علي المالكي
New member
من خلال دراستي الموسّعة في الماجستير لموضوع الاحتجاج بالحديث في النحو(*)، رسمتُ خارطةَ الطريقِ هذه، وقد عرضتُها على عدد من المتخصصين في اللغة والحديث فأقرّوني عليها ووافقوني.
أقول -وبالله التوفيق-:
إذا أردنا الاحتجاج بحديثٍ فلا بد مِن التحرِّي والبحث للوصول إلى أرجحِ روايات هذا الحديث للاستشهاد بها على أنها مِن كلامِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقينًا أو ظنًّا، والظن يكفي في هذا الباب كما يكفي في ثبوت الأحكام الشرعية التي هي أخطر من الأحكام اللغوية، فنعتبِر الروايةَ الراجحةَ محلَّ الاستشهاد، والباقي من الروايات نَتَتَبَّعُ مصدرَه، فإن ثبت صدورها عمَّن يُحتج بكلامه جازَ الاستشهاد بها، وعُدَّتْ كأنها كلامٌ مستقِلٌّ نُقِلَ عن أحد فصحاء العرب، وإن ثبت أن مصدرَها مَن لا يُحتج بكلامه فحينئذ لا يُستشهد بها، وكذلك إن ثبت أن بعض الروايات شاذ أو منكر فإننا لا نستشهد بها.
ومن خلال عرض حجج المختلفين في مسألة الاحتجاج بالحديث في النحو تَرَجَّح لي أن قبول الاستشهاد بالحديث أو رَدَّه يجب أن يبنى على تخريج كل حديثٍ بعينه، ودراسةِ أسانيده، وتتبعِ ألفاظه ورواياته، فإذا ظهر من خلال ذلك أن محل الشاهد محفوظ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن دونه ممن يُحتج بكلامه في اللغة؛ فإنه يصح الاستشهاد به، مع مراعاة التمييز بين ما ثبت أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ثبت أنه كلامُ مَن دونه ممن يُحتج بكلامه؛ فيُحتج بالأول على أنه من الحديث، وبالثاني على أنه في منزلة الأثر.
وإن ظهر من الدراسة أن مَدارَ الطُّرُقِ على راوٍ متأخرٍ لا يُستشهد بكلامه في اللغة فإن كان اللفظُ محفوظاً عنه، وصح الإسناد منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن دونه ممن يُحتج بكلامه، وليس في رواة السند من رُمي باللحن في حديثه، ولم يظهر من خلال دراسة الحديث وقوع الخطإ أو التصحيف في روايته - فإنه يصح الاستشهاد به؛ اعتمادًا على الأصل؛ إذ الأصل أنه روي باللفظ، وهذا النوع ربما يزداد قوة إذا احتفت به قرائن من التي سبق ذكرها تدل على أنه روي بلفظه.
وأما إن ظهر من الدراسة أن اللفظ المستشهد به غير محفوظ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من دونه ممن يحتج بكلامه؛ فإنه يُردُّ، ولا يصح الاستشهاد به، وكذلك إذا تكافأت روايتان أو أكثر من حيث القوة بحيث لا يمكن الباحثَ الترجيحُ بينها وكان بين هذه الروايات اختلافٌ بحيث يوجد في بعضها محل الشاهد ولا يوجد في بعضها الآخر؛ فإنه يُتوقف في الاستشهاد بذلك الحديث؛ لأن كل روايةٍ من الروايات المختلفة يُحتمل أن تكون هي الأصلية ويحتمل في الوقت نفسه أن تكون مِن تصرف الرواة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ويؤيد ذلك قولُ المعلّمي: «يمكن بالنظر في رواياتِ الأحاديث وأحوالِ رواتِها أن يُعرف في طائفةٍ منها أنها بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يُحْتج به في العربية، لكن تحقيق ذلك يَصْعُبُ على غير أهله...».
فيُفهَمُ مِن كلامِه أنه يَعتمِد على بعض القرائن المستفادة مِن أحوالِ الرواة، وفي الوقتِ نفسِه يعتمد على النظر في رواياتِ الأحاديث، فمذهبه نظريٌّ تطبيقيٌّ.
وكذلك قولُ الشنقيطي: «الذي يظهر لي في هذه المسألة (والله أعلم) هو التفصيل فيها، فما غلب على الظن أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كبعض الأحاديث التي اتفق فيها جميع الرواة أو معظمهم على لفظ واحد فإنه حجة في اللغة، وما غلب على الظن أنه من لفظ الراوي بالمعنى، ( ) لا يحتج بقوله في العربية، فلا يُـحتج بلفظه».
فهذا المذهب في نظر العبد الفقير أقرب المذاهب في المسألة، وأكثرُها تحريرًا وواقعيةً، ولذا أقمتُ بحثي عليه.
ويتضحُ بهذا أن صحةَ الحديثِ (في الجملة) لا تكفي للحكم بصحة الاحتجاج بلفظه على مسائل النحو، بل لا بد من ثبوت لفظِ الشاهد خاصةً، فكثيرٌ من الأحاديث هي من حيث السند صحيحةٌ بل متواترةٌ معنًى، ومع ذلك لا يصح الاحتجاج بها في النحو؛ لِكَوْنِ الرواةِ اختلَفوا في ألفاظِ الشاهد منها، وتَبَيَّنَ من خلال النظر في رواياتهم أن اللفظَ المستشهَدَ به قد حصل فيه تصرُّفٌ من الرواة، أو لم يمكن من خلال النظر في الروايات ترجيحُ وجهٍ على آخر؛ فهنا يُتوقف في الاستشهاد به؛ لكونِ كلِّ وجهٍ محتمِلًا لأنْ يكون هو الذي وقع فيه التصرف مِن قبَلِ الرواةِ، إلا إن كان اللفظُ المحتج به ثابتًا عن راوٍ يُحتج بكلامه في اللغة فحينئذ يصح الاحتجاج به على أنه مِن لفظِ ذلك الراوي.
ويقال مِثْلُ هذا في الضعف؛ فضعف الحديث أيضًا لا يعني ضعف الاحتجاج به في النحو مطلقًا، وذلك لأن اللفظ قد يَثْبُتُ عن راوٍ يُحتج بكلامه في اللغة، ويكون هذا الراوي من جهة الرواية ضعيفًا، أو رَوَى الحديثَ مرسلًا، أو نحو ذلك، فحينئذ يمكن الاحتجاج بلفظِ الشاهد على أنه من كلام ذلك الراوي على الأقل.
-------------------------------------
(*) وهي بعنوان: «الأحاديث التي ساقها النحاة مساق الاحتجاج: أثرها ومنزلتها في مسائلها».
وهي قيد التجهيز للطبع، ستخرج في مجلدين -إن شاء الله-.
أقول -وبالله التوفيق-:
إذا أردنا الاحتجاج بحديثٍ فلا بد مِن التحرِّي والبحث للوصول إلى أرجحِ روايات هذا الحديث للاستشهاد بها على أنها مِن كلامِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقينًا أو ظنًّا، والظن يكفي في هذا الباب كما يكفي في ثبوت الأحكام الشرعية التي هي أخطر من الأحكام اللغوية، فنعتبِر الروايةَ الراجحةَ محلَّ الاستشهاد، والباقي من الروايات نَتَتَبَّعُ مصدرَه، فإن ثبت صدورها عمَّن يُحتج بكلامه جازَ الاستشهاد بها، وعُدَّتْ كأنها كلامٌ مستقِلٌّ نُقِلَ عن أحد فصحاء العرب، وإن ثبت أن مصدرَها مَن لا يُحتج بكلامه فحينئذ لا يُستشهد بها، وكذلك إن ثبت أن بعض الروايات شاذ أو منكر فإننا لا نستشهد بها.
ومن خلال عرض حجج المختلفين في مسألة الاحتجاج بالحديث في النحو تَرَجَّح لي أن قبول الاستشهاد بالحديث أو رَدَّه يجب أن يبنى على تخريج كل حديثٍ بعينه، ودراسةِ أسانيده، وتتبعِ ألفاظه ورواياته، فإذا ظهر من خلال ذلك أن محل الشاهد محفوظ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن دونه ممن يُحتج بكلامه في اللغة؛ فإنه يصح الاستشهاد به، مع مراعاة التمييز بين ما ثبت أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ثبت أنه كلامُ مَن دونه ممن يُحتج بكلامه؛ فيُحتج بالأول على أنه من الحديث، وبالثاني على أنه في منزلة الأثر.
وإن ظهر من الدراسة أن مَدارَ الطُّرُقِ على راوٍ متأخرٍ لا يُستشهد بكلامه في اللغة فإن كان اللفظُ محفوظاً عنه، وصح الإسناد منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن دونه ممن يُحتج بكلامه، وليس في رواة السند من رُمي باللحن في حديثه، ولم يظهر من خلال دراسة الحديث وقوع الخطإ أو التصحيف في روايته - فإنه يصح الاستشهاد به؛ اعتمادًا على الأصل؛ إذ الأصل أنه روي باللفظ، وهذا النوع ربما يزداد قوة إذا احتفت به قرائن من التي سبق ذكرها تدل على أنه روي بلفظه.
وأما إن ظهر من الدراسة أن اللفظ المستشهد به غير محفوظ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من دونه ممن يحتج بكلامه؛ فإنه يُردُّ، ولا يصح الاستشهاد به، وكذلك إذا تكافأت روايتان أو أكثر من حيث القوة بحيث لا يمكن الباحثَ الترجيحُ بينها وكان بين هذه الروايات اختلافٌ بحيث يوجد في بعضها محل الشاهد ولا يوجد في بعضها الآخر؛ فإنه يُتوقف في الاستشهاد بذلك الحديث؛ لأن كل روايةٍ من الروايات المختلفة يُحتمل أن تكون هي الأصلية ويحتمل في الوقت نفسه أن تكون مِن تصرف الرواة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ويؤيد ذلك قولُ المعلّمي: «يمكن بالنظر في رواياتِ الأحاديث وأحوالِ رواتِها أن يُعرف في طائفةٍ منها أنها بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يُحْتج به في العربية، لكن تحقيق ذلك يَصْعُبُ على غير أهله...».
فيُفهَمُ مِن كلامِه أنه يَعتمِد على بعض القرائن المستفادة مِن أحوالِ الرواة، وفي الوقتِ نفسِه يعتمد على النظر في رواياتِ الأحاديث، فمذهبه نظريٌّ تطبيقيٌّ.
وكذلك قولُ الشنقيطي: «الذي يظهر لي في هذه المسألة (والله أعلم) هو التفصيل فيها، فما غلب على الظن أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كبعض الأحاديث التي اتفق فيها جميع الرواة أو معظمهم على لفظ واحد فإنه حجة في اللغة، وما غلب على الظن أنه من لفظ الراوي بالمعنى، ( ) لا يحتج بقوله في العربية، فلا يُـحتج بلفظه».
فهذا المذهب في نظر العبد الفقير أقرب المذاهب في المسألة، وأكثرُها تحريرًا وواقعيةً، ولذا أقمتُ بحثي عليه.
ويتضحُ بهذا أن صحةَ الحديثِ (في الجملة) لا تكفي للحكم بصحة الاحتجاج بلفظه على مسائل النحو، بل لا بد من ثبوت لفظِ الشاهد خاصةً، فكثيرٌ من الأحاديث هي من حيث السند صحيحةٌ بل متواترةٌ معنًى، ومع ذلك لا يصح الاحتجاج بها في النحو؛ لِكَوْنِ الرواةِ اختلَفوا في ألفاظِ الشاهد منها، وتَبَيَّنَ من خلال النظر في رواياتهم أن اللفظَ المستشهَدَ به قد حصل فيه تصرُّفٌ من الرواة، أو لم يمكن من خلال النظر في الروايات ترجيحُ وجهٍ على آخر؛ فهنا يُتوقف في الاستشهاد به؛ لكونِ كلِّ وجهٍ محتمِلًا لأنْ يكون هو الذي وقع فيه التصرف مِن قبَلِ الرواةِ، إلا إن كان اللفظُ المحتج به ثابتًا عن راوٍ يُحتج بكلامه في اللغة فحينئذ يصح الاحتجاج به على أنه مِن لفظِ ذلك الراوي.
ويقال مِثْلُ هذا في الضعف؛ فضعف الحديث أيضًا لا يعني ضعف الاحتجاج به في النحو مطلقًا، وذلك لأن اللفظ قد يَثْبُتُ عن راوٍ يُحتج بكلامه في اللغة، ويكون هذا الراوي من جهة الرواية ضعيفًا، أو رَوَى الحديثَ مرسلًا، أو نحو ذلك، فحينئذ يمكن الاحتجاج بلفظِ الشاهد على أنه من كلام ذلك الراوي على الأقل.
-------------------------------------
(*) وهي بعنوان: «الأحاديث التي ساقها النحاة مساق الاحتجاج: أثرها ومنزلتها في مسائلها».
وهي قيد التجهيز للطبع، ستخرج في مجلدين -إن شاء الله-.