من الصحابة ، أما كان ذلك يقلل من مستوى هذا التحدي والإعجاز ؟
لست أعلم تخصيصكم للذكر في حفظ الله تعالى . المحفوظ هو القرآن الكريم كاملا دون نقص وهو ما أنزله الله تعالى على نبيّه الكريم . وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على كتابة ما ينزل من القرآن الكريم فأنظر إلى قصة إسلام عمر رضي الله عنه ، وغيرها الكثير ، لكن أحدا لم يجمعه كاملا لأنه لم ينزل كاملا بل منجما على ثلاث وعشرين سنة ، وليس لذلك أثر في إعجاز القرآن الكريم. حيث ظهر إعجاز القرآن الكريم البياني في كل نجم من نجومه ، بإمكانك مراجعة قصة الوليد بن المغيرة.
وترتيب آيات القرآن الكريم وسوره بالوحي وبأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن الكريم صراحة.
أستاذي حسن عبدالجليل
شكر الله لكم تعليقكم وتوضيحكم ، ولست في هذا المقام إلا طالب علم وتوجيه منك وممن يتكرم بالوقوف عند هذه الملاحظات ..
ولايزال عندي بعض التعليقات والأسئلة وهي :
قولكم : المحفوظ مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ، والمكتوب كذلك كتب بين يديه صلى الله عليه وسلّم. وعندما جمع القرآن الكريم أول مرة زمن أبي بكر الصديق لم يؤخذ من المقروء ، بل طلب زيد بن ثابت شاهدين (نوعين من الشهادة ؛ ما كتب بين يدي النبي ، وإثنين يشهدان على أنه كتب بين يدي النبي ) .
- أسأل : أليس الحجة في هذا للسابق (المنطوق المحفوظ ) على اللاحق ( المكتوب ) ؟ وإن قلنا بحجيتهما بدرجة واحدة فالمحفوظ له درجة السبق على المكتوب ، وهذا يكفي درجة ! بل هكذا أنزل القرآن موحا منطوقا ولم ينزل مكتوبا !
وقولكم : لا محل لسؤالكم عندما قلت : ( أليس لو أن القرآن لم يكتب ما كان لذلك أثر على وصوله إلينا ؟) وقولكم : لأن القرآن الكريم كتب كلّه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي في غاية الحرص على أن يكتب كل ما ينزل به الوحي .
- أقول لا خلاف فيما تفضلت به أخي الكريم ، ولكن المقصود كان : افترض أن القرآن لم يكتب ، أكان ذلك سيؤثر على وصوله إلينا ؟
كنت أتصور أن الجواب : وإن افترضنا ذلك فلن يكون له أدنى تأثير على وصول القرآن إلينا ، والله أعلم .
وقولكم : أما مسألة فشو الأمية فنوقشت كثيرا بإمكانك الرجوع إليها في مظانها، وقد تحدث عنها الدكتور غانم قدوري في رسم المصحف . وقد كان العرب يتفاخرون بالشعر والمعلقات ولو أن أحدا منهم لم يكن يقرأ لما ظهرت ميزة تعليقها على الكعبة .
- قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) واضح المعنى والدلالة ولعلك ترجع إلى كلام المفسرين في معنى الآية وتوجهني بناء على ذلك .
وقولكم : لست أعلم تخصيصكم للذكر في حفظ الله تعالى . المحفوظ هو القرآن الكريم كاملا دون نقص وهو ما أنزله الله تعالى على نبيّه الكريم . وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على كتابة ما ينزل من القرآن الكريم فانظر إلى قصة إسلام عمر ، وغيرها الكثير ، لكن أحدا لم يجمعه كاملا لأنه لم ينزل كاملا بل منجما على ثلاث وعشرين سنة ، وليس لذلك أثر في إعجاز القرآن الكريم . حيث ظهر إعجاز القرآن الكريم البياني في كل نجم من نجومه ، بإمكانك مراجعة قصة الوليد بن المغيرة.
وترتيب آيات القرآن الكريم وسوره بالوحي وبأمر من النبي ، وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن الكريم صراحة.
- أستاذي لم أفهم كلامك خاصة أنني لم أتعرض للإعجاز البياني والبلاغي للقرآن لا من قريب ولا بعيد ، كما أني قصدت قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) والذكر هنا هو القرآن ، أليس كذلك ؟
- أستاذي لا أخالفك بأن الترتيب توقيفي ولم أتعرض لهذا ، لكن أرأيت لو أن القرآن لم يكتب أكان ترتيب السور والآيات يسهل أم يصعب ؟
أم أن كتابة القرآن ساعدت وسهلت ترتيب سور القرآن وآياته ، ولعل ذلك من الحكم البينة الواضحة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن ، والله أعلم .
هنالك أدلة على كتابة الصحابة آيات من القرآن الكريم زمن النبوة، فإن لم يكن لما يكتبونه فائدة، فلماذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك؟ ألم يكن إشغال كتبة الوحي بأمر آخر أكثر أولوية في بناء الدولة المدنية؟
كلا، لقد كانت كتابة القرآن الكريم أولوية من أولويات التراتيب الإدارية للدولة النبوية.
ومن الأدلة على الكتابة زمن النبوة:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
1. قال تعالى: " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " [الفرقان: 5].
ووجه الدلالة أن المشركين شاهدوا صحفاً مكتوب عليها آيات من القرآن الكريم، وقالوا: " اكْتَتَبَهَا " ولم يقولوا: " كتبها "، لأنهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب، بل يأمر غيره بالكتابة.
2. تكرار كلمة (الكتاب) في السور المكية، والتي تعني: القرآن الكريم. مثلاً: قال تعالى: " كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 2].
ثانياً: السنة:
1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ". رواه مسلم
2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.. ". رواه مسلم
3. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: ".. فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلتُهُ مُصْحَفَاً كَانَ عِنْدَهُ، فَأَعْطَانِيْه ". رواه الطبراني
4. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " كُنَّا عِنْدَ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقاعِ... ". رواه الترمذي
5. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن سورة الأنعام: " هِيَ مَكِيَّة، نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلَاً، وَكَتَبُوْهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ ". [زاد المسير لابن الجوزي]
ثالثاً: السيرة النبوية:
1. قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
والشاهد فيها، أنه وجد عند أخته وزوجها صحيفة كتبت فيها سورة طه، كان خباب بن الأرت رضي الله عنه يعلمهما إياها. وهذا يدل على أن عادة خباب بن الأرت رضي الله عنه ، أخذ صحف من القرآن المكتوب، وتعليمها للمسلمين في بيوتهم. [سيرة ابن هشام]
2. قصة حَمْل رافع بن مالك رضي الله عنه صُحُفاً من مكة إلى المدينة:
ذكر ابن حجر في الإصابة: لما لقي رافعٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، أعطاه ما أنزل عليه في عشر سنين خلت، وقدم به رافع المدينة، ثم جمع قومه فقرأ عليهم. وكان رافع بن مالك رضي الله عنه أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
إذن، كان رافع رضي الله عنه يكتب آيات القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة، وحمل معه الصُّحف المكتوبة إلى المدينة. وتعبير: "(أول) من قدِم المدينة بسورة يوسف "، يدل على أن هنالك ثان وثالث.
3. كثرة الصُّحُف التي كانت بين أيدي الصحابة الكرام زمن خلافة أبي بكر.. والتي اعتزَّ كلٌّ منهم أنه كتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مَن أسلم في بداية العهد المكي. ولا يُعقَل أن يكونوا كتبوها جميعاً، في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
وبهذا يطمئن القلب أن القرآن الكريم كان مكتوبًا في عهده صلى الله عليه وسلم، وإن كان غير مجموع في موضع واحد.