خلاصات معرفية: اليهودية والباطنية والإسرائيليات [متجدد]

إنضم
01/02/2016
المشاركات
707
مستوى التفاعل
21
النقاط
18
الإقامة
مصر
نبدأ اليوم بإذن الرحمن نشر مقتطفات من كتاب (خلاصات معرفية)، تأليف: محمد سلامة المصري.





عناوين الفصول:

التوراة
قصة الخلق
قصة آدم
أبناء آدم
شيث وأخنوخ
النيفيليم
نوح
بابل
إبراهيم
تاريخ اليهود
الحانوكا
الهيكل
الشيطان
الشخيناه
الآخرة
بهيموث ولوياثان
البقرة
التلمود
القبالا
ملائكة الأمم
مخطوطات نجع حمادي
الغنوصية
بروميثيوس
كهف أفلاطون
تاريخ الإسماعيلية
عقائد الإسماعيلية
الحشيشية
وحدة الوجود
ابن عربي
الصوفية
الخيمياء
التنجيم


بعض المصادر والمراجع:

- القرآن
- صحيح البخاري وصحيح مسلم، والسلسلة الصحيحة للألباني
- التوراة، (ترجمات متعددة، إنجليزية وعربية)
- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري
- قصة الحضارة (الأصل الإنجليزي والترجمة العربية)، وِل ديورانت
- التفاسير (ابن كثير - القرطبي - المودودي - ابن عاشور)
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية
- نصوص نجع حمادي الغنوصية The Nag Hammadi Library، تحرير James M Robinson
- أفلاطون Plato's Complete Works
- التلمود، الترجمة الإنجليزية The Soncino Babylonian Talmud
- الزوهار، Sefer Zohar, Soncino Edition
- تاريخ يوسيفوس، The Antiquities of The Jews, Flavius Josephus
- الموسوعة اليهودية، JewishEncyclopedia.com
- تاريخ الإسلام، الذهبي
- الكامل في التاريخ، ابن الأثير
- البداية والنهاية، ابن كثير
- كتب المقريزي (المواعظ والاعتبار - اتعاظ الحنفاء – السلوك)
- مقدمة ابن خلدون
- كتب الفِرَق (ابن حزم: الفِصَل في الِملَل والأهواء والنِحَل – البغدادي: الفرق بين الفرق – الشهرستاني: الملل والنحل)
- فضائح الباطنية، أبو حامد الغزالي
- دروس عبد العزيز الراجحي في العقيدة
- كتب ابن عربي (الفتوحات المكية – فصوص الحِكَم)
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القفطي
- تنبيه الغبي، البقاعي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل
- كتب ومقالات د/ فوز بنت عبد اللطيف كردي
 
البقرة

قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
فلو ذهبوا وذبحوا أي بقرة لتم المقصود، لكنهم تعنتوا وشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.
أخذوا يسألون عن صفاتها وعن لونها، بحيث لم يجدوا في النهاية إلا بقرة واحدة تنطبق عليها المواصفات، فذبحوها.
وردت تفاصيل هذه الواقعة في سورة البقرة، في الآيات من 67 إلى 71 ، ثم تلتها آيتان عن حادثة قتل وقعت بين بني إسرائيل، ولم يتوصلوا لمعرفة القاتل، فقال لهم الله أن يضربوا الجثة بعضو من أعضاء البقرة المذبوحة، فعاد المقتول للحياة وأخبرهم بهوية قاتله.

أغلب المفسرين يقولون أن الواقعتين هما عبارة عن واقعة واحدة، وأن النص فيه تقديم وتأخير. أي أن حادثة القتل حدثت أولا ثم قال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ثم عاد المقتول للحياة.
لكن هناك رأي آخر يقول أن ذبح البقرة كان مسألة منفصلة، وعبارة عن طقس في الشريعة اليهودية، ثم لما حدثت واقعة القتل بعد ذلك أمرهم الله أن يضربوا الجثة بعضو من أعضاء البقرة التي كانوا ذبحوها من قبل.
قال القرطبي: "يجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها"

أوصاف البقرة في القرآن هي أنها: لا فارض ولا بكر، بل بين ذلك.
أي لا كبيرة في السن ولا صغيرة، بل متوسطة العمر. وأنها صفراء، فاقع لونها، تسر الناظرين.
أي أنها شديدة الصفرة.
وأنها لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلّمة لا شية فيها.
أي لم يتم استخدامها في حرث الأرض ولا في السقاية. خالية تماما من العيوب الجسدية. وليس فيها أي لون آخر غير لونها الأصفر.

هذه القصة غير مذكورة في التوراة، لكن هناك نصوصا قريبة من معناها.
ففي سفر التثنية، الإصحاح 21، نجد الحكم الفقهي الخاص بتطهير المجتمع من ذنب جرائم القتل التي لم يتوصلوا لمعرفة فاعلها.
ففي هذه الحالات يصعب تطبيق القصاص، وبالتالي يكون على اليهود تقديم ذبيحة، لتطهير أنفسهم من الذنب.
وتفاصيل هذا الطقس تكون كالتالي:
إذا وجدوا قتيلا ولم يعلموا قاتله، فإن القضاة يذهبون لأقرب مدينة من مكان الجريمة، ويأمرون شيوخ قبائل هذه المدينة بأن يأخذوا بقرة "لم يُحرث عليها، ولم تجر بالنير"، ثم يذهبوا لأي واد يكون فيه ماء جارٍ، وليس فيه زرع ولا حراثة، ثم يكسروا عنق البقرة، بحضور الكهنة اللاويين.
ثم يغسل شيوخ قبائل المدينة المتهمة أيديهم على البقرة، ويقولون:
أيدينا لم تسفك هذا الدم، وأعيننا لم تر الجريمة.
ثم يستغفرون الرب.
=====
وفي التوراة طقس آخر مرتبط بالبقر، وهو "البقرة الحمراء Red Heifer".
والبقرة الحمراء هي بقرة بمواصفات نادرة، ويتم استخدامها لتطهير اليهود من النجاسة.
ففي الشريعة اليهودية تعتبر جثث الموتى سببا للنجاسة. لمسها أو الاقتراب منها، أو حتى المشي فوق قبر، أو الوجود في بيت فيه شخص ميت، يؤدي مباشرة لنجاسة لعدة أيام.. ويجب استخدام "رماد بقرة حمراء" للتطهر.
وهذا الطقس موصوف في سفر العدد، الإصحاح 19
"قل لبني إسرائيل أن يأخذوا بقرة حمراء، لا عيب فيها، ولم يعل عليها نير. وأن يعطوها لكاهن فتذبح أمامه، ثم تحرق. وأن يقوم رجل طاهر بجمع رماد البقرة، وأن يحفظه في مكان طاهر"
وعند الحاجة للتطهر، يوضع بعض الرماد في ماء ثم يرش منه على المتعرضين للنجاسة.

وقد نفد رماد آخر بقرة منذ قرون طويلة، ولهذا فاليوم يعتبر اليهود أنفسهم في حالة غير طاهرة. ولهذا أيضا يؤمن بعض اليهود المتدينين أنه حرام على اليهودي دخول ساحة المسجد الأقصى، لأنها مكان ما يسمونه "الهيكل"، وهو مكان يجب أن يتطهروا قبل دخوله.
وبالإضافة لذلك فإن اليهودي محرم عليه دخول قدس الأقداس، لأنه كان لا يجوز أن يدخله إلا كبير الكهنة، وفي يوم واحد من السنة.
ولهذا يتجنب الإسرائيليون المتدينون المشي في ساحة الأقصى، كي لا تدوس أقدامهم بطريق الخطأ على مكان حجرة قدس الأقداس.
وحتى لو تم بناء هيكل ثالث، فإن اليهود يجب تطهيرهم أولا قبل دخوله.. وطقس التطهير يجب أن يكون بحضور كاهن طاهر. لكن كيف سيكون الكاهن أصلا في حالة طهارة ما دام تطهيره هو يحتاج لوجود كاهن آخر في حالة طهارة؟!
وهذه المشاكل الفقهية كتنت تستغلها الحكومة الصهيونية العلمانية أحيانا لكبح جماح اليهود المتدينين، ومنع صدامهم مع المسلمين قدر الإمكان.
إلا أن بعض الحاخامات المتطرفين يمكن أن يخترعوا حلولا لهذه المشاكل الفقهية، وأن يسمحوا لليهود بدخول ساحة الأقصى، بدلا من الاقتصار على الوقوف خارج الساحة أمام حائط البراق/المبكى.
والإعلام العربي لا يميز كثيرا بين الإسرائيليين المتعصبين لقوميتهم، الذين يقتحمون الأقصى كل فترة، وبين الطوائف المتدينة التي تحرم على اليهود دخول الأقصى، لكن المسيري في موسوعته شرح المسألة بالتفصيل.
 
الباطنية

يدخل الباطنية على المسلمين من باب التشيع أو من باب التصوف أو من باب الفلسفة.
فيقول ابن حزم أن الباطنية استخدموا "ألسنة الشيعة" كي يخرجوا ضعفاء الإيمان من الإسلام إلى الكفر.
ويقول ابن تيمية أنهم ادعوا أن للنصوص الدينية معانٍ باطنة مخالفة للمعاني الظاهرة المعلومة، ووافقهم في ذلك "الفلاسفة وغلاة المتصوفة".
واخترعوا تأويلات جديدة ومختلفة لكلمات: "القيامة" و"الجنة" و"الملائكة"، لأنهم أرادوا أن يوفقوا بين فلسفة أرسطو وبين نصوص الوحي.. فلما استحال التوفيق قرروا تغيير معاني نصوص الوحي كي تتماشى مع فلسفة الإغريق.

ويقول ابن الأثير أن الباطنية كانوا يقولون لأتباعهم: العبادات لا تجب على أولياء الله، بل هي قيود على العامة فقط، وساقطة عن "الخاصة".
وقد نقل عبد القاهر البغدادي رسالة كتبها أحد الباطنية، فكان مما ورد فيها:
"وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها، وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج؟"

ويقول القرطبي في تفسيره، عند كلامه عن آية "وهبْ لنا من لدنك رحمة":
جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها، فيقولون: "العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب.. والنظر في الكتب والأوراق حجاب"، وهذا مردود.
(أي أنهم يقلدون الأفكار الغنوصية، ويقولون أن المعرفة الدينية مصدرها إلهام يشعرون به في قلوبهم من الله مباشرة، ولا يحتاجون لفهم الشريعة ولا للتفقه في نصوص الوحي.. بل وينظرون للعلم الشرعي على أنه يحجبهم عن "الحقائق" الإلهية)
=====

حاولت الفرق الباطنية التلاعب بتفسير القرآن، فيقول ابن تيمية:
"من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية أنهم يقولون
الصلوات الخمس: معرفة أسرارنا. وصيام رمضان: كتمان أسرارنا. والحج: هو الزيارة لشيوخنا المقدسين"
ويقول أن من فتح لهم هذا الباب هو فرقة الجهمية وفرقة الرافضة، حيث صار بعضهم يقول أن كلمة "الإمام المبين" التي وردت في آية "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" مقصود بها علي بن أبي طالب، و"الشجرة الملعونة في القرآن": بنو أمية، والبقرة المأمور بذبحها: عائشة، و"اللؤلؤ والمرجان": الحسن والحسين، و"تبت يدا أبي لهب وتب" هي إشارة باطنية لأبي بكر وعمر.

ويقول أن بعض الصوفية حاولوا الرد على هذه التفسيرات الباطنية بتفسيرات مضادة!، فقالوا:
آيات "والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين" مقصود بها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
و"كزرع أخرج شطأه": أبو بكر، و"فآزره": عمر، و"فاستغلظ": عثمان، و"فاستوى على سوقه": علي. (!!)

وحاول بعض الصوفية أيضا أن يضيفوا للقرآن معان جديدة غير مقصودة في سياق الآيات، كي توافق مصطلحاتهم الصوفية و"تمارينهم الروحية".. فقالوا أن آية "اذهب إلى فرعون إنه طغى" مقصود بها القلب، وأن آية "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" مقصود بها النفس، وهكذا.
===

ويشرح الغزالي ما يعتقده الباطنية بخصوص القيامة والجنة والنار، فيقول: "وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة"
وقاموا بتأويل معناها فجعلوها مجرد رمز يشير لـ "خروج الإمام وقيام قائم الزمان" الذي يرفع عنهم تكليفات الشريعة الإسلامية.

وبعضهم قال أن القيامة تعني أيضا نهاية دورة الحياة الحالية، وبعدها ستبدأ دورة جديدة، حيث أن المادة يستحيل أن تصاب بالفناء، ويستحيل أن يكون عالمنا قد بدأ من العدم، فيجب أن يكون الكون عبارة عن دورات متتالية.

(وهذه العقيدة الباطنية منتشرة حاليا للأسف، حيث يؤمن البعض أن الكون عبارة عن دورات من الانفجار ثم التمدد ثم الانكماش ثم الانفجار مرة أخرى، وهكذا)

ويقول أيضا أنهم أنكروا المعنى المعروف للبعث والحشر والجنة والنار، فقالوا أن المعاد المقصود ليس هو قيام الموتى من القبور لحياة أبدية في جنة أو نار، بل مجرد عودة مكونات الإنسان إلى أصولها.. أي عودة المكونات المادي إلى الطبيعة، وعودة الروح إلى مصدرها.
وقالوا أن الروح إن كانت خلال الحياة قد تلقت "العلوم والمعارف من الأئمة" فإنها عند مفارقة الجسم ستتحد بـ "العالم الروحاني الذي منه انفصالها، وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي"، وأنها بموتها ستكون قد تخلصت "من ضيق الجسد".
أما "النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة، المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين، فإنها تبقى أبد الدهر في النار، بمعنى أنها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان" (وهذه هي نفس عقائد الغنوصية)

وأضاف الغزالي أن "غرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق، حتى تبطل به الرغبة والرهبة"
أي أن هدفهم هو تغيير ما يؤمن به الناس، كي لا تصبح حياة المسلمين وأفعالهم مرتبطة بالخوف من عذاب النار والرغبة في نعيم الجنة.
 
قبل أن يفتح المسلم التوراة ليقرأ فيها لأول مرة يجب أن يكون على علم بإجابة عدة أسئلة أساسية:
- ما نوع العلاقة بين النص الحالي والنص الأصلي؟
- أي الترجمات أفضل؟
- كيف أفهم النص بصورة صحيحة، دون أن تدفعني الحماسة الزائدة إلى قطع الجمل عن سياقها، ودون أن يعميني التعصب عن التفكير الهادئ والمتزن؟
وقبل أن يتعمق أكثر في قراءة النص، عليه أن يكون مسلحا بعقيدة إسلامية سليمة، وباطلاع واسع على القرآن والحديث وقصص الأنبياء.

لكن للأسف، كثير من المتعاملين مع نص التوراة الحالية يسلكون طرقا خاطئة.
البعض يقلد طريقة العلمانيين، فيتأثر أكثر من اللازم بنظريات الأكاديميين الغربيين عن التوراة.. خصوصا عندما يشككون في المعجزات الواردة في النص، أو عندما يزعمون أن التوحيد عند اليهود وغيرهم هو نتاج "تطور تدريجي" من الوثنية وتعدد الآلهة، أو مسروق من إخناتون المصري. في حين أن التوحيد معروف في الأرض بين البشر منذ أول يوم هبط فيه آدم من الجنة، ومعروف لبني إسرائيل من قبل أن يعيشوا بمصر.

والبعض تسيطر عليه العنصرية والنزعة القومية، ويقرأ النص بعاطفته لا بعقله.. لدرجة أنه يتعاطف أحيانا مع شخصيات وثنية، في صراعها ضد بعض أنبياء بني إسرائيل، لمجرد أن الوثنيين ينتمون لقوميته الحالية!

والبعض يقرأ النص بوجهة نظر ليبرالية.. فتشمئز نفسه من بعض الأفعال الموصوفة في النص، لمجرد أنها غير متوافقة مع الأعراف الليبرالية الحديثة ومواثيق حقوق الإنسان. وكأنه من المفترض أن تتوافق التشريعات التي أنزلها الله على بني إسرائيل مع الأفكار الليبرالية الفرنسية والأمريكية والقانون الدولي الحديث!
 
نصيحة:
في زمن انتشر فيه بين المسلمين الجهل بتفاصيل العقيدة الإسلامية، وندرت فيه قراءة أحاديث البخاري ومسلم وكتب التفسير المعتمدة، تصبح قراءة التوراة خطرا على العقيدة، وسببا للتخبط والتشتت..
وأحيانا تختلط الأمور على القارئ، فلا يعد قادرا على التمييز بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم التوراتية.
فدراسة الديانات الأخرى هي حقل ألغام.. لا حاجة لدخوله إلا مضطرا.

لهذا عليك الفصل بين ما تقرأه في التوراة وبين ما تعرفه من الإسلام.
فصفات الله في التوراة الحالية مختلفة عن صفاته في القرآن.. وقصة الخلق هنا مختلفة عن قصة الخلق هناك.. والسامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل لن تجده في التوراة، بل ستجد المؤلفين ألصقوا التهمة بهارون عليه السلام، وهكذا.
ولهذا فطريقة التعامل المثلى مع التوراة وقصص اليهود (أي الإسرائيليات) هي:
- النصوص التي تتعارض مع ما في القرآن والسنة: نعرف أنها كذب.
- النصوص التي توافق القرآن والسنة موافقة تامة: نعرف أنها صدق.
- النصوص الأخرى التي لم يرد عندنا شيء يخالفها أو يوافقها: نتوقف في الحكم عليها.
فلا نصفها بأنها كذب لمجرد أنها غريبة على أسماعنا أو غير موافقة لهوانا.. ولا نصفها بأنها صدق لمجرد أنها موافقة لهوانا.

فأحد الأخطاء الشائعة التي يقع فيها المبتدئون هي أن يسارعوا بالحكم على بعض نصوص التوراة، فيقولون مثلا: "هذه القصة بالتأكيد خرافية"، أو "مستحيل أن هذا التشريع أنزله الله فعلا على اليهود، لأنه مخالف لتشريعاتنا الإسلامية"
ويغيب عنهم أن بني إسرائيل كانت تحدث في زمنهم العجائب والغرائب.
(ورد عن الرسول ﷺ في السلسلة الصحيحة للألباني: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنه كانت فيهم الأعاجيب)
ويغيب عنهم أن التشريع الإلهي قد يختلف من رسول لرسول. فالمشترك بين الرسل هو العقيدة، أما أحكام الشريعة الموسوية فتختلف قليلا أو كثيرا عن الشريعة العيسوية أو المحمدية.
(فقد قال عيسى عليه السلام لقومه: "ولأُحِل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم".
وورد في صحيح مسلم عن الرسول ﷺ: لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا، فطيبها لنا)

أما التحريف الذي تعرضت له التوراة الأصلية، والذي أدى لتحويلها إلى التوراة الحالية، فهو عبارة عن ثلاثة أنواع:
تحريف حذف، وتحريف إضافة، وتحريف تبديل وتغيير.
فهناك نصوص ضاعت أو تم إخفاؤها..
("تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا")
وهناك نصوص أضيفت..
("ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله")
وهناك نصوص تم تعديلها وتغييرها..
("يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذُكّروا به")
("وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون")

ودراسة مواضع التحريف، ودوافع المؤلفين وأهدافهم من ورائه، هي دراسة شيقة.. لكن – كما قلت من قبل – محفوفة بالمخاطر.
 
قد تصاب بالحيرة عندما تسمع كلمة "توراة"، وتتساءل: ما المقصود بها؟ وأي توراة هي المقصودة بالضبط؟
التوراة في الأصل هي كتاب وحي إلهي، نزل على موسى بن عمران كما نزل القرآن على محمد ﷺ..
لا نعرف حجمه ولا عدد آياته، ولا نستطيع تحديد محتواه النصي بصورة كاملة.
والسبب هو ما أصابه من تحريف ونسيان مع مرور الزمن.

وعلى عكس القرآن، فإن التوراة – وكل الكتب السماوية الأخرى – نزلت مخصصة لقوم محددين، وبشرائع تناسبهم.. أما القرآن فنزل لجميع الأمم والأقوام.
وعلى عكس القرآن، لم يتعهد الله بحفظ الكتب السماوية الأخرى من التحريف والضياع، ولم يكن مطلوبا منها أن تستمر لنهاية الزمان، ولا أن تنتشر بين الأمم الأخرى.
(ورد عن الرسول في صحيح البخاري أنه قال: "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس كافة")

وقد انتهى زمن التوراة وزمن الإنجيل، وأصبح القرآن ناسخا لهما ومهيمنا عليهما.. حتى أن عيسى عليه السلام عندما سينزل من السماء، قرب نهاية الزمان، لن يحكم بين الناس بالإنجيل الأصلي، بل بالشريعة المحمدية.
=====
لم يكن الوحي الذي نزل لبني إسرائيل مقتصرا على موسى، بل استمر فيما بعد ينزل على أنبياء بني إسرائيل الآخرين، كيوشع وداود وسليمان وزكريا ويحيى، وغيرهم كثير.

أما الكتاب المسمى حاليا بـ "التوراة" فهو مجموعة من الكتب التاريخية والتشريعية والأدبية، تم ضمها إلى بعضها البعض، وتسمى "أسفارا".
وخلال قراءتك فيها ستجد من وقت لآخر جملة أو فقرة يغلب على الظن أنها باقية من النص التوراتي الأصلي.. وستجد أيضا الكثير من النصوص التي ستجزم أنها نتاج الخيال الخصب للمؤلفين اليهود عبر القرون.
(ويبدو أن موهبة يهود اليوم في تأليف القصص الدرامية، والتي نراها واضحة من خلال شهرتهم في هوليوود ككتاب سيناريو، لم تبرز من فراغ.. بل هي قدرة ورثوها عن المؤلفين القدماء للتوراة والمدراش والتلمود!)
 
تنقسم التوراة الحالية لثلاثة أقسام:
- الأسفار الخمسة. وينسبها اليهود لموسى عليه السلام. وهذا القسم بمفرده يسمى "التوراة" أيضا. وهو أهم الأقسام الثلاثة.
- أسفار الأنبياء. وفيها مواعظ وأقوال منسوبة لبعض الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى.
- أسفار الكتابات. وفيها كتابات تاريخية وأدبية وحكم وأمثال.
ويختصر اليهود أسماء هذه الأقسام بأخذ أول حرف عبري من كل اسم: توراه + نبيئيم + كتوبيم = "ت ، ن ، ك"
ويقرؤونها: تاناخ.
(حسب القواعد اللغوية فإن حرف الكاف في هذه الحالة ينطق خاء)

ويشترك اليهود والنصارى في الإيمان بقدسية هذه الأسفار.. إلا أن النصارى أضافوا لها أسفار الأناجيل وكتابات بولس وآخرين، بحيث صار التاناخ هو "عهد قديم" بين الرب وشعب بني إسرائيل، وأصبحت الأناجيل وملحقاتها هي "عهد جديد" بين الرب وشعوب العالم.
ويؤمن المسلمون أن رسالة المسيح كانت مقتصرة على بني إسرائيل فقط، أما المسيحيون فيقولون أنه كان الرب الذي تجسد من أجل جميع الأمم والشعوب.
(على الرغم من أنهم ينسبون له في الأناجيل أنه قال: ما بُعثت إلا لخراف بيت إسرائيل الضالة)
=====
أسفار التوراة الخمسة الأولى هي:
- التكوين، أي خلق العالم. وفيه قصة آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب، من وجهة نظر مؤلفي التوراة.. وينتهي بموت يوسف.
- الخروج، أي خروج بني إسرائيل من مصر مع موسى.
- اللاويّون، أي الكهنة الأحبار.
- العدد، أي إحصاء بني إسرائيل.
- التثنية، أي تثنية الشريعة. وينتهي بموت موسى وخلافة يوشع له.
(وقد ورد في البخاري ومسلم: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلَفَه نبي)
 
عند اختيارك ترجمة مناسبة لتقرأ منها نص التوراة، لا تبدأ بالترجمة السائدة.
فتلك الترجمة – المسماة ترجمة فان دايك – لا تتميز بأسلوب عربي قوي وسلس وواضح، بل هي أقرب للترجمة الحرفية التي تضع كلمة مكان كلمة.. وهي معتمدة في كثير من الكنائس ومتوفرة بكثرة على شبكة الإنترنت.
فالتوراة كتاب طويل، يصل للألف صفحة، وهذه الترجمة لن تشجعك على الاستمرار طويلا في القراءة.
وسأعطيك هنا مثالا لترى مستواها بنفسك:
سِفر: الأمثال، الإصحاح: 11، العدد: 21 و 22
"يد ليد لا يتبرر الشرير. أما نسل الصدّيقين فينجو.
خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة المرأة الجميلة العديمة العقل"


قارن هذا بنفس النص في الترجمة اليسوعية:
"لا ريب أن الشرير لا يُزكَّى، وأن ذرية الأبرار تنجو.
المرأة الجميلة العارية من الفهم .. حلقة من ذهب في أنف خنزير"


وعند بحثك عن ترجمة جيدة، ابتعد عن الطبعات التي لا تضع هوامش تفسيرية.
فنص التوراة يحتاج لكثير من شروح معاني المفردات، ولتوضيح المقابل الحديث لأسماء الأماكن الجغرافية القديمة.
بالإضافة إلى أن الترجمة هي عملية اجتهادية، ويجب على مترجم النص الديني أن يضع في الهامش أسباب تفضيله لمعنى على معنى آخر.
ويجب عليه أيضا أن يكون أمينا، فيخبر القارئ بالاختلافات الموجودة بين المخطوطات.
وإذا اضطر للتعديل على النص العبري كي تصبح الجملة مفهومة، وهو ما يحدث كثيرا، عليه أن يوضح هذا في الهامش، وأن يخبر القارئ بالأسباب اللغوية التي دفعته للتعديل.
(الكثير من الإشكاليات اللغوية الموجودة في النص يكون سببها هو الناسخ اليهودي القديم، حيث كانت عينه تقفز أحيانا من سطر لسطر فيضع كلمة مكان كلمة.. وأحيانا تختلط عليه الحروف العبرية المتشابهة، كحرف الهاء والحاء، والواو والنون)

وعندما دخلت أخطاء النساخ على النص العبري كان من الصعب تصحيحها، لأن التوراة تعتمد على المخطوطات المكتوبة.. وصعب جدا حفظ نصوصها في الذاكرة وتلاوتها دون النظر في النص المكتوب.
فعلى سبيل المثال، هذا أحد النصوص التي تتحدث عن ملك اسمه أخزيا، ويتضح من أسلوبه السردي أنه غير مناسب للحفظ السماعي:
"انطلق مع يورام بن اخآب لمقاتلة حزائيل ملك أرام في راموت جلعاد، فضرب الأراميون يورام.
فرجع يورام الملك ليبرأ في يزرعيل من الجروح التي جرحه بها الأراميون في راموت عند مقاتلته حزائيل ملك أرام.
ونزل أخزيا بن يهورام ملك يهوذا ليرى يورام بن اخآب في يزرعيل لأنه كان مريضا"


ويختلف هذا الأسلوب كثيرا عن القرآن الذي قال الله عنه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر"
فلا تتوقع أن تجد الأسلوب التوراتي مشابها للأسلوب القرآني. بل إن أردنا تشبيه التوراة الحالية بشيء - خصوصا الأجزاء التاريخية الموجودة فيها - فأظن أنها قريبة من أسلوب (سيرة ابن هشام)..
أي قصص ومواقف، وأسماء رؤساء قبائل وأفعالهم، وتأريخ للمعارك والتحالفات.

لكن بالإضافة لأسلوب السرد التاريخي في التوراة الحالية يوجد أسلوب آخر، ستراه بكثرة بين صفحاتها، وهو الأسلوب الشعري والرمزي.
فستجد فقرات طويلة من النثر الأدبي أو الشعر المنثور.. واستخدام مكثف للاستعارة والتشبيه والكناية.
وهذه المواضع تسبب مشاكل لبعض القراء، ممن يأخذون كل جملة على محملها الظاهري الحرفي، دون الانتباه للسياق المجازي والأسلوب الأدبي.

أفضل ترجمة بها هوامش تفسيرية ولغوية دقيقة هي ترجمة إنجليزية، معروفة اختصارا باسم ترجمة الـ NET ، أي
‏New English Translation
واعتمد مؤلفوها على أحدث الدراسات المتوفرة.
أما في اللغة العربية فأنصحك بالترجمة اليسوعية وهوامشها.
 
بعد اختيار ترجمة جيدة ستواجهك مشكلة اختيار كتاب تفسير مناسب.
فأغلب تفاسير التوراة المنتشرة والمتوفرة هي تفاسير "إيمانية" مسيحية، أو تفاسير أكاديمية صادرة عن ملحدين.
أما التفاسير اليهودية فإما قديمة ومليئة بالخرافات، أو حديثة لكن متوفرة بالعبرية فقط لا بالإنجليزية، أو معتمدة على التفسير الرمزي للحاخامات، دون أدنى التزام بالمعنى الأساسي للنص العبري ولا بسياقه.
والتفاسير المسيحية فيها مشكلة مشابهة. فتعامل النص على أنه "بشارة بالمسيح"، وتفترض أنه متوافق 100% مع الأناجيل.
وبالتالي يتم تحميل النص معانٍ لم يقصدها المؤلفون إطلاقا.


لكن أفضل الموجود هو تفسير بروتستانتي ألماني قديم، مترجم إلى الإنجليزية، وهو تفسير Keil and Delitzsch
ويشار له اختصارا بـ K&D
=====
لم تعد دراسة التوراة مكلفة ماليا كما كانت في الماضي. فالمراجع والمعاجم والترجمات متوفرة إلكترونيا، وبعضها مجاني إن بحثت في المكان الصحيح.
وبالإضافة للكتب قد تحتاج برنامجا إلكترونيا، ليساعدك في البحث، ويربط النصوص بترجماتها وتفاسيرها.. كما يفعل برنامج Davar
(واسمه يعني: "الكلمة"، باللغة العبرية)
وستجد فيه عدة نسخ من النص العبري للتوراة، والنص اليوناني للأناجيل، وترجمات إنجليزية متعددة لكل منهما، مع عدد كبير من الملحقات والتفاسير والقواميس والخرائط.
 
يوشع

يعرض سفر التكوين قصة نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف عليهم السلام، والأحداث التي ارتبطت بسيرتهم، من وجهة نظر مؤلفي التوراة.. ثم ينتهي السفر بموت يوسف، واستقرار بني إسرائيل في مصر.
أما سفر الخروج الذي يليه فيبدأ بقصة موسى عليه السلام، ويحكي خروج بني إسرائيل من مصر. ويليه سفر اللاويين الأحبار، ثم سفر العدد (إحصاء قبائل الأسباط)، ثم سفر تثنية الشريعة.
وهي أسفار فيها الكثير من التفاصيل عن التشريعات والعبادات والطقوس اليهودية.. إلا أن سفر العدد فيه أيضا إحدى القصص الهامة والمحورية في تاريخ بني إسرائيل، وهي قصة جبنهم عن الجهاد، وبالتالي حكم الله عليهم بالتيه لأربعين سنة.

كان بنو إسرائيل قد خرجوا من مصر مع موسى منتصرين. أغرق الله عدوهم فرعون وجنوده، ووعدهم بامتلاك أرض فلسطين، وفضلهم على سكان العالم في ذلك الزمان.
وفي الطريق وقعت لهم أحداث مشهورة.. ثم لما وصلوا لحدود "فلسطين/الشام/كنعان" قال لهم موسى:
"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين
قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون
قال رجلان من الذين يخافون أنعَمَ الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"

خافوا من الجهاد والحرب فعاقبهم الله بالتيه في الأرض 40 سنة، ولم يدخلوا فلسطين إلا بعد أن مات هذا الجيل، ومات هارون وموسى، وتولى أمرهم يوشع بن نون، والذي أخذ الجيل الثاني وانتصر بهم على الوثنيين الذين كانوا بتلك الأرض.
وأعانهم الله خلال تلك الحرب بمعجزة شهيرة، أخبرنا عنها الرسول ﷺ في حديث صحيح، حيث وقفت الشمس في السماء استجابة لدعاء النبي يوشع، وتأخرت في الغروب حتى يستطيع جيش بني إسرائيل إنهاء المعركة قبل أن يحل الليل.

وقصة جبن اليهود عن دخول الأرض المقدسة أيام موسى موجودة في سفر العدد، الإصحاح 13 و 14.
فتقول التوراة أن موسى أرسل 12 رجلا في مهمة تجسسية، لجمع المعلومات عن أرض كنعان وسكانها.. واختار رجلا من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الـ 12.
فكان منهم "كالب بن يفنة" من سبط يهوذا، و"هوشع بن نون" من سبط أفرايم، وعشرة آخرون من باقي الأسباط.
وقام موسى رسول الله بتغيير اسم هوشع إلى "يشوع"، والتي ينطقها العرب: يوشع، وينطقها الأجانب اليوم: جوشوا.
ودلالة تغيير الاسم هي أن هوشع تعني: هو ينجي/ينقذ/يخلّص، أما يشوع فتعني: الرب ينجي/ينقذ/يخلّص.

وهو تغيير فيه إشارة إيمانية تجعل النجاح والتوفيق بيد الله لا بيد البشر.

ويوشع هذا صار نبيا من أنبياء بني إسرائيل، ويقول البعض أيضا أنه هو "فتى موسى" الذي كان معه في قصة الخَضِر ومجمع البحرين.
وانتشر الاسم في بني إسرائيل، حتى أنه يقال أن آخر نبي ظهر من بني إسرائيل، عيسى عليه السلام، كان النطق العبري الأصلي لاسمه هو مجرد صيغة أخرى لكلمة يوشع.. ومنها جاء النطق الشهير: يسوع.
 
إبراهيم عليه السلام

جاء في سفر التكوين أن نمرود "ابتدأ يكون جبارا في الأرض".. أي كان أول ملك جبار بعد الطوفان.
ويقول النص أيضا أنه كان "جبار صيد أمام الرب، ولذلك يقال: كنمرود، جبار صيد أمام الرب"
أي صار مضرب المثل لبراعته في الصيد. والملوك القدماء معروفون بحبهم للصيد ورحلات القنص.
وكلمة "جبار" في العبرية تعني المقاتل شديد البأس.
و"كان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنة، في أرض شنعار".. أي أن النص التوراتي يقدم شخصية النمرود على أنه المؤسس الأول لحضارة البابليين، والذي قام بتوحيد مدنهم تحت سلطته.

وعلى الرغم من أن النمرود لا يرد في قصة برج بابل التوراتية، ولا في قصة إبراهيم المذكورة في التوراة، إلا أنه مرتبط بهما أشد الارتباط في النصوص اليهودية الأخرى.. خصوصا المدراش والتلمود.
ونفس الشيء في الكتابات الإسلامية. فعلى الرغم من أن النمرود لا يرد اسمه إطلاقا في القرآن ولا في الأحاديث، إلا أن المفسرين والمؤرخين الإسلاميين نقلوا قصته من الإسرائيليات وربطوها بقصة إبراهيم عليه السلام.
فأصبح من شبه المسلم به عندهم أن قصة الملك الذي "حاج إبراهيم في ربه" مقصود بها النمرود
..
وأن الذين ألقوا إبراهيم عليه السلام في النار كانوا تابعين أيضا للنمرود.

وهذا الربط بين إبراهيم والنمرود نراه في Genesis Rabbah (أحد تفاسير المدراش اليهودية)، وفي التلمود:
"نمرود الشرير ألقى أبانا إبراهيم في الفرن الملتهب" Pesohim 118a
 
قصة إلقاء إبراهيم في النار غير موجودة في النص التوراتي الحالي، لكن موجودة في الكتابات اليهودية الإضافية الأخرى.
ويبدو أن مؤلفي التوراة لم يريدوا وجود نصوص توراتية فيها "دعوة للأمم".
أي أرادوا أن تكون دعوة الأنبياء التوحيدية مقصورة على بني إسرائيل فقط، ولهذا حذفوا الـ 950 سنة التي دعا فيها نوح قومه.. وحذفوا دعوة إبراهيم لقومه الوثنيين.

(ونفس الشيء في قصة تحطيم إبراهيم للأصنام. فلن تجدها في التوراة لكن في كتب اليهود الإضافية وشروحاتهم)

تبدأ التوراة قصة إبراهيم فتقول أن أباه كان يسمى تارَح، وأن تارح أنجب ثلاثة أبناء: أبرام وناحور وهاران.
(أبرام هو الاسم القديم لإبراهيم)
وأن هاران "مات قبل تارح أبيه، في أرض ميلاده في أور الكلدانيين"
ثم يقول النص أن تارح وأبرام وبعض أفراد العائلة "خرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان"، لكن "أتوا إلى حاران وأقاموا هناك"
أي لم تكتمل الرحلة بالوصول إلى أرض كنعان الموعودة.. الشام وفلسطين.
ثم يقول النص أن الرب أوحى إلى أبرام أن يترك حاران ويذهب إلى كنعان، مع لوط، ابن أخيه.
وهناك يبني إبراهيم مذبحا للرب، كمكان صغير للعبادة، ويتلقى وعدا أن الوثنيين الكنعانيين لن يستمروا للأبد في هذه الأرض المقدسة، بل ستكون لسلالة إبراهيم فيما بعد.

هذه القصة تعتبر أحد النصوص الهامة في التوراة، وعلينا دراستها بعناية، والتعليق على عدة نقاط فيها:

- اسم أبي إبراهيم في القرآن هو آزر، لا تارح.
وقد حاول بعض المفسرين المسلمين التوفيق بين الأمرين بعدة طرق.. مع أننا غير مطالبين بالتوفيق!
فالنص التوراتي ليس معصوما من الخطأ، ومؤلفو التوراة وقعوا في كثير من الأخطاء في مواضع أخرى، فما الداعي لمحاولة التوفيق؟!
(أضف إلى ذلك أنه حتى قبل أن ينزل القرآن كان بعض النصارى يقولون أن الاسم هو: آثر Athar. وقد ورد هذا عن Eusebius، كما أشار محمد أسد في ترجمته الإنجليزية لمعاني القرآن)

- أور الكلدانيين:
اختلف الجغرافيون في تحديد مكانها. لكن السائد هو أنها مدينة Ur العراقية. والبعض يقول أنها في الشام.
لكن المشكلة الحقيقية التي واجهت المؤمنين بالنص هي أن الكلدانيين لم يكن لهم وجود أصلا أيام إبراهيم ولا أيام موسى!
وبالتالي فالنص يعتبر دليلا واضحا على أن التوراة الحالية ليست هي نفس توراة موسى.. بل تم التعديل عليها والإضافة إليها فيما بعد.

- كلمة "أور" تشبه كلمة عبرية، אור، والتي تعني شعلة نار، أو نور.
ولهذا نجد في كتب التفسير اليهودية، المدراش، تفسيرا باطنيا لهذه الكلمة التوراتية، يقول أنها ترمز للنار التي تم إلقاء إبراهيم فيها.
ويقولون أيضا أن هاران، الأخ، مات فيها.
ويبدو هذا الربط بين الكلمتين مستبعدا جدا، إلا أن كلمة "أور الكلدانيين" وردت عدة مرات أخرى في التوراة، ومنها مرة في سفر نحميا 9: 7
"أنت هو الرب الإله الذي اخترت أبرام وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه إبراهيم"
ولسبب غير مفهوم، ترجم الكاثوليك هذا النص هكذا: "… وأخرجته من نار الكلدانيين"، في الترجمة اللاتينية الشهيرة التي قام بها جيروم.

- قصة عبادة أبي إبراهيم للأصنام غير مذكورة في سفر التكوين.. إلا أنه في سفر يشوع، الإصحاح 24، ورد أن يوشع جمع شعب بني إسرائيل وخطب فيهم، فكان مما قاله في خطبته:
"آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر.. تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور.. وعبدوا آلهة أخرى"

- حاران هي مدينة في تركيا. وأيام الحضارة الإسلامية ارتبطت بالمنجمين وبهياكل عبادة الكواكب، وبالفرقة التي صارت تعرف باسم: الصابئة.

- قال المسعودي، في كتاب "التنبيه والإشراف":
"الكلدانيون هم السريانيون. وقد ذكروا في التوراة بقوله عز وجل لإبراهيم: أنا الرب الذي أنجيتك من نار الكلدانيين، لأجعل هذه البلاد لك ميراثا"

وقال عبد الوهاب المسيري، في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية:
"أخذ الكلدانيون بالحضارة البابلية القديمة، وأضافوا إليها كثيرا. وظهر بينهم حكماء متبحرون في مختلف جوانب المعارف، كالمهن التعليمية والعلوم الرياضية والكهنوتية. وتوصلوا إلى معرفة حساب الخسوف والكسوف. كما برعوا في فن التنجيم، حتى أصبحت كلمة كلداني مرادفة لكلمة منجم"
 
نعرف عن آزر أبي إبراهيم أنه مات على الكفر.. وكان إبراهيم يتمنى له الهداية.
فقد ورد في صحيح البخاري، عن النبي ﷺ :
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة. فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟
فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟
فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين.
ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟
فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار"

والذيخ هو الضبع. وملتطخ أي ملوث بالدم والقاذورات.
ومعنى الحديث هو أن الله سيمسخ آزر على هيئة قبيحة، قبل أن تأخذه الملائكة وتلقيه في النار.
وهذا رحمة من الله بإبراهيم.. إذ أنه سيرى أباه في صورة منفرة، فلن يحزن عليه وهو يراه يلقى في جهنم.
 
عودة
أعلى