د عبدالله الهتاري
New member
- إنضم
- 17/03/2006
- المشاركات
- 159
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
(خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج، 31].
يشد البيان القرآني أذهان متلقيه من أرباب البيان بأسلوبه البديع وتصرفه البليغ في فن القول في هذا المقام؛ إذ تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع "فتخطفه" أو "تهوي"، ولم يأتِ السياق على نسق واحد فيكون "خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح".
ذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة، حاله حال الماضي في تحققه، فقال: "خرّ من السماء"، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة "خرّ" وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها؛ إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي، و يصور سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ "الفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء.
"ثم تحول إلى المضارع "فتخطفه" و"تهوي" لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به.
فكأننا نشاهد خطف الطير له، وهوي الريح به مشهدا مفزعا شاخصا في الحال.
فيا لهول المشهد وفاجعة الخيال!
فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف "في" الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط.
وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار.
ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، كدلالة انتهاء الغاية لحرف الجر (إلى) لغاية الانتهاء.
وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النسق نفسه من المضي، لمضى السياق كله على عجالة، دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر، وإنعام الفكر في مشهد الخطف والهوي.
ثم أتت لفظة ( سحيق) في هذا البيان، دون (بعيد) في هذا المقام؛ للدلالة على البعد مع السحق والهلاك، الذي لا نجاة منه ولا انفكاك ..
ثم أمعن النظر، وأنعم الفكر وزد، في قوله تعالى:
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
فتجد الصورة الماثلة المشاهدة للعيان في تمثيل حال المشرك بالله -نفسيا، وفكريا، وحياة ومآلا، بحال من هوى من علو الإيمان وسمو التوحيد في سمائه وعليائه وأفقه المرتفع إلى مهاوي الردى، والشهوات، والمهالك، وبقاع الردى من الفلوات،
وهو انتقال تصويري عجيب من المعاني إلى التمثيل لها بالمشاهد والمحسوسات!
فتورث تلك الصورة الماثلة للعيان هزة نفسية لمتلقيها من ذوي الأفهام..
ثم يصاحب ذلك الهوي السريع المعبر عنه بالسقوط والخرور المفزع دون تريث أو انتظام؛ لدلالة الهلاك الحتمي الذي لامناص منه ولا انفكاك..
فالساقط من علو يفقد السيطرة على نفسه وفكره وحركته، وليت الأمر وقف عند ذلك فحسب، بل تزداد الصورة فزعا، والمشهد هلاكا بتعدد أنواع الهلاك، (فتخطفه الطير أو تهوي به الريح) نعم تخطفه بسرعة الفعل وخفته، و (تخطَّفه) على قراءة؛ لقوته وشدته.
وهكذا حال الأهواء الكفرية والتخبط والتيه في مهامه الكفر تتدافعه وتتخطفه في طرق الغواية والهلكة والردى، فلا نفس مطمئنة، ولا حالة نفسية مستقرة، ولا ثبات في الفهم، ولا استنارة في العقل، ولا عاقبة حسنة مرجوة.
والطير الكواسر في أفق السماء تخرج له من مجاهيل الفضاء، تلك صورة مفزعة مغرقة في الوحشة والإيذاء، زد على ذلك الهوي السريع المستمر، في اتجاه واحد، من ريح شديدة في اتجاه واحد للسقوط، لا رياح متعددة الاتجاهات؛ يكسر بعضها بعضا، فتخفف من شدة السقوط!
وتعدد حالات الهلاك المعبر عنها ب(أو) إيحاء بعنصر المفاجأة، وحتمية الهلكة المتعدة؛ من غير ترتيب أو انتظام، بل المشهد كله سريع فظيع كسرعة التعقيب بالفاء (فتخطفه الطير).
والتصوير القرآني لهذا المشهد فظيع بديع!
فهو يطابق حالة معنوية بحالة حسية، بأداة التشبيه (كأن) دون غيرها في هذا المقام؛ ذلك أنها أقوى الأدوات في اختصاصها للمماثلة والمشابهة التامة، دون فروق تذكر أو تكاد!
وهو ما استعمله البيان القرآني في وصف مقالة ملكة سبأ وقد شاهدت عرشها ماثلا أمامها، وهو هو، دون أدنى ريب أو شك؛ فكان التعبير والتشبيه الدقيق ب(كأن) ( أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ).
ويقابل امتداد الرفعة في علو السماء بمد الصوت معها ( من السماء) امتداد الصورة المفزعة للسقوط والهوي، المعبر عنها بهوي الصوت، وامتداد انكساره في الأداء ( تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).
إنها مجاهيل متعددة يهوي منها وإليها، وتتخطفه منها كواسر الهلكة! وجوارحها في الفضاء، والسحق المحطم له المقرون بالدوي، الذي يصدره صوت القاف المفخم بقلقلته المدوية في الأداء!
د. عبد الله الهتاري
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج، 31].
يشد البيان القرآني أذهان متلقيه من أرباب البيان بأسلوبه البديع وتصرفه البليغ في فن القول في هذا المقام؛ إذ تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع "فتخطفه" أو "تهوي"، ولم يأتِ السياق على نسق واحد فيكون "خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح".
ذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة، حاله حال الماضي في تحققه، فقال: "خرّ من السماء"، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة "خرّ" وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها؛ إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي، و يصور سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ "الفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء.
"ثم تحول إلى المضارع "فتخطفه" و"تهوي" لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به.
فكأننا نشاهد خطف الطير له، وهوي الريح به مشهدا مفزعا شاخصا في الحال.
فيا لهول المشهد وفاجعة الخيال!
فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف "في" الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط.
وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار.
ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، كدلالة انتهاء الغاية لحرف الجر (إلى) لغاية الانتهاء.
وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النسق نفسه من المضي، لمضى السياق كله على عجالة، دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر، وإنعام الفكر في مشهد الخطف والهوي.
ثم أتت لفظة ( سحيق) في هذا البيان، دون (بعيد) في هذا المقام؛ للدلالة على البعد مع السحق والهلاك، الذي لا نجاة منه ولا انفكاك ..
ثم أمعن النظر، وأنعم الفكر وزد، في قوله تعالى:
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
فتجد الصورة الماثلة المشاهدة للعيان في تمثيل حال المشرك بالله -نفسيا، وفكريا، وحياة ومآلا، بحال من هوى من علو الإيمان وسمو التوحيد في سمائه وعليائه وأفقه المرتفع إلى مهاوي الردى، والشهوات، والمهالك، وبقاع الردى من الفلوات،
وهو انتقال تصويري عجيب من المعاني إلى التمثيل لها بالمشاهد والمحسوسات!
فتورث تلك الصورة الماثلة للعيان هزة نفسية لمتلقيها من ذوي الأفهام..
ثم يصاحب ذلك الهوي السريع المعبر عنه بالسقوط والخرور المفزع دون تريث أو انتظام؛ لدلالة الهلاك الحتمي الذي لامناص منه ولا انفكاك..
فالساقط من علو يفقد السيطرة على نفسه وفكره وحركته، وليت الأمر وقف عند ذلك فحسب، بل تزداد الصورة فزعا، والمشهد هلاكا بتعدد أنواع الهلاك، (فتخطفه الطير أو تهوي به الريح) نعم تخطفه بسرعة الفعل وخفته، و (تخطَّفه) على قراءة؛ لقوته وشدته.
وهكذا حال الأهواء الكفرية والتخبط والتيه في مهامه الكفر تتدافعه وتتخطفه في طرق الغواية والهلكة والردى، فلا نفس مطمئنة، ولا حالة نفسية مستقرة، ولا ثبات في الفهم، ولا استنارة في العقل، ولا عاقبة حسنة مرجوة.
والطير الكواسر في أفق السماء تخرج له من مجاهيل الفضاء، تلك صورة مفزعة مغرقة في الوحشة والإيذاء، زد على ذلك الهوي السريع المستمر، في اتجاه واحد، من ريح شديدة في اتجاه واحد للسقوط، لا رياح متعددة الاتجاهات؛ يكسر بعضها بعضا، فتخفف من شدة السقوط!
وتعدد حالات الهلاك المعبر عنها ب(أو) إيحاء بعنصر المفاجأة، وحتمية الهلكة المتعدة؛ من غير ترتيب أو انتظام، بل المشهد كله سريع فظيع كسرعة التعقيب بالفاء (فتخطفه الطير).
والتصوير القرآني لهذا المشهد فظيع بديع!
فهو يطابق حالة معنوية بحالة حسية، بأداة التشبيه (كأن) دون غيرها في هذا المقام؛ ذلك أنها أقوى الأدوات في اختصاصها للمماثلة والمشابهة التامة، دون فروق تذكر أو تكاد!
وهو ما استعمله البيان القرآني في وصف مقالة ملكة سبأ وقد شاهدت عرشها ماثلا أمامها، وهو هو، دون أدنى ريب أو شك؛ فكان التعبير والتشبيه الدقيق ب(كأن) ( أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ).
ويقابل امتداد الرفعة في علو السماء بمد الصوت معها ( من السماء) امتداد الصورة المفزعة للسقوط والهوي، المعبر عنها بهوي الصوت، وامتداد انكساره في الأداء ( تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).
إنها مجاهيل متعددة يهوي منها وإليها، وتتخطفه منها كواسر الهلكة! وجوارحها في الفضاء، والسحق المحطم له المقرون بالدوي، الذي يصدره صوت القاف المفخم بقلقلته المدوية في الأداء!
د. عبد الله الهتاري