محمود الشنقيطي
New member
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد: فإنَّ النَّـاظرَ إلى بعضِ مواد وأبواب ومُفردات علوم القرآنِ الكريم جُملةً وعلمِ القراءاتِ بوجهٍ أخَـصَّ يُلاحظُ اهتمام العُلماء بالنظم لمنثورها بُغيةَ استيعابهِ وحصرهِ والإعانةِ على حفظهِ وضبطِـهِ وذلكَ لما استقرَّ عند أكثر المتعلمين من أنَّ النظمَ أقلُّ جُـهداً في التحصيلِ وأقصرُ مدةً في الحفظِ، وهو أقدرُ على جمع المُفترقِ في ذهنِ الطالبِ وتَرسيخِ المادةِ فيهِ بشكلٍ لا يُمكنُ أن يتهيأ للنثرِ في أغلب أحواله.
واستطاعَ علماءُ الأمَّـةِ سلفاً وخلفاً أن يحفـظوا تراثاً قُـرآنياً هائلاً بهذه المنظومات بسبكٍ مُعجِـزٍ لا يتخللهُ سقطٌ ولا إخلال، ولفظٍ موجَزٍ لا تبلغه سآمةٌ ولا إملال، حتى أصبحت المكتبةُ القرآنيةُ بفضلٍ من الله زاخرةً بشتى أنواع المنظومات ما بينَ مقصورٍ وممدود.
وجارَى الخلَفُ من علمائنا أسلافَهم في بعضِ هذه المنظومات أدباً منهم وإعجاباً وسيراً على خُطاهم الطاهرة حتى في البحْـر والروِّيِّ المنظوم عليهما، لكنَّ الناظرَ اليومَ في بعضٍ غيرٍ قليلٍ من هذه المنظومات لن يُعجزهُ أن يقفَ على منظوماتٍ اجتهدَ ناظموها – مأجورين إن شاء الله - فأعيتهم آلةُ النظمِ وأصرَّ بعضُهم على المجاراةِ والمُحاكاة فخانتهم الطبيعةُ الكامنةُ التي لا يستقيمُ بغيرها نظمُ الشعر، حتى باتت مجاراتهم لبعضِ الأقدمينَ ضرباً من البناءِ على الشفا الهاري الذي لا يلبثُ أن يسقطَ فينهارَ.
وأحبُّ أن أفصلَ في هذه الأسطرِ بين مُتلازمتينِ عند بعضِنا لا صلةَ لواحدةٍ منهما بالأخرى، وهما:
الأولى: جلالةُ القدرِ والموهبةُ في الحفظِ والإمامةُ في العلمِ والرسوخُ فيه.
الثانيةُ: القدرةُ على النـظمِ والتوفيقُ لهُ وقبول الطبعِ به وسَوغُـهُ في الآذان.
ومن أصدَق الشواهدِ على انفصال هاتين المُتلازمتين حالُ سعيد ابن المسيب رحمه الله حيثُ كان يحب استماعَ الشعرُ ويستحسنه ولكنهُ لا يُحسِنه، فإذا انفصلتْ هاتانِ المُتلازمتانِ عن بعضِهما فلن يجِد الواحدُ منا حرَجاً في قوله بأنَّ كثيراً من المنظومات اليومَ يَنبَغي أن يُكرَم ناظموها رحمهم الله بالإقلاعِ عن تقريرها مناهجَ أو تدريسها بشكلٍ رئيسٍ قد يوحي بوحدتها في بابها وتقدمها على لداتها وأترابها، مع أن الحقيقةَ أنها على العكس من ذلك تماماً، ولكن تهيأت لها فرصةُ الطباعة والنشر والتوزيعِ بحَجمٍ لم يتهيأ لغيرها من منظومات السلف والخلفِ التي تغني عنها وتزيدُ عليها فضلاً في الشكل والمضمون.
ولم يكن أئمةُ الدينِ - والإقراء على وجه الخصوص - ممَّن أوتي ملكَة النظمِ وسلامةَ الذائقةِ يربطونَ بينَ جلالة قدر المرء وسلاسةِ نظمهِ ليتحرَّجوا من النقد، فترى أحدهم يُترجمُ للعَلَمِ ويذكرُ فضائلَـهُ ويُثني على شعره وجودة نظمه إن كان كذلك وربما قيل في بعضهم: إنه كان ذا قلَمينِ كنايةً عن النظم والنثر، ولكن لا يمنعُ ذلك من الحكم على نظم بعضهم بأنه ركيكٌ، ومن ذلك ما قالهُ ابنُ عساكر رحمه الله عن الحَسن بن أحمد القرشي عليه رحمة الله حيث قال عنهُ ((( لَهُ شِعرٌ رَكيكٌ ))) مع أنهُ علمٌ ممن حلَّ الشامَ من الأعلام والأماثِلِ. تاريخ دمشق 13/31 .
وكما فعل الذهبي رحمه الله تعالى يومَ ترجمَ للزَّمخشَـريِّ، وكما فعل الإمامُ السخاوي في ترجمتهِ لمحمد بن أبي بكر الحبشي الحلبي - عليه رحمة الله - حيثُ ذكر محفوظاته ومروياته ورحلتهُ في الطلب والسماع وإمامته الناسَ بالجامع، وقال مع ذلك: ((( وَأَوْقَفَنِي عَلَى نَظْمٍ رَكِيكٍ عَمِلَهُ فِي السَّيْلِ ))) الضوء اللامع 7/191 .
وكما فعل في ترجمتهِ ليحي بنِ محمدٍ القباني - عليه رحمة الله - حيثُ قال بعد ترجمته - الطويلة المشتملة على تفننه وطول باعه في العلوم وكثرة شيوخه - وقد روى عنهُ بيتين يقول فيهما:
إن كنت تبغي في العلا للجنان ... عليك يا صاح بحفظ اللسان
فهل وجوه الناس كبت سوى ... حصائد الألسن من ذي لسان
قال السخاوي ((( وبِالْجُمْلَـةِ فَنَظْمُهُ رَكِيكٌ ))) الضوء اللامع 10/246 - 247.
إلى غير ذلك من استسحسان العلماء أو استقباحهم لشعر بعضهم أو من سبَقهم عموماً وما كان منهُ نظماً للعلوم بوجه أخص.
ومن أجل ذلك: كنتُ كثيراً ما أستغربُ بعضَ المرويَّـات الشعرية التي يحفظُها ويُلقِّنُها بعضُ المقرئين رغبةً في تيسير و تحرير بعض الطرق والروايات، أو جمعِ المستثنيات أو غيرها، حيثُ أسمعُ المقرئ يحفظُـها مُختلَّـةَ الوزنِ ويتلقَّفُها الطالبُ بحالتها تلكَ، ويجمعها البعضُ في كتاب ويخرجهُ للناس، ويسيئُ لنفسه ولبعض شيوخه حين يقول: راجع أبياتها وضبطها وقابلها وصحَّحها واعتَنى بها الشيخ فلان الفلاني، فإذا ما أجلت النَّـظر في الكتاب وجدت فيه كل شيء خَلا الضبط والتصحيح والعناية.
وكنتُ عند مصارحة بعضِ الرفاقِ والشيوخ بذلك أحاذرُ منهم ظنَّ التنقُّص لأولئك الأعلامِ لتلازم الإمامة في العلم عند بعضهم بجزالة اللفظ وجودة السبك، مع أن بعضَ منظوماتهم مما يُستحيَى من روايته صيانةً لرفيع أقدارهم.
وظلَّـت هذه القناعةُ حبيسةَ النَّـفسِ يُـورِيها اطَّـلاعي على بعضِ الكتب الطافحةِ أو الشارحة لبعضِ هذه المنظومات الهزيلة، أو سماعي لبعض تلك الشواهد بينَ حينٍ وآخَرَ، ويُخمِدها ألاَّ أذُنَ تُصغي لمَلام أو تقبلُ مراجعةً في إنتاج أولئك الأعلام.
وزادَ الهمَّ وضاعفَـهُ ما نراهُ جميعاً من المخاطرة والمُجازَفة، حين يعمدُ البعضُ إلى القصيدة الحسناء، والروضةِ الغنَّـاء، والجنَّـةِ الباردةِ الفيحاء، حرز الأماني ووجهِ التهاني، فيعارضُـها بأبياتهِ ويُجاريها، ونسبةُ نظمهِ إليها كنسبة الغَلَـسِ إلى الظهيرةِ.
وكثيرٌ من هذه المنظومات في علم الرسم والقراءات خصوصاً وعلوم القرآن عموماً لا حاجةَ بطالب العلم إليها لأنَّـها إعادةٌ وتكرار أو تفصيلٌ لا يخدمُ الفنَّ ولا يحلُّ معضلةً فيه، بل هو استنساخٌ لجهود السابقينَ ولكن بصورةٍ أغبشَ.
واجتمعتْ لي بعضُ الخواطر وأنا أجدُ هذا الإحساسَ، فرأيتُ أن أكتبَها لأنتفعَ بها قبل الناس، ومنها:
* أنَّ النظمَ يُرادُ به أمرانِ: تقريبُ المعاني وجودةُ المباني، ولو كانت القضيةُ ألفاظاً مجردةً أو أوزاناً مجردةً لكان النثرُ أو تفعيلةُ العروضِ أوفى بالمهمَّـة، ولذا كان المبرَّدُ وهو قبلةُ العربيةِ في زمانهِ يُدركُ هذه القضيةَ تمام الإدراك ويعتَرفُ بأنَّـهُ ربَّما أراد التعبير لبعضِ صحابهِ اعتذاراً أو التماساً فيقومُ المعنى الذي يريدهُ في نفسهِ ويغيبُ عنهُ مبناهُ المتمثلُ في القالبِ الذي سيحمل هذه الألفاظَ فيستغرقُ في صناعتهِ يوماً كاملاً ثم يعجزُ عنهُ ويتركه.
* أنَّ النظمَ ليسَ واجباً، ولا يُعرفُ في سلفٍ أو خَلَفٍ من عابَ على عالمٍ أنَّـهُ لم ينظم ولكنْ عُـرفَ استقباحُ العلماء وطلبة العلمِ لكثيرٍ من المنظومات التي تكلف أربابها ما لا يطيقون.
* أن أصحاب الصناعةِ النثريَّـةِ والنظميَّـةِ كانوا يستحبُّـون على من يسلُك بقلمه هذه المسالك الوعرةَ أن يتأنَّـى في تخيُّـر الألفاظِ لينالَ استمالةَ الأسماعِ والألحـاظِ فلا يضعُ كلمةً في موضعٍ ليس لها، وأن يسبق ذلك بالدربة الطويلة، واستجماعَ آلات الكتابة التي لا تتكوَّن ملكتها بغيرها من نحو وصرفٍ وأدبٍ وبيانٍ ومعرفةٍ بأساليب وبلاغة السنَّةِ والقرآن ليتربَّى بذلك الذوق، ويُرهف الحسُّ، وتزهو العاطفة، ولهم في ذلك ضوابطُ مهمةٌ جداً، ذكرها ابن أبي الإصبع المصري في كتابه تحرير التحبير، وابنُ الأثير في الجامع الكبير، وغيرُهما.
* أن هذه الآلات لا يستفيدُ منها المرءُ ما لم يكن حباهُ الله تعالى موهبةً فطريةً للكتابة والإنشاء، شأنُها في ذلك شأنُ تعبير الرؤى بجانب العلمِ الشرعيِّ، فهي ذاتُ طريقينِ أحدهما اكتسابيٌّ والآخَرُ طَبَعيٌّ إلهاميٌّ، ولذا قال ابنُ الأثير: ((( فَإنَّـهُ مَتَى لمْ يَكُنْ ثَمَّ طَبْعٌ لَمْ تُفِدْ تِلكَ الآلاتُ شَيئاً )))، وهذا هو سرُّ ما نجدهُ من تفاوُتٍ بيِّـنٍ عند المتفقِّـهةِ والقُـرَّاء والمحدثين واللغويين وغيرهم من علماء الإسلام الأنداد، فبعضهم يُؤتَى حفظَ العلم وضبطَهُ وبراعةَ التَّدوينِ معاً، وبعضُـهم يؤتَى أحد هذينِ ويُمنَعُ الآخَرَ.
* أنَّ النّظمَ صعبٌ مُرتَقاهُ وهو - كما يصفهُ أبو الطاهرِ السَّرقسُطي الأندلسي – فِي مقابَلة النثر ((( أَصْعَبُ مُرتَقَى، وَأَعْذَبُ مُنْتَقَى، وأَبْدَعُ لَفْظَا، وَأَسْرَعُ حِفْظَا، وأقْصَرُ مَعانٍ، وأنْجَدُ مَبَانٍ، وأَوْرَى زَنْداً، وَأَذْكَى رَنْداً، وَأَجْرَى عَلَى اللِّسَانِ، وَأَحْـرَى بِالإِحْسَانِ، وأبعَثُ للطَّرَبِ، وأّذْهَبُ للْكُرَبِ، وقَد حَكَمَ الأكَابِرُ والأَعَاظِمُ، أنَّـهُ ما عَجَزَ عنِ النَّثْرِ ناظِمْ، وكمْ عَجَزَ عن النَّظمِ ناثِرْ ))) (المقامات اللزومية للسرقسطي 548)، فإذا اقتنعنا بهذه الوجهةِ الضروريَّةِ لم نجد حَرجاً في القول بأنَّ وصفَ كثيرٍ من منظوماتنا بالنَّظم أصدقُ أحوالهِ الحملُ على تسمية اللديغِ بالسليم فألاً حسناً منا لأنفسنا.
وصَـلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّـنا محمَّـدٍ وآلهِ وأزواجهِ والتابعين.
وبعد: فإنَّ النَّـاظرَ إلى بعضِ مواد وأبواب ومُفردات علوم القرآنِ الكريم جُملةً وعلمِ القراءاتِ بوجهٍ أخَـصَّ يُلاحظُ اهتمام العُلماء بالنظم لمنثورها بُغيةَ استيعابهِ وحصرهِ والإعانةِ على حفظهِ وضبطِـهِ وذلكَ لما استقرَّ عند أكثر المتعلمين من أنَّ النظمَ أقلُّ جُـهداً في التحصيلِ وأقصرُ مدةً في الحفظِ، وهو أقدرُ على جمع المُفترقِ في ذهنِ الطالبِ وتَرسيخِ المادةِ فيهِ بشكلٍ لا يُمكنُ أن يتهيأ للنثرِ في أغلب أحواله.
واستطاعَ علماءُ الأمَّـةِ سلفاً وخلفاً أن يحفـظوا تراثاً قُـرآنياً هائلاً بهذه المنظومات بسبكٍ مُعجِـزٍ لا يتخللهُ سقطٌ ولا إخلال، ولفظٍ موجَزٍ لا تبلغه سآمةٌ ولا إملال، حتى أصبحت المكتبةُ القرآنيةُ بفضلٍ من الله زاخرةً بشتى أنواع المنظومات ما بينَ مقصورٍ وممدود.
وجارَى الخلَفُ من علمائنا أسلافَهم في بعضِ هذه المنظومات أدباً منهم وإعجاباً وسيراً على خُطاهم الطاهرة حتى في البحْـر والروِّيِّ المنظوم عليهما، لكنَّ الناظرَ اليومَ في بعضٍ غيرٍ قليلٍ من هذه المنظومات لن يُعجزهُ أن يقفَ على منظوماتٍ اجتهدَ ناظموها – مأجورين إن شاء الله - فأعيتهم آلةُ النظمِ وأصرَّ بعضُهم على المجاراةِ والمُحاكاة فخانتهم الطبيعةُ الكامنةُ التي لا يستقيمُ بغيرها نظمُ الشعر، حتى باتت مجاراتهم لبعضِ الأقدمينَ ضرباً من البناءِ على الشفا الهاري الذي لا يلبثُ أن يسقطَ فينهارَ.
وأحبُّ أن أفصلَ في هذه الأسطرِ بين مُتلازمتينِ عند بعضِنا لا صلةَ لواحدةٍ منهما بالأخرى، وهما:
الأولى: جلالةُ القدرِ والموهبةُ في الحفظِ والإمامةُ في العلمِ والرسوخُ فيه.
الثانيةُ: القدرةُ على النـظمِ والتوفيقُ لهُ وقبول الطبعِ به وسَوغُـهُ في الآذان.
ومن أصدَق الشواهدِ على انفصال هاتين المُتلازمتين حالُ سعيد ابن المسيب رحمه الله حيثُ كان يحب استماعَ الشعرُ ويستحسنه ولكنهُ لا يُحسِنه، فإذا انفصلتْ هاتانِ المُتلازمتانِ عن بعضِهما فلن يجِد الواحدُ منا حرَجاً في قوله بأنَّ كثيراً من المنظومات اليومَ يَنبَغي أن يُكرَم ناظموها رحمهم الله بالإقلاعِ عن تقريرها مناهجَ أو تدريسها بشكلٍ رئيسٍ قد يوحي بوحدتها في بابها وتقدمها على لداتها وأترابها، مع أن الحقيقةَ أنها على العكس من ذلك تماماً، ولكن تهيأت لها فرصةُ الطباعة والنشر والتوزيعِ بحَجمٍ لم يتهيأ لغيرها من منظومات السلف والخلفِ التي تغني عنها وتزيدُ عليها فضلاً في الشكل والمضمون.
ولم يكن أئمةُ الدينِ - والإقراء على وجه الخصوص - ممَّن أوتي ملكَة النظمِ وسلامةَ الذائقةِ يربطونَ بينَ جلالة قدر المرء وسلاسةِ نظمهِ ليتحرَّجوا من النقد، فترى أحدهم يُترجمُ للعَلَمِ ويذكرُ فضائلَـهُ ويُثني على شعره وجودة نظمه إن كان كذلك وربما قيل في بعضهم: إنه كان ذا قلَمينِ كنايةً عن النظم والنثر، ولكن لا يمنعُ ذلك من الحكم على نظم بعضهم بأنه ركيكٌ، ومن ذلك ما قالهُ ابنُ عساكر رحمه الله عن الحَسن بن أحمد القرشي عليه رحمة الله حيث قال عنهُ ((( لَهُ شِعرٌ رَكيكٌ ))) مع أنهُ علمٌ ممن حلَّ الشامَ من الأعلام والأماثِلِ. تاريخ دمشق 13/31 .
وكما فعل الذهبي رحمه الله تعالى يومَ ترجمَ للزَّمخشَـريِّ، وكما فعل الإمامُ السخاوي في ترجمتهِ لمحمد بن أبي بكر الحبشي الحلبي - عليه رحمة الله - حيثُ ذكر محفوظاته ومروياته ورحلتهُ في الطلب والسماع وإمامته الناسَ بالجامع، وقال مع ذلك: ((( وَأَوْقَفَنِي عَلَى نَظْمٍ رَكِيكٍ عَمِلَهُ فِي السَّيْلِ ))) الضوء اللامع 7/191 .
وكما فعل في ترجمتهِ ليحي بنِ محمدٍ القباني - عليه رحمة الله - حيثُ قال بعد ترجمته - الطويلة المشتملة على تفننه وطول باعه في العلوم وكثرة شيوخه - وقد روى عنهُ بيتين يقول فيهما:
إن كنت تبغي في العلا للجنان ... عليك يا صاح بحفظ اللسان
فهل وجوه الناس كبت سوى ... حصائد الألسن من ذي لسان
قال السخاوي ((( وبِالْجُمْلَـةِ فَنَظْمُهُ رَكِيكٌ ))) الضوء اللامع 10/246 - 247.
إلى غير ذلك من استسحسان العلماء أو استقباحهم لشعر بعضهم أو من سبَقهم عموماً وما كان منهُ نظماً للعلوم بوجه أخص.
ومن أجل ذلك: كنتُ كثيراً ما أستغربُ بعضَ المرويَّـات الشعرية التي يحفظُها ويُلقِّنُها بعضُ المقرئين رغبةً في تيسير و تحرير بعض الطرق والروايات، أو جمعِ المستثنيات أو غيرها، حيثُ أسمعُ المقرئ يحفظُـها مُختلَّـةَ الوزنِ ويتلقَّفُها الطالبُ بحالتها تلكَ، ويجمعها البعضُ في كتاب ويخرجهُ للناس، ويسيئُ لنفسه ولبعض شيوخه حين يقول: راجع أبياتها وضبطها وقابلها وصحَّحها واعتَنى بها الشيخ فلان الفلاني، فإذا ما أجلت النَّـظر في الكتاب وجدت فيه كل شيء خَلا الضبط والتصحيح والعناية.
وكنتُ عند مصارحة بعضِ الرفاقِ والشيوخ بذلك أحاذرُ منهم ظنَّ التنقُّص لأولئك الأعلامِ لتلازم الإمامة في العلم عند بعضهم بجزالة اللفظ وجودة السبك، مع أن بعضَ منظوماتهم مما يُستحيَى من روايته صيانةً لرفيع أقدارهم.
وظلَّـت هذه القناعةُ حبيسةَ النَّـفسِ يُـورِيها اطَّـلاعي على بعضِ الكتب الطافحةِ أو الشارحة لبعضِ هذه المنظومات الهزيلة، أو سماعي لبعض تلك الشواهد بينَ حينٍ وآخَرَ، ويُخمِدها ألاَّ أذُنَ تُصغي لمَلام أو تقبلُ مراجعةً في إنتاج أولئك الأعلام.
وزادَ الهمَّ وضاعفَـهُ ما نراهُ جميعاً من المخاطرة والمُجازَفة، حين يعمدُ البعضُ إلى القصيدة الحسناء، والروضةِ الغنَّـاء، والجنَّـةِ الباردةِ الفيحاء، حرز الأماني ووجهِ التهاني، فيعارضُـها بأبياتهِ ويُجاريها، ونسبةُ نظمهِ إليها كنسبة الغَلَـسِ إلى الظهيرةِ.
وكثيرٌ من هذه المنظومات في علم الرسم والقراءات خصوصاً وعلوم القرآن عموماً لا حاجةَ بطالب العلم إليها لأنَّـها إعادةٌ وتكرار أو تفصيلٌ لا يخدمُ الفنَّ ولا يحلُّ معضلةً فيه، بل هو استنساخٌ لجهود السابقينَ ولكن بصورةٍ أغبشَ.
واجتمعتْ لي بعضُ الخواطر وأنا أجدُ هذا الإحساسَ، فرأيتُ أن أكتبَها لأنتفعَ بها قبل الناس، ومنها:
* أنَّ النظمَ يُرادُ به أمرانِ: تقريبُ المعاني وجودةُ المباني، ولو كانت القضيةُ ألفاظاً مجردةً أو أوزاناً مجردةً لكان النثرُ أو تفعيلةُ العروضِ أوفى بالمهمَّـة، ولذا كان المبرَّدُ وهو قبلةُ العربيةِ في زمانهِ يُدركُ هذه القضيةَ تمام الإدراك ويعتَرفُ بأنَّـهُ ربَّما أراد التعبير لبعضِ صحابهِ اعتذاراً أو التماساً فيقومُ المعنى الذي يريدهُ في نفسهِ ويغيبُ عنهُ مبناهُ المتمثلُ في القالبِ الذي سيحمل هذه الألفاظَ فيستغرقُ في صناعتهِ يوماً كاملاً ثم يعجزُ عنهُ ويتركه.
* أنَّ النظمَ ليسَ واجباً، ولا يُعرفُ في سلفٍ أو خَلَفٍ من عابَ على عالمٍ أنَّـهُ لم ينظم ولكنْ عُـرفَ استقباحُ العلماء وطلبة العلمِ لكثيرٍ من المنظومات التي تكلف أربابها ما لا يطيقون.
* أن أصحاب الصناعةِ النثريَّـةِ والنظميَّـةِ كانوا يستحبُّـون على من يسلُك بقلمه هذه المسالك الوعرةَ أن يتأنَّـى في تخيُّـر الألفاظِ لينالَ استمالةَ الأسماعِ والألحـاظِ فلا يضعُ كلمةً في موضعٍ ليس لها، وأن يسبق ذلك بالدربة الطويلة، واستجماعَ آلات الكتابة التي لا تتكوَّن ملكتها بغيرها من نحو وصرفٍ وأدبٍ وبيانٍ ومعرفةٍ بأساليب وبلاغة السنَّةِ والقرآن ليتربَّى بذلك الذوق، ويُرهف الحسُّ، وتزهو العاطفة، ولهم في ذلك ضوابطُ مهمةٌ جداً، ذكرها ابن أبي الإصبع المصري في كتابه تحرير التحبير، وابنُ الأثير في الجامع الكبير، وغيرُهما.
* أن هذه الآلات لا يستفيدُ منها المرءُ ما لم يكن حباهُ الله تعالى موهبةً فطريةً للكتابة والإنشاء، شأنُها في ذلك شأنُ تعبير الرؤى بجانب العلمِ الشرعيِّ، فهي ذاتُ طريقينِ أحدهما اكتسابيٌّ والآخَرُ طَبَعيٌّ إلهاميٌّ، ولذا قال ابنُ الأثير: ((( فَإنَّـهُ مَتَى لمْ يَكُنْ ثَمَّ طَبْعٌ لَمْ تُفِدْ تِلكَ الآلاتُ شَيئاً )))، وهذا هو سرُّ ما نجدهُ من تفاوُتٍ بيِّـنٍ عند المتفقِّـهةِ والقُـرَّاء والمحدثين واللغويين وغيرهم من علماء الإسلام الأنداد، فبعضهم يُؤتَى حفظَ العلم وضبطَهُ وبراعةَ التَّدوينِ معاً، وبعضُـهم يؤتَى أحد هذينِ ويُمنَعُ الآخَرَ.
* أنَّ النّظمَ صعبٌ مُرتَقاهُ وهو - كما يصفهُ أبو الطاهرِ السَّرقسُطي الأندلسي – فِي مقابَلة النثر ((( أَصْعَبُ مُرتَقَى، وَأَعْذَبُ مُنْتَقَى، وأَبْدَعُ لَفْظَا، وَأَسْرَعُ حِفْظَا، وأقْصَرُ مَعانٍ، وأنْجَدُ مَبَانٍ، وأَوْرَى زَنْداً، وَأَذْكَى رَنْداً، وَأَجْرَى عَلَى اللِّسَانِ، وَأَحْـرَى بِالإِحْسَانِ، وأبعَثُ للطَّرَبِ، وأّذْهَبُ للْكُرَبِ، وقَد حَكَمَ الأكَابِرُ والأَعَاظِمُ، أنَّـهُ ما عَجَزَ عنِ النَّثْرِ ناظِمْ، وكمْ عَجَزَ عن النَّظمِ ناثِرْ ))) (المقامات اللزومية للسرقسطي 548)، فإذا اقتنعنا بهذه الوجهةِ الضروريَّةِ لم نجد حَرجاً في القول بأنَّ وصفَ كثيرٍ من منظوماتنا بالنَّظم أصدقُ أحوالهِ الحملُ على تسمية اللديغِ بالسليم فألاً حسناً منا لأنفسنا.
وصَـلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّـنا محمَّـدٍ وآلهِ وأزواجهِ والتابعين.