خزانة الأدب : تأملات خاصة في ظلال أدب العربية (3) شوقٌ وحنينٌ

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,331
مستوى التفاعل
136
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
01.png

كنتُ طفلاً صغيراً أقضي يومي كله في مطاردة الطيور لصيدها ، ولا يكاد يراني أهلي إلا إذا غربت الشمس وأوت الطيور إلى أوكارها، وربما استبد بي اللهو فأنازع الطيور في أوكارها بعد هدوئها وسكينتها ، فلله ذلك الزمن البريء الذي كانت فيه الهموم لا تجاوز تلك المساحة الصغيرة حول منزلنا ، وكنتُ أظن ما وراء تلك المساحة الصغيرة مهلكة لا يعيش فيها أحد . وكنا نعيش في أرضٍ جبلية يفصلنا عن القبائل الأخرى جبال مرتفعة ، ولكل جبل منها اسمٌ نعرفه كما نعرف أحدنا ، فهذا (جَبَلُ شَعيٍر) وذاك (الرَّادِف) نتداولها كما نتداول أسماء الناس ، ونعرف تلك الطرق والأودية بأسمائها ومنحنياتها وبطحائها وحجارتها ، بل حتى الغنم نسميها بأسماء أعلام نعرفها بها ونناديها بها ، وكان فينا من صفاء الذهن ، وسرعة البديهة ما أفتقده اليوم في أبنائي وبناتي، وقد كنا ونحن صغار في الابتدائية نحفظ الأشعار ونلقيها في المناسبات دون تلكؤ ، ولا زلتُ حتى اليوم أحفظ أشعاراً درسناها في الثالثة الابتدائية لم أعد أجد لها اليوم أثراً في كتب الأطفال .وإن أنسَ لا أنسى تلك الأنشودة التي كانت مقررة علينا في الصف الثالث في مقرر اسمه (المحفوظات والأناشيد) :

[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""] قد كان عندي بلبلٌ = حلو طويل الذنبِ
أسكنته في حجرة = في قفصٍ من خشبِ
وهو يغني دائماً = بصوته المحــــببِ
ولم أكن أمنعه = من مأكلٍ أو مشــربِ
ففرَّ مني هارباً = من دون أدنى سببِ
وقال لي : حريتي = لا تشترى بالذهبِ[/poem]​

وأنشودة :
[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""]
أمي إليك تحيتي= وعليك من قلبي سلام
كم تتعبين لاستريحَ= وتسهرين لكي أنام​
[/poem]

معانٍ راقية عميقة ، وكلمات سهلة ، وأوزان خفيفة . واليوم غيروها إلى اختيارات باردة عن (الدفاع المدني وأهميته في حياة المسلم:

[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""] لا تخافي لا تخافي= نحن أبطال المطافي[/poem]
** ** **
ولم تزل الأيام تجري بي في تلك الطبيعة الجبلية الخضراء ،التي لا تكاد السماء تخطئنا يوماً من المطر ، حتى إنه لم يكن يخرج الواحد منا لزرعه أو لرعي غنمه إلا ومعه (الدِّشَّة) وهي غطاء مستدير يغطى به الرأس مصنوع من الخصف ، يمنع من يضعه على رأسه من المطر والبَرَد إذا سقط بغزارة ، كما يمنعه من حر الشمس ، وقليل من الناس من يستخدم المظلة أو الشمسية لأنها تمنعه من العمل، ويستخدمها غالباً كبير السن ، أو إذا ذهب للدوائر الرسمية فإنه يستخدم الشمسية ولا يستخدم الدِّشَّة . وكلمة الدشة من الكلمات العامية المحلية في النماص ، ولستُ أدري ماذا يسميها غيرنا. وكنا نادراً ما نصلي صلاة الاستسقاء لعدم انقطاع الأمطار، بل إننا كنا نتضايق إذا نزل المطر لأنه يقطعنا عن لهونا ولعب الكرة في كثير من الأحيان ، بل إنني بعد كبرت وأصبحنا نلعب مباريات على مستوى القرى في النماص نتضايق إذا هطل المطر في المباريات التي كنا نعتبرها حينها أهم من مباريات نهائيات كأس العالم اليوم ، فنضطر لتأجيل تلك المباريات لوقت آخر وهكذا ، وقل مثل ذلك في الحفلات الختامية للمدارس ، حيث كنا نستعد قبلها بثلاثة أشهر للحفل الرياضي على مستوى المنطقة ، وبالمسرحيات وغيرها ، ثم إذا اجتمع الناس من كل حدب وصوب انفتحت السماء علينا ونحن في الميدان في ملابس الرياضة ، فنصبر ونثبت في أماكننا ولكن الجمهور يلوذ بالبيوت والظلال ، ثم مع استمرار المطر نتفرق نحن أيضاً حيث لم يعد ينفع الثبات في ذلك الموقف وكم لتلك الذكريات من شجون وتباريح، ثم انقضت تلك السنون وأهلها ، فكأنها وكأنهم أحلامُ .
وبعد أن فارقت النماص للدراسة في أبها شعرتُ بغربة شديدة حينها ، فكتبت أشعار الحنين والشوق للنماص وأهلها وكأني قد سافرتُ إلى الكونغو ، فلا تراني إلا واجماً حزيناً ، حتى إنني لا أنسى أول عهدي بالدراسة في كلية الشريعة في محاضرة للشيخ عبيدالله الأفغاني وهو يدرسنا القرآن ، فناداني وأنا ذاهلٌ لم أنتبه له ، وكرر النداء حتى لم يشك أنني سرحت بفكري في أمر بعيد، فقام من مكانه ثم هجم عليَّ بيده فأفزعني فزعاً شديداً ، وقال : أين كنت ؟ فقلت دون تردد : النماص ! فضحك الشيخ ، وقال : هل تعلم ما معنى نماص بالفارسية ؟ قلت : لا . قال : صلاة . فلم أنسها من ذلك اليوم .
وذات يوم وبعد أن تخرجت من كلية الشريعة ربما عام 1414هـ جئت إلى النماص زائراً ، فطلب مني أحد الأصدقاء المشاركة في أمسية شعرية تنظمها إمارة النماص ، وكانوا يسمون المحافظات ذلك الوقت إمارات ، ويحضرها عدد من شعراء المنطقة . وقال لي : الأمسية اليوم بعد صلاة العشاء مباشرة في ساحة مفتوحة أمام الإمارة ، وشجعني أن المشاركين من أصدقائي الذين أعرفهم وأعرف شعرهم ، وظننتُ أني لن أكون دونهم في الشاعرية ، فلما ولى صاحبي ، فكرتُ في القصيدة التي أشارك بها ، فلم أجد قصيدة تناسب المقام تصلح أن تكون القصيدة الأولى التي ألقيها في ذلك المساء ، فقلت في ذلك اليوم قصيدة أودعتها بعض أشواقي ومشاعري نحو موطني (النماص) الذي خرجت منه على أمل العودة ، ولكنني لم أعد إليها حتى اليوم . وقد ظننتُ أنني الوحيد في هذا حتى لقيت يوماً رجلاً مسناً في أمستردام بهولندا ، حيث ألقيت محاضرة في جامع هناك ثم ذهبت بعد المحاضرة لمنزل أحدهم ومعي عدد ممن حضر المحاضرة وكان ذلك عام 1420هـ تقريباً ، فإذا به قد شاخ وانحنى ظهره ، فسألته عن عمره فقال :84 عاماً ، فقلتُ : منذ متى وأنت هنا ، وأصله من المغرب ، فقال : جئت إلى هنا وعمري 19 عاماً ، وأردت أن أبقى هنا عاماً واحداً للعمل ثم أعود ، ولكنني لم أعد حتى اليوم وتزوجت وصار لي أبناء ولأبنائي أبناء وأحفاد وما زلت أحدث نفسي بالرجوع !
ولما كتبت القصيدة أخذت أقرؤها وأنا أطل من فوق سور مرتفع في منزلنا يطل على وادٍ عشتُ طفولتي في شعابه فترقرقت عيني بالدموع، وأخذتني أخذة الأدب في ذلك الموقف ، فأقبلت على تدوين بعض الأبيات وأضفتها للقصيدة حتى أتممتها قبل المغرب، ثم غدوت بها على الجمع في تلك الليلة ، وقد حضر الأمير وعدد من الوجهاء ، وكان من بينهم الأستاذ زهير البارودي الذي كان يعمل موجهاً للغة العربية في إدارة تعليم النماص ، وكان يكنى بأبي عبيدة ، وكان له هيبةٌ في المدارس إذا زارها ، ولا أنسى موقفي ذات يوم عندما دخل علينا فجأة في الصف الثاني الثانوي في حصة اللغة العربية ، وكان أستاذنا عبدالكريم النجم حفظه الله يدرسنا الأدب واللغة العربية ، وكنا قد أخذنا قصيدة أحمد محرم في فتح مكة ، وهي موجودة في ديوانه مجد الإسلام ، فأشار إليَّ بالسؤال وقال :

[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""] الله اكبر جاء الفتح وابتهجت= للمؤمنين نفوسٌ سرَّها وشفا[/poem]​

ثم سألني : من قائل هذا البيت ، فقلت : الشاعر أحمد محرم .
فقال : أكمل الأبيات .
فتورطتُ ، حيث لم أكن أحفظ إلآ بعض أبياتها لا كلها . ولكنني استعنت بالله وألقيت الأبيات بطريقة خطابية كنتُ أحسنها ذلك الوقت ، وقلتُ :

[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""] مشى النبيُّ يحُفُّ النصرُ موكبَه =مُشيعَّا بجلالِ اللهِ مُكتنَفا
أضحى أسامةُ مِن بين الركاب له =رِدفا فكاَن َأعزَّ الناسِ مُرتدَفا
لم يبقَ إذ سطعتْ أنوارُ غُرتهِ =مَغنىً بمكةَ إلا اهتزَّ أو وَجَفا
تحرَّك البيتُ حتى لو تطاوعهُ =أركانُهُ خَفَّ يلقى ركبَهُ شغَفا
العاكفونَ على الأصنامِ أضحكَهم =أنَّ الهوانَ على أصنامهم عَكَفا
كانوا يَظنُّوَن ألاَّ يُستباح لها =حمىً فلا شمماً أبدَتْ ولا أَنَفا
نامَتْ شياطينُها عَنها مُنَعَمَّةً =وباتَ مارِدُها بالِخزي مُلتَحِفا[/poem]​

فانبهر بهذا الإلقاء وساد الصفَّ هدوءٌ مهيبٌ ، وكانت له هيبة ، ورأيت وجه الأستاذ عبدالكريم النجم يتهلل حيث رأى أنني أنقذت الموقف ، ولكنني لم أعد أحفظ أكثر من ذلك ، وخشيتُ إن أنا توقفت وهو يرغب في الإكمال أن أعاقب ، وكان الضرب في ذلك الوقت مثل (السلام عليكم ) ، ولا يطالب بثأرنا أحد ، فالكل يضربنا حتى فراش المدرسة يضربنا لمجرد الاشتباه ! فهداني الله في تلك اللحظات الحرجة إلى قول عبارة لم أكن قلتها من قبل ، وهي أنني قلتُ وأنا أشير بيدي ومتفاعل مع القصيدة : إلى آخر ما قال .. فانفجر الفصل بالضحك ، ولم يملك البارودي نفسه من الضحك وكان نادراً ما يضحك ، ومثله الأستاذ عبدالكريم النجم . ومر ذلك الموقف بسلام ، وأثنى على إلقائي ونصحني بالحرص على الحفظ والعناية بالشعر الجيد ، ولم أكن أعرف وقتها إلا قصائد معدودة لا تجاوز ما في المقررات الدراسية .
وكان حضور الأستاذ زهير البارودي تلك الأمسية مربكاً لي بعض الشيء ، حيث لم يمض على تخرجي من الثانوية إلا بضع سنوات، والمشكلة أنني سأقع في مطب أمامه في القصيدة التي كتبتها ذلك اليوم دون أن أشعر إلا وأنا ألقي البيت أمامه .
ماذا قلتُ في تلك القصيدة ؟
بدأت القصيدة بوصف موقفي عندما جاءني صاحبي يطلب مني المشاركة دون موعد مسبق ، ودخلت من هذا الموقف للقصيدة فقلتُ :

[poem=font="traditional arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=sp num="0,black""] جئنا لِلُقيا الهَوى مِنْ غيرِ ميعادِ= والشوقُ يضربُ أكباداً بأكبادِ
والذكرياتُ رَمَتْ بي في سوانحِها= حتى التقى الشوقُ ميادٌ بِميّادِ
كمْ ليلة ٍبتُّ أَرعى ذكرَها وأَنا= في غُربتي بين آهاتٍ وإنشادِ
أضرمتَ يا شوقُ قلبي مِنْ فِراقهمُ= فاليومَ عيدُكَ موصولٌ بأَعيادِ
هذي النَّماصُ فقلْ ما كنتَ تكتمُه=ولا تَخَفْ لوم َعُذَّالٍ وحُسَّادِ
صُغْ في النماصِ بديعَ القولِ واشدُ بهِ= فكلُّ ثغرٍ بما تشدو بهِ شادِ
ناديتُها وشُجوني لا ضِفافَ لها=يا قصةَ الحُبِّ ، يا أُنشودةَ الحادي
يا أَرضَ قَومي رَعاكِ اللهُ مِنْ بَلَدٍ=فما دِمَشقُ ؟ وما أَرباضُ بغدادِ؟
يا دُرةً زُيِّنتْ أَرضُ السَّراةِ بها= ويا سليلةَ أعراقٍ وأمجادِ
يا مَنْ أَقامَ على عَذلي وخالَفَني= أَلا تَرى الحُسنَ فيها رائحاً غادِ
سِرْ في رُباها وطَوِّفْ في معاهِدِها= يجري بكَ الحُسْنُ مِنْ وادٍ إلى وادِ
صوتُ الهزار ِعلى أغصانِ أيكتِها= يغنيكَ عَنْ صوتِ قَيثارٍ وأَعوادِ
ونَفْحَةُ المِسْكِ والكافورِ إِنْ عُدِمَتْ= يغُنيكَ عنها عَبيرُ الشِّيحِ والكادِي
مَنْ لي بنفحةِ شِيْحٍ مِنْ نسائِمِها= تَشفي غَليلَ فُؤادٍ شُوقُه بَادِ
أو نظرةٍ لِمَغانيِها وقد كُسيَت= بُرْداً من الحُسْنِ مَشفوعاً بِأَبْرادِ
حتى السحابُ إذا حاذى مرابعَها=فالجوُّ ما بين بَرَّاقٍ ورَعَّادِ
قد طاب فيها الجَنى حُلواً لقاطفهِ= وطابَ فيها الهَوى وِرداً لِمُرتادِ
تَلَفَّعَتْ بضبابٍ خَوفَ حاسدِها= كظبيةٍ تَتَخَفَّى خَوْفَ صيَّادِ
حَلَّتْ قبائلُ حَجرٍ في مرابعِها= كأَنَّها أَجْمَةٌ حُفَّتْ بِآسَادِ
عريقةٌ في مَدى التاريخ نسبتُها=ومجدُها الحُرُّ موصولٌ بأَمجادِ
يلقى بها الضيفُ ما يلقَاهُ مِنْ كرمٍ= يُنسيهِ ذِكْرَ أَخِلاءٍ وأَولادِ
ما جودُ حاتم إِنْ عاينتَ جُودَهُمُ= و ما البهاليلُ مِنْ أبناءِ عبَّادِ؟
قبائلٌ آمنتْ بالله خالقِها = تحمي حمى الدين من باغٍ ومن عادِ
قد بايعوه على الإسلامِ مِنْ قِدَمٍ=وقد حَدَا بهمُ نحوَ الهُدى حادِ
أهلُ الشجاعةِ قد سِيْطَتْ دِماؤهمُ=منها وقد ضَرَبَتْ فيهِم بِأَوتادِ
فَقُلْ لِمَنْ يَدَّعي في المجدِ منزلةً=جئني بِأَجدادِ صدقٍ مثلِ أَجدادي[/poem]

وقد لقيت القصيدة حفاوة طيبة من الأصدقاء والأدباء في النماص حينها ، وأخبرني أحد الأصدقاء أن أحد الطلاب في ثانوية من ثانويات النماص ألقاها ذات يوم في حفل خطابي كنموذج من القصائد التي قيلت في وصف مدينة النماص . وأخبرني أحد أساتذة اللغة العربية بأنه قررها على طلابه للدراسة والنقد في المرحلة الثانوية أيضاً فجزاهم الله خيراً جميعاً . ومن اللطائف أن ابني عبدالله وهو في الصف الثالث قال لي : أريد قصيدة لأحفظها وألقيها في المدرسة ، وقد ترك الأستاذ لنا حرية اختيار القصيدة .
فقلتُ له : احفظ قصيدتي هذه التي كتبتها عن النماص فهي أفضل لك من حفظ قصيدة لأبي تمام أو للمتنبي ، فليس أحدهما أباك، وأنا أولى بأن تحفظ شعري وهذا من برك بوالدك ، وما زلتُ به حتى أقنعته بحفظها على مضض ! فحفظها وألقاها في حفل مدرسته ، وبدأها بقوله : قال أبي حفظه الله . ثم بدأ في إلقاء القصيدة ، فضحك الجميع ، وكانت فقرة طريفة .
وسوف أتوقف مع أبيات هذه القصيدة في المشاركة القادمة لأشرح بعض ما فيها من العبارات والصور التي قصدتها ، وأرجو أن يكون فيما كتبته ما يرضي أخي العزيز فهد الجريوي وفقه الله الذي يشجعني بمتابعته وتوجيهه .
 
نتابع إذن ...
كنتُ أجد معاناة لذيذة في كتابة الشعر في النماص وأبها ، وكنت وحيداً بين كتبي لا ينازعني وقتي أحد، ولا يوجد عندي وسيلة اتصال تقطع خلوتي، فكنتُ إذا بدأت أكتب القصيدة أتنقل في أرجاء المنزل، وألف وأدور ، وأخرج وأدخل كأنني ممسوس، حتى إذا أتيت على معظم القصيدة استرحت وهدأت نفسي وأعدت كتابة القصيدة بخطي في ورقة بيضاء، ثم أضعها في جيبي وأصحبها معي أقرؤها وأنقحها، وعندما قرأت أن زهير بن أبي سلمى كان ممن ينقح شعره حولاً كاملاً، وأنه سُمِّي ومن يفعل فعله من الشعراء بعبيد الشعر، شعرتُ بشيء من الزهو والراحة ، لأنني أسير على طريقٍ سار عليها شعراء كبار مثل زهير. ولم أجد من صور تلك الحالة الشعورية التي تغشى الشاعر أثناء كتابة القصيدة مثل الشاعر االيمني المبدع حقاً محمد محمود الزبيري في قصيدته التي توقفت معها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة ، التي يقول في مطلعها :

[poem=]أحس بريح كريح الجنان = تهب بأعماق روحي هبوبا[/poem]​

وذات يوم خرجت من كلية الشريعة في أبها لزيارة زميل لي في كلية التربية وكانت حينها منفصلةً عنا، فنحن فرع جامعة الإمام محمد بن سعود ، وهم فرع جامعة الملك سعود في أبها، فلما وصلت إلى هناك لم أدر أين أبحث عنه ، وبينما أنا أسير إذ أنا بلوحة تشير إلى المكتبة ، فدخلتها ، وقصدت قسم الأدب، فوقعت عيني على كتاب صغير بعنوان (قراضة الذهب في شعر العرب) لابن رشيق القيرواني ، فلما قرأته - وهو في الكلام عن شعر العرب وشعرائه ووقفات نقدية رائعة مع كل ذلك ، ومؤلفه هو صاحب كتاب (العمدة في محاسن الشعر وآدابه) وهو من أروع كتب الأدب - نسيت صاحبي الذي جئت من أجل زيارته، وبحثت عن كتاب العمدة للقيرواني حتى وجدته في المكتبة أيضاً فانهمكت في قراءته، وكانت تلك الزيارة لصاحبي من أمتع الزيارات، حيث لم أعرف أين أجده ، ولقيت بدلاً منه ابن رشيق القيرواني وتعرفت على كتابيه هذين، واشتريتهما بعد ذلك وهما عندي من أثمن الكتب في مكتبتي، وليس أجمل وألذ من محبة الكتاب إذا صادفت قلباً خالياً كقلبي ذلك الحين، حيث كنت أقبل على الكتاب الذي أحبه بقلبي وروحي، وأحفظه وأحتفي به غاية الاحتفاء، وكنت أقطع مسافات طويلة على قدمي ولا أشعر بثقل الكتب، مع ضيق ذات اليد حتى أجد مشقة في أحيان كثيرة في الجمع بين شراء الطعام أو الكتب، فإن كان الجوع شديداً قدمت الطعام، وإلا فالكتاب.
أقول هذا لأتذكر كيف كنتُ في أول أيام الكلية أتعطش لقراءة الأدب والشعر وكتابته وقراءة كتب الأدب والنقد الأولى، حيث دلني بعضها على بعض ، ولم أكن حينها أسأل أحداً عن كتاب، وإنما يدلني بعض الكتب على بعض حتى تكون عندي مكتبة أدبية رائعة وأنا بعدُ في أول أيام الدراسة في كلية الشريعة ، ولا أنسى اليوم الذي قرأتُ فيه طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي في المكتبة المركزية لفرع جامعة الإمام في أبها ، حيث كان للمكتبة هيبة، وللكتاب مهابة، والحاجة تلزمني بقراءة الكتاب في المكتبة، وحب الأدب له استيلاء على قبل القارئ ، فما أحلى تلك الساعات، وما أطيب تلك الذكريات ، وقد ذهبت تلك الأيام ببؤسها وحاجتها، وغادرت في النفس طيباً وأثراً لا يمحى . وكم اشتريت بعدها من الكتب ، وكم حفظت من الشعر ، ولكنه فقد نكهته تلك أو كاد ، وأصبح وقتي اليوم ملكاً لمن حولي ، وقل ّنصيبي منه حتى أصبح أهلي وأبنائي يستكثرون علي النظر في كتاب من كتب الأدب، فيرون أنفسهم أولى بذلك الوقت لأذهب بهم إلى السوق أو إلى غيره ، فأصبحت أحنُّ إلى تلك الأيام حنيناً شديداً، وأنتهز الفرص للنظر في تلك الدواوين والكتب النقدية الممتعة، التي كان لها أطيب الأثر في صقل ذوقي ومعرفتي بالشعر، وقد قرأت بعد ذلك جل المكتبة الأدبية التراثية، واقتنيت ما وقعت عليه عيني من دواوين الشعر، ولكن تلك المرحلة الأولى من الإقبال على كتب الأدب هي المرحلة التي وقع فيها حب الأدب في قلبي، ومن الحب ما قتل.
** ** **​
وقبل أن أنسى الأبيات التي ذكرتها في أول الموضوع وهي الأنشودة الجميلة التي كانت مقررة في الابتدائية :

[poem=]
قد كان عندي بلبلٌ = حلو طويل الذنبِ
أسكنته في حجرة = في قفصٍ من خشبِ
وهو يغني دائماً = بصوته المحــــببِ
ولم أكن أمنعه = من مأكلٍ أو مشــربِ
ففرَّ مني هارباً = من دون أدنى سببِ
وقال لي : حريتي = لا تشترى بالذهبِ[/poem]

وقد نسيت اسم الشاعر ، ولكنها قصيدة سهلة عميقة المعنى ، فهي تتحدث عن أن الحرية لا تقدر بثمن، وأن الحياة المنعمة في ظلال العبودية لا قيمة لها، وهذا المعنى هو الذي تنبهت له الشعوب العربية اليوم فهبت لكسر الأقفاص ، وهي تقول لجلاديها : حريتي لا تشترى بالذهب ! مع أن هؤلاء الطغاة يتحدثون بنفس منطق صاحب ذلك العصفور وأن هذه الشعوب فرت من دون أدنى سبب ! ولستُ أدري هل كان أستاذنا الذي حفَّظنا تلك الأنشودة يدرك هذه المعاني حينها، وهل كان يظن أننا سنفهمها على هذا النحو؟ الله أعلم . وفي ديوان أحمد شوقي الكثير من القصائد التي قالها على ألسنة الحيوانات في غاية العمق وتشير إلى معانٍ سياسية دقيقة ، وهذا هو الشعر حقاً الذي يزيد غزارةً، ويتكاثر بتقادم عهده، وخلود معانيه. ولذلك فإن الشعر العربي كثير جداً، ولكن الخالد منه مختارات تواردت العقول على اختيارها وحفظها وتناقلها ودراستها حتى اليوم ، ولا يزال في شعراء العربية من يقول الشعر الخالد ولكنهم قلة .
وللحديث صلة إن شاء الله​
 
وإن تعجَب أبا عبْد الله فعجَبٌ أن تعلَمَ أنَّ دُخولي لهذا الموضُوع الرائع جاء بطريقةٍ تُشبهُ دعوتكَ لأمسية النماص الشعريَّـة حيثُ وصلتُ إليه عبر تحويلةٍ قَصيَّـةٍ في (twiter) من عند صفحة د. محمد التركي , فكنتُ حقيقاً باستعذاب أغنينك الرائعة لأقول:

جئنا لِلُقيا الهَـوى مِنْ غيرِ ميعادِ * والشوقُ يضربُ أكباداً بأكبادِ
وللأحاديثِ عن أيَّامكُم لغَـةٌ * تفيضُ حُسناً فزِدْنا أيُّها الشَّادي
وهاتِ يا أيُّـها الغِرِّيدُ أُغنيَـةً * تزُفُّ خَـافيَ إعجَابي إلى البَادي
فغُربَة الأدبِ المسكينِ باتَ لها * سمعُ المُحبِّين يشكُو غُلَّة الصَّادي

بارك الله فيك أبا عبد الله وزادنا وإياك من فضله.
 
الله يسعدك دنيا وآخرة.
لقد أثرت المكنون وبعثت الذكريات من مرقدها رحمك الله ورحم والديك ومن تُحب.
بالغ الشكر والتقدير، أيها الأديب القدير.
 
شكراً جزيلاً لإخواني فهد الجريوي ومحمود الشنقيطي وعبدالله الشهري ولكل مَنْ مَرَّ مِنْ هُنا وأضاع من وقته ما قرأ خلاله هذه المشاركة.
أعود فأكمل الحديث عن هذه القصيدة الدالية .
أين تقع مدينة النماص التي قلت فيها هذه القصيدة ؟
تقع مدينة النماص في جنوب السعودية على بعد 400 كم جنوب مدينة الطائف ، وعلى بعد 140 كم شمال مدينة أبها ، وقد ولدت فيها قبل 40 عاماً ، وكنت التاسع بين إخواني وأخواتي ، وكان أبي رحمه الله يعمل في أول حياته جندياً في الجيش السعودي أيام الملك عبدالعزيز في عام 1364هـ تقريباً ، وقد ترقى بعدها إلى رتبة نائب ، وقد سافر إلى فلسطين وشارك في الحرب هناك مع الجيوش العربية التي شاركت في حرب 1367هـ للدفاع عن فلسطين ، ولكن الخيانة التي وقعت حينذاك من القيادات أفقدت تلك المشاركة قيمتها وثمرتها، وقد شارك هو وزملاؤه بصدق وإخلاص لتحرير فلسطين من اليهود ، وقد حدثني رحمه الله بأخبار تلك الرحلة وكيف سافر هو وعدد من زملائه في الجيش ، وقد شارك معه عدد كبير من بني شهر في تلك المعارك أكثرهم توفي وبقي منهم قلة قليلة . وقد رجع من تلك الحرب فاستقر في الطائف مدة يعمل في الجيش ، ثم انتقل للعمل في إدارة المرور في جدة ، والعجيب أنه كان يعمل في المرور وينظم مرور السيارات وهو لا يجيد قيادة السيارة ، وكم حاول رحمه الله أن يتعلم قيادة السيارة، وتعلمنا جميعاً وهو يحاول التعلم معنا دون جدوى، ولا زال هذا الأمل يراوده حتى توفي رحمه الله وفي نفسه شيء من قيادة السيارة . ثم ترك العمل في المرور وانتقل للعمل في الشرطة عام 1380 هـ تقريباً وطلب العودة للشرطة في النماص ليكون قريباً من أخته الكبرى عمتي فاطمة رحمها الله التي كانت تقوم على شؤون بلادنا وأراضينا في النماص ، وكان والده حنش بن عبدالله وهو جدي لأبي قد توفي وأبي طفل صغير لا يكاد يميز ، وقد أخبرني أنه لا يذكر والده إلا كالحلم ، ولم يكن لوالدي إخوة إلآ أخته لأبيه فاطمة التي كانت تكبره بأكثر من ثلاثين عاماً تقريباً، وقد عاد أبي فعلاً للنماص ليعمل في محكمة النماص أول نشأتها ، فعمل شرطياً مدة من الزمن ، ثم وجد أن العمل المدني في المحكمة أكثر راتباً من العمل في الشرطة فطلب تحويل وظيفته لوظيفة مدنية وهكاذ كان ، وقضى والدي بقية عمره في العمل في وظيفة مراسل في محكمة النماص ، وقد عمل من عام 1383هـ حتى تقاعد عام 1409هـ في تلك الوظيفة مع رئيس محكمة النماص عبدالرحمن بن علي بن شيبان (1329-1429هـ) حتى تقاعد ، وقد استفاد كثيراً من صحبته لهذا الشيخ الجليل ، وقد سماني باسمه عندما ولدت له عام 1392هـ ، وأذكر وأنا صغير عندما زرانا في بيتنا الشيخ عبدالرحمن بن شيبان وأعطاني مبلغ 100 ريال كهدية لكوني سمياً له، ولا أذكر إلا لون المائة ريال الحمراء التي كانت تصدر في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله ، ولا أدري أين ذهبت تلك المائة ريال، ولعل أبي صادرها في ذلك الزمان الصعب الذي للريال فيه قيمته الكبيرة جدا ، وليس كاليوم الذي أعطي فيه ابني الصغير محمد 10 ريالات فيرفض أن يأخذها ويريد الفئة ذات اللون الأخضر كما يقول وهو يعني الخمسين ريالاً ، وهو في الصف الأول الابتدائي، فكيف سيصنع بي إذا كبر !
وأذكر أن والدي رحمه الله كان يثني كثيراً على عبدالرحمن بن شيبان، وعندما دخلت كلية الشريعة فرح أبي بذلك لأنني ربما أتخرج قاضياً ، والقاضي عند أبي هو أكمل الناس لما يرى يومياً من مكانة القاضي في المجتمع ، وكيف يقضي القاضي على الجميع دون استثناء ، وأذكر أنني عندما تخرجت من الكلية وتم ترشيحي للقضاء ضمن عدة زملاء ، رفضت هذا العرض ، فغضب أبي كثيراً، وحاول إقناعي بأن وظيفة القضاء أفضل وظيفة ، ولكن دون جدوى . فلما رأت الكلية عدم قبولي للترشيح للقضاء وعدم مباشرتي للعمل استدعوني للكلية وتم ترشيحي للعمل في الكلية على وظيفة معيد ، ولكن لعدم وجود وظيفة شاغرة في قسم أصول الفقه أو الفقه حيث إنني تخرجت من قسم الشريعة ، خيروني في قسم السنة أو القرآن وعلومه ، فاختر القرآن وعلومه لكوني قد حصلت على إجازات في القرآن من بعض المقرئين في أبها . فلما أخبرت أبي بأنني التحقت بوظيفة معيد ساءه ذلك ، وقال : سبحان الله ! تترك وظيفة القاضي التي لا أفضل منها ، وتتوظف في وظيفة معيد ، وما معنى معيد إلا الطالب البليد الذي سقط في الدراسة فأعادها مرة أخرى ؟! فضحكت وقلت : المعيد هي وظيفة مثل المدرس . فانصرف عني وهو يسخر مني ومن سوء اختياري رحمه الله وغفر له ، وكان أبي قد درس في المدرسة الليلية حتى بلغ الصف الخامس ، ولكنه لا يكاد يقرأ إلا بصعوبة ، ولم يكن يدقق كثيراً في أمور الدراسة لنا نحن الأبناء ، وإنما أكثر ما يشغله أمر الصلاة في الجماعة ، فيتعاهدنا تعاهداً شديداً في ذلك ولا يرتاح إلا إذا رآنا في المسجد معه نصلي مع الجماعة ، ولا أنسى حرصه على الصلاة في الجماعة حتى وهو يحرث الأرض بالبقر وأنا معه أقود له البقر أو أسوقها أو أجمع محصولاً من الأرض ، فحين يؤذن المؤذن يوقف البقر ، وينطلق للبيت يتوضأ ويصلي في المسجد ثم يكمل عمله منذ عرفته . ولا أذكر أنه سأل عني في مدرسة قط مع حرصي على ذلك فقد كنت من الطلاب الجيدين في المدرسة. وكنت أستغرب من كثرة سؤال بعض أولياء الأمور عن أبنائهم في المدرسة ، وأبي لا يزورنا مطلقاً . وأخبرني إخواني الكبار أنه كان كذلك معهم.
وأما أمي فقد كانت البنت الكبرى لجدي شكري بن ظافر الشهري رحمه الله ، وكان يعمل في تجارة التمر يجلبه من بيشة ويبيعه في النماص ، وهو من قبيلة بني بكر أيضاً التي منها والدي ، وقد نشأت أمي ترعى الغنم وتعمل في الأرض ، فتزوجها والدي ربما عام 1369هـ تقريباً ، وانتقلت لمنزل والدي الذي لا يسكن معه فيه أحد إلا عمتي فاطمة أخت والدي لأبيه ، وكانت امرأة قد توفي زوجها قديماً ، ولديها ابنة واحدة تزوجت وسافرت مع زوجها ، ولم يبق إلا أمي وعمتي ، وكانت الحياة قاسية جداً ، لا مورد فيها للأسر إلا ما يزرعونه بأنفسهم في مزارعهم ، أو يحصلون عليه من السمن واللبن من أبقارهم وأغنامهم . ولكن لأن المجتمع كله بهذه الصورة فقد كان ذلك يخفف من قسوة تلك الحياة ، وكان الناس في تلك القرية الهادئة قرية (الجهوة) يتعاونون على الحياة الصعبة ، يتعاونون في حرث الأرض ، وفي قِصابها بعد حرثها ، والقِصَّاب هو توزيع مجاري الماء في الأرض التي يزرع فيها الشعير والبر والذرة وغيرها من المحاصيل الزراعية التي نزرعها في النماص ، كما يتعاونون في جني الثمار وفي درسها ودياسها وفي الذراة وهي تخليص الحب من التبن حتى يخزن الحب على حدة والتبن على حدة في مواضع هبوب الرياح ، وكان ذلك الموسم من أشق المواسم علينا في السنة ، وكنت أكرهه جداً لما نجده من ألم الأماريق التي تدخل بين ثيابنا وفي رقابنا فنشعر بألم شديد لها ، ولم يكن هناك مفر من تلك الأعمال الشاقة التي نمارسها جميعاً في تلك القرى الصغيرة . وكان أبي رحمه الله رجلاً حازماً جداً ، جنبيته بوسطه طيلة اليوم فلا يخلعها إلا إذا نام ومثله سائر الرجال في القرية ، وعصاه في يده، فمن لم تؤدبه العصا ، استلَّ عليه الجنبية إذا لزم الأمر تهديداً ، وكان يكفي أن يضع يده على مقبض الجنبية ليدخل الخوف في قلب أحدنا فينصاع دون تردد .
هذا طرف من حياة عشناها في النماص ، بحلوها ومرها ، وذكرياتها مع أبي وأمي وإخواني وأخواتي ، وكانت القرية كالأسرة الواحدة، يتفقد بعضنا بعضاً ، ويربينا جميع أهل القرية دون تردد إذا رأوا منا أي مخالفة تستحق التأديب ، ولم يكن الآباء يشعرون بأي تحرج من ذلك ، بخلاف الناس اليوم الذين أصبح أحدهم يغضب إذا تدخل أخوه في تربية أبناءه أو توجيههم .
والحديث عن الحياة في النماص خلال الخمسين سنة الماضية وربما أكثر جديرة بالكتابة والتوثيق ، وفيها الكثير من العبر والفوائد التربوية والأدبية ، وقد كنت جمعت من تفسير الطبري وغيره من معاجم اللغة ودواوين الشعراء ما يزيد عن 1300 مفردة من المفردات التي نستعملها في لهجتنا المحلية ذات الأصول والمعاني العربية الفصيحة ، وأعني أن عامة الناس الذين لم يقرأو ولم يتعلموا قط كوالدتي مثلاً يتحدثون بها ويشرحون معناها كما في كتب المعاجم.
ووالدتي شفاها الله من ذلك النوع الممتع في حديثه، وأنا أستمتع كثيراً بالحديث معها عن الماضي وذكرياته ومعاناته ، وهي بالرغم من كل هذه السنوات الطويلة حيث جاوزت اليوم الثمانين لم تدخل العجمة ولا المفردات الحديثة على لسانها أبداً ، وإذا نطقت شيئا من ذلك أخلَّت به . وهذا فيه تأكيد لصحة منهج اللغويين الذين اختاروا من قبائل العرب تلك القبائل التي لم تختلط بالأعاجم لكي يحتجوا بلغتها وشعرها ونثرها وهذه مسألة تطول .
أعود للقصيدة بعد هذا الاستطراد ...
[poem=]جـئـنـا لِلُـقـيـا الـهَــوى مِـــنْ غـيــرِ مـيـعــادِ= والـــشـــوقُ يـــضـــربُ أكـــبـــاداً بــأكــبــادِ
والذكـريـاتُ رَمَــتْ بـــي فـــي سوانـحِـهـا= حــتـــى الـتــقــى الــشـــوقُ مــيـــادٌ بِـمــيّــادِ
كــــمْ لـيـلــة ٍبــــتُّ أَرعــــى ذكــرَهــا وأَنـــــا= فـــــي غُـربــتــي بــيـــن آهـــــاتٍ وإنـــشـــادِ
أضرمـتَ يــا شــوقُ قلـبـي مِــنْ فِراقـهـمُ= فــالــيـــومَ عـــيــــدُكَ مـــوصــــولٌ بــأَعـــيـــادِ
هـذي النَّمـاصُ فقـلْ مـا كـنـتَ تكتـمُـه= ولا تَـــخَـــفْ لـــــــوم َعُـــــــذَّالٍ وحُـــسَّــــادِ
صُغْ في النماصِ بديعَ القولِ واشدُ بهِ= فــكـــلُّ ثــغـــرٍ بــمـــا تــشـــدو بـــــهِ شــــــادِ[/poem]
جاء هذا الافتتاح كما قلتُ سابقاً ليصور حالتي عندما فاجأني الداعي للمشاركة في الأمسية الشعرية ، فأشرتُ إلى هذه المفاجأة، وقد صورت ذلك بأنني جئت في تلك الأمسية لكي ألقى الهوى الذي اشتقت إليه ، وهذه صورة شعرية حلوة ، حيث إنني استلهمت هذا المعنى من قول نزار :
[poem=]في مدخل الحمراء كان لقاؤنا = ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ[/poem]
فأخذت المعنى وقلت :
جئنا للقيا الهوى من غير ميعادِ​
ولكنني وفقت في الصورة التي في عجز البيت ، عندما أردت وصف شدة هذا الشوق بأنه يضرب الأكباد ببعضها ، ولك أن تتخيل الأكباد والشوق يضرب بعضها ببعض ، لا شك أنه منظر يذكرك بعيد الأضحى وذبح الأضحية ، ومنظر الأكباد التي تقطر دماً !
[poem=]جـئـنـا لِلُـقـيـا الـهَــوى مِـــنْ غـيــرِ مـيـعــادِ= والـــشـــوقُ يـــضـــربُ أكـــبـــاداً بــأكــبــادِ[/poem]
ويظهر في مقدمة هذه القصيدة لوعتي وحزني وشوقي للنماص ، وكيف وفيها جيرتي وبها أهلي ؟! واللغة تُظهر من مكنون مشاعر الإنسان ما لا يقدر على إخفائه ، وحقاً فالحزن في نفسي مستقر لا يكاد يفارقها ، وأجدني منطلقا عند الحديث عن الحزن أكثر من الحديث عن الفرح. ولذلك قلتُ يوماً في قصيدة أتشوق لأهلي في النماص ولقبيلتي بني بكر :
[poem=]قِفْ يا فؤادي فدمعُ العين قد نَزَفا=واسأل حَماماً بغُصنِ السّروِ قد هتَفَا
قلْ: كيف حالُ بني بَكْرٍ وأرضهِمُ=فالحظُّ مِن بعد أن فارقتهُم وقفا
لا قيتُ مِن بعدهم في غُربتي نَصَبًا=فالهمُّ بادٍ بوجهي ليس فيه خفا
لم يبق لي غيرُ جسمٍ ناحلٍ سقمٍ=أو مُهجةٍ مِن جواها ترقبُ التَّلَفا
والقلبُ قد مَسَّهُ باللفحِ لاعِجُهُ=والنحرُ قد بُلَّ مِنْ دَمعي وما نَشِفا
دار الزمانُ على حالي فغيَّرها=فبُدِّلَ السعدُ حُزناً والوصالُ جَفا
قد كنتُ أرجو غِنًى بالبُعدِ عن وَطَني=ورحتُ أَطلبُ للسقمِ المُمِضِّ شِفا
وقد سمعتُ بأَنَّ الدرَّ قيمتهُ=تزدادُ حين يُخلِّي خلَفَهُ الصَّدَفا
فكانَ أن عقدتْ نفسي عزيمتَها=على الرحيلِ تُريدُ العزَّ والشَّرفا
وخِلْتُ أَنِّي بتركي الأهلَ مُرتِحلاً= أَلقى بأرضِ اغترابي روضةً أُنُفُا
فما لقيتُ سوى الآلام تصحبُني=وبَدَّلَ الدهرُ لي وجهَ المُنى بِقَفا[/poem]
وهي قصيدة مليئة بصور الحزن كذلك ، وصفت فيها مواضع القبيلة موضعاً موضعاً ، ولعل السبب في ذلك أننا عشنا حياةً صعبةً في النماص، لا نكاد نفتر من العمل في الأرض والمواسم تتكرر علينا، فلا ينقضي الصيف بأعماله ومحاصيله إلا ويدخل الخريف بيبوسته ورياحه، ثم يدخل الشتاء ببرده وأعماله، وهكذا الربيع في دورة متكررة لا تفتر، ومن القصص الشعبية المتداولة أنَّ عبداً من عبيد أحدهم ملَّ من هذه الحياة الصعبة، فسأل سيده وهو واقف على رأي بئر يسقي الماء: ماذا بعد الصيف قال : الخريف ، قال : وماذا بعد الخريف ؟ قال : الشتاء . قال : وماذا بعد الشتاء ؟ قال : الربيع . فعلم هذا العبد أنه لا فكاك ولا راحة من هذا العناء إلا بالموت ، فألقى بنفسه في البئر . فصاح سيده في الناس النجدةَ النجدةَ ، أو بتعبير أهل تلك القرى : يا حبال يا حبال ، أي ليحضر كلٌ منكم حبله ويحضر للنجدة ، وفعلاً حضر الناس ولكن لم يدركوه إلا ميتاً ، فقال سيده على رؤوس الأشهاد : أشهدكم أنني قد أعتقته لوجه الله ! قالها بعد فوات الأوان .
** ** **​
ومن الأبيات الطريفة في القصيدة قولي :
[poem=]نـاديـتُـهــا وشُـجــونــي لا ضِــفـــافَ لــهـــا =يـا قصـةَ الحُـبِّ ، يـا أُنشـودةَ الحـادي
يـــا أَرضَ قَـومــي رَعـــاكِ اللهُ مِــــنْ بَــلَــدٍ =فـمــا دِمَـشــقُ ؟ ومـــا أَربــــاضُ بــغــدادِ؟[/poem]
وهذان البيتان هما اللذان قصدتهما عندما قلت : إن الأستاذ زهير البارودي مفتش اللغة العربية حينها وهو من سوريا قد استنكرهما، حيث فضلت فيهما النماص على بغداد ودمشق ، ولا غرابة في ذلك عندي ، حيث إن النماص عندي أحب من بغداد ودمشق، فلم أزر بغداد ولا دمشق حينها ، وقد زرت دمشق بعد ذلك ، ولم تتغير قناعتي ، ولما ألقيت البيت تمعر وجه الأستاذ زهير وكان في الصفوف الأولى ، وضحك الناس وضفقوا ، فأعدت الأبيات وتوقفت عند كلمة دمشق إمعاناً في استثارة الأستاذ زهير وفقه الله ، وقد بلغتُ مقصدي من ذلك ، ثم أكملتُ وكأنني أعددتها لهذا الموقف خاصة دون سابق تهيئة ، وكأنني كنتُ أتوقع من يعارضني في هذا التفضيل:
[poem=]يــــــا دُرةً زُيِّـــنــــتْ أَرضُ الـــسَّــــراةِ بـــهــــا= ويــــــــــا ســلــيـــلـــةَ أعــــــــــراقٍ وأمـــــجــــــادِ
يـــا مَـــنْ أَقـــامَ عـلــى عَـذلــي وخالَـفَـنـي= أَلا تَـــرى الـحُـســنَ فـيـهــا رائــحــاً غــــادِ
سِـرْ فــي رُبـاهـا وطَــوِّفْ فــي معاهِـدِهـا =يجـري بـكَ الحُـسْـنُ مِــنْ وادٍ إلــى وادِ
صــوتُ الـهـزار ِعـلــى أغـصــانِ أيكـتِـهـا= يـغـنـيـكَ عَــــنْ صــــوتِ قَـيـثــارٍ وأَعـــــوادِ
ونَفْحَـةُ المِسْـكِ والكافـورِ إِنْ عُدِمَـتْ =يغُنـيـكَ عنـهـا عَبـيـرُ الشِّـيـحِ والـكــادِي
مَـــنْ لـــي بنـفـحـةِ شِـيْــحٍ مِـــنْ نسائِـمِـهـا= تَــشــفــي غَــلــيــلَ فُــــــؤادٍ شُـــوقُــــه بَـــــــادِ
أو نـــظـــرةٍ لِـمَـغـانـيِـهـا وقــــــد كُــســيَـــت= بُــــرْداً مــــن الـحُـسْــنِ مَـشـفـوعـاً بِــأَبْـــرادِ
حـتــى الـسـحـابُ إذا حـــاذى مـرابـعَـهـا= فــالــجـــوُّ مـــــــا بـــيــــن بَــــــــرَّاقٍ ورَعَّــــــــادِ
قـد طـاب فيـهـا الجَـنـى حُـلـواً لقاطـفـهِ =وطـــــابَ فــيــهــا الـــهَـــوى وِرداً لِــمُــرتــادِ
تَـلَـفَّـعَـتْ بـضـبــابٍ خَـــــوفَ حـاســدِهــا= كـظــبــيــةٍ تَــتَــخَــفَّــى خَــــــــوْفَ صــــيَّــــادِ[/poem]
ولعل من أحسن أبياتها البيت الأخير الذي حاولتُ فيه فلسفة الضباب الذي يحجب الرؤية أكثر ايام السنة في النماص ، فلا تكاد ترى إلا مسافة قصيرة للرؤية، وهو أنَّ النماص تكتسي بالضباب خوفاً من العين، كما تفعل الظبيةُ خَوفاً من الصياد، وقد استحسن عددٌ من الأدباء هذا التصوير حينها . وقد كان أخي الدكتور زاهر بن معاضة يقول : إن الضباب في النماص يذكرني بلندن وأجوائها، وكان حينها يدرس هناك في السبعينات الميلادية ، فوقعت في نفسي كلماته تلك منذ الصغر ، وعلمت أن النماص تشبه لندن في الضباب ، ثم قرأت بعد ذلك أن لندن تسمى مدينة الضباب .
ومع هذا يبقى حديث الشاعر عن قصيدته ثقيلاً، ولكن لأنني لا أرجو بهذا البيان شهادة ولا درجة ولا اجتياز اختبار فلذلك سمحت لنفسي بهذا معتذراً للأدب وأهله. والسلام
 
لا أدري والله لماذا أثارت مقالتك الأخيرة مدامعي ، فزدنا زادك الله من فضله وكرمه شيخنا الكريم .
رضي الله عنك وأرضاك يا أبا عبدالله ، وأسعدك ولا أراك حزناً ، وإنما هي جزء من ذكريات الماضي، نلتفت إليها بقلوبنا بعد أن غابت عن نواظرنا، على حد قول الشريف الرضي :
[poem=]ولقد مررتُ على ديارهمُ= وطُلولُهمْ بِيدِ البِلى نَهْبُ
فوقفتُ حتى ضَجَّ مِنْ لَغَبٍ = نِضوِي ولَجَّ بعَذليَ الرَّكْبُ
فتلفتْ عَيني ، فَمُذْ خَفِيَتْ = عنِّي الطلولُ تلفَتَّ القَلْبُ[/poem]
وأنا أكتب هذا كله من الذاكرة ، فلا تلمني على ركاكته وضعف سرده ، ثم إني أكتبه على المنتدى مباشرة دون مراجعة على حد قول الشاعر اليمني :
[poem=]لا تَقيسوا إلى الحمامةِ حُزْني= إِنَّ فَضلي تَدْري بهِ العُشَّاقُ
أَنا أُملي الغرامَ عَن ظهرِ قَلْبٍ=وهي تُملِي وحَولَها الأوراقُ[/poem]
 
جزاكَ الله خيرا يا أبا عبد الله على نشر الحلقة الثالثة من تأملاتك ، وأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان حسناتك.
يعجبني في تأملاتك العفوية ، والسهولة ، والارتجال الظريف ، والظِّل الخفيف...
أضحكني جدا قولك لابنك: " احفظ قصيدتي هذه التي كتبتها عن النماص فهي أفضل لك من حفظ قصيدة لأبي تمام أو للمتنبي ، فليس أحدهما أباك، وأنا أولى بأن تحفظ شعري وهذا من برك بوالدك!" اهـ
لعلي آخذ برأيك ، وأوصي ابني حازما برواية أشعاري!

أبا عبد الله! أراكَ تخُطُّ في هذه السُّطُور صُوَرًا من الزَّمن الفاني...صُوَرٌ يفوح منها عَبَقُ الماضي حين كان وَضَّاحَ الوجه ، بَسَّامَ الثَّغر.
لقد ذكرتني قصيدتك الرائقة في النماص بقصيدتي في سورية التي نشرتُها في هذا الملتقى المبارَك على هذا الرابط:
http://vb.tafsir.net/tafsir8141

سبحان الله! ما أصدق قول الشاعر:

ما مِنْ غريبٍ وإن أبدى تَجَلَّدَهُ ** إلا سيذكر بعد الغربة الوطنا

أسأل الله تعالى أن يجمع شمل المتفرِّقين ، ويوحِّدَ قلوب المجتمعين.
[FONT=&quot]
[/FONT]
 
جشأة الفجر

جشأة الفجر

جُشْأَة الفجر



سقى الله أيام الصبا ما يسرها ويفعل فعل البابلي المعتق


كنتُ قد لبستُ المنامة حين أرخى الليل سدوله، لنقضي حق آية كونية براها الله، ثم رأيتُ أن من حقك علي أن أقرأ منثورك، فلا والله ما قرأتُ من قريب شعرا ولا نثرا كما قرأتُ هنا، لقد هزني بعد أن كنتُ ساكنا، وأقعدني بعد أن كنتُ منجدلا، وأيقظني بعد أن كنتُ وسنانا .
فحديث المرء عن شيء من أيامه، إنما هو فِلْذة قلبه يخالط به شغاف القلوب، حين تكتبه دموع العين وترسمه بلهنية العيش، وتُسقى أحرفه من مداد القلب والحياة، لتمتزج أفراحه بأتراحه فترسم صورة هي أنت .

لقد كان حديثك عن تلك الأيام حديث الروح للروح، فأوهمتني نفسي أنك ما عنيت به غيري. ولكل إنسان ذكرياته..، إلا أنه سيجد في مكتوبك شيئا من روحه، ويقف فيه على شيء من معالم حياته، ليضمم يده إلى جناحه ويكفكف دموع أحزانه، فمع أنه يقرأ عن أيام ليست بأيامه إلا أنه سيظن أنها تتحدث عن أيامه، تلك هي أحرف الذكريات .
فكيف بي وبقلي أنا وأنا أنت وأنت أنا، فما نحن إلا رضيعي لبان وقريني سن ومكان، طالما التقينا في الطريق، وشربنا من ذاك الرحيق، لقد كنا وكنا.. وكانت لنا تلك الأيام الخالدة في أعماق النفس .

أتدري ما صنعتَ أخي الحبيب..؟! ويم الله لكأنما قلبي قلب عاشق قد سلى..، حتى إذا ما شارف البرء واندمل الجرح.. نادى مناد الهوى وهتف هاتف الحنين.. فأيقضتَ جمرة قد خبت أوارها، وأحييتَ ذكرى قد درس رسمها، وبعثتَ صورة طالما هربتُ منها إليها، فلله أنت ولله تلك الأيام .

لقد نثأتَ جراب الذاكرة، واستدررتَ محالب الأشجان، وهيجتَ طيف الخيال، فاهتزت الأرض وربت، وأنبتت بعد أن تَكمّأت، حين هطلت دموع الأحزان ترويها..، فحرثتُ أيامنا بصياصي الذكريات، لأشرف منها على ما يقطع نياط القلب، وما نياط القلب مع وشيجة تلك الأيام..!

لكل إنسان ذكرياته في هذه الحياة القصيرة التي نطيلها بأحلامنا وآمالنا، فنسعد معها تارة ونحزن تارات، وما من ذكريات كانت إلا وفي أعطافها من الأحزان ما يضوي القلب ويشجي الفؤاد، إلا أن الأمر كما أحسن وصفه الأعمى حين قال :

ذكرنا أحاديث الزمان الذي مضى فلذ لنا محمودها وذميمها


ولن أتحدث عن فلسفة الذكريات وأسبابها وبواعثها...، فلعلم الأدب محل آخر غير حديث الأدب بل حديث القلب والروح، وإن كانت الكتب في هذا المعنى شحيحة كشح زماننا من المعاني وانثيالها خلف الشخوص والماديات، فلعل الله يمن بفضل منه فنبسط ما في النفس من هذا المعنى مما ننظمه من كتب أهل العلم والأدب، فلم نظفر به بعد في إضبارة واحدة .

علم الله ما رأيتُ نفسي تضعف أمام شيء كضعفها أمام حنين الذكريات، والوقوف على الأطلال ومراتع الصبا، إنها لتعصف بي عصف الرحى بثفالها، حين تحط على صفحة قلبي بجرانها، ولربما شدني الأمر وأغرقني الفكر فأشعر كما لو أني أعيش لحظاتها، فآكل من عسّالها وتينها، وألهو مع فتيانها وطيرها...، وأتحسس أعلامها فأقطف الزهر، وأسقي الزرع، وأرعى الأغنام...، لأروي ثماد روحي من طيف تلك الأيام.
وما هو إلا أن تمرع ثمرة حياتها في نفسي، حتى أفيق من سكرة مطبقة، فإذا بي بين حيطان مصبوغة بالألوان، وشارع أسود يذكر بالثعبان، تلفني بناية شاهقة، ويسد بصري ناطحة سحاب كالحة، كأنما تنادي بطولها الشاهق تطاولها على روح الحياة، وعلى ما تكنه من زيف وزهو وخداع، حين سلبت الإنسان معنى الإنسان، بل حين سلبت كل الأشياء معانيها فجعلت منها شخوصا هامدة، فماهي إلا كمِجْدَرة الزرع وخيال الإنسان حين يُنصب ليصد الطير الذي يغدو ويروح لحبة يسد بها جوعته، فكانت تلك حرمان حبّه وهذه حرمان حياة، ذلك الشاخص يُحرم به الطير من حبة تقيم أود حياته، وهذه ناطحة سحاب قامت كمثال على سلب الحياة، هي أشياء وأشياء وأشياء..غير أنها تفتقد سر الحياة، فغدت كالأشباح بلا روح بل هي أشباح الزمان .

وبربك ما هي الأشياء حين تفقد معنى الحياة، وما قيمتها..وما طعمها ولونها ؟! [ إلا كقيمة الخشب الجُوف للريح، تدوج فيها الأعاصير وتدوج، ثم تخرج من ثقوب في أسافلها، وما قبضت منها إلا كما تقبض الماءَ الغرابيل ] ( عقب به إحدى الأخوات على تغريدة كتبتها ) .

وهذه ساعة واحدة من يوم واحد من تلك الأيام، حين أيقضنا الوالد ـ أمد الله في عمره ـ لأداء صلاة الفجر، والويل كل الويل لمن كرر عليه النداء أو تقاعس عن النهوض، لنتوضأ على مكاره الله يعلمها..، فالنوم شديد والبرد قارس تكاد تتساقط أصابع اليدين حين تعرضها للماء، ولهذه البرودة فإن كل واحد يتدثر بما استطاع من اللباس حين البكور إلى الصلاة، حتى لو استطاع التدرع بفراش نومه لفعل .

كنا نخرج بصحبة الوالد والمؤذن أحيانا يؤذن لصلاة الفجر، وفي تلك اللحظات ربما نسمع دوي بعض كبار السن بالتسبيح والتهليل وهو يقترب رويدا رويدا، بصوت لم أعد أسمع مثله في كراديس الإسمنت والحديد..، نعم كان ذلك الصوت من أصوات الناس وحروفها وألفاظها إلا أنه كان من روح لم تتلطخ بأوضار الدنيا وأقذارها، كأنك حين تسمعه ما عرفت تسبيحا ولا تهليلا...، فنسير ونحن نشعر كأن الملائكة تحف بنا، وذلك الصوت الذي يحمل نغم السنين وجرس الإيمان يستحث الخطى، حتى نلتقي على باب المسجد فإذا به شيخا كبيرا على وجهه تجاعيد الدهر، فلو سألتني عن شيء من التوحيد والإيمان كشيء من الأشياء.. لقلتُ : اطلبه في الشيخ الكبير الذي ابيضت لحيته في الإسلام.

وربما دعاني الحنين لهذا المعنى فأطلبه في مظانه، إذ لم تعد مثل هذه المعاني مما يتفق عادة دون تقص ونظر، فلا أظفر به إلا بعد اللتي واللتيا، وما هو إلا أن أعثر عليه حتى أصغي إليه إصغاء العشار لأسقابها، فكأني ما عرفتُ التسبيح قط..، وكأني ما عرفتُ الذكر قط..، وكأني ما سمعتُ صوت السنين المصبوغ بالإيمان قبل سماعه من فم شيخ كبير يدهده الخطى إلى بيت من بيوت الله تحت جنح الظلام، ولربما سرتُ خلفه أو رصدتُ له في طريقه لألقي عليه التحية ولأكرم لحيته التي بكى الشيب فيها بعد أن كان ضاحكا، ثم أودعه بقبلة بين عينيه، وإن كنتُ لا أُرغّب في تقبيل رأس أحد من الناس بعد الوالدين إلا هذا الشيخ الكبير، الذي أشعر وأنا أقبله أني إنما أقبل شيئا من الإسلام .

ولم أنس حديثا حدثنيه والدي عن أحدهم ساعة كنت صبيا، حين قال يابني : هذا الشيخ الكبير فلان...، لا ينام الليل.. يعوي كما تعوي السباع وينتحب كما تنتحب الثكلى، فرقا من القبر وظلمته...، يقوم معظم الليل باكيا ساجدا متضرعا...، فأجدني كلما تذكرتُ تلك الكلمات وذلك الشيخ المسن، بكيتُ على نفسي وأشفقتُ على يومي وأمسي، فواخزياه من حياة تمضي سبهللا . [توفي عن عمر يناهز المئة عام قبل نحو من ثلاثين سنة رحمه الله رحمة واسعة] .

وما هو إلا أن يسلّم الإمام والرأس يترنح يمنة ويسرة من شدة النوم ـ يوم أن كنا نعرف حقيقة أن ينام الإنسان ـ حتى ننتظر الوالد برهة من الزمن يتم فيها أذكار الصباح، فلا نستطيع الانصراف قبله أجلالا له وهيبة منه، ولأنه يحمل الكشاف ـ المصباح/السراج ـ الذي يساعدنا في تلمس خُطانا فالظلام يخيم بالمكان، حيث كان الضباب يسد نور القمر وتباشير الصباح، فنمكث في مصلانا حتى ينصرف الوالد فنسير خلفه، وما هو إلا أن ندلف مع باب البيت حتى يسارع كل واحد إلى مِخدعه، للظفر بدقائق معدودة من النوم الذي سريعا ما يطبق بالأجفان لشدة البرد وفورة الشباب وغفلته .
وما هو إلا أن يبدأ أحدنا ليغط في نوم عميق..، حتى يخيم على البيت صوت رخيم ينبعث من مذياع الوالد، بتلاوة عطرة من القارئ على جابر رحمه الله، ليملأ البيت نورا وسكينة ورحمة وضياء، ولا أكذب الله.. أني من تلك الأيام التي تقارب الثلاثين عاما لا أستطيع مواصلة الاستماع إلى تلاوة الشيخ حتى يومنا هذا..، ولا أسمعه إلا ويفز قلبي ليحن حنينا إلى طهارة تلك الأيام وصدقها...، فرحمه الله ورحم تلك الأيام .

ومع ذلك الصوت الندي الذي يزيد النفس سكينة لتغط في نوم عميق..، يدوي في أرجاء البيت ذلك الزئير الذي ينظّم فيه الحياة، ليفزّ الجميع رهبة منه ورغبة عن تكراره، وبين باحث عن كتاب ضائع أو كاتب لقطعة نثرية طلب الأستاذ كتابتها مرات كثيرة تزيد عن العشرين في أحايين كثيرة، تتسلل رائحة القهوة العربية لتفغم الأنوف برائحتها الزكية، ومع أنا كنا غالبا لا نتصبّح بشيء من الطعام فضلا عن احتساء القهوة، إلا أن لرائحة قهوة الصباح وخبز التّنور الذي يملأ البيت معنى في النفس يشبه شيئا من معاني الحياة .
ثم نقوم بحزم حقائبنا والتوجه إلى المدرسة وإن لم يكن ثم من حقائب، وإنما هو رباط مطاطي لا يتعدى ثمنه ثمن بعض الحلوى التي أشتريها اليوم لبعض أبنائي أطلب بها رضاه !

وأصدقك القول : أنه لولا عتبة الباب أحيانا لما علمتُ حين الخروج من البيت أخارج البيت أنا أم داخلة، لشدة التفاف الضّباب وتلبّده بالأرض، ولا غرو.. فقد كانت مدينة النماص مدينة حالمة ترفل في حُلة من السّحاب الذي يلفها فصلا أو فصلين من العام، لهذا عشنا فيها أيامنا الحالمة...، وما زالتْ تلك الأيام تفعل في النفس فعل السحر أو أشد، حتى إنا لنحلم أحيانا ولولا ذلك لفقدنا طعم الحياة..، فاحلُموا بارك الله فيكم فلا حياة من دون أحلام..!

كنا نسير على الأرض ونحن نتحسسها كي لا تزل أقدامنا في الماء والوحل، بينما كانت أرواحنا تسير فوق تلك الغيوم التي تحمل في ذراتها إكسير الشعر ونغم الحياة ونعيمها، حتى كأنما هي حياة فوق الحياة أو حياة من الحياة أو هي الحياة الثانية...، وربما انقشعت تلك السُّدْفة المعتمة فلا ترى إلا الزهر والريحان..، فالأرض متدثرة حلة خضراء فاتنة، يرويها الطل ويمدها الندى، ويداعبها النحل، ويناغيها النسيم، وتقوم فيها الحياة بسُويعة من النهار ينقشع عنها الضّباب لتقبّلها أشعة الشمس فتبعث فيها الحياة .
ولا تسل عن تلك السُّوْيعة من النهار..! وكيف كانت تسفر فيها السماء عن حلة زرقاء تسبي القلوب، فلو ذهبتُ في وصفها ما ذهبتُ لما لاط بذلك أليق من قول جوته الألماني : ( أصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل ) !.

لم تكن قد وسِمَت الأرض بهذه الخطوط السوداء فتسلبها شيئا من حياتها، بل كم سلبت من الأرواح وهدمت من الأفراح..، وإنما كنا نسير على الزُّبُر ـ أعتام الأرض وأعلامها ـ التي عقد عكدها النجم المرتوي ماء وخضرة، ومع أن الأباء والأجداد ـ رحمهم الله ـ كان من دأبهم محاربته والإتيان عليه من جذوره، إلا أنهم مع هذا كانوا يدعونه يدب وينمو على أطراف الأرض وأعلامها، ليكون منارا لها وليمنع انثيال التربة من شدة الأمطار .
وحين تسلمنا تلك المسارب والزُّبُر إلى زقاقات البيوت، لنسير بينها نحمل الكتب نحو المدرسة، فإنما كنا نسير بين جنان عن يمين وشمال، حتى ربما لم تجد فارقا بين موطئ قدمك وبين تلك الحيطان في الخضرة والنضارة ونمو الزهر والريحان، وإن كانت تنعم تلك الحيطان بنوع من النبات الذي من وسمه حين غاب اسمه : أنه مكور الشكل شديد الخضرة مرتو من الماء، فكان لنا سلوى حين جنيه ووضعه فوق الإبهام والتي تليها من اليد اليسرى حين قبضها..، ثم الضرب عليه براحة اليد اليمنى ليعطي صوتا أشبه ما يكون بالمفرقعات النارية ـ الطراطيع ـ التي لم نكن عرفناها بعد .

ثم وأنت تسير لا تسمع من حولك إلا الهُدْهُد والنُّغير، فهذا يزقزق ويغرد على الأغصان، وذاك يهدهد ليحدثنا عن اقتراب فصل آخر من فصول السنة .
.................

علم الله ما شبهت تلك الأيام..، إلا بخُود غانية في فُوعَة الصّبى وغَضَارة العيش، فهي في أجمل سني عمرها، لمياء الشفتين، أسيلة الخدين، مقدودة الحشا، دعجاء العينين حوراؤها، منتصبة القامة، مفتولة الأطراف، معسولة الحديث، ناعسة الطرف، رخيصة البنان، مجدولة الشعر كأنما قد صبغه الليل فأضفى عليه من سكونه. يقول ناظرها سبحان خالقها . كأنما هي لوحة فنية رُسمت بيد فنان، وأستغفر الله.. بل صورها الخالق الجميل فأبدع صورتها .
قد كثر عشاقها، وتهالك خطابها، وعظم مهرها، وذاع صيتها...، حتى إذا ما ظن أحدهم أنه ظفر منها بسبب، أو من وعدها بوصل، مع ما يكون قد عظم في نفسه من الرغبة، وقام في خاطره من الرجاء...، فبرّح به الشوق وأضناه الحب، وسقته الأماني كأسا رويا، حتى ظن أنه قد استحكم له الأمر..فخدعه الأمل عن نفسه .
ثم وهو في هذه الحالة من سكرة الهوى وطيف المنى، لا يلبث أن يرى نفسه قد أفاق من حُلم جميل، وغمرة سعادة عابرة...، لينهض من فراشه كسيفا أسيفا، حين تيقنه أنه إنما كان يغط في نوم عميق، وأنه إنما كان في حُلم من الأحلام، يعيش فيه من ساعات العمر أجمل لحظاتها. ومن الأحلام أهنأ أحلامها...، فاحلُموا بارك الله فيكم فإن أجمل ما في حياة المدينة الأحلام .
.
 
لله در هذه التأملات المباركات التي أعادت الأخ الكريم (ابن الشجري) للكتابة في الملتقى بعد طول غياب, ولقد كانت مفاجأة سعيدة ومبهجة لنا رغم أننا لم نعاصر عهده في الملتقى؛ لكن آثاره الطيبة تشهد بروعة قلمه, وتأسر بجمال حرفه, وتطرب برقة معانيه.
ولقد قرأتُ له منذ السنة تقريبا الرسالة العتابية فأعجبتني وأبهرتني حتى أنني كتبتُ هذا التعليق عليها:
أثناء تجولي في صفحات الملتقى التي طواها الزمن , وقعتُ قدرا على هذه الرسالة , وبعد أن أزلتُ ما علق بها من غبار , لم أستطع أن أتجاوزها دون أن أبدي فيها شيئا من الإعجاب , فلكم يشدني الإبداع ويأسرني أينما كان لاسيما ذاك الذي تميز برقي الفكر .. وسمو الخلق .. وعمق النظرة .. وجزالة الكلم .. وحبك العبارة .. وسلاسة الأسلوب.
فجال بخاطري : إن كان بعض الأخوة ـ مشكورين ـ قد ذكروا بعض الأسماء التي افتقدوها في الملتقى خلال العام أو العامين الفائتين , فإن الملتقى بذاته وكيانه وعلى مدى سنينه وأعوامه لابد أنه افتقد الكثير من أمثال هذا الكاتب المبدع المفكر .
وقد ظننتُه ـ لأول وهلة ـ ناقلا لهذه الرسالة , غير أنه كان قد قدم لها في صفحة مستقلة بقوله : ( ومع هذه العودة فإني أتشور من أن اعود خالي الوفاض ، فهذه رسالة عتيقة ، كنت قد أرسلتها إلى أحد الأخوة معاتبا له لبادرة كانت منه ، أحببت كما أحب هو أن اطرحها بين يدي اساتذة نقاد وقراء أكفاء ، لعل فيها مايفيد والله المستعان ) .
ولقد تتبعتُ بعضا من مواضيعه , فوجدتها جميلة مميزة , وأنصح مَنْ أحب أن يستزيد من مقالاته ألا يفوته : ( رجل يحمل هم أمة , وأمة مهمومة لرجل ) , و ( الفضيلة الذاتية ) وغيرهما .

فجزا الله ( ابن الشجري ) وغيره من كتاب الملتقى القدامى خيرا على ما قدموه من لبنات رائعة لم ولن تنسى لهم بإذن الله , ساهموا بها في تشييد هذا الصرح المبارك والمميز .
فالحمد لله الذي أعادكم لنا سالمين
رغم أنني لا أشك لحظة أن السر وراء ذلك يكمن في حروف هذه الكلمة الساحرة (النماص), ولولا عشقها الذي تحكيه حروفكما لما أُتحفنا بذكريات رائعة كهذه.
ولولا أن المقام لا يحتمل أن أقتبس من مقالكما وذكرياتكما هذه ما أعجبني وما أطربني لاقتبستُ جلها إلا القليل. ولكن لايسع أمثالنا إلا أن يتنحى سريعا عن خشبة المسرح إلى مقاعد المتفرجين ليترك المنصة ساحة حرة لأهل الإبداع ليُسحروا ويُبدعوا ويُطربوا كيفما شاءوا. فبارك الله فيكم.
 
شكراً لكم جميعاً .
أشكر أخي الحبيب ابن الشجري على تعقيبه اللطيف لطف أخلاقه .

تحية لأخي محمد خليل الزروق وأشكرك على حسن ظنك بهذه السواليف .
 
أنست هذا اليوم بمشاهدة الحلقة الماتعة من برنامج ربيع القوافي والذي يبث على قناة دليل ، وكان ضيفها الشيخ عبدالرحمن الشهري وفقه الله ، وليتك يا شيخ عبدالرحمن تتكرم علينا بنشر قصيدتك القديمة التي نشرت في الصحيفة، حيث أنها من أجمل ما قيل في البرنامج مع مقطوعة حمزة شحاته .
أشكرك وسوف أفرد لها مشاركة خاصة إن شاء الله جزاك الله خيراً وجبر خاطرك .
 
التأملات والأشواق والحنين إلى النماص والجهوة وتذكر الأيام والسنين الصعبة و الفترات الحرجة والقاسية التي مرت، ما هي إلا تربية وإعداد للمستقبل من الأيام، أو لنقل: هي صناعة شاء الله أن تكون كذلك أو مسار لا مناص منه، العبرة منه عظيمة والفائدة كبيرة، فلولا تلك الأيام الصعبة و ما عرفته من عناء شديد ومثابرة كبيرة ما تعرفنا على أخ عزيز اسمه عبد الرحمن الشهري.
ولولا تلك الأيام ما كتبتْ تلك القصيدة التي امتحن فيها الطلاب؛ فتلك الأيام (حسب طبيعتها بالنسبة لكل واحد منا) هي بمنزلة خزان الوقود المغذي للحاضر الذي نعيشه بحلوه ومره، بأفراحه وأحزانه وبكل ما فيه، وما يمكن أن يكون عليه المستقبل، الله يعلمه. ففي الحلقة الأخيرة من "ربيع القوافي" ليوم الجمعة 10 ربيع الأول 1433 تم تشبيه الرجوع إلى أوراق تلك الأيام بـ "التاجر اليهودي حين يتعرض للإفلاس يرجع إلى أو يراجع أوراقه القديمة" (أو كلاما مثل هذا، أرجو التصحيح إن أخطأت)؛ فالرجوع إلى "الأرشيف" يكون لتدقيق الحسابات و تحيين الخطط للنهوض مرة ثانية والتحول من وضع إلى آخر أفضل، فتلك الأوراق هي التي بَنَتْ هذا الواقع الذي نعيشه ونستفيد منه جميعا.
إن ضربات الزمان التي لا تقتل المصابين بها قد تقويهم (أحيانا) فترفع من هممهم وتجعلهم يتطلعون إلى المستقبل بتفاؤل وبأفكار استشرافية بناءة تجعل من واقعهم المؤلم أو الحزين منطلقا لغد أفضل على جميع المستويات. وهنا أتذكر عددا من التلاميذ قبل أن يصبحوا طلابا وباحثين فمدرسين بالجامعات ومسؤولين بمؤسسات الدولة عاشوا فترات (على مستوى الفرد والأسرة) يصعب فهمها وتقبلها بسهولة في هذا الواقع المعيش.
أجل إن المحن (بالنسبة للبعض) منَحٌ من الله تعالى يصنع بها الرجال ويُعدهم من خلالها لحمل أمانة تبليغ العلم والشريعة؛ وما صناعة الله جل جلاله لموسى عليه السلام والابتلاءات التي تعرض لها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا دليل على هذا.
وعذرا فأنا لا أكتب شعرا، إنما كنت أحفظ لامية العرب لما كنت صغيرا ولم يبق لي من حفظها الآن إلا أبيات قليلة.
 
وقد سافر إلى فلسطين وشارك في الحرب هناك مع الجيوش العربية التي شاركت في حرب 1367هـ للدفاع عن فلسطين ، ولكن الخيانة التي وقعت حينذاك من القيادات أفقدت تلك المشاركة قيمتها وثمرتها، وقد شارك هو وزملاؤه بصدق وإخلاص لتحرير فلسطين من اليهود

اللهم فرج و نصر قريب يا الله
سلمت يمينك أستاذنا الفاضل
 
أخي العزيز د. عبدالقادر محجوبي أشكرك على تعقيبك اللطيف لطف أخلاقك ، والعميق عمق تفكيرك . إنما أكتب هذه الذكريات لنفسي قبل أن أكتبها للقراء الكرام ، فهي تبعث على تذكر نعمة الله علينا ، وتيسيره لأمورنا فله الحمد والشكر والثناء الحسن .
وقد تطاول الزمان على نشر هذه الحلقة ، ولعلي أكتب الحلقة التالية قريباً إن شاء الله .
 
عودة
أعلى