وصلتني على بريدي مقالة ممتازة لصديقي الأخ العزيز ماجد البلوشي وفقه الله ، تصبُّ فيما نحن بسبيله من الدعوة المستمرة إلى العودة إلى أدب العربية الصافية، ونبعها العذب الرقراق في مظانه في شعر العرب المبدعين من الأولين والآخرين . فأحببت أن أطرفكم بها في ختام هذه الجولة الأدبية، رغبة في أن نقلب صفحة هذه التأملات لصورة أخرى . وإليكم المقالة استمتعوا بها ، ولأخي أبي عبدالرحمن مني كل ثناء وتقدير على إتحافنا بهذه القطعة . وأخي ماجد البلوشي عضو معنا في ملتقى أهل التفسير .
أنديتنا الأدبية وقلة الأدب!
بقلم/ ماجد بن عبدالرحمن البلوشي
بين يديَّ مقالةُ سوء لكاتب زعم أنه عضو في نادٍ أدبي بإحدى المناطق الكبرى، لم أعقلْ منها إلا حروفاً عربيّة صفّها في صحيفة وقدّمها للنشر، فإذا هي غاية في الانحطاط في أسلوبها ومضمونها وضعف تراكيبها وكثرة اللحن فيها، ولست أدري هل قرأ هذا الكاتب قواعد النحو؟ أو ألمَّ بشيء من علوم البيان؟
وليته إذ كتب ما كتب أخفى سوءته فلم يبح بعضويته في ذلك النادي الأدبي، وعضويّة الأندية الأدبيّة في هذا الزمان العجيب مهنة لا يضرُّ الجهل فيها ولا ينفعُ العلم معها، إذ صارت ملاذاً لكل لاهث وراء الظهور والشهرة إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
ولا يهولنك ضخامة هذا الاسم "الأندية الأدبية" ولا وقع رنينه أو سحر بريقه! فهم شرذمة قليلون، وقاعات مهجورة، وبئر معطلة! والمعيدي - في السماع به دون رؤيته - خيرٌ من الأندية الأدبية فلا سماع ولا رؤية، فلا سيرتها بالحسنة ولا من عرفها حق المعرفة أثنى عليها، وأعضاؤها كضفدع الطين الإسبانيِّ المهدد بالانقراض ينقصون ولا يزيدون، وقد حق عليهم المثل الشعبي العامي: قال صفّوا صفين قالوا حنا اثنين!
أولم يأتِ هؤلاء أنباء ما في الصحف الأدبية الأولى؟
ألم يأن لأعضاء هذه الأندية الأدبية أن يقبلوا على التأدب والتثقف والاطلاع قبل الإنتاج والكتابة؟
أولا يرون أنهم يكتبون ما يسيء الكرام الكاتبين وتسوّد به الصحائف يوم الدّين؟
لقد أنعم الله علي – وما أنا بأديبٍ أو لغوي - إذ هيّأ لي أن أنظر في جميع ما كتبه الأديب المُلهم أحمد بن حسن الزيات، وما خطّه يراع الشيخ المتفنّن علي الطنطاوي، وما أفاء الله به على عبده العلامة الأديب مصطفى صادق الرافعي ففتح له آفاقاً ممتدة لصنعة النثر ذات العمق في المعنى والتحليل الفكري بعد أن تضاءلت هيبة النثر الفنّي بإبقائه رهيناً لقوة اللفظ وجزالته كما كان الحال عليه في منثور شيخ الأدب وفاتح مغاليقه مصطفى المنفلوطي، ثم أتممت النعمة بأن غمرت نفسي في معين الأدباء الكبار كمحمود بن محمد شاكر، ومحمود بن محمد الطناحي، والشهيد السعيد سيّد قطب، ومن قبلهم إبراهيم المازني، وزكي مبارك سقى الله أجداثهم جميعاً بغوادي الرحمة.
فأتيت على جميع كتبهم ومقالاتهم بالنظر والقراءة والتأمل فأحدث ذلك في الروح أُنساً عظيماً، وغشيني من الطرب النفسي ما غشيني، ولم أقنع بذلك فولّيتُ همّتي شطر آخرين من أمثال عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم فقرأت طرفاً صالحاً من مقالاتهم وكتبهم ورواياتهم، وتضلّعت من أساليبهم محاكياً لها أحايين كثيرة ومنفرداً عنها حيناً.
ولم أكن حبيس عصري وقعيد دهري، فجررت أذيالي وعدت القهقرى إلى زمان كان فيه الأدب غض الإهاب، ناعم العود، رقيق الحاشية، مهيب الجاه، وأقبلت إقبال الظامئ ينهل من منهل عذب مورود فقرأت للجاحظ ما وجدت من كتبه، ونظرت في أدب أديب أهل السنة وفخرهم الإمام ابن قتيبة، وبلغتُ غاية المتعة واللذة بالقراءة لمن لم يكتب بالعربية في عصور التأليف أحد مثله ألا وهو أبو حيان التوحيدي، فما سكنني من كلّ أولئك أحد مثل أحمد بن حسن الزيات، ولا تهمّمّت نثراً أدبيّاً لأحد كنثر أبي حيان التوحيدي.
لقد حوت كتابات هذه الثلة الميمونة من طليعة الأدب وساقته سمات الفصاحة البالغة والجزالة الواضحة، فإن قرأت لهم وعكفت على أدبهم فإنك مستحضر لا محالة ذلك الوصف البالغ في الدقة للأدب والطرب به والأنس له والذي عبّر عنه الإمام الشافعي وقد قيل له: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أنَّ لها أسماعاً تتنعّم به مثل ما تنعّمت الأذنان.
وما قرأتُه لم أكن فيه بدعاً من جيلي وأترابي من المتيّمين بالأدب والعاكفين عليه، بل قرؤوا كما قرأت، ونظروا كما نظرت، واستمتعوا بما استمتعت به، فمنهم من فتح الله عليه في الكتابة حتى صار علماً يهتدي الناس بأدبه ويقتدون طريقته، ومنهم من وقفت به عزيمته وانصرفت نفسه إلى أنحاء شتى من المعارف والعلوم.
وأيّاً ما كان حالهم، فإن كل أولئك بقوا أوفياء للأدب يخضعون لأساليب أئمته ويستكينون لهم وبهم يهتدون، فلا تجد أحداً منهم يأتي بالثناء على اللغة الهزيلة والتراكيب السقيمة التي عمّت الكتابة هذه الأيام وغشيت المحافل وصارت علماً على فساد لغة التأليف الأدبي إلا قليلاً، ومن آيات وفائهم الصادق أنهم - كما عهدتهم – ما انفكوا يقرؤون لأولئك الأدباء بتشوف بالغ ونشوة عظيمة وسكينة غامرة.
فهل بقي الأدب على عزته ومنعته وصيانته؟
هانحن ذا نلقف ما تأفك المطابع صبحاً ومساءً بأنه أدب من تلك الأسفار الوضيعة التي نتجرّعها ولا نكاد نسيغها، فينشرون لكل من هب ودب ودرج باسم القصة والرواية والنثر والنقد وشيء من الشعر ما تعافه سليقة العربي القح، وما ينبو في أسلوبه وطريقته نبوّاً يبلغ الغاية في البعد عن سنن أئمة هذا الشأن وواضعي قواعده.
ثم إنَّ كل هذا الهراء يروّج له في تلك الأندية الأدبية، وتُستفتح بذكره أعمدة الكتاب من الصحفيين، وتلهج بالثناء عليه والدعاء لقراءته ألسنة الإعلاميين، ولم يبق كاسد أو وضيع أو منحرف إلا وباءَ بإثم مسوّدات سمّاها – ظلماً وزوراً - "رواية" هتك بها ستره ودل الناس على عورته وكشف خبيئة حاله وجاهر فيها بمعصيته، فأفسد بها من سمو الذائقة ونبل الأخلاق ما شاء أن يفسد، فظن الناس أن غاية الأدب هي هذه، وهم يرون من السادات والكُبراء وبعضاً من الدكاترة ورؤساء المنتديات الأدبية من يضلّونهم السبيل ويحشدون طاقاتهم للتعريف بالمتردية والنطيحة من واضعي هذه المسوّدات المزوّرة.
فانظروا كيف تحوّل الأدب الوقور المهيب إلى "قلة أدب"!
"قلّة أدب" في ركاكة أسلوبه وسُقم تراكيبه وبعده عن طرائق أهله الأصيلة وقرائح مبدعيه.
و"قلة أدب" في فشوِّ الفضيحة فيه، وامتلائه قبحاً ونتناً، وخروجه عن حدِّ الفضيلة وروح العفّة.
فأين في جيل اليوم من يأتي على "حيوان" الجاحظ "وبيانه وتبيّنه" قراءة وأُنساً؟ وأين من يلتهم قرائين البلاغة من أسفار أبي حيان التوحيدي؟ وأين أولئك الذين يعبّون من مورد "الكامل" للمبرّد؟ أو "رسالة الغفران" للمعرّي؟ أو معجم ياقوت للأدباء؟ أو "أساس البلاغة" للزمخشري؟ أو "العقد الفريد" لابن عبدربه؟ وأين منهم من يكون حلس "الأغاني" للأصفهاني؟ وأين أولئك المتسامرون على "مقامات" بديع الزمان وصنوه الحريري؟
قال أبو حيّان التوحيدي في الليلة السابعة عشرة من مجالس كتابه النادر "الإمتاع والمؤانسة" ناعياً على أهل زمانه من أهل الأدب والعلم والفضل حالهم: "فلما عدتُ إلى المجلس قال: ما تحفظ في تِفعال وتَفعال، فقد اشتبها؟ وفزعتُ إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع، وهذا دليل على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه".
وقال السيوطي في كتابه "المزهر في علوم اللغة": "ولما شرعت في إملاء الحديث سنة 872 وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة من سنة مات الحافظ أبو الفضل ابن حجر، أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلساً واحداً فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه، فتركته".
فهذا حال أولئك في زمان كان الأدب فيه قريحة تسكن كِرام الرجال، وفخراً ينشده سادة الناس، وزينة يتحلّى بها كبراء الخلق، فكيف بحال أهل هذا الوقت ممن أصبح قصارى اطلاعهم وقراءتهم أن ينظروا في الصحف والمجلات والمنتديات الإلكترونيّة بما تحويه من اللغة المشوّهة والأساليب المستقبحة؟
ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون من أولئك القائلين: الأدب مجرّد متعة لفظية، وزخرف من القول، وليس وراءه فكر أو تحريك للعقل، وأن الدوران في فلكه أدى إلى تقهقر العرب وتخلّفهم!
فما يرغب عن هذا الأدب إلا من سفِه نفسه وبغى واعتدى وظلم واجتوى تراثاً عظيماً وأزرى به! وحسبُك في الرد عليهم ما نُقل عن أبي القاسم السيرافيِّ أنه حضر مجلس أبي الفضل ابن العميد فقصر رجل بالجاحظ وحطَّ عليه وحلم ابن العميد عنه، فلما خرج قال له السيرافيِّ: سكتّ أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله الذي قال مع عادتك بالرد على أمثاله! فقال ابن العميد: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظرَ في كتبه وصار إنساناً، يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً.
والقصّة منثورة في كتب التراجم والطبقات.
أما والله إنه لحق واجب على كل غيور محب لأدب أمّته أن يُحيى طريقة أولئك الأدباء العظام، ويقتفي أثر أساليبهم، فلا يشذ عنهم أو ينتحي جانباً، بل يعيدها جذعة كما كانت، فهذه مفاخرنا، وما بقي كتاب الله خالداً خلود الدهر إلا بما فيه من إعجاز الفصاحة وإحكام البيان، ولئن طرب شداة الغرب بأعلامها من العازفين والنحّاتين والرسّامين والقاصّين وهاموا بذكرهم وسكروا بحبهم، فإنا نرفع رؤوسنا ونُعلي هاماتنا – فخراً وشموخاً - بكل كاتب أقام صلب اللغة ونصب راية الأدب مقتفياً أثر سلفه العظام من أدباء العربيّة في مر العصور.
قال الطناحي: "لقد كنا في طفولتنا وصدر شبابنا نحفظ الشعر الجاهلي ومتون العلم في الصباح، ونلعب الكرة الشراب عند العصر، فجرتْ اللغة في عروقنا واختلطت بلحمنا وعظمنا.. وهكذا الشأن عند سائر الأمم فتلاميذ المدارس الإنجليزية يقرؤون "شكسبير" ويعرفونه جيّداً، وتلاميذ المدارس الألمانيّة يقرؤون "جوته" ويعرفونه جيّداً، مع الاحترام الزائد والتوقير الشديد".
وكم من حسنة عظيمة لأولئك العلماء الذين كتبوا في العلوم المتعددة بأساليب متقنة ولغة سامية، فجمع الله لهم فخر التأصيل في العلم وشرف الكتابة بالأسلوب البديع، فانظر – بخضوع بالغ وانكسار تام - كيف كان يكتب الإمام الشافعي، وإمام المفسرين وشيخ المؤرخين الطبري، وفخر العربيّة وأحد عجائب الزمان نحواً وصرفاً وتحليلاً ابن جنّي في "الخصائص"، وحجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين"، وعلَم الأعلام ابن القيّم في عامّة ما كتبه، وكيف أبدع ابن خلدون في مقدمته، ثم اختم ذلك كلّه بالوقوف على أسلوب آسر وبلاغة مبهرة تأخذ بمجامع القلوب وتزلزل الجوانح في الفصاحة والبيان للقاضي الجرجاني في كتابه النقدي "الوساطة بين المتنبي وخصومه".
ثم انظر في أهل هذا العصر لترى أنهم سلكوا سَنن أولئك حذوَ القذّة بالقذّة وامتطوا صهوة البيان في تصانيف شتّى، ونحن أشد بهم أنساً وأقرب إليهم عهداً، فاقرأ كيف كان يكتب الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي، وفخر الزمان ونادرة العصر الطاهر ابن عاشور، والإمام المجاهد شيخ الإسلام مصطفى صبري، وكيف كانت بلاغة طه حسين – على عمى بصره وبصيرته - في تآليفه المتعددة وعلى رأسها "الأيام"، واجعل للشيخ الأديب محمود بن محمد شاكر ولحواريّه والقائم بحقّه وسميّه محمود بن محمد الطناحي من قراءتك ونظرك نصيباً مفروضاً، وعرّج بالنظر في أدب المتفرّد بأسلوبه والمتفنّن في طريقته مارون عبّود، ولا تنس أن تنيخ ركابك في ساحة الآية العجيبة في علمه وأسلوبه، العجمي في نسبه، العربي في لسانه وفصاحته وبيانه عبدالعزيز الميمني، ومسك الختام أن تقرأ لريحانة القلب وقرّة العين الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد ذي الأسلوب الفريد والنظام العجيب، لتعلم كيف كان يكتب هؤلاء العلمَ ومباحثه بأساليب الفصحاء وطرائق الأدباء.