خطورة ما يسمى بالنص المفتوح وعلاقته بتفسير القرآن الكريم

إنضم
15/04/2004
المشاركات
1
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أود أن ألفت انتباه الاخوة المشاركين في ملتقى التفسير إلى أهمية الوقوف في وجه أدعياء التفسير الحديث المسمى بالنص المفتوح والاعتماد على زمان ومكان النص وكيف حاولوا بخبثهم ومكرهم تطبيق هذه النظرية الفاسدة على كتاب ربنا سبحانه وتعالى
فأرجوا من كل أخ عنده اطلاع على هذه النظرية أن يزودنا بمراجع تعين على فهم هذه النظرية ومراجع أخرى فندت هذه النظرية
 
[align=center]النص المفتوح[/align]
هذا المصطلح من المصطلحات النقدية في الأدب الحديث ، وقد تعرض لتعريفه مؤلفا كتاب (دليل الناقد الأدبي) : وذكرا أنه من وضع امبيرتو إيكو ، وأنه حاول أن يشيع مصطلح النص المغلق والنص المفتوح في الأدب ، ولكنه لم ينجح في ذلك بشكل واضح.
وقد ذكرا أن النص المغلق عنده هو النص الذي ينفتح على كل احتمالات التفسير ، أي يقبل كل تأويل محتمل.
بينما النص المفتوح هو النص الذي سعى مؤلفه إلى تمثل دور القارئ أثناء كتابته للنص ، وبالتالي فهو نص يبيح التأويل والتفسير ضمن حدود نصية معينة ومفروضة ، والتأويلات التي يتعرض لها هذا النص مجرد أصداء لبعضها البعض ، على عكس الاستجابات التي يستثيرها النص المغلق.
يقول إيكو : (إنك لا تستطيع استخدام النص المفتوح كما تشاء ، وإنما فقط كما يشاء النص لك أن تستخدمه ، فالنص المفتوح مهما كان مفتوحاً لا يقبل أي تأويل).
وقد كثرت المصنفات النقدية التي تستوحي النظريات النقدية الغربية وتدعو لتطبيقها على التراث الإسلامي العربي بشكل ملفت للنظر ، ولا تزال هذه الدعوات تلقى رواجاً كبيراً ، ويتبناها عدد من الباحثين ، وهي تأتي في ثياب النقد الأدبي ، والآن النقد الثقافي ، والحداثة الفكرية ونحو ذلك من الطروحات التي يجد الباحث في العلوم الشرعية صعوبة بالغةً - وأنا أتحدث عن نفسي – وهو يحاول فك رموز هذه النظريات النقدية ، التي تنطلق من منطلقات عقدية تكون غالباً يهودية أو متأثرة باليهودية ، بينما يصر المروجون لمثل هذه المصطلحات أنها ليست كذلك. وأنها من الحكمة التي هي ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق بها ، بينما يرى من يرفض هذه النظريات أنها ليست من الحكمة في شيء ، وأنها تمثل تبعية فكرية مقيتة للغرب النصراني والوثني واليهودي.
وقد كثرت المصطلحات التي تحمل مضامين غامضة يختلف حولها النقاد من مثل (النص المفتوح) وغيره ، وفي رأيي أن الدراسات التي تشرح الموقف الصحيح من مثل هذه المصطلحات بطريقة سهلة ميسرة وعميقة لا تزال تشكو من العوز والقلة ، ولا تزال الحاجة ماسة لمثل هذه المؤلفات ، مع تقديرنا لكل الجهود المبذولة من المخلصين وفقهم الله وسددهم.
وأضيف أن دراستها بعمق أكثر يحتاج إلى عمق علمي وتخصص في اللغات الغربية التي كتبت بها أكثر الدراسات والنظريات كالانجليزية الأدبية والفرنسية والروسية والإيطالية وغيرها. وأن الباحثين الذين كتبوا الدراسات في نقد هذه المصطلحات في غالبهم قد اعتمدوا على الترجمات وهذا على أنه قد يؤدي الغرض لكن تبقى القراءة بالنصوص الأصلية أعمق ، وتتيح للباحثين معرفة الحقيقة بشكل متكامل ، علماً أن قراءة النظريات وما دار حولها بلغتها الأصلية هي فوق أنها قراءة للنظرية هي قراءة للفكر الذي كتبت به هذه النظرية ، فإن اللغات أوعية للعقائد والثقافات كما هو معلوم. ولذلك نجح الدكتور عبدالوهاب المسيري وفقه الله في قراءة الثقافة الغربية واليهودية ودراستها دراسة متأنية واعية أثمرت عدداً من المصنفات التي تعد من أدق وأعمق المؤلفات في اليهود واليهودية ، والثقافة الغربية بصفة عامة ، وذلك لإجادته للغات التي كتبت بها هذه النظريات ، وانطلاقه لقراءة هذه الثقافات بلغاتها الأصلية. ولذلك رأيت أحد الحداثيين يسخر من أحد طلاب العلم الباحثين الذين كتبوا في الرد على الحداثة بأنه تقليدي لم ير جامعات الغرب ولم يدرس لغة أجنبية قط ! وعندما رفض أحد الباحثين الذين درسوا في الغرب مثله ما جاءوا به من النظريات الغربية باسم الحداثة سخر منه و قال إنه تقليدي لا يفهم !

إن الخطورة في جانب من جوانبها تكمن في تطبيق مثل هذه النظريات الغامضة الخطيرة على نص القرآن الكريم ، مع الاختلاف الشديد حول معناها الدقيق. فإن هذا يشبه إلى حد بعيد ما ذهبت إليه الباطنية في سلب اللغة العربية المعاني التي تدل عليها ، وصرفها إلى معاني لا تمت إلى اللغة بصلة حقيقية.
فهم يرون - مثلاً - أن النص إذا كتبه صاحبه لم يعد لكاتبه علاقة به ، ويمكنك أن تفهم هذا النص كما تدل عليه اللغة فحسب ولو لم يخطر على بال الكاتب أي معنى من المعاني التي يمكن أن يدل عليها النص. وقد ذهب إلى هذا الناقد رولان بارت الذي يعظمه كثيراً بعض نقاد الأدب الحديث ، يقول أحدهم :(الكاتب صاغ النص حسب معجمه الألسني ، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعى الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر ، ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن الكاتب ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها ، والقارئ حينما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه ، وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصه ، ومن هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف ، ويتمكن النص من اكتشاف قيم جديدة على يد القارئ ، وتختلف هذه القيم وتتنوع من قارئ وآخر بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة ، وكل هذه التنوعات هي دلالات للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها البعض)أهـ.
ولو تأملت ما يدعو إليه دعاة البنيوية - مثلاً- من هذا لعجبت أشد العجب ، مع أنهم يزعمون أن البنيوية ليست هدماً فقط ، وإنما هي إعادة بناء كذلك ، فضلاً عن أنهم قد انتقلوا الآن إلى التفكيكية وما بعد الحداثة من النظريات التي هي خطوة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها

على كل حال الحديث عن النص المفتوح وغيره من المصطلحات النقدية التي تحمل كثيراً من المضامين العقدية تحتاج من الإخوة الباحثين في الدراسات القرآنية والعقدية إلى عناية أكثر ، وقراءة متأنية ، ومناقشة هذه الطروحات والأفكار بروية ، وهدوء ، بعيداً عن اتهام النيات ، وتشويه الأشخاص ، فربما كان بعض من يدعو للحداثة من المسلمين الذين أخطأوا الطريق في البحث وهم كثير ، وليس للحجج والأفكار إلا حجج وأفكار مثلها تدفعها برفق وقوة ، بعيداً عن الخصومات التي تسيء إلى البحث والحقيقة ، ومن قرأ كتاب (حكاية الحداثة) ظهر له ما أعنيه.
وفي الختام أشير إلى مسألة مهمة وهي أن ما ذهب إليه المستشرق مرجليوث من إنكار الشعر الجاهلي ورفضه والزعم بأنه كله قد كتب في الدولة العباسية ، ثم الترويج لهذه النظرية من قبل الدكتور طه حسين بعد ذلك أقل خطراً من نظرية أصحاب البنيوية والتفكيكية وغيرها من الطروحات النقدية الغربية المعاصرة . والسبب أن إنكار مرجليوث يسهل الرد عليه بإثبات أن الشعر الجاهلي حقيقة ثابتة في التراث العربي لا يشكك فيها إلا جاهل ، وقد نفع الله بما كتبه طه حسين نفعاً كبيراً ، فقد كتبت في الرد عليه كتب ثمينة في تحقيق الشعر الجاهلي ودراسته ونشر دواوينه ، لم تكن لتكتب لولا كتابه ذاك ، ورب ضارة نافعة .
غير أن ما يدعو إليه دعاة الحداثة كمصطلح يسلب اللغةَ دلالتها ، ويفرغها من مضمونها ، كما صنع الباطنية مع القرآن الكريم . نسأل الله أن يوفق المسلمين للدفاع عن دينهم وقرآنهم ولغتهم بما يبطل كيد الأعداء ، ويكشف للمسلمين الحقيقة.
أرجو أن يوفق أحد الأعضاء للكتابة الموسعة حول هذا الموضوع ، فما كتبته هنا لا يعدو الإشارة العابرة.

من المراجع :
- دليل الناقد الأدبي ، تأليف د.سعد البازعي ، ود.ميجان الرويلي. وهو معجم لشرح كثير من مصطلحات الأدب الحديث.
- مفهوم النص - مقدمة في دراسة علوم القرآن لنصر حامد أبو زيد ، وهو يتنبى هذه النظرية للنص في كتبه وقد حصل بكتبه فساد كبير ، ورد عليه عدد من الباحثين.
- مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة للدكتور سفر الحوالي ، وقد نشر على حلقتين في مجلة البيان عدد صفر وربيع أول 1425هـ
- الحداثة في الشعر العربي المعاصر للدكتور وليد قصاب. وهو كتاب جيد.
- الانحرافات العقدية في أدب الحداثة وفكرها للدكتور سعيد بن ناصر الغامدي. وهو كتاب موسع في الرد على نظريات الحداثيين وخطرها على العقيدة والأدب.
- حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية للدكتور عبدالله الغذامي وبقية كتبه. وهو أشبه ما يكون بالسيرة الذاتية لمؤلفه في جزء كبير منه.
- الحداثة في الشعر العربي المعاصر للدكتور محمد حمود. وهو كتاب أدبي يشرح المقصود بالحداثة دون اتخاذ موقف محدد منها.
وغيرها من الكتب التي تناولت الأمر من زوايا مختلفة ، ونظرات متباينة.
 
هل من امثله لكي اتصور المساله؟؟
وجزاكم اله خيرا
 
عندما ورد هذا السؤال للملتقى سألتُ عدداً مِمَّن أعرفُ لهم عنايةً خاصةً بِهذا الموضوعِ من الزملاءِ الدارسينَ للمذاهب الفكرية المعاصرةِ ، والمدارس النقديةِ. وكان مِمن سألتُ في قسم العقيدة الدكتورَ العزيزَسعيدَ بن ناصر الغامدي ، الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية الشريعة في أَبها وقد انتقل الآن لجدة في جامعة الملك عبدالعزيز ، وكتبتُ له هذا السؤالَ ضمنَ اللقاء الذي كانت تُزمعُ (مجلةُ البيان) عقدَه معه في حينها ، وطَلبتْ المجلةُ من المهتمين بالتغيرات التي تحدثُ على الساحة الفكرية والنقدية أن يشاركوا في طرح الأسئلة على فضيلته ليكتمل الموضوع.
وقد نُشر اللقاءُ في العدد الأخير من المجلة رقم (208) لشهر ذي الحجة 1425هـ . فأحببت نقل الجوابِ الخاص بالسؤال للإخوة في ملتقى أهل التفسير ، ليزيد الأمر وضوحاً إن شاء الله، واللقاء كله جدير بالقراءة والتأمل ، لعلكم تقرأونه أوتطلعون عليه على موقع المجلة عند نشره في الشهر التالي.
[line]
[align=center]
208.jpg
[/align][align=center]عنوان اللقاء :
د.سعيد بن ناصر الغامدي في حوار موضوعي مع البيان يُقوِّمُ الاتجاهات الحداثيةَ العربيةَ الجديدة في الساحة الثقافية.[/align]السؤال : ما معنى النص المفتوح ؟ وهل له أثر ملموس أو متوقع على تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية ؟ وهل هناك كتب عربية توسعت في هذا ؟
الجواب : مصطلح (النص المفتوح) من المصطلحات المستخدمة في مذهب (ما بعد الحداثة) التي اهتمت بمناهضة الشكل المنتهي ، ودعت للشكل المفتوح والفوضى التخريبية ، والدعوة إلى التقويض ، والنصوصية المتداخلة ، والبعد الأفقي ، وأهمية المكتوب ، ومعاداة السرد ، والاحتفاء بالمهمش والمقصى ، واعتماد نظرية اللاتقريرية في قائمة طويلة من الألفاظ والمصطلحات التي تبدو عليها آثار الطروحات البنيوية وما بعدها.
وللنص المفتوح أبعاد فلسفية وتاريخية وسياسية:
- فأما البعد الفلسفي فقائم على الأساس المادي ، والعقل المادي الذي يؤكد أصحابه دائماً بأن الحقيقة الثابتة ليست سوى صناعة لغوية.
- أما البعد السياسي (الأيديولوجي) فقائم على أن أهمية الشيء مرهونة بنتائجه ، وهنا تلتقي مع البراجماتية الذرائعية.
ومنظور ما بعد الحداثة معني بإيجاد الإشكاليات ضمنَ المُسلَّماتِ ، حتى يُمكنَ له خلخلةُ الثقةِ بها ، ثم تقوم بعد ذلك بإعادة تعريف الحقائق المتغيرة ، وزعزعة الثقة بالثوابت ، من أجل ذلك سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تأصيل النص وانفتاحه ، وقدرته على إنكار الحد والحدود ، مما يجعله يقبل التأويل المستمر والتحول الدائم ، وبذلك – حسب رأيهم – تتحول النصوص إلى نصوص لا نهائية في نصيتها ، ولا محدودة في معانيها ، مما يفضي إلى تعدد الحقائق والعوالم بتعدد القراءات.
وفي الناتج العملي لفكرة (النص المفتوح) نجد البراجماتية والليبرالية التي يعتبر أصحابها (أن القطعيات والحقائق الثابتة والمطلقة عبارة عن نَسَقٍ مُغلقٍ)[تركي الحمد في كتابه (من هنا يبدأ التغييرص138) ] .
أما الليبرالية – حسب قوله ص138 :(فتبقى نصاً مفتوحاً على عكس (النصوص المغلقة في بقية الأيديولوجيات) ؛ ولذلك – حسب رأيه – انتصرت الليبرالية في صراعها مع بقية الأيديولوجيات. ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا النوع من الادعاء ، بل المقصود بيان أوجه التلاقي الفكري الفلسفي مع التنظير السياسي بين نظرية (النص المفتوح) و ( الليبرالية المؤدلجة).
علاقة النص المفتوح بالقرآن
أما علاقة ما يسمى بالنص المفتوح بالوحي فإننا نجد أثر ذلك في هجوم نصر حامد أبو زيد ، ومحمد أركون على نصوص القرآن ، حيث يرى أبو زيد أن النصوص الدينية ليست سوى نصوص لغوية ، ويتبنى القول ببشريتها ، وينادي بتأويلها تأويلاً مفتوحاً متنوع القراءات بحسب نوعية وعدد القراء ؛ لأنه يرى أن التمسك بحرفية النص ودلالاته اللغوية يجعل النص مغلقاً ، ومن ثم ينحصر فهم النص في أقلية مستبدة مسيطرة حسب قوله.
ونحواً من هذا الطرح ومن زاوية تاريخية يدرس أركون نصوص الوحي وفق مفهوم (النص المفتوح) أيضاً، وضمن منظور الدلالات المفتوحة القابلة للتجدد مع تغير آفاق القراءة ، المرتهن بتطور الواقع اللغوي والثقافي –حسب كلامهم.
وأمَّا الكتبُ التي تناولت نصوص الوحي وفق هذا المنظور المادي التقويضي المستهدف تدنيس المقدس وتهميشه ، فمنها:
- كتب نصر أبو زيد ، وخاصة كتابه (مفهوم النص).
- وكتاب لإبراهيم محمود بعنوان (قراءة معاصرة في إعجاز القرآن).
- وللتزيني كتاب (النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة).
- ولنائلة السليني (تاريخية التفسير القرآني).
- ولأركون (العلمنة والدين والإسلام) ، و ( الفكر الإسلامي : قراءة علمية) وغيرها.
[align=center]** ** **[/align]

[align=center]للاطلاع على اللقاء كاملاً في مجلة البيان :
في حوار موضوعي مع البيان يُقوِّمُ الاتجاهات الحداثيةَ العربيةَ الجديدة في الساحة الثقافية. .[/align]

الاثنين 21 - 12 - 1425هـ
 
السلام عليكم ورحمة الله........

لفهم معنى النص المفتوح.....هذه فذلكة تاريخية:

كان النص فى النظريات النقدية الكلاسيكية.....لا ينفصل عن صاحبه وظرفه وعصره......ولا يعتد بفهم من ..لم يعتبر هذه العناصر...

وكان التحليل هو محاولة الكشف عن نيات ومقاصد المؤلف.....(وهذه النظريات هي الامثل ....وهي التي اخذ بها جل علماء الاسلام..الا من التحق منهم بالقرمطة...او التصوف الغالي..)والنص فى هذا الاطار ...رسالة يوجهها الكاتب او القائل الى ..مخاطب ما....ويحاول القارىء ان يفهم...مراد المتكلم.....باعتماد المعهود من اسلوب الكاتب واعراف العصر...وبديهي....ان ليس كل فهم للنص صحيح....الا اذا تطابق الفهم مع نية الكاتب.....وبعبارة اخرى لا يكون النص الا مغلقا ....ولا يسمح الا بقراءة واحدة صحيحة....وباقى القراءات لا شك فى خطئها...لانها لم تخطر ببال المتكلم...(ويستثنى هنا نصوص الشرع من قرآن وسنة...فقد يقرأ النص القرآني مثلا...قراءتين مختلفتين ..ومع ذلك صحيحتين...لان الله تعالى احاط بكل شيء علما....ولا يخفى عليه قول او لازم قول....عكس كلام الناس..فقد يقولون قولا ولا ينتبهون الى غوره او لوازمه...ومن التجني ان نستنبط معنى ونضيفه الى المتكلم مع انه كان غافلا عنه..)


..........ثم جاءت النظريات البنيوية.........


فأحدثت ثورة....على صعيد منهج التحليل.....إذ عمدت الى الاطاحة بالمؤلف......وزعمت انه من الممكن ان نفهم النص بدون الرجوع الى ....شخصية المؤلف او نفسيته او عصره....وقال زعميهم..ميشال فوكو(وقد كان من اوائل من هلك بالسيدا)لقد مات المؤلف...
ومقصودهم بابعاد المؤلف.....اعطاء النص انفتاحا اكبر...فلن يعودمقصود الكاتب او نيته سيفا مسلطا على رقبة القاريء....وانما ...يجوز للقاريء ان يفهم بحسب ما تسمح بها اللغة.......من حيث دلا لا تها المختلفة .....حقيقية مجازية اسطورية الخ...
ومن الطريف ...انه فى احد الملتقيات....نشأ صراع بين...ريكاردو..احد النقاد البنيويين....وبين روائي..إذ فهم الناقد شيئا ......اما
الروائي....فاحتج...قائلا : هذا الذي تقوله لم يخطر ببالي....اما الناقد فقال ....:هذا لا يهم فأنت نفسك الآن مجرد قاريء لا غبر....

..........اذن..........من المتكلم فى النص مادام المؤلف مغيبا...........يقولون المتكلم هو اللغة نفسها..



................ثم جاءت التفكيكية............

ثم جاءت التفكيكية...لتقوض كل شيء....(ومن منظري هذه السفسطة..يهودي من اصل جزائري....يدعى ...دريدا)..
اقصت البنيوية الكاتب.......وتكلفت التفكيكية باقصاء النص نفسه....واصبحت السلطة المطلقة للقاريء ....فقالوا..ليس هناك الا قراءات خاطئة....يقصدون من المستحيل ان يقف النص عند فهم واحد مطلق....وظهرت عبارات"النص المتعدد"عند تفكيكي فرنسي هو بارت...وعبارات "النص المفتوح "عند الايطالي ايكو.....

نص مفتوح...يعني يجوز فهمه فى الصباح..على نحو....وفى المساء على نحو آخر.......وفى الليل على نحو ثالث.....ويقولون ان القاريء هو الخالق الحقيقي للنص.....وليس هناك سلطة يمكن ان يخضع لها القاريء لا المؤلف ولا اللغة نفسها........




باختصار....انهيار الفكر الغربي......قريب جدا...ما دام ينتج هذا النوع من السفسطة....ويغلفها فى العبارات البراقة...ويلمع اصحابها......وجلهم من اليهود....
 
أشكر الأستاذ أبا عبدالمعز على مروره وبيانه وفقه الله . وللحديث عن هذا الموضوع تفصيل لعلي أعود إليه مرة أخرى - إن شاء الله - للحديث حوله بشيء من التفصيل . وقد اطلعتُ مؤخراً على حلقات يكتبها المهندس الأديب عبدالرحمن النور في مجلة اليمامة الأسبوعية التي تصدر في الرياض تعرض فيها للنص المفتوح لعلي أوفق للاطلاع على بقية الحلقات التي فاتتني منها ، وأذكر هنا خلاصتها إن شاء الله.
 
مقالات المهندس عبدالرحمن النور عن الروائي المنتظر

مقالات المهندس عبدالرحمن النور عن الروائي المنتظر

أشرت من قبل إلى المقالات التي كان يكتبها المهندس الأديب عبدالرحمن النور في مجلة اليمامة الأسبوعية التي تصدر في الرياض . وقد نشر منها ثمان حلقات ثم توقفت لأسباب لا أعلمها ولا الكاتب نفسه حسب قوله. وقد طلبت منه إرسال مقالاته التي نشرت لنشرها هنا ، حيث تعرض إلى موضوع النص المفتوح في إحدى مقالاته. وقد قرأت المقالات فرأيت أنها مترابطة وممتعة في الوقت نفسه ، فرأيت نشرها هنا كلها لتأتي المقالة عن النص المفتوح في مكانها الصحيح من حيث ترابط الفكرة التي بنيت عليها . والله الموفق لكل خير ودونك المقالات واحدة تلو الأخرى..
[line]
[align=center]المقالة الأولي
( سيدة القص و النص)
[/align]
أجل ... أيتها الرواية.
يا سيدة القص و النص .
هاهي جماهيرك الغفيرة تمتطي صهوات الروايات والحكايات و النبوءات كلها، ثم تحلق خلف غيب الغمام البعيد؛ لتأتي لك بالأخبار؛ لتكشف لك الأسرار، و هي تتهامس.. تتساءل ... هل جاء فارسك المنتظر؛ فارس الروايات و الحكايات و الأسرار ؟!
فكيف لجماهيرك أن تصدق أن رجلا حكم أرض العراق بكل أركانها الأربعة يستسلم بهذه السهولة لجبروتك، دون قيد أو شرط، إن لم يكن يريد أن يكون ذاك الروائي المنتظر؟!
كيف لجماهيرك أن تصدق أن من يراه الناس دكتاتورا عنيدا؛ يضع رقبته في أغلالك؛ و يديه و رجليه في قيدك؛ كي تسحبيه في طرقات حكاياتك على قفاه طائعا مختارا ، لأكثر من ثلاث مرات متشابهات؛ كي تصلبي جسده في ميادين نصوصك طائعا مختارا، وسط صيحات جماهيرك المخيفة المتوحشة المتعطشة لرواية الملحمة، ملحمة الحرب و الحب معا، ملحمة الموت والحياة معا .
أجل ... أيتها الرواية.
يا سيدة القص و النص .
فمنذ طفولتي الأولي، روعتني أحداث ضخمة عجيبة تفجرت في عيني و عقلي في آن واحد، مثلما تفجرت الحياة في وعي و أنا في سن السابعة؛ فصرت أبحث عن جواب لسؤال يحيرني وهو : لماذا تحدث كل هذه الأِشياء ؟!
بدأت قراءة الروايات و قراءة الأحداث فيها ، و أنا أفتش عن سر ما يحدث في هذه الحياة. ثم كبرت ؛ و أخذتني الأيام في تفاصيلها ؛ فهجرت قراءة الروايات إلا من شيء يسير هنا أو هناك، وقد كنت أسأل نفسي : لماذا يحرص الجميع على أن يكونوا روائيين؟ و لماذا هذا القلق و المتابعة العارمين لقراء الرواية ؟ و لماذا تحرص هذه الجماهير الغفيرة من قراء الروايات على متابعة الجديد في عالم الروايات، و الاحتفاء بأي موهبة روائية عند أول إصدار، بشكل يوحي بنفاذ صبر تلك الجماهير ، وكأنها تنتظر شيئا ما ، و كأنها على موعد مع معجزة ما، و كأنها تنتظر الكشف عن سر ما، وكأنها تتوقع حدث ما؟!
ثم بدأت أمارس هواية أخرى، وهي قراءة هذه الحياة كنص مفتوح على كل الاحتمالات، وهي هواية قادتني إلى أسرار عظيمة على أية حال، منها ما أسميه أسرار النهايات، أو فلسفة النهايات أو علم النهايات وهو علم خطير بكل معنى للكلمة، وحين بدأت بقراءة رواية صدام حسين الأخيرة، المعنونة " اخرج منه يا ملعون " لأعرف سر نهايته؛ بدأت كل الأسئلة التي عصفت بذهني تدفعني بقوة إلى أن أحاول أن أكشف لنفسي سر ظهور فن الرواية و إلى أين ستنتهي الرواية ؟
يقول أحمد محمد عطية في مقدمة كتابه ( الرواية السياسية، دراسة نقدية في الرواية السياسية العربية):
" الرواية هي أكبر الفنون الأدبية عمقا و اتساعا، لأن معمارها الفني يشمل أساليب التعبير الشعرية و القصصية و الدرامية، ويضيف إليها تصوير المجتمع، والتعبير عن ضمير الإنسان و أشواقه و مصيره، واستيعاب التاريخ و التنبؤ باتجاهات المستقبل، وقد تطورت الرواية من أداة للتسلية وحكايات المغامرات و الأساطير إلى أداة فنية للوعي بمصير الإنسان وتاريخه و نفسيته و وضعه في المجتمع، يمكن بواسطتها رصد و ضع الأمة من خلال شخصيتها الروائية الفردية، فأصبحت الرواية طاقة سياسية و اجتماعية هامة تعبر عن روح الأمة و مشكلاتها و طموحاتها، وبسبب حظوتها لدى جماهير القراء و قابليتها للتحول إلى الفنون الجماهيرية الحديثة كالسينما و التلفزيون و ترجمتها إلى اللغات العالمية صارت الرواية الشكل العالمي المعمم للثقافة أو كما يقول البيريس: " إن الرواية لتقوم بدور الكاهن المعرف، والمشرف السياسي، وخادمة الأطفال، وصحفي الوقائع اليومية ، والرائد و معلم الفلسفة السرية، وهي تقوم بهذه الأدوار كلها في فن عالمي يهدف إلى أن يحل محل الفنون الأدبية جميعا، ويمكن أن يكون في أيامنا شكلا معمما للثقافة "
أجل ... أيتها الرواية.
يا سيدة القص و النص .
قولي لجماهيرك ... و أنت تتربعين فوق عرش الكتابة الذهبي، ذاك الذي أرتمي تحت أرجله الحكام و الوزراء و السفراء و الكتاب و الشعراء و الصغير و الكبير من الناس؛ طلبا لقربك، ما الذي يريده من يكتب الرواية، ما الذي يريده من يقرأ الرواية؟
قولي لنا أيتها الرواية ... يا سيدة النص والقص ، بعد أن كبرت لأربعة قرون، و أنت تكتملين شبابا و فتنة فوق عرش الكتابة الدري، في القرن الواحد والعشرين ، مثل مجرة درية تطوف الكون لمستقر لها ، هل حان وقت من تنتظرين ؟
قولي لنا إن كنت تعرفين ..
من هو ؟!
من أي قوم هو ؟
في أي أرض هو ؟!
في أي زمان هو؟!

أنا لا أدرى ما الذي كان يدور في ذهن صدام حسين و هو يكتب روايته على صوت قرع طبول الحرب، و لكنني أعترف لكم، أنني اندفعت بكل طاقاتي في قراءة روايته، لعلي أجد سر الرواية المكنون، فانتهي بي الأمر إلى كتابة هذه المقالات القصيرة، وهي باختصار قراءة في عالم الرواية، تلك التي فتنت الناس و ما تزال، وهم يطوفون بين أروقة دور النشر و يستمعون إلى أحاديث مجالس الرواية ونقد الرواية في انتظار ذلك القادم من رحم الغيب، ذلك الروائي المنتظر، لتزفه الجماهير إلى سيدة القص و النص، ليحكي لها أسرار الليل و النهار، ليحكى لها ما عين رأت ، وما أذن سمعت ، وما خطر على قلب بشر.
فأي سر أنت .. أيتها الرواية ؟!
يا سيدة القص والنص معا.
[line]
[align=center]المقالة الثانية
قراءة في عالم الرواية ، لماذا و كيف؟[/align]

منذ الدهشة القصصية الأولي، عند قراءتي لقصة عنترة بن شداد حين رأيت نفسي أقف إلى جانبه و هو يصارع الصحراء و كائناتها المخيفة، و حيدا أعزلا إلا من دلالة سواد لونه و شجاعته وسيفه، منذ تلك اللحظة أحببت قراءة القصص ، ثم انتقلت إلى قراءة الروايات ، و صرت أبحث في كل رواية أقرئها عن نفسي، و عن الحياة و أسرارها. قرأت عشرات الروايات و تفاعلت معها؛ أذهلتني رواية البؤساء لفكتور هيجو، ثم تقلبت بين روايات نجيب محفوظ حتى مللت من حواديت الحارة المصرية و الثورة المصرية ، مرورا بروايات عبد الرحمن منيف ، التي أصابتني روايته " نهايات " بحزن عظيم فوق ما أنا فيه من حزن و أنا أرى الصحراء تحثو التراب في وجه عساف في نهايته المأساوية التي تشبه إلى حد كبير مأساوية نهاية عبدالرحمن منيف ، ثم عشت مع الطيب صالح في روايته " موسم الهجرة إلى الشمال" و كدت أغرق مع مصطفي سعيد في نهر النيل قبل أن أدرك أن تلك الرواية أكذوبة مثل أكذوبة مصطفي سعيد نفسه، تجولت في أمريكا اللاتينية مع جابرييل ماركيز في " مائة عام من العزلة "، ثم توقفت عن قراءة الروايات، ثم اعتزلت.
لكن هذه الحياة التي نعيش وقع أحداثها العجيبة كل يوم، جعلتني أنتبه إلى أنها هي الرواية الحقيقية الجديرة بالقراءة ، لماذا؟ لأن قراءة أحداث هذه الحياة و التعرف على شخصياتها وهي تتفاعل فيما بينها، وهي تتفاعل مع الحياة، يفتح بصيرة الإنسان إلى ذلك العالم الباطن و قوانينه و سننه الثابتة.
هناك وقع أحداث الحياة وهناك وقع أحداث الروايات، و ما بين الحياة و الرواية من اتصال و انفصال هو الذي قادني إلى هذه القراءة في عالم الرواية، حسب رؤيتي الخاصة كقارئ مجتهد ، عاد بعد حين إلى حب الرواية و حب قراءة الرواية، ليكتشف سر الحياة، فكيف ستكون قراءتي في عالم الرواية ؟
تقول معاجم اللغة أن الفعل قرأ يعني تلا، قرأ الشيء أي تلاه . و في ظني أن تلاوة الشيء هي أول مرحلة من مراحل القراءة ، فتلاوة الشيء هي للتعرف على بناءه الظاهر وما يحيط به، ثم يعقبها مرحلة أخرى وهي الدخول من المبنى الظاهر إلى المعنى الباطن المرتبط بذلك البناء، هناك حيث جوهر المعني و حقيقته، هناك يكمن كنز الأسرار كلها . والعرب تقول : استقرأ الجمل الناقة : أي تاركها لينظر ألقحت أم لا ، أي أن الجمل ينتظر أن يظهر الحمل في بطن الناقة على شكل علامات واضحة في شكلها وسلوكها، و أنا أريد أن استقرأ الرواية في هذه المقالات، و أنظر هل تم لقاحها أم لم يتم بعد. أذن، بالنسبة لي، فإن قراءتي هذه تبدأ من الظاهر في عالم الرواية الحديثة و ما يحيط به ثم تغوص إلى باطن هذا العالم حيث المعنى يفضي بنا إلى السر المخبوء في نشأة و حركة الرواية و إلى أين تتجه بالإنسان في تحولاتها الدائمة.
و ليس المقصود القراءة النقدية التقليدية من حيث شكل الرواية و طريقة السرد و مواضيع الرواية الأخرى ، وإن احتجت بعض الأحيان لذلك، بل هي قراءة لما يجري في ظاهر و باطن عالم الرواية و ما سوف يكون عليه في المستقبل، ذلك العالم الكامن و المحيط بجماهير الرواية في آن واحد، تلك الجماهير المكونة من كتاب و نقاد وقراء الرواية . و هذه القراءة في عالم الرواية هي محاولة مني للدخول إلى نظرية تعين على تصور حقيقة و واقع عالم الرواية القادم، نظرية تضئ الطريق أمام تلك الجماهير لتكون الخطى أسرع في ظل تسارع نمو الرواية و سبق الأمم لنا في هذا المجال، و ذلك عكس ما يحدث عادة في عمليتي الإبداع و النقد الأدبيين . يقول الدكتور فيصل دراج في كتابه " نظرية الرواية و الرواية العربية " :
" فإذا كانت النظرية لا تكون نسقا، إلا إذا برهنت عن صحتها في مجالات مختلفة، فإن عليها ، لزوما، أن تذهب إلى الرواية ، كما تذهب إلى مجالات أخرى، مبرهنة عن قدرتها على معالجة الظواهر المختلفة. و لعل الانطلاق من فكرة النسق لا من خصوصية الجنس الروائي، هو ما يشد نظريات الرواية إلى الفلسفات الجمالية، أكثر مما يجذبها إلى حقل النقد الأدبي، وبهذا المعنى، فإن نظرية الرواية ، وبصيغة الجمع، تقرأ الدلالة الفكرية ، التاريخية، للرواية ، قبل أن تقرأ العلاقات الداخلية التي تبني الممارسة الروائية " .
و أنا على يقين أنه لا يمكننا أن نسبق الآخرين بنفس تقنيات و رؤى الروائيين الآخرين، قد نكون وصلنا إلى شيء من العالمية، كما يعتقد البعض، بسبب المجهودات الجبارة التي قام بها عدد كبير من الروائيين في العالم العربي ، لكن المجهود وحده لا يمكن أن يجعلنا نتسيد عالم الرواية و يتوج أحدنا منصب الروائي المنتظر، الذي قد طال انتظارنا لظهوره بيننا، بل نحتاج إلى العبقرية الروائية الفذة إلى جانب المجهود، فكيف نصل إلى هذه العبقرية إن لم يكن لنا نظريتنا الروائية الخاصة التي نسبق بها جميع الأمم، إن لم يكن لدينا تجربة خاصة و رؤية خاصة و تقنية خاصة لتحقيق المعجزة الروائية ؟
و إذا كان النظر هو إعمال البصر في الشيء ، و البصر هو رصد العالم الظاهر، فإن قصر الأمر على الأشياء الظاهرة هو السبب في أننا نحتاج إلى أن تسبق النظرية أعمال إبداعية ظاهرة ومعروفة لاستنباط النظرية، أما إذا أردنا أن نعكس الأمر، أي لتسبق النظرية العمل الإبداعي لأول مرة ؛ فإننا نحتاج إلى البصيرة التي تقودنا إلى الديناميكيات الباطنية التي تحرك هذا الظاهر، و من ثم يمكن رصد حركة هذا الظاهر و مداه و تحولاته، تماما مثلما يحدث في عالم الفيزياء حيث يرتبط هذا الظاهر المنضبط في حركته بعالم باطني مفتوح على كل الاحتمالات، تسيره إرادة واحدة و تضبطه قوة قاهرة واحدة، هما إرادة و قوة الله عز وجل. أي أننا نحتاج إلى البصر و البصيرة معا للخروج بنظرية صادقة لتفاعل الظاهر و الباطن في آن واحد في عالم الرواية، و تقديمها للروائيين و هم يحثون الخطى على أرض الرواية . و سوف تكون استراتيجية العمل الروائي النقدي في ظني هي في الكشف عن هذه النظرية و مدى صدقها؛ فإن صدق الواقع ما جاء في النظرية ؛ فتلك نظرية حقيقية و ستقودنا إلى الروائي المنتظر.
إذن ، بما أن هذه القراءة هي محاولة لوضع معايير للرواية المنتظرة، أي أنها محاولة تسبق العمل الروائي على غير المألوف، حيث أن الدراسات و القراءات النقدية للرواية على مستوى العالم العربي أو الغربي جاءت لنقد النصوص الروائية والقصصية المكتوبة و المطروحة بين يدي القراء؛ فإن هذه القراءة ستسلك طريقا غير مألوف لاستكشاف المجهول.
و يجب أولا أن يكون لدينا تصورنا الخاص عن نظرية الأدب، و من هذه النظرية سيكون المدخل للحديث عن نظرية الرواية بصفتها أكبر الفنون الأدبية عمقا و اتساعا، و كظاهرة أدبية تحتوي نظرية الأدب و تشرحها.
و كل ما أحتاجه الآن هو صبر و تأني القارئ عند قراءته للمقالات القادمة ، لأن الطريق جديد و طويل و ملئ بالإشارات و العلامات و المنعطفات و التقاطعات و التحذيرات، و هو طريق لم يسبق لي أن سرت في هذا الطريق، إلا أنني قد عزمت السير فيه، و قد استعنت، على طوله ومشقته، بالله عز وجل و توكلت عليه .
أجل أيتها الرواية
فأي النظريات أنت ... أيتها الرواية ؟!
[line]
[align=center]المقالة الثالثة
الروائي المنتظر و نظرية التغيير
[/align]

كثر في الآونة الأخيرة القول أن أشكال الأعمال الأدبية جميعها تكاد تختزل في شكل أدبي واحد هو الرواية، و إذا كان ذلك صحيحا فهل يمكن أن تكون نظرية الرواية القادمة هي نظرية الأدب الجديدة ؟! بصيغة أخرى هل يمكن لنظرية جديدة للأدب أن تقود إلى رواية جديدة؟
و قبل الحديث عن نظرية الأدب يجب أن نسأل هذا السؤال الخطير : ما هو الأدب ؟
لن أذهب إلى كتب الأدب لأبحث عن تعريف لهذه الكلمة، ذلك أن تعريف الشيء يرتبط بمعرفة وظيفته، و أنا أجزم أن تعريف و وظيفة الأدب يجمعهما كلمة عظيمة واحدة، و هي كلمة : التغيير، و لكن تغيير ماذا ؟
تغيير الواقع، و لكن واقع من ؟
واقع الإنسان.
إذن ، نظرية الأدب هي نظرية تغيير واقع الإنسان.
و الله عز و جل يقول : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
و أهمية أي كاتب أدبي، أو أي نص أدبي، تعتمد بالدرجة الأولي على حجم التغيير الذي يقوم به الكاتب الأدبي أو العمل الأدبي، بغض النظر عن اتجاه التغيير، الذي سأتحدث عنه لاحقا، بإذن الله .
لكن التغيير، من حيث هو عملية غامضة و معقدة و مركبة ، يحتاج أيضا إلى نظرية تشرح لنا عملية التغيير . و هنا لا بد أن أستعين بالهندسة النفسية، للحديث عن مستويات التغيير يقول الدكتور محمد التكريتي في كتابه " آفاق بلا حدود ، بحث في هندسة النفس الإنسانية" :-
مستويات التغيير :
هناك عدد من مستويات التغيير ( أو التأثير على ) الإنسان، أو النظام، أو المؤسسة، أو المجتمع، تدعى المستويات المنطقية LOGICAL LEVELS ، وهي : -
1- مستوى البيئة.
2- مستوي السلوك.
3- مستوى القدرة والمهارة.
4- مستوى المعتقدات والقيم.
5- مستوى الهوية.
6- المستوى الروحي.
و هذه المستويات موازية لمستويات الإيمان و الاعتقاد ، و كما ذكرنا سابقا ، فإن أي تغيير يحصل في مستوى معين سيؤثر على ما فوقه من مستويات ، ولا يؤثر على ما تحته. وقد اكتشف هذه المستويات العالم الأنثروبولوجي " غريغوري باتيسون"، عام 1972 م ".
و الحقيقة، أنه يمكن تطويع ما ذكره الدكتور محمد التكريتي في الوصول إلى نظرية التغيير أو نظرية الأدب إذا اعتبرنا أن هذه المستويات تشكل واقع الإنسان، مع اعتبار أن المستويين الأولين هما مستويان ظاهران و هما مستويا الواقع الظاهر، كبنية ظاهرية، إن جاز لنا التعبير، أما بقية المستويات الأربعة فهي مستويات الواقع الباطن، كبنية باطنية، لكن كلا البنيتان متصلتان، حقيقة، كبنية واحدة، أي أن هناك جزء من هذا الواقع نستطيع أن نراه، لكن أغلبه مدفون مثل جبل يظهر لنا منه أعلاه ، أما ثقله وحجمه الحقيقي فهو مدفون تحت سطح الأرض، وهذا الواقع يعمل ضمن نطاق قوانين واحدة يمكن تسميتها " العقل" و هي المسؤولة عن عملية التغيير، أي أن مستويا الواقع الظاهر يرتبط بهما عقل ظاهر، كما أن بقية المستويات الأربعة وهي مستويات الواقع الباطن يرتبط بهم عقل باطن، ، و كلا العقلين يعملان كعقل واحد، و هذه المستويات لها أبعاد أخطر و أعمق عند الحديث عن نظرية الأدب التي تقوم على عملية التغيير كوظيفة أساسية للأدب.
لكن فكرة المستويات التي ذكرها العالم الأنثروبولوجي " غريغوري باتيسون"، لم تنتبه إلى وجود مستوى آخر، وهو في اعتقادي أخطر مستوى في عملية التغيير ، و ذلك هو مستوى القلب، وهو المستوى السابع ، أعمق أعماق الإنسان، و أقصى مكان في واقع الإنسان و في عقله الباطن، وهو مكان عملية التغيير الشامل، مكان قلب جميع المستويات التي تسبقه، و لذلك سمي هذا المكان أو المستوى بالقلب، من عملية قلب الأشياء نحو عملية التغيير الشامل للواقع .
إذن، وظيفة الروائي المنتظر، هي في إحداث التغيير في واقع القارئ، أي أن الرواية كفن إنساني عالمي عظيم يجب أن تكون رسالتها في تغيير واقع القارئ الفرد و من ثم القارئ الأمة، و من ثم القارئ الإنسان العالمي، أي أن الرواية يجب أن تكون بيد الروائي المنتظر أداة للتغيير، و لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
عالم الرواية هو عالم باطني، و يمكن النفاذ إلى عمقه من الظاهر، و ليس المقصود بالعالم الباطني للرواية هو عالم التصوف بمفهومه الديني، بل المقصود هو تلك المستويات التي ذكرت و هذا العمق للأشياء جميعها، الذي نطل عليه من ظاهر الأشياء نفسها، هذا العمق الذي نهبط من خلاله إلى قاع الأشياء لنستبين ما يقر و يستقر فيها، هذا العمق الذي نستكشفه في الرحلة الروائية من السطح حيث نرى البيئة المحيطة بالحدث / أو الأحداث و الشخصيات كمستوى أول ظاهر، ثم نتعرف على السلوك كمستوى ثاني ظاهر، ثم نهبط قليلا إلى عالم القدرة والمهارات كمستوى ثالث باطن، ثم نهبط إلى عالم المعتقدات والقيم كمستوى رابع باطن، ومنه نهبط إلى عالم الهوية و الانتماء كمستوى خامس باطن، ثم إلى عالم الروح كمستوى سادس باطن، و أخيرا إلى عالم القلب العجيب العميق كمستوى سابع باطن، ثم العودة إلى السطح مرة أخرى، هذه الرحلة الروائية التي تشبه النزول إلى قعر بئر مظلم ثم الصعود مرة أخرى, حين تسرد لنا الرواية تفاصيل شعور بطل القصة عندما يأتى إلى هذه البئر المجهولة في صحراء مجهولة و هو يكاد يموت من الظمأ ثم أخذ ينزل رويدا رويدا في هذا البئر ليصل إلى القاع ، حيث قد يجد الماء هناك فيرتوي و يعود مرة أخرى إلى الحياة بروح جديدة، أو قد لا يجد الماء فيموت هناك في قلب البئر في نهاية مأساوية مرعبة، هذه الرحلة الروائية المحفوفة بالمخاطر بكل تفاصيلها و ما فيها من معاناة و خوف و قلق و أسئلة و انتظار و صبر، التي تبدأ من ظاهر الأحداث حتى تصل إلى باطن المعنى هي المسافة بين الوعي و اللاوعي، بين الشعور و اللاشعور ، أما لحظة العودة إلى نقطة البداية ، مع إجابة حقيقة لأسئلتنا فهي نقطة التحول الحقيقي الكامل ، وهي مرحلة الصحوة الحقيقة ، حين نكتشف وعيا جديدا للأِشياء ، وللعالم ، و لذواتنا، عندما تتلاشى المسافة بين اللاوعي و الوعي و يصيران شيئا واحدا .
و في هذا العالم الباطني المظلم المجهول لا تعد رؤية البصر تفيد كثيرا ، بل قد تكون هي سبب الظلال و التيه ، فما تراه بعينك في الظاهر قد يكون له ألف دلالة مختلفة هنا في الباطن، ما تسمعه من أصوات في الظاهر ؛ يأخذ دلالته من فطرة الصوت الأولي في الباطن، تلك الفطرة المسموعة بوضوح شديد في أذن العالم الباطني شديدة الحساسية، وهنا لا بد من أن تقود القارئ خبرة الروائي في السير في هذه الرحلة، أي أن الروائي يحتاج إلى أن تكون له تجربته الخاصة و نظريته الخاصة في هذا العالم، ولن تكون أي رواية عظيمة إلا إذا كانت تخرج إلى الوجود من عمق العقل الباطن لذلك الروائي العظيم بعد أن رأي بعينيه و سمع بأذنيه و لمس بيديه كل تفاصيل هذه الرحلة العجيبة، الرحلة إلى أعماق النفس البشرية و ما فيها من أسرار، حيث كنز المعرفة الإنسانية ، ومعقل التغيير الحقيقي الشامل.
من هنا تكون الرواية هي أكبر الفنون الأدبية عمقا و اتساعا فعلا، و أداة للتغيير؛ تغيير قلب الإنسان و واقع الإنسان.
 
[align=center]المقالة الرابعة
بنية الواقع و نظرية الأدب[/align]

كيف يمكن الدخول إلى عالم الرواية بنظرية فكرية إنسانية دون أن نقرأ واقع الإنسان قراءة حقيقية كاملة؛ و نستخرج المعنى الحقيقي الذي ينطبق على حقيقة واقع الإنسان، ظاهره وباطنه ؟!
حير عقلي هذا السؤال لسنوات طويلة؛ و قد بلغت حيرتي فيه حدا جعلتني في أزمة تلو الأخرى عند قراءتي أية رواية، كنت ألجأ إلى كتب نقد الرواية و مناهج النقد الأدبي بشكل عام رغبة مني في أن أعرف أسرار ما أقرأ و ما تقوله الرواية. عرفت أن كل منهج نقدي يولد من رحم منهج فكري، و كل منهج فكري هو نتاج مفاجأة و أزمة و معاناة ، و كارثة ... ، إلى آخره ، لكن كل ما يعنيني من قراءة تلك الكتب هو أن أتخلص من أزمتي أنا ، و معاناتي أنا ، و كارثتي أنا. مرت عشرون سنة منذ أول كتاب قرأته في نقد الرواية إلى أن وصلت سن الأربعين ، و أنا أقرأ دون جدوى ، سعيت جاهدا أن أفهم هذه المناهج الأدبية المختلفة، لكنى وجدت التعاريف تتغير و تتقلب و تتلاشى مع تغيرات و تقلبات وتلاشى المسببات من حول الإنسان. يتحدث بعض النقاد عن الرومانتيكية كمنهج أدبي مستقل ثم لا تلبث أن تقرأ عن أن أحد النقاد الكبار يرى أن الرومانتيكية لم تكن إلا مقدمة للواقعية، تسمع أحدهم يتحدث عن الواقعية النقدية و عن الواقعية الاشتراكية، كمنهجين مختلفين تماما، ويأتي آخر ليقول أنهما شيئا واحد في مكانين منفصلين، وأنا ما زلت في دوامة من الأسئلة، وسط دوامة من الأزمات و أنا أعيش في هذه الرواية الآدمية الملحمية العجيبة. كان لدي إحساس أن هذه مشكلتي وحدي و يجب كما تعودت أن أجد الحل بنفسي .
وفي لحظة استرخاء عجيبة، و كلمة " الواقعية" تتردد في رأسي؛ اكتشفت في صدى ما تردد من قراءاتي أن الواقعية كمذهب أدبي كانت تسير جنبا إلى جنب مع أي مذهب أدبي آخر خلال رحلة التفكير الإنساني الحديث، بل أن لها صدى أقدم من ذلك بكثير، عبر جميع الظروف التاريخية التي مر بها الإنسان. كانت الواقعية تطغى على الفكر الإنساني في مراحل مختلفة و أماكن مختلفة من العالم حتى صارت إلى الواقعية النقدية في الغرب أو الواقعية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، بل إن تعريف كثير من مناهج التفكير كان يختلط بتعريف الواقعية نفسها ؛ ثم هاهي تنفرد في الساحة بعد أن مرت بها مذاهب أخرى مثل الوجودية، و الرمزية، و السريالية و الحداثة و ما بعد الحداثة ، و ذهب كل ذلك جفاء ، و بقيت هذه الواقعية تقاوم و كأنها قدر هذا الأدب الإنساني ، رغم أن كثيرين يراهنون على زوالها كما زال غيرها . هنا عدت للقراءة بتركيز عن الواقعية لعلى أجد الجواب المفقود، هذه القراءة قادتني إلى أن الإنسان الحديث في بحثه عن أجوبة لأسئلته التي فرضتها ظروف خاصة مثل الحروب و الثورات، كان هواه الخاص أو نزوته الخاصة أو شهوته الخاصة أو مرضه الخاص ، إلى آخر قائمة الضعف الإنساني؛ يقوده إلى منهجه الخاص في فهم هذه الحياة ، لكن كل ذلك يجرى على أرض الواقع، واقع العالم الكبير الذي يعيش فيه، واقع الحياة نفسها، هذا الواقع الذي يقذف إشعاعاته عنوة في و عي ذلك الإنسان حتى إذا ما خرج مذهبه الفكري أو الأدبي ، وإذا بطيف إشعاعات ذلك الواقع تغلف ذلك المذهب بشيء من الواقعية، و تنعكس في وعي صاحبه.
إذن، الإجابة هي في دراسة بنية الواقع مباشرة، لكن الواقع، حسب ما ذكرت في المقال السابق، له بنية ظاهرة و بنية باطنة تعملان كبنية واحدة مكونة من سبعة مستويات، اثنان منها ظاهران، والبقية باطنة، و أغلب الفلاسفة و المفكرين الكبار استمدوا مناهجهم من قراءة جزء يسير من بنية الواقع الظاهرة، وهي بنية المستويين الأولين الظاهرين للواقع، وهما مستوى البيئة و مستوى السلوك و العادات. يقول الله عز وجل في سورة الروم ، الآية السابعة: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" . ولو أراد إنسان أن يدرك السنن التي تتحكم بالمستوى الأول أو الثاني ؛ لأستنزف عمره كله دون أن يدرك من حقيقة الواقع الكلية شيئا ذا بال. هذا هو سبب أزمة المنهج الفكري و الأدبي عند دراسة الأدب و واقع الإنسان، و الرواية الحقيقية التي ستذهل العالم أجمع يجب أن تخرج من منهج الواقع، واقع هذا العالم بكل أبعاده و حقائقه و قوانينه مهما بدا هذا الواقع غريبا و مختلفا و محتوما، و أن تلتحم هذه الرواية أيضا بتفاصيل واقع هذه الرواية الآدمية الملحمية الكبرى ، التي نعيش تفاصيلها كل يوم منذ أن خلق الله آدم و جعله خليفته في الأرض، أي أنه يجب على الروائي المنتظر أن يتجاوز كل هذه المذاهب والنظريات الأدبية المتقلبة إلى نظرية حقيقية واضحة؛ تكشف له أسرار المعرفة على نحو خاص قبل أن يقدم روايته الجديدة وهي تدفع الإنسان نحو التغيير طوعا أو كرها، ذلك التغيير الذي هو روح الأدب و معناه، ولكن أليس هذا ما فكر فيه الآخرون من قبل ؟!
يقول د. صلاح فضل في كتابه " منهج الواقعية في الإبداع الأدبي " :
" و الآن ما هي فلسفة الانعكاس الواقعية، إن كل تصور للعالم الخارجي ليس إلا انعكاسا في الوعي الإنساني لهذا العالم الذي يوجد مستقلا عنه، هذه الحقيقة الأساسية في العلاقة بين الوعي و الكائن تنطبق بطبيعة الأمر على الانعكاس الفني للواقع . و يرى " لوكاتش" نتيجة لذلك أن نظرية الانعكاس تمثل المبدأ المشترك لكل صيغ السيطرة النظرية و العلمية على الواقع من خلال الوعي الإنساني ، وهي بالتالي أساس الانعكاس الفني للواقع ، ويصبح هدف البحوث التفصيلية بعد ذلك تحديد الخواص النوعية للانعكاس الفني داخل نظرية الانعكاس العامة ، كما يلاحظ أن الأصل الدقيق المتعمق لنظرية الانعكاس لا يتوفر بجميع أبعاده إلا من خلال المادة الجدلية ، أما بالنسبة للضمير البرجوازي فلا يتصور منه إدراك دقيق لنظرية الموضوعية التي تقضي بانعكاس الواقع في الوعي مع استقلاله عنه، على أنه يحدث أحيانا من الوجهة العملية أن كثيرا من الفنون و العلوم البرجوازية تعكس الواقع بدقة أو تتقدم خطوات طيبة في نطاق العرض الصائب للقضية و التصوير الدقيق لها، بيد أنه بالرغم من ذلك لا يوشك الموضوع أن يرقى إلى المستوى الخاص بالمعرفة النظرية حتى نجد المفكرين قد اصطدموا بالمادية الآلية أو غرقوا في المثالية الفلسفية ، وقد نقد " لينين" بوضوح تام خصائص هذا الحاجز الذي يصطدم به التفكير البرجوازي في كلا الاتجاهين، فهو يقول بمناسبة المادية الآلية أن عيبها الرئيسي في عجزها عن التطبيق الجدلي لنظرية الصور على مسار المعرفة و تطورها ، ثم يصف المثالية الفلسفية بأنها من وجهة نظر المادية الجدلية تغرق في التضخم الجزئي المبالغ فيه لبعض المعالم الصغيرة أو الجوانب المحدودة فتقع بذلك في التصلب و الشخصية و عدم التوازن، هذا القصور المزدوج في نظرية المعرفة البرجوازية طبقا لتحليل " لوكاتش" يعلن عن نفسه في كل المجالات، ويتضح بالنسبة لجميع صور الانعكاس في الوعي الإنساني " .
أقول بعد أوردت هذا النص، و أنا بكامل وعي ، أن وعي الإنسان عاجز تماما أن يصل إلى معرفة الواقع و قوانينه من خلال المادية الجدلية أو من خلال الضمير البرجوازي ، أو المادية الآلية أو المثالية الفلسفية أو الواقعية النقدية أو الاشتراكية، أو الحداثة أو ما بعد الحداثة أو أي مذهب أو منهج إنساني آخر؛ لأن الواقع من الناحية العلمية و العملية في حقيقته غير مدرك إدراكا تاما كاملا من قبل أي مخلوق في هذا الكون رغم أن الواقع في حقيقته " نص" بكل ما في كلمة نص من معنى، و لكنه نص صعب القراءة؛ ذلك أننا إذا أردنا أن نقرأ الواقع كما نقرأ أي نص آخر، تلك القراءة التي تقودنا إلى جوهر المعني في باطن هذا الواقع، فإن هذه القراءة ستواجه ضعف الإنسان و جهله و عجزه و استعجاله في مقابل تعقيد نص الواقع و تعدد مستوياته؛ ذلك لأن الواقع حين وقوعه يكون مفاجئا و غامضا و مدهشا و مروعا و معقدا في آن واحد، و هو ما يجعل الإنسان يرتبك في قراءة هذا النص؛ و ينتج مناهج فكرية هشة و مفككة ومرتبكة و متقلبة و ناقصة . لذا فإنه لا يمكن قراءة " نص" الواقع و معرفة معناه إلا من خارج هذا الواقع، و ذلك عن طريق نص آخر يحيط بجميع مستويات الواقع السبعة ويدرك قوانينها و سنن التغيير فيها ، نص موثوق و مكتوب بحروف الكتابة؛ ليمكن الدخول إليه و قراءته و محاورته عن طريق قوانين و أساليب القراءة المعروفة لدى الإنسان، تلك القراءة التي تدرس المبنى و تتجاوزه إلى فهم المعنى ، بل تتجاوزه إلى استخراج جوهر المعنى من باطن " نص " الواقع .
فما هو، يا ترى ، ذلك النص المكتوب الصادق الثابت الذي يغير و لا يتغير، الذي يفضي إلى نص الواقع و يحيل إليه بكل مستوياته السبعة ؟!
[line]
[align=center]المقالة الخامسة
ما هو النص ؟
[/align]

قبل الحديث عن ذلك النص المكتوب الذي يحيط بجميع مستويات الواقع السبعة ويدرك قوانينها و سنن التغيير فيها، الذي يمكن قراءته و الدخول منه و إليه لقراءة " نص" الواقع نحو معرفة الواقع؛ عن طريق قوانين الكتابة و القراءة المعروفة للإنسان يجب أن نسأل السؤال التالي، هل يمكن اعتبار الواقع " نصا"، رغم أن الكثيرين يرون أن النص هو " الكتابة" فقط ؟!
يقول سعيد يقطين في كتابه " انفتاح النص الروائي، النص و السياق "، و هو يتحدث عن رولان بارت في دراستين ل(بارت) حول " النص و نظريته" :
" في الأولى يبدأ ( بارت) أولا بالتساؤل عن النص بمعناه الشائع ، مسجلا أنه : السطح الظاهري لنسيج الكلمات المستعملة و الموظفة فيه بشكل يفرض معنى ثابتا و واحدا إلى حد بعيد. وهذا السطح قابل للإدراك بصريا من خلال عملية الكتابة التي تجعل منه موضوعا مؤسسيا يتصل تاريخيا بالقانون و الدين و الأدب ... " .
و يقول يقطين عن تصوره للنص في كتابه المذكور : " النص بنية تنتجها ذات ( فردية أو جماعية)، ضمن بنية نصية منتجة، و في إطار بنيات ثقافية و اجتماعية محددة"
أظن، والله أعلم، أن معنى " النص" أبسط و أعقد بكثير في آن واحد مما يظنه (بارت)، ولكن كيف؟
سأحكي قصة صغيرة للقارئ ، على سبيل المثل، قصة من واقع الإنسان القارئ، تقول:
" في زمن يدعى( زمن الظواهر و المظاهر) عاش رجل اسمه " القارئ الأخير". كان يحلم بقراءة أكبر عدد ممكن من الروايات ليبحث عن معنى الحياة في كلمة واحدة، لكن انشغاله بجمع المال لم يتح له فرصة فعل ما يريد. وبعد أن جنى ثروة طائلة من الأموال؛ فكر ذات يوم بطريقة يشجع فيها الناس على القراءة و حب القراءة ، وصار يحلم بقارئ يظهر يوما ما، قارئ خاص و عبقري يستطيع أن يقرأ رواية ما ويلخص له " معناها " في كلمة واحدة؛ و بذلك يشجع القراءة و يعوض نفسه قراءة عشرات الروايات؛ ليصل إلى معنى الحياة. رأى أن أفضل طريقة هي أن يضع جائزة نقدية فالجميع يركض نحو النقود، و اختار لجنة للجائزة مكونة من أشهر نقاد عصره، أخبرهم بما يريد ، و أخبرهم أيضا أن هذه المسابقة تحتوى على لعبة تحدى ، وهي أن تختار اللجنة رواية أصعب من سابقتها؛ إلى أن يعجز القراء عن فك لغز هذه اللعبة ، وبعدها يقام حفل نهائي ينهى هذه اللعبة / المسابقة. فاز بالجائزة عشرات القراء ، حتى اشتهر أمر هذه المسابقة وأمر صاحبها. جاءت لحظة الإثارة التي انتظرها " القارئ الأخير" راعى الجائزة لفترة طويلة حين لم يتقدم للرواية الأخيرة أي قارئ متسابق ، أعلن في الصحف و مددت المسابقة شهرا كاملا، دون أن يتقدم أحد ، فقرر " القارئ الأخير " انتهاء اللعبة، دون أن يظهر القارئ العبقري . كانت حفلات تسليم الجائزة السابقة تختتم بعد أن تقرأ لجنة التحكيم مقاطع سريعة من الرواية للمشاهدين و الحضور، ثم تعلن كلمة المعني / الحل ، وبعدها يعلن اسم القارئ الفائز/ المنتصر؛ ليعتلى " منصة " التكريم ثم يستلم جائزته، أمام جمع من المشاهدين، من يد راعي الجائزة. أما هذا الحفل الختامي فقد أقتصر على أن تقرأ اللجنة مقاطع سريعة من الرواية، ثم تتلو بيانا تعلن فيه انتهاء لعبة هذه المسابقة دون أن يظهر القارئ الخطير العبقري، مع تعليق الإفصاح عن كلمة المعنى . و بعد أن فرغت اللجنة من قراءة تلك المقاطع من الرواية الأخيرة، دوت صرخة غريبة في جانب القاعة و اختلطت مع الصوت الحاد لتصفيق الحضور؛ و إذا برجل يركض نحو منصة التكريم وهو يصرخ ملوحا بيديه في كل اتجاه و يردد قائلا : (أنا أعرف الكلمة " المعنى" .. أنا استحق الجائزة ) . و وسط ذهول الحضور التقط الرجل الميكرفون و قال : (أنا أعرفها ... أنها كلمة " الظاهر" ). و انتقل الذهول إلى أعين الحضور حين رأوا أعضاء اللجنة ينظرون لبعضهم البعض و يتهامسون، ثم سقطت أفواههم بين أيديهم حين تبين لهم أن ذلك الرجل كان موظف الأمن ، ذلك الوقور الهادئ الواقف دوما عند باب دخول القاعة طوال تلك المسابقات السابقة، وضجت القاعة بالتساؤل حين تناقلت الآذان همسات تقول : هو ر جل أمي، لا يعرف القراءة و لا الكتابة بتاتا، ولكن كيف عرف الكلمة/ المعنى؟! .
لكن موجة التصفيق ارتفعت مرة أخرى و بددت شيئا من ذاك الذهول؛ حين فاق صاحب الجائزة من دهشته ؛ ليعلن في الحضور أنه قرر في هذه المرة أن يضاعف مبلغ الجائزة إلى عشرة أضعاف، و طلب أن يقف الجميع احتراما للقارئ العبقري الفائز وهو يقف مبهورا على منصة التكريم" .
هذه القصة، وسأسميها " جائزة القراءة" تحتوى مشاهد من الواقع متعددة ، و لكنى سأعيد ترتيبها كما يلي: رجل الأعمال " القارئ الأخير" ينوى تشجيع القراءة ، هذه النية حدثت في زمن ماضي، قد تكون قبل عشرين عاما مثلا من المشهد الأخير في القصة ، و النية محلها القلب ، و القلب هو المستوى السابع من مستويات الواقع ، وهو مستوى باطن ، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله. بعد هذه النية ، اتخذ " القارئ الأخير" القرار في مرحلة لاحقة ثم شكل لجنة من المحكمين، ثم الإعلان عن هذه المسابقة ، ثم استقبال المتسابقين و تقييم إجاباتهم ، ثم العثور على قارئ فائز يصعد إلى منصة التكريم و يستلم الجائزة، ثم تتكرر هذه الأحداث إلى أن تصل إلى القارئ المطلوب .
مشهد صعود القارئ الفائز على منصة التكريم و استلام الجائزة ، يتكون من حدثين ؛ صعود المنصة و استلام الجائزة، و يدرك المشاهد( الحاضر) منه أن من يعتلى منصة التكريم ويستلم الجائزة قد عرف إجابة السؤال/ اللعبة. هذا المشهد يمكن أن نفهم منه "معنى" واحد محدد ظاهر تراه العين، و يفهم منه فوز مستلم الجائزة . هذا المشهد الظاهر هو ظاهر " نص" الواقع، و له بنية ظاهرة تبدأ من لحظة وقوع الحدث الظاهر و إدراكه من قبل حواس الإدراك لدى الإنسان، هذه اللحظة أسميها اللحظة الواقعة الفاصلة؛ لأنها تفصل بين بنيتي الواقع الظاهرة و الباطنة. لكن القصة كاملة تحتوى على مشاهد أخرى تصنع و تبرز مشهد استلام الجائزة، و لا يدركها أو يراها من يشاهد لحظة التكريم في الواقع، لحظة بدء البنية الظاهرة ، لأنها مشاهد سابقة للحدث الواقع الحاضر المشاهد، الذي يمثل بدء البنية الظاهرة بالنسبة للمشاهد( أو قارئ النص المكتوب)، وهذه المشاهد قد تصل في الزمن الماضي إلى أول لحظة نوى فيها رجل الأعمال في قلبه تشجيع القراءة. أي أن هذه المشاهد التي هي دون أو تحت البنية الظاهرة( بكل ما فيها من علاقات و أسباب ) هي مشاهد باطنة لا تراها العين الحاضرة المشاهدة، بل هي تبعد وتختفي و تتلاشى عن الذهن الحاضر، شيئا فشيئا، مكانا و زمانا حتى تصل إلى " قلب" راعى الجائزة في زمن قد يمتد إلى عشرين سنة سابقة و مكان لا يعلمه إلا الله، لحظة أن قرر رجل الأعمال تشجيع القراءة، و ذلك هو أعمق أعماق الباطن . لكن هذا الجزء من النص( البنية الباطنة)، حقيقة، هو من يصنع معنى النص من الجذور و يصعد به إلى " منصة" معنى النص. و إذا كان الشرط الأساسي ليكون أي شئ " نصا" هو أن يحتوى على معنى ظاهر؛ فإن هذه القصة تخبرنا أن الواقع بمشاهده من حولنا هو نص بكل معنى الكلمة، يمكن أن يعيشه الإنسان ويستفيد منه ؛ كما استفاد موظف الأمن ( القارئ العبقري)، لأنه عندما رأي بنية النص الظاهرة تكرر أمامه؛ قرأها و عرف منها المغزى، ثم كانت المسابقات السابقة كافية لتدريبه وهى تقرأ أمامه ليدرك معنى واقع عالم القصة أو الرواية حين تتلى عليه و يستخلص منها المعنى في كلمة واحدة، لأنه يملك تجربة واسعة وعميقة تدرك معنى واقع الحياة أصلا ، حتى لو كان هذا القارئ أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة.
هذه القصة هي مقدمة للحديث عن بنية الواقع؛ نحو فهم شامل. و إذا كانت الدراسات الأدبية الحديثة تعانى من أزمة حقيقة وهي تتطلع إلى أن تجمع جميع الأجناس الأدبية ( شعر ، قصة ، ... ) في نص مفتوح شامل ؛ فكيف ستكون أزمتها الآن، بعد أن صار النص أوسع بكثير مما يعرفون. أي أننا إذا أردنا أن نصل إلى نظرية أدبية شاملة؛ و تنتج لنا نصا أدبيا مفتوحا و شاملا فإننا نحتاج إلى أن يقودنا نص مفتوح شامل، يرى الطريق الصحيح و يدرك واقع الإنسان بكل ما فيه من أشياء و تفاصيل و بكل سعته الزمانية و المكانية.
و هذا، لعمري، أمر عجيب !
[line]
[align=center]المقالة السادسة
المفهوم الشامل للأدب[/align]


لماذا نقرأ ؟
كان من الواجب أن أبدأ هذه المقالات بهذا السؤال الخطير، فقد سألني بعض الزملاء: ما دخل الأدب بنظرية تغيير واقع الإنسان؟
و سألتهم، بدوري: لماذا يقرأ الناس القصص والروايات، مثلا ؟
أجابوني : للمتعة ... للتسلية... للاستفادة من تجارب الآخرين... لا أقل و لا أكثر .
قلت لهم : هل يستطيع الإنسان أن يقرأ شيئا ليس له "معنى"؟
قالوا : أي شيء ليس له معنى فليس له قيمة .
إذن قيمة الشيء في معناه، و الأدب إن لم يكن له معنى فليس له قيمة، فما هو معنى " الأدب" ؟
ورد في كتاب " دليل الناقد الأدبي" لكل من ( د. ميجان الرويلي و د. سعد البازعي) تحت عنوان ( البنيوية و النقد البنيوي ) :
" ترى البنيوية أن " الأدب " هو صيغة متفرعة عن صيغة أكبر، أو هو بنية ضمن بنية أشمل هي اللغة ( أي الكتابة كمؤسسة اجتماعية)، تحكمه قوانين و شيفرات و أعراف محددة تماما كما هي اللغة كنظام. ويصبح " الأدب" من هذا المنظور نوعا من الممارسة الفعلية مقارنة مع الكتابة عموما، و بدوره يصبح هو بالنسبة لأنواعه نظاما لغويا و تتحول أنواعه بدورها إلى ممارسات فعلية يهيئ لها الأدب قوانين و أنظمة تجعل هذه الأنواع تأخذ صفاتها النوعية و الأدبية. ودراسة الأدب تسعى إلى كشف الكيفية التي تعمل بها عناصره حتى تخلق تأثيرات أدبية تبدو و كأنها تأثيرات واقعية طبيعية في حين أنها لا تعدو مجرد التوهم بالواقعية كنتيجة لتبني " حيل" و أعراف مألوفة ... فالبنيوية تسعى إذن إلى تأسيس مثال أو أنموذج " نظام" الأدب نفسه على أنه هو المرجع الخارجي للأعمال الفردية. وما محاولتها دراسة و تحديد مبدأ البنية التي تنتظم الأعمال الأدبية عموما ( و ليس العمل الفردي) و العلاقات القائمة بين مختلف فروع الحقل الأدبي ، ما هذه المحاولة إلا محاولة تأسيس منهجية علمية لدراسة الأدب " .
و أنا أظن ، أن الأدب أعم و أشمل مما تظنه البنيوية ، رغم أن البنيوية تجاوزت المفهوم التقليدي لكلمة الأدب بكثير، إلا أنها لم تدرك جوهر المعنى لكلمة " الأدب" . و إذا كانت كلمة " النص" تتجاوز بكثير ما يظنه "رولان بارت" إلى أن تصبح كل ما له معنى ظاهر يدركه الإنسان ، وهو تعريف يشمل كل شيء في واقع الإنسان بما فيه الإنسان نفسه؛ فإن كلمة " الأدب" لكي تحتوي هذا المفهوم الجديد الشامل " للنص" يجب أن تثور و تنسف المفهوم التقليدي، بما في ذلك المفهوم البنيوي، لكلمة " الأدب"، و الذي تراكم فوق حقيقتها عبر مئات السنين؛ لتنطلق إلى جوهر معناها الحقيقي الشامل الذي يحتوي كل ما في كلمة " أدب" من حيوية و عنفوان التغيير، و لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟
في المشهد التقليدي للأدب، حين يتلو الشاعر قصيدته، يعمد إلى أن يصل إلى " معنى" ظاهر واحد معين محدد مؤثر، يكون هو القاسم المشترك بين الشاعر و المستمع؛ لكي يؤثر في مستمع القصيدة و يحدث " تغييرا " في موقف المستمع من الشاعر، هذا باختصار شديد ما يريده الشاعر( أو المؤلف ) من النص، وهو إحداث التغيير المطلوب عن طريق التأثير بقوة المعنى المشترك بين الطرفين( الشاعر و المستمع، الكاتب و القارئ).
إذن، هذه القصيدة هي " نص أدبي " بقدر ما تظهر من معنى، و بقدر ما تحدث من تغيير.
كذلك القصة، هي " نص أدبي " بقدر ما تظهر من معنى، و بقدر ما تحدث من تغيير.
كذلك النار، و أعوذ بالله من النار، هي " نص أدبي" بقدر ما تظهر من معنى، و بقدر ما تحدث من تغيير، و هي قد أحدثت، و تحدث في واقع الإنسان، أكبر تغيير عرفه التاريخ. كذلك الأنهار ، والأشجار ، والجبال، و الحيوانات، والطيور، ... إلى كل ما في هذا الكون من أشياء ، هي " نص أدبي" بقدر ما تظهر من معنى، و بقدر ما تحدث من تغيير.
و من هذا المفهوم الشامل للأدب فإن الأدب ليس ( صيغة متفرعة عن صيغة أكبر، أو هو بنية ضمن بنية أشمل هي اللغة ... ) بل إن الأدب، في جوهر معناه الشامل هو عملية تغيير واسعة و شاملة “ Process of change “ ، لها إجراءاتها و موادها و وسائطها، وهي تطال الإنسان في أعمق أعماقه، و تشمل موادها كل شيء في هذا الوجود، وما الشعر أو القصة أو السياسة أو الاقتصاد، .... أو المجرات السابحة في باطن الكون، أو قبلة حانية على جبين طفل يتيم، إلا مادة أدبية نصية يستخدمها الأدب ليحدث التغيير في واقع الإنسان. لكن كل ذلك يحدث عبر وسائط متعددة تنقل المعاني، يغفل الإنسان عن إدراك جلها، وما اللغة ، حقيقة، إلا أحد هذه الوسائط التي يستخدمها الأدب لنقل " المعاني" في بنية النص إلى الإنسان ليحدث التغيير المطلوب، حتى و إن كانت اللغة الشريان الوسيط الرئيس في كثير من أعمال الإنسان " الأدبية" . و بذلك فإن واقع الإنسان بكل ما فيه هو البنية النصية التي يستخدمها الأدب، و اللغة هي نظام وسيط يحفظ المعنى داخل هذه البنية ، وهي نظام يكشف أيضا عن المعنى و يسلمه إلى القارئ الجاد الذي يملك مفاتيح نظام اللغة وأسراره ، وبذلك تصبح عملية " التغيير" عملية حركية فيزيائية مستمرة ، ويصبح الأدب بمفهومه الجديد الشامل طريقنا للوصول إلى المعنى الشامل للواقع في بنية الواقع الشاملة.
ففي القصة السابقة قصة " جائزة القراءة" ، حين وضع رجل الأعمال ( القارئ الأخير) جائزة للقراءة ؛ يفوز فيها، بجائزة نقدية، من يستطيع أن يقرأ رواية ما و يلخص معناها في كلمة واحدة، بشرط أن تكون هذه الكلمة هي المعنى الواحد الحقيقي لتلك الرواية؛ حسب رؤية نقاد ذوي خبرة عالية في قراءة الروايات؛ نرى أن إدراك المعنى الحقيقي الواحد يجعل القارئ يفوز بالجائزة، و هذه الجائزة تقوم بدورها بتغيير واقع القارئ ماديا و معنويا، هذا المعنى قد تتكرر أمام عيني موظف الأمن و جعله يدرك المطلوب، ويفوز بالجائزة لأنه قارئ عبقري للواقع، رغم أنه قارئ أمي لا يعرف كتابة ولا قراءة أية " نص مكتوب بحروف الهجاء".
هذا المفهوم الجديد الشامل " للأدب" يمكن استخدامه بشكل مباشر وبسيط و سريع لتقييم أعمال كثيرة، فمثلا الشاعر " أبو الطيب المتنبي" ، ( الشاعر العظيم كما يظنه البعض) ، لم يستطع بشعره، على مدى ثمان سنوات، أن يصل إلى المعنى المطلوب الذي يستطيع به أن "يغير" من حال و موقف " سيف الدولة" منه ( إذا اعتبرنا أن سيف الدولة هو " القارئ" الذي يستهدفه المتنبي بشعره)؛ فيجعله يعطيه الجائزة و هي ( الإمارة) التي عاش المتنبي وهو يحلم بها طوال عمره، لأن " المعنى" في قلب سيف الدولة يستقر في أعماق لم يصل إليها المتنبي بتجربته و شعره، ففشل الشعر و الشاعر في إحداث التغيير المطلوب، لأن "المتنبي" لم يمتلك من "عبقرية القراءة" الحد الكافي و المطلوب ليصيد المعنى الذي بدوره سيغير من حال سيف الدولة مع المتنبي و من حال المتنبي و حال الواقع من حوله، و حال مصيره المأساوي الذي انتهى إليه.
فهل يمكننا أن نقرأ بنية " الواقع" بكل اتساعها الزمانية والمكانية، و نستخلص منها أدوات نقيس و نفحص بها بنية " النص الروائي " نحو الوصول إلى جوهر المعني الذي هو الوقود الحقيقي لعملية التغيير، تغيير واقع الإنسان، وتغيير واقع عالم الرواية نحو عالم روائي شامل و مفتوح .
هذه القراءة في ظني ، والله أعلم، سوف تفتح باب " قبر" النقد الأدبي على مصراعيه، لينطلق " النقد الأدبي" بإذن الله ، وقد امتلأ بحيوية و عنفوان الحياة؛ ليدرس" النص" في واقع الإنسان كله، بعد أن ظن البعض ، من جهلهم، أن " النقد الأدبي" قد مات، فقاموا و صلوا عليه.
فسبحان الحي الذي لا يموت، وهو بكل شيء عليم .
[line]
[align=center]المقالة السابعة
المعني في بنية النص الروائي[/align]


المعنى ، وما أدراك ما لمعنى؟!
ما علاقة المعنى بدراسة بنية النص الروائي؟ و ما علاقة ذلك بقراءة الرواية الحديثة القادمة ؟
في القصة السابقة، قصة " جائزة القراءة "، كان رجل الأعمال (القارئ الأخير) يبحث عن قارئ خاص ، يقرأ رواية ما و يلخص معناها في كلمة واحدة، و في ظني أن مثل هذه القراءة، إن وجدت، تعتبر أرقى درجات القراءة، و إذا كان الأدب هو تغيير واقع الإنسان، فإن قراءة الروايات لا تكون أدبا إلا إذا كانت تنتج معنى ظاهرا محددا و مؤثرا؛ يقوم بدوره بتغيير واقع الإنسان القارئ. فهل يمكن ، مثلا، قراءة رواية صدام حسين الأخيرة، بعنوان " أخرج منها يا ملعون"، و استخراج معنى واحد مؤثر يقوم بتغيير واقع قارئ هذه الرواية، و يقلب رؤيته للواقع رأسا على عقب ؟
الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في معرفة كيف يتكون المعنى في بنية النص الروائي من أول حدث إلى آخر حدث. هذا المعنى الواحد المحدد المؤثر، في نص روائي طويل، يتشكل و يدور دورة روائية كاملة في بنية النص الروائي، كما تتشكل و تدور قطرة ماء صغيرة دورة بيئية مائية كاملة؛ حين تثور هذه القطرة الصغيرة في وسط البحر ( أو المحيط )، ثم حين تتلبس الهواء بعد أن تخلع عنها " بنية " السوائل فتصير بخارا يطير إلى سقف السماء؛ ثم حين يؤلف الله، عز وجل، بينها و بين قطرات أخريات قد طرن خلفها؛ لتصير سحابة فتية صغيرة، تنمو و تكبر؛ فتصير سحابة حبلى بماء الحياة و هي تركض أمام الريح؛ ثم حين تتمرد على سطوة البرد و الجمود؛ فتنهمر ( ماءا ) فوق وجه الأرض كجلمود صخر، ثم حين تتلوى و تسيل في جداول صغيرة، يتبع بعضها بعضا في وجه الأرض؛ ثم حين تتدفق هذه الجداول في جسد النهر قبل أن يقذف نفسه في ماء البحر ( أو المحيط ) مرة أخرى.
حين يحدث كل ذلك؛ تكون قطرة الماء قد انتقلت في بنية هذه الدورة المائية في سبعة أطوار، الطور الأول: حالة القطرة السائلة، الطور الثاني : الحالة الغازية، الطور الثالث : السحاب، الطور الرابع : المطر، الطور الخامس : الجداول، الطور السادس : النهر، الطور السابع : البحر (أو المحيط) ، ثم تبدأ دورة أخرى، كل طور من هذه الأطوار له شكل عام و له حقيقة عامة، و لكن الحقيقة الكيميائية لقطرة الماء الصغيرة في كل طور هي أنها ماء؛ في المحيط هي ماء ، في الهواء هي ماء، في السحاب، في المطر، في الجدول، في النهر ، في المحيط، مرة أخرى هي ماء، تتحرك هذه القطرة في البنية المدركة، ولكن تبقى قطرة الماء ماء.
و كذلك " جوهر" المعنى الواحد في حركته في بنية النص الروائي، يتقلب في الأطوار ( المستويات) السبعة لبنية النص الروائي، حين يظهر المعنى في بيئة الحدث الروائي أولا، ثم يتحول في السلوك و العادات ثانيا، ثم يتنقل إلى بنية النص الروائي الباطنة ، في طور القدرات، ثم في طور المعتقدات، ثم طور الانتماء، ثم طور الروح و أخيرا طور القلب، و ذلك حين تنقلب أحداث الرواية وتأخذ مسارا آخر يغير في جميع الأطوار (المستويات) و ينتج واقعا جديدا، و لكن " جوهر" المعنى الواحد في هذه الرواية( في حقيقته الروائية) يبقى كما هو؛ كما تبقى حقيقة قطرة الماء كما هي في حقيقتها الكيميائية. و هذه الرحلة لجوهر المعنى هي رحلة دائمة و متصلة و متواصلة بين الإنسان و الواقع ( معايشة) ، بين الإنسان و الإنسان( مشافهة)، بين الإنسان و النص ( كتابة و قراءة)، و في كل الاتجاهات الرأسية و الأفقية في بنية النص .
و لكن ، كما هو معروف، فإن النص الروائي ، مثله مثل واقع الحياة ، لا يتكون من معنى واحد فقط، بل هو يتكون من شظايا صغيرة لآلاف المعاني المتداخلة و المتراكبة و المتفاعلة و المتصارعة، في آن واحد ، و لكنها في نهاية المطاف تتجمع في معنى واحد، عند حدث واحد، في لحظة واحدة ، تكون هي مركز أو محور أحداث الرواية، و هي اللحظة الواقعة الفاصلة بين ظاهر النص و باطنه. وهذا يقودنا إلى إشكالية ما هو المعنى المقصود من الرواية؟ هل هو هذه الشظايا الصغيرة؟ أم هو هذا المعنى الواحد المتراكم منذ أول حدث في النص الروائي؟ و إذا كان هو المعنى الواحد، فهل هو المعنى الذي يصنعه ويريده ويدركه المؤلف؟ أم هو المعنى الذي يصنعه و يريده ويدركه القارئ؟ أم هو المعنى الذي يظهره النص(حسب قانون الكتابة) عنوة فوق إرادة المؤلف و القارئ معا؟!
ورد في كتاب دليل الناقد الأدبي لكل من ( د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي) ما يلي:
" انعكست مفاهيم البنيوية على كثير مما ساد قبلها و أثرت فيه تأثيرا كبيرا. فالأدب لم يعد إبداعا عبقريا يعتمد على قدرة المؤلف الخارقة، بل أصبح صيغة كتابية مؤسساتية تحكمها قوانين وشيفرات تميط اللثام عن هذا "اللغز " القار من أفلاطون إلى عصرنا هذا. كما أثرت البنيوية على مفاهيم وظيفة الأدب و طبيعته، فلا هو يحيل إلى العالم الخارجي الطبيعي، كما ترى نظرية المحاكاة، ولا هو عبقرية تعتمد على مؤلفها و صاحبها بصلة بل إنها تصنعه و تتحكم فيه. أما القارئ فما هو إلا بنية أو إنتاج ثقافي مدرب على حل الشيفرات و تتبعها و رصدها ( هو شخص حرفي له أدواته و معداته، كما يقول دريدا عن ليفي ستراوس). و هكذا يتنازل المؤلف عن وظيفته للكتابة، و تمتص الكتابة وظيفة القارئ الذي يتنازل للقراءة عن دوره الفاعل. من هنا لا بد أن تغيب مفاهيم الذاتية و الوعي لدى المؤلف و لدى القارئ، و تتم عملية إزاحة الإبداع و التفرد و العبقرية و التميز، وهي المفاهيم التي حكمت أدبية الأدب عصورا طويلة".
ما لذي يبقى في النص، إذا تنازل المؤلف عن وظيفته للكتابة، و التي تمتص بدورها وظيفة القارئ الذي يتنازل للقراءة عن دوره؟! ما لذي يبقى في النص إذا نحن غيبنا مفاهيم الذاتية و الوعي لدى المؤلف و لدى القارئ، و إذا نحن أزحنا الإبداع و التفرد و العبقرية و التميز ؟! ألا يصير "المعنى" في هذه الحالة أمرا غامضا و عائما و محيرا، و قد يقودنا في كثير من الأحوال، إلى القراءة الضالة الخاطئة للنص الروائي.
أليست هذه هي معضلة القراءة الحديثة للنص، أليس هذا هو النفق المسدود الذي دخلت فيه البنيوية و لم تخرج منه بعد ؟
حسنا، أظن ، والله أعلم ، أن حل هذه المعضلة، الذي يخرجنا من كل هذا الإشكال هو في ضرورة وجود " المعنى" المهيمن؛ هذا هو حل اللغز الذي دوخ أساطين البنيوية و تلاميذها، هذا هو حل لغز القراءة الحديثة المتطورة ، هذا هو الحل لقراءة أية نص روائي، قراءة حديثة متفوقة، و لكن ما هو هذا المعنى "المهمين "؟
المعنى المهيمن هو الذي يهيمن، في آن واحد، على المعنى الذي يقصده المؤلف، و على المعنى الذي يراه القارئ، و على المعنى الذي تفرضه ( حروف) النص المكتوب، وهو المعنى الثابت و القياسي، الذي نقيس عليه حقيقة وصدق المعنى في قلب المؤلف أو القارئ أو النص. فإذا كانت المعاني الثلاثة، للمؤلف و القارئ و النص ، تنطبق على هذا المعنى المهيمن، فهذا دليل قاطع على عبقرية ذلك " النص المقروء أو المكتوب"، و عندها سيقوم ذلك النص بدوره الأدبي في إحداث التغيير المطلوب الشامل.
لكن المعاني لا تظهر و لا تتحرك في الفراغ ، بل تحتاج إلى بنية نص تظهر و تتحرك فيه، و كذلك المعنى المهيمن لا يظهر في فراغ، بل إنه يحتاج إلى بنية نص يتحرك فيها؛ و بذلك فإن هذا النص ، هو أيضا، يجب أن يكون نصا مهيمنا على ما سواه ، نصا ثابتا لا يتغير ، نصا قياسيا ، نستطيع أن نقيس به المعاني في ظهورها و حركتها في واقع الإنسان، و من ثم في واقع الروايات التي يكتبها الإنسان، نصا يكون جوهر المعنى في أوله مثل آخره، و في باطنه مثل ظاهره .
وهذا يعيدنا، مرة أخرى، إلى الحاجة إلى " نص" مهيمن مكتوب نستطيع به أن نتجاوز كل المذاهب الأدبية بما في ذلك الحداثة و ما بعدها، و البنيوية و ما بعدها، فهل عرف القارئ، الآن، ذلك النص المهيمن الذي يغير و لا يتغير، و الذي يعلو و لا يعلى عليه ؟
 
المقالة الثامنة : ما بعد البنيوية

المقالة الثامنة : ما بعد البنيوية

أجل ... إنه " نص" القرآن كلام رب العالمين، عز و جل،(لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) سورة فصلت الآية (42)
هذا هو النص المكتوب الثابت الذي يمكن الدخول إليه لدراسة بنية واقع الإنسان بشكل مباشر و شامل و صادق، و هو النص الذي يحيل إلى الواقع بكل مستوياته السبعة، و هو النص المفتوح الشامل الحقيقي الذي يمكن أن نفهم منه معنى الحكايات كلها ، و الروايات كلها ، و النبوءات كلها، و الظواهر كلها، و البواطن كلها، و هو النص المهيمن ذو المعنى المهيمن، الذي يغير و لا يتغير، و الذي يعلو و لا يعلى عليه، و لكن ما علاقة " نص" القرآن الكريم بكتابة النص الروائي المنتظر؟
عشرون سنة مرت بي و أنا أركض غريبا، وحيدا، فوق عيني غشاوة المصطلحات، في صحراء تصفر فيها الريح، خلف المعنى المخبوء في "نص" هذه الحياة، و أنا أبحث في بطون الروايات، و أتقلب بين صفحات كتب النقد الأدبي و مصطلحاته. تغربت هنا و هناك، إلى أن وصلت إلى صحراء البنيوية و ما بعد البنيوية، و ازدادت الغربة وازدادت الغشاوة و ازداد صفير الريح. بحثت عن نظرية للنص، تفضي إلى نص روائي جديد، عند " بارت" و دريدا و كثيرين غيرهم، قرأت عن النص المفتوح و النص المغلق، و في كل مرة تزداد في عيني غشاوة المصطلحات، و يزداد في أذني صفير الريح. و ذات يوم ، حين فتحت عيني بعد أن هدأت الريح، و جدت بين يدي شيء من أوراق مبعثرة لمصطلحات ما بعد البنيوية، وشيء من علم قليل؛ فضاق صدري، و انفجرت و تفجرت و فجرت ... ، و ثرت على البنيوية و ما بعدها و مصطلحاتها، فماذا وجدت؟
وجدت أن النص المفتوح( open text )، يعنى، بكل بساطة، النص الذي تحتوى بنيته معاني متعددة و احتمالات كثيرة لتأويل المعنى المقصود، و وجدت أيضا أن النص المغلق ( closed text ) هو النص الذي تنغلق بنيته على معنى واحد محدد، و لا يمكن للقارئ الفكاك منه. و لكن منظري ما بعد البنيوية صاروا يتحدثون عن التناص و عن ما يسمى ب( hypertext ) ، ويترجمه " دليل الناقد الأدبي" إلى النص المتعالق، و سألت نفسي: ما هو يا ترى هذا المتعالق ؟!
يقول دليل الناقد الأدبي عن النص المتعالق :
" و المهتمون بهذا النص يرون نظريته تقوم على نظريات النص ما بعد البنيوي التي نادى بها دريدا، و فوكو و بارت على وجه الخصوص، و لعل في وصف بارت للنصوصية المثلى في كتابه أس/زي تعريفا حقيقيا للنص المتعالق حتى أن جورج لاندو استشهد به حين عرض لتاريخ مصطلح النص المتعالق. يقول بارت : " إن في هذا النص المثالي شبكات كثيرة و متفاعلة معا، دون أن تستطيع أي منها تجاوز البقية؛ إن هذا النص كوكبة من الدوال لا بنية من المدلولات؛ ليس له بداية ؛ قابل للتراجع، و نستطيع الولوج إليه من مداخل متعددة، ولا يمكن لأي منها أن يوصف بأنه المدخل الرئيس، والشيفرات التي يهيئها تمتد على مسافة ما تستطيع ( رؤيته) العين، ولا يمكن تحديدها ( أي الشيفرات) ... إن أنظمة المعنى تستطيع السيطرة على هذا النص المتعدد ( تعددية) مطلقة، و لكن عددها غير قابل للانغلاق أبدا، لأنه كما هي الحال معتمد على لانهائية اللغة" .
هذا الكلام زاد غشاوة مصطلحات ما بعد البنيوية، رغم أني أعتقد جازما أن هؤلاء المنظرين جادون فيما يطرحونه من نظريات، و لكننا، جميعا، لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نرى كيف سيكون النص الروائي لما بعد البنيوية قبل أن نزيل عن أعيننا هذه الغشاوة؛ فانفجرت و تفجرت و فجرت مرة أخرى لأجد أن النص المتعالق، بكل بساطة، هو نص كبير ممتد يحتوى على عدد كبير و متنوع من النصوص، و هذا التنوع يصل إلى حد تتلاشى فيه حدود نوع النص الأدبي و تتوسع لتشتمل على كل شيء، أي أن ما يسمى (HYPER TEXT ) هو النص المتنوع الشامل الذي يجد فيه القارئ كل شيء، تماما ، مثل (HYPER MARKET ) أي السوق المتنوع الشامل الذي يجد فيه المتسوق كل شيء، وليس المتعالق كما يترجمه دليل الناقد الأدبي، و إذا أردت أن أقدم تعريف آخر للنص المتنوع الشامل أستطيع أن أقول أنه النص الذي فيه تفصيل كل شيء، و لكن أتدرون ما النص الذي كانت تسير في اتجاهه مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية و فيه تفصيل كل شيء؟
إنه " نص " القرآن الكريم، الذي يقول الله عز وجل عنه في سورة آل عمران ، الآية السابعة: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ".
إذن، نظرية نص ما بعد البنيوية تسير في اتجاه " نص" القرآن الكريم، أدركنا ذلك أم لم ندركه، و هذه النظرية لا تتحقق بشكل تام صادق صريح إلا في نص القرآن. و لكن ما علاقة ذلك بالنص الروائي الحديث؟
النص المغلق هو النص "المحكم" و هو نص ثابت و الآيات المحكمات هي آيات أحكمت بنيتها على معنى واحد محدد لا يمكن للقارئ الفكاك منه و هو المعنى " المهيمن" و النص المحكم هو النص الذي يحمل " الخطاب" ، ولذلك ليس هناك مجال ليقوم القارئ بأي تأويل، أما النص المفتوح فهو النص " المتشابه" وهو نص متحرك و الآيات المتشابهات هي آيات فتحت بنيتها لتؤدى إلى تأويلات كثيرة، و هذا النص المتشابهة يقوم بفحص قدرة و عبقرية القارئ ، فالقارئ البليد المستسلم الذي في قلبه زيغ ( عن المعنى الحقيقي المهيمن للواقع ) سيقتنع بأول معنى يستطيع تأويله ، و من هنا فإن النص المتشابهة ، حقيقة ، يفتن هذا القارئ ، أما القارئ العبقري( الراسخ في العلم) ، فهو من يستطيع التروي و التبصر و التدبر و يغوص في كل التأويلات المحتملة إلى أعماق النص ليجد المعنى الصحيح الذي هو المعنى المهيمن الثابت في النص "المحكم" ، و لكن النص المحكم و النص المتشابهة لا يستطيعان التفاعل فيما بينهما ( بوجود القارئ) إلا في وسط النص المتنوع الشامل Hypertext ، و التناص في أرقى أشكاله هو التناص بين نص القرآن و" نص" واقع الإنسان ( المعاش) منذ أن خلق الله عز وجل، آدم عليه السلام، هذا الواقع الذي يحتوي على نصوص "محكمة" و أخرى "متشابهة"، و ما الضلال الذي يحدث في تاريخ البشرية الآن إلا أنها تتبع ما تشابه من نصوص الواقع و تترك المحكم منه، وهذا دليل على أن القراءة العبقرية الحديثة للواقع لم تظهر بعد.
و رواية " الواقع" المباشر ، ولا أقول الرواية الواقعية، في حقيقتها لا تكون رواية "واقع" إلا إذا كان " نصها الروائي" يحتوي على النص المحكم و النص المتشابهة وسط نص متنوع شامل، تتناص فيه الرواية و الواقع ليكونا نصا واحدا يتفاعل معه القارئ، ليحدث المتعة و التغيير في آن واحد لقارئ الرواية، و من هنا تكون متعة النص و من هنا تكون متعة القراءة ، ومن هنا أيضا يستحق القارئ العبقري، الذي يدرك المعنى الواحد الصحيح، الجائزة بكل جدارة واستحقاق؛ وهو ما يمثله إدراك المعنى الحقيقي في القرآن الكريم ، كلام رب العالمين، و في " القصص الحق" في القرآن و في روايات الواقع الإنساني الكبير، بكل جدارة و استحقاق.
يقول شكري عزيز الماضي في كتابه " في نظرية الأدب " بعد أن قدم شرحا لمفهوم التناص و نظرية النص، في مرحلة ما بعد البنيوية :
" و مهما يكن من أمر فإن التناص يقدم مفهوما جديدا لمصطلح " الكتابة"، فالكتابة ليست رسما للأصوات اللغوية على الورق بل تمثل و جودا كليا. كما يقدم مفهوما جديدا لمصطلح " النص" . فالنص ( المكتوب حتما) يتصف بصفات محددة بدونها قد يكون أثرا أو عملا أو ما شئت . لكن " النص" الذي يستحق هذه التسمية – ذو سمات جديدة تماما . و إذا ما استعرض المرء التراث العربي المكتوب ، و فق هذه السمات ، فإنه لن يجد " نصا يستحق هذه التسمية سوى " القرآن الكريم " فهو :
- نص مكتوب ( نص/ كتابة)
- النص القرآني يطرح إشكالية التصنيف ( ليس له شكل محدد، و لا ينتمي إلى أي نوع من أنواع الكتابة المألوفة ).
- النص القرآني ليست له بؤرة مركزية ( بل يتضمن بؤرا لا نهاية لها) .
- النص القرآني له فاتحة ( و لكن ليست له بداية أو نهاية بالمعنى المألوف ) .
- النص القرآني يقبل تأويلات لا حصر لها ( حظي بهذا و سيبقى يحظى بتأويلات لا نهاية لها ) .
- النص القرآني ذو طاقة رمزية مطلقة.
- الإحالة المرجعية ( في النص القرآني ) على النص نفسه .
- حقوق طبع النص القرآني غير محفوظة لأحد "
انتهي كلام شكري عزيز الماضي، و أنا أقول، بعد هذا الكلام ، أن نص القرآن الكريم، أكبر و اعظم من ذلك بكثير، فهو كلام الله رب العالمين،" الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شئ عليم"، الذي هو في السماء إله و في الأرض إله ، سبحانه، و هو المهيمن و قوله مهيمن. و" نص" القرآن الكريم هو " النص" الوحيد الذي يدخل في علاقة " تناص" مباشرة مع الواقع و مع الإنسان، و الإحالة المرجعية ( في النص القرآني) ليست على النص نفسه فقط، بل إنه يحيل القارئ إلى "نص " الواقع ، ويحيل القارئ إلى " نص" القارئ ( أي نفس القارئ).
و الآن هل لي أن أقول أن المنهج الإنساني العالمي القادم، منهج ما بعد البنيوية، الذي لم تدرك البشرية أسمه حتى الآن، هو منهج " الإسلام"، اسما و رسما و جسما، و معنى .
أجل إنه زمن الإسلام، و منهج الإسلام و الحمد لله رب العالمين .
 
عودة
أعلى