خطاب العزة ، وعزة الخطاب.

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
716
مستوى التفاعل
35
النقاط
28
خطاب العزة ، وعزة الخطاب.

نقصد ب (عزة الخطاب) استعمال الشدة في المخاطبة من قبيل السب والتهديد وإرهاب المخاطب بالكلمات ذات الجرس القوي والنبر الشديد..

وغالبا ما تصدر عزة الخطاب عن المرء غير العزيز عزة حقيقية ، فكأنه يحاول الاستنجاد بقوة الكلمة لإخفاء ضعفه، والتوسل باللغة لإرهاب المخاطب . فهو يدرك أن حجم ما يتوفر عليه من القوة الفعلية غير كاف لغلبة الخصم.

أما (خطاب العزة) فهو يصدر عن ذي العزة الحقيقية...وتجده في الغالب خفيفا هادئا لا يرغي فيه المتكلم ولا يزبد...فهو واثق تمام الثقة أن ما عنده من قوة كفيلة بهزم الخصم المخاطب فلا يحتاج إلى التخويف باللغة أوالالتجاء إلى الحرب النفسية...

ولمزيد بيان نمثل للخطابين وقد اجتمعا في نص واحد من السنة الشريفة:

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أنَّ اليَهُودَ أتَوُا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وعلَيْكُم، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ وغَضِبَ علَيْكُم، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ، قَالَتْ: أوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟! قَالَ: أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قُلتُ؟ رَدَدْتُ عليهم، فيُسْتَجَابُ لي فيهم، ولَا يُسْتَجَابُ لهمْ فِيَّ... رواية للبخاري.

أم المؤمنين - عندما أدركت مكر اليهود وخبثهم في النطق بالتحية – غضبت وحق لها ذلك ، وعنفتهم في الكلام فكان منها "عزة الخطاب" :(السَّامُ علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ وغَضِبَ علَيْكُم..)

أما الرسول صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فلم تكن منه إلا كلمة واحدة، مع أنه كان واعيا كل الوعي بالمكر والخبث والكفر المتضمن في تحيتهم له . قالَ: (وعلَيْكُم )

هي كلمة واحدة رد بها على كلمتين ..فجاء خطابه - كميا – نصف خطابهم وجاء - كيفيا – هادئا خاليا من أي عنف ...هذا هو "خطاب العزة "

ومصدر عزة النبي أنه يأوي إلى ركن شديد:( يُسْتَجَابُ لي فيهم، ولَا يُسْتَجَابُ لهمْ فِيَّ)... فلم الانفعال والغضب!!

ولسائل أن يسأل : لم توجه النبي بالنصيحة والعتاب إلى الصديقة بنت الصديق وسكت عن يهود مع أن ما صدر عنها لا يقارن بما صدرعنهم من خبث وكفر واستهزاء...

الجواب : إن هذا من حكمة الدعوة، لقد وجه النصح لمؤمنة - والمؤمن أرض طيبة تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير- أما اليهود فأرض صلدة وقيعان لا ينفع فيهم نصح ولا لوم فقد جاءتهم الرسل تترى بالنصيحة والموعظة فأجابوهم بالسخرية والقتل...فلم يعط النبي الأولوية لحجم الذنب وإنما أعطى الأولوية لجدوى الدعوة!

عَنْ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: (إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ....) متفقٌ عَلَيهِ.

فاجتمع في حديث عائشة خطاب العزة وحكمة الدعوة!

وتجد في التنزيل خطاب العزة في مواضع كثيرة نذكر منها موضعين :

1- خطاب اليهود

قال الشيخ عبد الله دراز:

(وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبِّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا "ظلم" وفي الثانية: "بئسما" صنعتم. أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم، إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فُهمتا على وجههما، ولكن أين الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟

لله ما أعفَّ هذه الخصومة، وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر).

قلت:

التعليق على تعداد مخازي يهود بمثل قوله تعالى " بِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" أو" سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" من تجليات خطاب العزة ... فإنما ينفعل ويصرخ من يرى عدوه ينفلت منه، أو قد لا يصل إليه، أما رب العالمين فمحيط بهم وهم محضرون عنده متى شاء فلا حاجة إلى الإقذاع والتشنيع.

2- خطاب إبليس:

طلب إبليس من ربه أن يرجئه إلى يوم القيامة:

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 62]

ليس مقصود اللعين إثبات دعوى ضعف آدم وذريته ، وإنما القصد الأول هو إثبات "خطإ" الله في تفضيل آدم عليه...فكأنه يقول لربه: لقد أخطأت في تكريم آدم على ولو تركت لي فرصة لأثبت لك بالدليل خطأك...

وقاحة وأي وقاحة !!....كيف رد عليها العزيز الحكيم؟ لم يأمربإلقائه فورا في السعير....بل جاء خطاب العزة هكذا:

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحجر : 37]

لا يقول هذا إلا القوي العزيز!!
 
عودة
أعلى