بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة جمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : سعود الشريم
بتاريخ : 6- 12-1426هـ
وهي بعنوان : مؤتمر الحج
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزة والجلال، خلق فسوى وقدر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، أفضل من صلى وصام وحج لله وقام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابة الغر الميامين، وعلى التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه وخشيته في الغيب والشهادة والاستقامة على دينه في الغضب والرضا والمنشط والمكره، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[الأحقاف:13].
أيّها المسلمون، حُجّاجَ بيتِ الله الحرام، ها أنتُم أولاءِ تجتمِعون في هذا المكانِ المبارك، وافِدين إِلى بلدِ الله الحرام، محرِمين ملبِّين، قاصِدين ربًّا واحِدًا، ولابِسين لِباسًا واحدا، وحامِلين شِعارًا واحدًا: لبّيك اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنّكم ـ أيّها الحجَّاج ـ باجتِماعِكم هذا تَعقِدون مؤتمرًا فريدًا، مؤتمرًا مِلؤُه السّمع والطاعة والرَّغبة والاستجابة لنداءِ الباري جلّ شأنه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]. فها أنتُم قد امتَثَلتم أمرَ ربِّكم، وتَرَكتم المالَ والأهل والولَد، وقطَعتم الفيافيَ والقِفار والمفاوزَ والبحار، في صورةٍ فريدة ومشهدٍ مدهِش، يستوي فيه صغيرُكم وكبيركم، وغنيُّكم وفقيركم، وذكرُكم وأنثاكم، فاشكروا الله على التّيسير، واحمدوه على بلوغِ المقصد وتهيئَةِ هذا النّسك المبارك، وأَروا اللهَ من أنفسكم توحيدًا خالِصا خاليًا من الشوائب الشركيّة والنزعات البدعيّة؛ فإنَّ البيتَ الحرام لم يُبنَ إلا للتوحيد وإخلاص العبوديّة لله سبحانه، ولم يُبنَ للشرك ولا للابتِداع ولا للخرافة والدّجَل، بل إنّ الله سبحانه قد أمر خليلَه إبراهيم عليه السلام أن يؤسِّس البيتَ العتيق على التوحيد والعبوديّة لله وحدَه، فقال جلّ شأنه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج:26].
ولذا كان الفهمُ الصحيح للسَّلَف الصالح من الصحابةِ والتابعين وتابِعيهم أنَّ عَرَصاتِ المناسِك إنما هِي مَحالٌّ للتّضرّع إلى الله وإخلاصِ النّسك له وفقَ هديِ النبي ، فلم يكن لدَيهم لوثةُ التعلّق بالحجارة أو التبرّك بها أو قصدِ المزارات أو المشاهد أو القبورِ والدّعاء عندها؛ لأنهم يعلَمون علمَ اليقين أنّ النافع الضارّ هو الله سبحانه، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17].
ولِذا كان السّلف رحمهم الله لا يتبرَّكون بأحجارِ الكعبة ولا بِغيرها؛ لأنَّ النبيَّ لم يفعل ذلكَ، ولم يفعَله أصحابه رضوان الله عليهم، وإنما استَلَم الحجرَ الأسود وقبَّله ومسحَ بيده على الركن اليماني، ولم يستلِم بقيَّةَ أركان الكعبة، وقد أكَّد الخليفة الراشِد عمر بنُ الخطاب رضِي الله تعالى عنه ذلكَ بِقوله وهو واقفٌ أمامَ الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجَر لا تضرّ ولا تنفع، فلولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبِّلك ما قبَّلتك).
حجاجَ بيت الله الحرام، إن هذا الاجتماعَ المبارك إبّان هذا النسك العظيم ليُعدّ فرصةً سانحة لاستشعار هذا التوافقِ الفريد واستلهامِ الحِكَم العظيمة التي شرِعَ الحجُّ لأجلها، ومن ذَلكم الاشتراكُ والمساواة بين كافّة الحجاج في متطلَّبات هذا النّسك، فليس للغِنَى ولا للنَّسَب ولا للرّياسَة فضلٌ أو استثناء، فالوقوف بعرفَة واحدٌ، والمبيت بالمزدلفةِ واحد، والجمرةُ ترمَى بسبع حصَيَات لكلِّ واحد، والطواف واحِد، والسعيُ واحد، فليسَ للغنيِّ أو الشريف أو الوزير أن ينقص جمرةً أو يسقِط وقوفا أو مبيتًا، الناس سواسيَة، لا فرق بين عربيّ ولا عجميّ ولا أبيض ولا أسودَ في هذا النسك إلا بالتّقوى.
فما أحرى حجّاج بيت الله الحرام وما أحرى المسلمين بعامّةٍ أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم، فإنَّ مثلَ ذلكم الاستشعار مِن أعظمِ الدّواعي إلى التَّآلف والتّكاتُف والرّحمة والشفقة والتواضُع والتعاون، لا شعارَات وطنيّة، ولا هتافات عصبية، ولا رايّات عبِّيَّة، إنما هي راية واحدة، هي راية: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
إنَّ الأمة بحاجةٍ ماسّة إلى استجلاب كلّ معاني الوحدةِ والتعاون والتّناصر على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، فلا يعتدِي أحدٌ على أحد، ولا يبغِي أحد على أحدٍ، بل يعيش المسلمون في سلامٍ حقيقيّ وتعاون قلبيّ، لا يمكن أن يكونَ له ظلّ في الواقع إلا من خلالِ الالتزام بشريعةِ الإسلام الخالدة التي أعزّ الله الأمّة بها.
فما أحوجَ الأمّة الإسلاميّة ـ وهي تكتوي بلهيبِ الصراعات الدموية والخلافات المنهجية ـ إلى الاقتباس من أسرارِ الحج؛ لتتخلَّصَ نفوس أبنائها من الأنانيّة والغلّ والحسَد، وترتَقي بهم إلى أفقِ الإسلام الواسع المبنيِّ على منهاجِ النبوّة، والدّافع لكل نِزاعٍ أو شقاق أو اختلاف،كيف لا والله جلّ وعلا يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[النساء:59]؟! إذًا لا مجالَ للتّفاخُر ولا للاختِلاف ولا للتّخَاذُل، وليس اختلافُ الألسِنَةِ والألوانِ والطّباع والبُلدان محلاًّ للشِّقاق والفرقةِ؛ لأنَّ الميزانَ عند الله واحد: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة:208، 209].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعده.
وبَعد: فاتّقوا الله عبادَ الله.
واعلموا ـ حجّاجَ بيت الله ـ أنّه يُشرَع للحاجّ في اليوم الثامن من ذي الحجّة أن يحرِمَ بالحجّ إن كان متمتِّعًا، وإن كان مفردًا أو قارنا فهو لا يَزال في إحرامِه. ويُستحبّ للحاجّ في اليوم الثامن أيضا أن يتوجَّه إلى منى قبلَ الزوال، فيصلِّي بها الظهر والعصرَ والمغرب والعشاءَ والفجر قصرًا من دون جمعٍ، ما عدا الفجر والمغرب.
فإذا صلّى فجرَ يوم التاسِع وطلعتِ الشمس توجَّه إلى عرفَة وهو يلبِّي أو يكبِّر، فإذا زالتِ الشمس صلَّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرا بأذانٍ وإقامَتين، ثم يقِف بها، وعَرفة كلُّها موقِفٌ إلا بطنَ عُرَنَة، فيكثِر فيها من التهليلِ والتسبيح والدعاء والاستغفار، ويتأكَّد الإكثار من التهليل لأنَّه كلمةُ التوحيد الخالِصَة، فقد قال : ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ، وهوَ على كل شيء قدير)).
فإذا غربتِ الشّمس أفاضَ الحاجّ من عَرفة إلى المزدلفة بسكينةٍ ووَقَار، فلا يزاحِم، ولا يؤذِي، ثم يصلِّي المغربَ والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان وإقامَتَين، ثمّ يبقى بها حتى طلوعِ الفجر، إلا الظّعن والضّعفة، فلهم أن ينصرِفوا منها بعدَ منتصف الليل.
فإذا صلّى الحاجّ الفجرَ بالمزدلفة وقَف عند المشعر الحرام، والمزدلفَة كلُّها موقف، فيدعُو الله طويلاً حتى يسفِر، ثم يسير إلى مِنى، فيرمي جمرةَ العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكّة، يرميها بسبعِ حصيَات صغيرات، يكبِّر مع كلّ حصاة، ثم ينحَر هديه إن كانَ متمتِّعا أو قارنا، ثم يحلِق ويحلّ من إحرامه، فيباح له كلُّ شيءٍ حَرُم عليه بسَبَب الإحرام إلا النساء، ويبقَى في حقِّ القارِن والمفرِد طوافُ الإفاضَة وسعيُ الحجّ إن لم يكن سَعَى مع طواف القدوم، وأمّا المتمتِّع فيبقَى عليه طوافٌ وسعي غير طوافِ العمرة وسعيها.
ثمّ بعد الطواف يحِلّ للحاج كلّ شيء حرُم عليه بسبَب الإحرام حتى النساء.
ولا يضرّ الحاجَّ ما قدَّم أو أخَّر من أفعال يومِ النحر؛ لأنَّ رسول الله ما سئِل عن شيءٍ قدِّم ولا أخِّر في ذلك اليومِ إلاّ قال: ((افعَل ولا حرج)) متفق عليه.
ثم يبيت الحاجّ بمنى أيّام التشريق وجوبًا لفعلِ النبيِّ ولِقوله: ((خذوا عني مناسككم)) متفق عليه، فيرمِي الجمراتِ في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالثَ عشَر إن لم يكن متعجِّلاً، كلّ جمرةٍ بسبع حصيَاتٍ، يبدأ بالجمرة الصّغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، ولا يكون الرميُ في هذه الأيّام إلاّ بعدَ الزّوال لفعلِه وأمره.
ومَن أراد أن يتعجَّل فليَرمِ بعدَ الزّوالِ مِن يوم الثاني عشر، ثم يخرُج من مِنى إلى مكة، ولا يضرُّه لو غَرَبت عليه الشّمسُ وهو لم يخرُج من منى، كما لا يضرُّه لو رمَى بعد مغربِ اليومِ الثاني عشَر وتعجَّل علَى الصحيحِ من أقوالِ أهل العلم، وهو الأولى بالإذنِ فيه من الإذنِ في الرميِ قبل الزوال؛ لورود النصّ في الرمي بعد الزوالِ وعَدَمِ ورودِ نصٍّ يجِب الرجوعُ إليه في النهيِ عن الرميِ بعد غروب الشمس من اليومِ الثاني عشر للمتعجِّل.
ثمّ يطوف بعدَ ذلك طوافَ الوَداع، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:200-202].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
خطبة جمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : سعود الشريم
بتاريخ : 6- 12-1426هـ
وهي بعنوان : مؤتمر الحج
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزة والجلال، خلق فسوى وقدر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، أفضل من صلى وصام وحج لله وقام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابة الغر الميامين، وعلى التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه وخشيته في الغيب والشهادة والاستقامة على دينه في الغضب والرضا والمنشط والمكره، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[الأحقاف:13].
أيّها المسلمون، حُجّاجَ بيتِ الله الحرام، ها أنتُم أولاءِ تجتمِعون في هذا المكانِ المبارك، وافِدين إِلى بلدِ الله الحرام، محرِمين ملبِّين، قاصِدين ربًّا واحِدًا، ولابِسين لِباسًا واحدا، وحامِلين شِعارًا واحدًا: لبّيك اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنّكم ـ أيّها الحجَّاج ـ باجتِماعِكم هذا تَعقِدون مؤتمرًا فريدًا، مؤتمرًا مِلؤُه السّمع والطاعة والرَّغبة والاستجابة لنداءِ الباري جلّ شأنه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]. فها أنتُم قد امتَثَلتم أمرَ ربِّكم، وتَرَكتم المالَ والأهل والولَد، وقطَعتم الفيافيَ والقِفار والمفاوزَ والبحار، في صورةٍ فريدة ومشهدٍ مدهِش، يستوي فيه صغيرُكم وكبيركم، وغنيُّكم وفقيركم، وذكرُكم وأنثاكم، فاشكروا الله على التّيسير، واحمدوه على بلوغِ المقصد وتهيئَةِ هذا النّسك المبارك، وأَروا اللهَ من أنفسكم توحيدًا خالِصا خاليًا من الشوائب الشركيّة والنزعات البدعيّة؛ فإنَّ البيتَ الحرام لم يُبنَ إلا للتوحيد وإخلاص العبوديّة لله سبحانه، ولم يُبنَ للشرك ولا للابتِداع ولا للخرافة والدّجَل، بل إنّ الله سبحانه قد أمر خليلَه إبراهيم عليه السلام أن يؤسِّس البيتَ العتيق على التوحيد والعبوديّة لله وحدَه، فقال جلّ شأنه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج:26].
ولذا كان الفهمُ الصحيح للسَّلَف الصالح من الصحابةِ والتابعين وتابِعيهم أنَّ عَرَصاتِ المناسِك إنما هِي مَحالٌّ للتّضرّع إلى الله وإخلاصِ النّسك له وفقَ هديِ النبي ، فلم يكن لدَيهم لوثةُ التعلّق بالحجارة أو التبرّك بها أو قصدِ المزارات أو المشاهد أو القبورِ والدّعاء عندها؛ لأنهم يعلَمون علمَ اليقين أنّ النافع الضارّ هو الله سبحانه، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17].
ولِذا كان السّلف رحمهم الله لا يتبرَّكون بأحجارِ الكعبة ولا بِغيرها؛ لأنَّ النبيَّ لم يفعل ذلكَ، ولم يفعَله أصحابه رضوان الله عليهم، وإنما استَلَم الحجرَ الأسود وقبَّله ومسحَ بيده على الركن اليماني، ولم يستلِم بقيَّةَ أركان الكعبة، وقد أكَّد الخليفة الراشِد عمر بنُ الخطاب رضِي الله تعالى عنه ذلكَ بِقوله وهو واقفٌ أمامَ الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجَر لا تضرّ ولا تنفع، فلولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبِّلك ما قبَّلتك).
حجاجَ بيت الله الحرام، إن هذا الاجتماعَ المبارك إبّان هذا النسك العظيم ليُعدّ فرصةً سانحة لاستشعار هذا التوافقِ الفريد واستلهامِ الحِكَم العظيمة التي شرِعَ الحجُّ لأجلها، ومن ذَلكم الاشتراكُ والمساواة بين كافّة الحجاج في متطلَّبات هذا النّسك، فليس للغِنَى ولا للنَّسَب ولا للرّياسَة فضلٌ أو استثناء، فالوقوف بعرفَة واحدٌ، والمبيت بالمزدلفةِ واحد، والجمرةُ ترمَى بسبع حصَيَات لكلِّ واحد، والطواف واحِد، والسعيُ واحد، فليسَ للغنيِّ أو الشريف أو الوزير أن ينقص جمرةً أو يسقِط وقوفا أو مبيتًا، الناس سواسيَة، لا فرق بين عربيّ ولا عجميّ ولا أبيض ولا أسودَ في هذا النسك إلا بالتّقوى.
فما أحرى حجّاج بيت الله الحرام وما أحرى المسلمين بعامّةٍ أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم، فإنَّ مثلَ ذلكم الاستشعار مِن أعظمِ الدّواعي إلى التَّآلف والتّكاتُف والرّحمة والشفقة والتواضُع والتعاون، لا شعارَات وطنيّة، ولا هتافات عصبية، ولا رايّات عبِّيَّة، إنما هي راية واحدة، هي راية: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
إنَّ الأمة بحاجةٍ ماسّة إلى استجلاب كلّ معاني الوحدةِ والتعاون والتّناصر على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، فلا يعتدِي أحدٌ على أحد، ولا يبغِي أحد على أحدٍ، بل يعيش المسلمون في سلامٍ حقيقيّ وتعاون قلبيّ، لا يمكن أن يكونَ له ظلّ في الواقع إلا من خلالِ الالتزام بشريعةِ الإسلام الخالدة التي أعزّ الله الأمّة بها.
فما أحوجَ الأمّة الإسلاميّة ـ وهي تكتوي بلهيبِ الصراعات الدموية والخلافات المنهجية ـ إلى الاقتباس من أسرارِ الحج؛ لتتخلَّصَ نفوس أبنائها من الأنانيّة والغلّ والحسَد، وترتَقي بهم إلى أفقِ الإسلام الواسع المبنيِّ على منهاجِ النبوّة، والدّافع لكل نِزاعٍ أو شقاق أو اختلاف،كيف لا والله جلّ وعلا يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[النساء:59]؟! إذًا لا مجالَ للتّفاخُر ولا للاختِلاف ولا للتّخَاذُل، وليس اختلافُ الألسِنَةِ والألوانِ والطّباع والبُلدان محلاًّ للشِّقاق والفرقةِ؛ لأنَّ الميزانَ عند الله واحد: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة:208، 209].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعده.
وبَعد: فاتّقوا الله عبادَ الله.
واعلموا ـ حجّاجَ بيت الله ـ أنّه يُشرَع للحاجّ في اليوم الثامن من ذي الحجّة أن يحرِمَ بالحجّ إن كان متمتِّعًا، وإن كان مفردًا أو قارنا فهو لا يَزال في إحرامِه. ويُستحبّ للحاجّ في اليوم الثامن أيضا أن يتوجَّه إلى منى قبلَ الزوال، فيصلِّي بها الظهر والعصرَ والمغرب والعشاءَ والفجر قصرًا من دون جمعٍ، ما عدا الفجر والمغرب.
فإذا صلّى فجرَ يوم التاسِع وطلعتِ الشمس توجَّه إلى عرفَة وهو يلبِّي أو يكبِّر، فإذا زالتِ الشمس صلَّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرا بأذانٍ وإقامَتين، ثم يقِف بها، وعَرفة كلُّها موقِفٌ إلا بطنَ عُرَنَة، فيكثِر فيها من التهليلِ والتسبيح والدعاء والاستغفار، ويتأكَّد الإكثار من التهليل لأنَّه كلمةُ التوحيد الخالِصَة، فقد قال : ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ، وهوَ على كل شيء قدير)).
فإذا غربتِ الشّمس أفاضَ الحاجّ من عَرفة إلى المزدلفة بسكينةٍ ووَقَار، فلا يزاحِم، ولا يؤذِي، ثم يصلِّي المغربَ والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان وإقامَتَين، ثمّ يبقى بها حتى طلوعِ الفجر، إلا الظّعن والضّعفة، فلهم أن ينصرِفوا منها بعدَ منتصف الليل.
فإذا صلّى الحاجّ الفجرَ بالمزدلفة وقَف عند المشعر الحرام، والمزدلفَة كلُّها موقف، فيدعُو الله طويلاً حتى يسفِر، ثم يسير إلى مِنى، فيرمي جمرةَ العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكّة، يرميها بسبعِ حصيَات صغيرات، يكبِّر مع كلّ حصاة، ثم ينحَر هديه إن كانَ متمتِّعا أو قارنا، ثم يحلِق ويحلّ من إحرامه، فيباح له كلُّ شيءٍ حَرُم عليه بسَبَب الإحرام إلا النساء، ويبقَى في حقِّ القارِن والمفرِد طوافُ الإفاضَة وسعيُ الحجّ إن لم يكن سَعَى مع طواف القدوم، وأمّا المتمتِّع فيبقَى عليه طوافٌ وسعي غير طوافِ العمرة وسعيها.
ثمّ بعد الطواف يحِلّ للحاج كلّ شيء حرُم عليه بسبَب الإحرام حتى النساء.
ولا يضرّ الحاجَّ ما قدَّم أو أخَّر من أفعال يومِ النحر؛ لأنَّ رسول الله ما سئِل عن شيءٍ قدِّم ولا أخِّر في ذلك اليومِ إلاّ قال: ((افعَل ولا حرج)) متفق عليه.
ثم يبيت الحاجّ بمنى أيّام التشريق وجوبًا لفعلِ النبيِّ ولِقوله: ((خذوا عني مناسككم)) متفق عليه، فيرمِي الجمراتِ في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالثَ عشَر إن لم يكن متعجِّلاً، كلّ جمرةٍ بسبع حصيَاتٍ، يبدأ بالجمرة الصّغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، ولا يكون الرميُ في هذه الأيّام إلاّ بعدَ الزّوال لفعلِه وأمره.
ومَن أراد أن يتعجَّل فليَرمِ بعدَ الزّوالِ مِن يوم الثاني عشر، ثم يخرُج من مِنى إلى مكة، ولا يضرُّه لو غَرَبت عليه الشّمسُ وهو لم يخرُج من منى، كما لا يضرُّه لو رمَى بعد مغربِ اليومِ الثاني عشَر وتعجَّل علَى الصحيحِ من أقوالِ أهل العلم، وهو الأولى بالإذنِ فيه من الإذنِ في الرميِ قبل الزوال؛ لورود النصّ في الرمي بعد الزوالِ وعَدَمِ ورودِ نصٍّ يجِب الرجوعُ إليه في النهيِ عن الرميِ بعد غروب الشمس من اليومِ الثاني عشر للمتعجِّل.
ثمّ يطوف بعدَ ذلك طوافَ الوَداع، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:200-202].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...