خطبة الجمعة تفسير سورة الماعون 8/شوال/1436

ماهر الفحل

New member
إنضم
25/10/2005
المشاركات
450
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بِسْمِ اللَّهِ الذي وضع الدين بين الأنام ليهديهم الى دار السلام الرَّحْمنِ عليهم بإنزال التكاليف والأحكام الرَّحِيمِ إليهم يوصلهم الى أعلى المكانة وأرفع المقام
الحمد لله الذي جمعنا على القرآن ، وألف بين قلوبنا بالقرآن وهدانا إلى رحمته بالقرآن ، والحمد لله الذي أكرمنا بنزول القرآن وشرّفنا بالقرآن وجعلنا أهلاً لتحمل كلامه وتلقي خطابه.
والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الذي ربّاه وزكاه ربُّه بالقرآن ، قال تعالى : (( وإنك لعلي خلق عظيم )) وربى أصحابه بمجالس الذكر والقرآن ففتح الله به قلوباً غُلفاً وأعيناً عُمّياً وآذاناً صُمّاً وسلم تسليماً كثيراً ما ترددت على الألسن آيات الرحمن وتليت في المحاريب هدايات الفرقان .
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم .
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
وارض اللهم عن الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
عبادَ الله اتقوا الله حقَّ التقوى ؛ فإنَّ أجسادنا على النار لا تقوى ، والزموا القرآن فهو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان يحُيها حياةً أبديةً سرمديةً ، وعليكم بالعلم النافع فإنَّه ذخيرةُ القبر ونور القلب ، وافعلوا الخير فإنَّ منْ يفعل الخير لا يعدم جوائزه ، وعليكم بكثرة العبادة فإنَّها دليلُ صدق التوجه إلى الله ، وعليكم بالهمة فإنَّها طريق القمة .
أما بعد :
موعدنا اليوم مع سورة الماعون تلكم السورة المكية المباركة وهي سبع آيات ، في خمس وعشرين كلمة ، ومائة وثلاثة وعشرون حرفاً .
وهي سورة عامة لم تنزل في شأن أحد بعينه ، وإنَّما نزلت فيمن كان هذا حاله ؛ ليجتنب المرءُ السوءَ وأهلَه .
ووجه مناسبتها لما قبلها :
أولاً : أنَّه لما قال فى الإيلاف : «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» ذم فى هذه من لم يحضّ على طعام المسكين .
ثانياً : أنًّه قال فى السورة السابقة: « َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» وفي سورة الماعون ذمَّ منْ سها عن صلاته .
ثالثاً : أنَّه في سور الإيلاف عدّد نعمه على قريش ، وهم حينذاك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وفي سورة الماعون أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.
قال تعالى لنبيِّه ، ولكل مؤهل لهذا الخطاب ذامًا لمنْ ترك حقوقه وحقوق عباده : ((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين )) .
هذا توقيفٌ وتنبيهٌ لتتذكر نفس السامع كلَّ من يعرفه بهذه الصفة ؛ فيحذر السيئين وصفاتِهم ويجتنب المخالفين وآفاتهم .
وهذا استفهام على سبيل التعجيب ؛ فربُنا يريد إثارة العجب والدهشة منْ إنسان يتصف بصفات مذكورة في هذه السورة ، بمعنى : اعجب من هذا الإنسان الذي يعيش بين أظهر الناس ، وتعجبْ مِنْ بعض تصرفاته .
وهذا الرؤية : ((أرأيت )) تشمل الرؤية البصرية ؛ لأنَّهم أناسٌ يشاهدون ويرون ، وتشمل الرؤية العلمية ، أي : لتعلم حقيقة هؤلاء . وعلى الثاني يكون التقدير : أرأيتَ الذي يكذّب بالدين بعد ما ظهر له من البراهين أليس مستحقاً عذابَ الله .
ثم إنَّ هذا الاستفهام استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلام والتعجيبُ منْهُ .
((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)) أي بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ولا يجتنب نهيه

((الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)) والدين هنا هو الإسلام ، قال تعالى : ((إنَّ الدين عند الله الإسلام)) .
والدين يطلق ويراد به : الخضوع لما أخبر الله به منَ الشؤون الإلهية ، والتي يجد آثارها فى الكون باعثةً على الإذعان والتصديق ، كوجود الله ووحدانيته ، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين ، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربِّهم للجزاء .
ويراد به الجزاء والحساب والبعث والمعاد والثواب ، ويراد بالدين الدينونة ، قال البخاري في صحيحه : ((والدين الجزاء في الخير والشر كما تدين تدان)) أي كما تفعل تجازى . وقد جاء كثيراً في كتاب الله اطلاق الدين على الجزاء والحساب والقصاص قال تعالى : ((كلا بل تكذبون بالدين )) ثم قال تعالى بعدها : ((وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين )) .
وابتداء السورة بقوله : ((أرأيت الذي يكذب بالدين)) فيه إشارة إلى أثر العقيدة والإيمان في القلوب وأنَّ الإيمان باليوم الآخر ركنٌ عظيم ٌكما قال تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} و "الآخرة "اسم لما يكون بعد الموت ، وخصّه بالذكر بعد العموم ؛ لأنَّ الإيمان باليوم الآخر، أحدُ أركان الإيمان ؛ ولأنَّه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل .
لذا كان التكذيب بالجزاء أضرَّ شيءٍ على صاحبه ؛ لأنَّه يعدم به أكثر الدواعي إلى الخير، والصوارف عن الشر ؛ لأنَّه لا يخاف عائد الضُّر ، ولا يرجو الجزاء على الخير .
وفي المقابل قال تعالى عن أصفيائه : ((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)) .
ومعلوم أنَّ الإيمان بالبعث والنشور والحشر والجزاء والحساب والقصاص يحمل الإنسان على مراعاة حقِ الحقِ وحق الخلق ؛ ولذلك قرن التكذيب بيوم الدين بدع اليتيم وترك الحضِّ على طعام المسكين .
لذا فإنَّ صمّام الأمان لحفظ حقوق الناس وعدم ظلمهم والإحسان إليهم هو ترسيخ المراقبة لله في النفوس والإيمان بالله والدار الآخرة . ولذلك فإنَّك تجد الإنسان يتعب بتحصيل المال وهو يحب المال لكنَّه ينفقه في حقوقه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة . فالإيمانُ في القلب وهو يدفع إلى العمل ؛ فيكون العمل دليلاً على صدق الإيمان والتكذيب في القلب والسورة تكشف عن العلامات الظاهرة في الأحوال والأخلاق التي تطبع على المكذبين .
وقوله تعالى : (( فذلك الذي يدع اليتم )) جاءت الفاء واقعة في جواب شرط محذوف ، وكأنَّ التقدير : إنْ كنتَ تريد أنْ تعرفه فهو (( الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين )) وموضوع السورة ليس على التكذيب بيوم الدين ، بل على أخلاق اجتماعية مذمومة ، وهي أخلاق لا تصدر عن حامل المعتقد الصحيح .
ودع اليتيم : دفعه بعنف وجفوة وأذى فهو يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً ويرده رداً قبيحاً بزجر وخشونة ولا يرحمه لقساوة قلبه ، ولأنَّه لا يرجو ثوابًا ، ولا يخشى عقابًا .
والفعل يدع يدل على الاستمرار حتى صار طبعاً يعرف به الفاعل والمعنى يدفعه دفعاً شديداً بمعنى أنَّه يدفع اليتيم بالضرب ولا يرفق به ولا يراعي إحساسه ويتمه ، وكذلك هو يدفعه عن حقه الذي له ؛ لأنَّه يستضعفه فلا والد يدافع عنه فعَنْ مُجَاهِدٍ : {الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} يَقُولُ : «يَدْفَعُ الْيَتِيمَ ، عَنْ حَقِّهِ وَيَظْلِمُهُ»
أيها الأخوة : إنَّ الْمُؤْمِنَ يَخَافُ مِنَ اللَّهِ يَوْمًا عَبُوسًا قمطريراً ، وَعَبَّرَ بِالْعَبُوسِ فِي حَقِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لِئَلَّا يَعْبَسَ هُوَ فِي وَجْهِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ لِضَعْفِهِمَا.

وقوله تعالى : (( ولا يحض على طعام المسكين )) .
أي : لا يأمر بصدقة ولا يرى ذلك صواباً . ويحضُّ فعلٌ مضارعٌ يدلُ على الاستمرار والتكرار وهنا هي صفة ترك . والترك من أنواع الفعل كما قررناه في (شرح صحيح البخاري) ، وأمرُ اليتيم قد تكرر في كتاب الله لأهمية العناية به ، قال تعالى : (( كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضُّون على طعام المسكين )) أي : لا يحضُّ بعضُكم بعضاً ، ولا يحضُّ أحدُكم نفسه ولا غيره . والذي لا يحضُّ على طعام المسكين لا يطعمه من باب أولى .
والحضُّ : التحريض كالحث إلا أنَّ الحث بيسرٍ وأناة ، والحضُّ أشدُّ لما في حرف الضاد من الشدة ، فالْحَضُّ إذن : الْحَثُّ ، وَهُوَ أَنْ تَطْلُبَ غَيْرَكَ فِعْلًا بِتَأْكِيدٍ .
وهذا المعنى جاء هنا وفي سورة الفجر ((وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)) وفي سورة الحاقة: ((وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)) .وما هذا إلا لأهمية العمل وقبح تركه .
ثم اعلم أنَّ رحمةَ الضُّعفاء علامةٌ على الخير، ولذلك كان من دعاء عباد الله الصالحين «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين» بخلاف غيرهم كانت القسوة عليهم علامة على الشر ، وكان من بخل باللين في قاله أشد بخلاً بالبذل من ماله .
وفي الآيتين معنىً لطيف أنَّ منْ لم يتمكن منْ رعاية اليتيم فليحضَّ غيره ؛ فالدالُ على الخير كفاعله = فمنْ لم يكن واجداً فليدلْ غيره على هذا الباب العظيم من الخير . ومنْ لم يكن واجداً الطعام حثَّ منْ كانَ واجداً ؛ والقبيح أنَّ اللئيم لا يُطعم ولا يأمر من يُطعم .
لَا خَيْلَ عِنْدكَ تُهْدِيها وَلاَ مالُ ... فَلتُسْعِدِ النُّطْقُ إن لم تُسْعِدِ الحال
واليتيم هو من كان دون البلوغ فقد أباه ، وقد جاء الترغيب ببره وجاء الوعيد الشديد على زجره وتعنيفه وقهره وبسبب يتمه يتجرأ عليه ضِعاف الإيمان ويؤذونَهُ ولا يبالون به ؛ لأنَّه ليس له والد يدافع عنه . والمسكين هو المحتاج الذي لا يجد ما يكفي نفقته ونفقة من يعول وكثيراً ما يكون اليتيم مسكيناً .
وَفِي تأمل السياق والسباق في تقديم ذكر الصفتين بقوله تعالى : (( أرأيت الذي يكذب بالدين )) كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ.
وهذه الآيات وصفت هذه المجموعة من الناس بصفات فوصفتهم بـ
(التكذيب) وهو أمر اعتقادي .
ثُمَّ بـ (دع) اليتيم وهو أمرٌّ فعلي .
ثُمَّ بأمر (تركي) ، وهو أنَّهم لا يحضُّون على طعام المسكين .
وهذا مثالٌ آخر لكون الإنسان في خُسْر كما مرَّ في سورة العصر. فالإنسانُ في خُسر لما يُضيّعُ وقته الذي هو رأسُ ماله ، وفي خسر لما يعبُّ منَ الذنوب والخطايا تركاً وفعلاً.
هذا الذي يكذب بالقيامة والجزاء ، هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديداً ، ويزجره زجراً عنيفاً ، ويظلمه حقه ، ولا يحسن إليه ، علماً بأنَّ عرب الجاهلية كانوا لا يورّثون النساء والصبيان.
عدم المبالاة باليتيم والمسكين مِنْ دَلاَئلِ التكذيبِ بالدِّينِ وموجباتِ الذمِّ والتوبيخ .
وقوله تعالى : ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ))
الويل: الدعاء بالهلاك والعذاب الشديد.
فربنا لما ذكر الله في أول السورة تقصير أولئك في حق المخلوقين من الأيتام والفقراء والمساكين انتقل الكلام إلى تقصيرهم في حق الخالق ، وهو أنَّهم يضيعون الصلاة وإذا صلوها لم يؤدوا حقها منَ الخشوع والإخلاص ، ولما فسد باطنُهم وظاهرهم فهم يمنعون الخير .
وقوله : ((الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)) فالسهو الغفلة والنسيان ، وجاءت الآية (عن صلاتهم) وليس (في صلاتهم) إذ إنَّ السهو في الصلاة هو ما يقع من شرودٍ ذهنيٍّ أمَّا السهو عن الصلاة فهو تضييعها أو تأخيرها عن وقتها .
فالْوَيْلَ لِلْمُصَلِّي السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ لَا لِلْمُصَلِّي عَلَى الْإِطْلَاقِ.
{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ البصري : هُوَ الْمُنَافِقُ ، إِنْ صَلَّاهَا لِوَقْتِهَا لَمْ يَرْجُ ثَوَابَهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخْشَ عِقَابَهَا .
وَ تأمل أخي سياق الآيات فربنا لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا عَمُودَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالدِّينِ، ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ ، وَهُوَ عِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ ، فَقَالَ : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ فتوعد أولئك المقصرين بالصلاة .
قوله : {فَوَيْلٌ} مبتدأ، ومعناه : عذابٌ لهم ، وقوله : {لِّلْمُصَلِّينَ} خبر والفاء للسبب، أي: تسبب عن هذه الصفات الذَّميمة الدعاء عليهم بالويل.
قال ابن جرير : أي لاهون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها.
ولذلك احذر أنْ تكون أشرفُ أفعالِك وصور حسناتك سيئاتٍ وذنوباً ، لعدم ما هي به معتبرةٌ من الحضور والإخلاص . ثم اعلم أنَّ السهو عن الصلاة منْ سمة التكذيب .
وقوله تعالى : ((الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون)) يراؤون بالصلاة وغيرها ، والرياء هو أنْ يقصد بالعمل غير وجه الله ، وضابط العمل لوجه الله أنْ يعمله المرءُ غيرَ مبالٍّ بأحد إلا الله والمسلم لا يترك العمل الصالح حياءً ولا يفعله رياءً .
والصلاةُ أيها الأخوة سِيَاجٌ لِلْإِنْسَانِ يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ وحجابٌ عن كل موبِقة وَهِيَ عَوْنٌ عَلَى كُلِّ شَدِيدَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)) فَجَعَلَهَا قَرِينَةَ الصَّبْرِ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى الصِّعَابِ ثُمَّ خصها بالضمير ؛ لأنَّها أرفعُ من الصبر لأنَّها تجمع ضروباً من الصبر ؛ إذ هي حبس الحواس على العبادة وحبس الخواطر والأفكار على الطاعة ؛ ولهذا قال : (( وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين ))، وَ الصلاة أيُّها الأخوة هِيَ فِي الْآخِرَةِ نُورٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ))، مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» .
والصلاة فى حقيقتها نورٌ يُضىء ظلام القلوب، ويجلّى غشاوة النفوس، لأنَّها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه، وتقرّبه منه ، وتعرضه لنفحات الرحمة ، فتشيع فى كيانه الحب والحنان ، حيث يضفيهما على عباد الله ، وخاصة الضعفاء والفقراء ، الذين وصّى الله سبحانه وتعالى بهم الأقوياء والأغنياء، واسترعاهم إياهم.
والصلاة لا تثمر هذا الثمر الطيب ، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم ، إلا إذا كانت خالصة لله، يشهد فيها المصلّى جلالَ خالقه ، وعظمة ربه .
واحذروا الرياء فكثيرٌ منَ المفرطين يقع في الرياء من حيث لا يشعر فهو ربما صلى مع الجماعة وإذا كان لوحده فرّط وقصّر بها فعن الْحَسَنِ البصري ، قَالَ : «هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّى صَلَّى رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ» وربما صلى في المسجد لأجل فلان فإذا غاب فلان لم يبال في الذهاب إلى المسجد .
والرِّيَاءُ : مِنَ الرُّؤْيَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ جَاءَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تَسْمِيَتُهُ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ : «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ ، قَالُوا : وَمَا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الرِّيَاءُ ، فَإِنَّهُ أَخْفَى فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» .
وَبَيَانُ الشِّرْكِ فِيهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِمَّا هُوَ أَصْلًا لِلَّهِ ، كَالصَّلَاةِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُهُ لِقَصْدِ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ.
فَكَأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْهُ مُشَارَكَةٌ مَعَ اللَّهِ ، حَيْثُ أَصْبَحَ مِنْ عَمَلِهِ جُزْءٌ لِطَلَبِ الثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» .
لذا فإنَّ المنافقين غافلون عن مراعاة أوقات الصلاة ومراعاة حقوقها لغياب الإخلاص .
فعلى المصلي أنْ يستقبل ربَّه بقلبه وقالبه ويقصد وجه الله حسب ، وليس كلُّ من كان في صورة المطيعين واقفاً مع العابدين ، كان مطيعاً مقبولَ العمل ، لا بل منْ لم يكن مخلصاً رُدَّ عليه عملُهُ ، ومنْ كان مرائياً حوسب على ريائه ، فحاسب نفسك أنْ تكون واقفاً ببدنك وقلبك في الدنيا . واعلم أنَّه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها ، وصلِ خوفاً من عقاب الله راجياً ثواب الله .
وليعلم أنَّ الخشوع من واجبات الصلاة وعدمه يفضي الى التهاون بها فينبغي للمصلي أنْ يجتهد لإحضار قلبه فيها ، ويخطر بنفسه أنَّه واقفٌ بين يدي الله عز وجل فجديرٌ به أنْ يكون خاضعاً خاشعاً لله حاصراً فكره فيما يقرأه فيها من كلام الله ليؤديها بوجه كامل .
فعلى العاقل أنْ يعلم حين صلاته أنَّه واقفٌ بين يدي الله ، وليجتهد بإفراغ قلبه عما سوى الله ، فيلازم الخشوع والخضوع والخوف ، ويتذكر وقوفه في موقف القيامة لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وليعلم أنَّ الله لا يقبل عملاً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ .

وقوله تعالى : (( ويمنعون الماعون )) .
وصفهم ربنا بقلة النفع لعباد الله ، وتلك شرُّ خُلة فهذا وصفٌ لهم بالبخل وقلةِ المنفعة للناس.
والماعون هو الماعون المنتفع به للطعام ويدخل فيه ما هو نحوه مما يحتاجه الناس مثل الفأس والقدر والدلو والإبرة والغربال ، وكل ما يحتاجه الناس إذا تعارفوا على إعارته واستعارته وتعاطوه فيما بينهم ؛ ولذا كان منْ الفَضْل أنْ يستكثر الإنسان من الفضل في بيته ودكانه مما يحتاجه الجيران كما يفعله بعض الطلبة في الامتحانات فيأخذ الممحاة والمبراة وقلم الرصاص والحبر لينفع إخوانه ومن حوله .
والْماعُونَ ، أي : ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به . وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ: الْمَعْرُوفُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ".
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ ، وَأَدْنَاهَا عَارِيَةُ الْمَتَاعِ.
فأحسن كما أحسن الله إليك ولا تمنع ما فيه منفعة لعباد الله واعلم أنَّ القربات يدفع الله بها الكربات .
وفي هذه السورة الحث على إكرام اليتيم ، والمساكين ، والتحضيض على ذلك، ومراعاة الصلاة ، والمحافظة عليها ، وعلى الإخلاص فيها وفي جميع الأعمال.
والحث على فعل المعروف و بذل الأموال الخفيفة ، كعارية الإناء والدلو والكتاب، ونحو ذلك، لأنَّ الله ذم من لم يفعل ذلك .
 
عودة
أعلى