خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين

إنضم
25/04/2010
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مكـة المكرمة
خطرات بيانية لمعنى التناسق الفني في بعض المقاطع القرآنية بين القدامى و المحدثين
بقلم الدكتور يوسف بن سليمان..
ملامح التناسق الفني في القرآن الكريم و معانيه و تطبيقاته المحدثون مثالا
رمى سيد قطب رحمه اللهبسهمه في دراسة التناسق الفني في القرآن الكريم فبلغ شأوا بعيدا إذ لم شتاته من سابقيه مستفيدا من إمكاناته النقدية التي بسطها في كتابه " النقد الأدبي أصوله و مناهجه ". و قد قسم وجهة نظره إلى المسألة بحسب آفاق أو وحدات سمى كل منها تسمية تليق بدرسه البلاغي و نظرته إلى نسيج النص القرآني أسلوبيا و جماليا. فكانت منهجيته وفق و من وافقه كالمفكر الأديب حسيني علي رضوان وفق الطريقة التالية:
الأفق الأول: التناسق بين التعبير و المضمون.
فعلى درب التناسق الفني يراعي النسق التعبيري و يلائم بين العبارة و الحالة المراد تصويرها في القرآن الكريم مما يساعد على إكمال الصورة الحسية و المعنوية و هذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير و التعبير للتصوير و أمثلتها منثورة في كتابه العزيز انتثار حبيبات العقد، قال تعالى: { إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } الأنفال، الآية 22.
فكلمة الدواب متناسقة مع الحالة المراد تصويرها هنا، حالة الكفار فهم لا ينتفعون بالهدى الذي جاءهم لأنهم صم و بكم كحالة الدواب من الحيوانات التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم بالصم و البكم فكلاهما يكمل صورة الغفلة الحيوانية... لذلك ذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى القول: " شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا مما يكفي سماعه و العمل به و شبهوا بالبكم في انقطاع الحجة و العجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوه لذلك انتفى العقل عنهم" .
و كمثال آخر في الموضع يمكن أن نسوق ..قوله تعالى: { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } سورة محمد، الآية 12، فلفظي ( يتمتعون ) و ( يأكلون ) يتناسقان مع الحالة المراد تصويرها حالة الكفار بغفلتهم عن الجزاء و الحساب كدابة الأنعام تتمتع و تأكل و تمرح و هي غافلة عن شفرة القصاب، أو غافلة عما سوى الطعام و الشراب. مثال آخر يمكن إدراجه ضمن السياق نفسه و هو قوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } سورة البقرة، الآية 223.
فكلمة حرث متناسقة مع الحالة المصورة حيث شبه النساء بالأرض للتشابه بين صلة الزارع بأرضه في الحرث و صلة الزوج بزوجته في العلاقة الخاصة. و بين النبت الذي تخرجه الأرض، و الولد الذي تنتجه الزوجة. و ما في الحالتين من تكثير و عمران و فلاح. مما دعا الشيخ الطاهر بن عاشور إلى قول: " فتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبة خديجة للنبي صلى الله عليه و سلم – الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل" .
الأفق الثاني: استقلال اللفظ برسم الصورة.
إن اللفظ قد يستقل برسم صورة شاخصة، و هذه خطوة و أفق أبعد و أرقى من سابقه على طريق التناسق الفني، لأن اللفظ هو الذي يستقل برسم الصورة (...) و هذا الأفق من آفاق التناسق لم يعرف في غير أسلوب القرآن الكريم إذ لا يستطيع كائن ما كان أن يرسم صورة فنية شاخصة بلفظ واحد.
و اللفظ الذي يستقل برسم الصورة له أوضاع ثلاثة: فهو يرسمها تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن و تارة بظله الذي يلقيه في الخيال و تارة بجرسه و ظله معا. فجرس اللفظ هو إيقاعه الذي يلقيه في الأذن و صوته الذي يتلقاه السمع، و هذا الإيقاع ينتج عن إيقاع كل حرف من حروف اللفظ على حدة ثم عن إيقاع الحروف كلها مجتمعة في هذا اللفظ و ما فيها من مدود و غنات، و شدات، و غير ذلك فالذي يتراءى للسامع أو الرائي الانفصال. لكن في مبدإ التصويت و الإيقاع رسما تتولد الوحدة الصوتية فينسجم المختلف و يأتلف المتنافر في جو من الانسجام و الرجع الموسيقي. و من أمثلة الصورة الموسومة بجرس اللفظ قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض } التوبة، الآية 38.
فكلمة إثاقلتم، استقلت برسم الصورة، صورة شاخصة، واضحة المعالم ظاهرة السمات(...) و هذه الصورة رسمها جرس الكلمة و إيقاعها إذ يتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل. إن كلمة إثاقلتم طنّ من الأثقال، و هذه قراءة قالون و حفص و هما أبلغ تصويرا من قراءات أخرى لذلك جعل ابن عاشور " الثقل على مقتضى القراءة فيه تكلف له، أي إظهار أنه ثقل لا يستطيع النهوض، و عسر الانتقال بسبب فيه تعريض بأن بطأهم ليس من عجز لكنه عن تعلق بالإقامة " ، هذا عن المعنى أما عن الجرس فإن إثاقلتم أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة تاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام و اجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول عند إدغامه، و لما كان التثاقل مبعثه الإخلاد ناسب التشديد الحركة و التباطؤ، فوافق التعبير تخيّل إنسان كان في حالة التردد و العطالة. و عديل ذلك أيضا قوله تعالى: { و إن منكم لمن ليوبطئن } سورة النساء، الآية 72، حيث رسم جرس ( ليبطئن ) صورة واضحة المعالم للتبطئة، و لذلك فاللفظة مختارة هنا بما فيها من ثقل و تعثر، و إن اللسان ليتعثر في حروفها و جرسها حتى يأتي على آخرها وهو يشدها شدا و إنها لتصور الحالة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر و التثاقل في جرسها. و مثيله قوله تعالى: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و أتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون } سور هود، الآية 28. إن جرس كلمة ( أنلزمكموها ) رسم صورة شاخصة لأن الكلمة تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، و شدّ بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون و يشدون إليه و هو نافرون، و دخول الاستفهـام على المضـارع هنا " معناه إنكار أصل الإلزام" ، و لما كانوا منكرين فناسب جرس العبارة رسم حالتهم بالحروف. فاللفظ محمل يقيم العسر. فأنت لا تكاد تخرج من عسر حتى تدخل في آخر. و من عسر إلى عسر، حيث تتمنى عدم النطق بها أصلا.
و من الأمثلة التي يستقل المفرد برسمها بظلها الذي يلقيه في الخيـال، قوله تعـالى: { و اتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } سورة الأعراف، الآية 173. فكلمة انسلخ ترسم صورة عنيفة قاسية التخلص من آيات الله بظلها الذي تلقيه في خيال القارئ فالانسلاخ حركة حسية قوية و تعني الملابسة والانفكاك بقوة. و نحن إذ نرى هذا الكافر ينسلخ من لآيات الله انسلاخا، فينسلخ كأنما الآيات إيهاب أو أديم انسلخ الحي من ذاته و أديمه اللاصق بكيانه. " و الانسلاخ هنا مستعار لأنه انفصال معنوي يعني ترك التلبس بالشيء " . و لا يقف الانسلاخ عند ذلك الحد فقد ناسبته النتيجة إذا أضحى المنسلخ كالكلب يلهث إن في حالة الرخاء أو الشدة للدلالة على الحيرة و الضياع. و قد ورد هذا " النبأ المتلو في باب الالتفات لتعدد صور المشهد الواحد " و قد أورده صاحب الفوائد في باب التشبيه، تشبيه شيء بشيء بعد أن تحدث في ما مضى عن تشبيه شيء بشيئين، فالعدول عن النوع الوارد قبله إلى تشبيه شيء بشيء يناسب الواقعة و ذلك لتوافق حالة المتلبس بالكفر / الانسلاخ بلبوس تعدد صور التردد و الحيرة. و من هذا اللون قوله تعالى: { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } سورة القصص، الآية18. فكلمة يترقب رسمت بظلها صورة فنية و هي هيئة الحذر المتلفت و القلق المتوجس، المتوقع للشر في كل لحظة(...) رغم كونه في المدينة ( عنوان الأمن و السلامة و الأمان ). " و رغم ذلك فهو منزعج متحفز للاختفاء و الخروج من المدينة " . و من الأمثلة التي يشترك في رسم الصورة جرس اللفظ و ظله معا: قوله تعالى: { يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا } سورة الطور، الآية 13. ففي هذه الآية اشترك جرس اللفظ ( يدعّون دعّا ) و ظله في تصوير مدلوله، و الدعّ هو الدفع من الظهور بعنف، و هذا الدفع في كثير من الأحيان يجعل المدفوع يخرج صوتا غير إرادي فيه عين ساكنة هكذا – أع – و هو في جرسه أقرب ما يكون إلى جرس الدعّ.
و مثاله كذلك قول الباري تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } سورة الدخان، الآية 17.
فلفظ اعتلوه يصور مدلوله بجرسه و ظله، فالعتل جرس في الأذن و ظل في الخيال، يؤديان المدلول للحس و الوجدان هذا و جميع ما ذكرناه من الأمثلة عند الحديث عن التخيل الحسي و التجسيم تعتبر أمثلة لهذا النوع من التناسق الفني فالظلال التي تلقيها التعبيرات هناك من هذا القبيل.

يتبــــــــــع..


 
عودة
أعلى