أبو صلاح الدين
New member
- إنضم
- 18/06/2005
- المشاركات
- 113
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
تعد مسألة(الحكم بغير ما أنزل الله) من كبرى مفردات الفكر التكفيري، وأخطرها على الإطلاق، إذ إنَّ أصحابه يطلقون إزاءها القول بالتكفير ولا يفصلون، ويوالون عليها ويعادون. فبات لزاماً أن يكتب في هذه المسألة في ضوء الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة؛ لتهتك تلك الغشاوات التي حجبت عقول شباب الأمة عن التصور الصحيح لهذه المسألة وإنزالها منزلتها من الدين والعقيدة ".. فكان بحثي هذا.
فهل صحيح أن من يقول بالتفصيل في مسألة القوانين الوضعية يعد من المرجئة ؟ أم أن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تقتضيه أصولهم البينة النيرة.. ؟
وهل هناك نصوص عن أئمة الإسلام مثل ابن راهويه وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حزم تدل على كفر من حكم بالقوانين الوضعية دون تفصيل ؟ وما حقيقة الإجماعات التي يحكيها مخالفونا عن هؤلاء الأئمة ؟ ومتى يُكفّر الحاكم بغير ما أنزل الله ؟ وما معنى مصطلحات مثل التبديل والالتزام.. ؟
أسئلة كثيرة ومهمة, تحتاج إلى إجابة شافية قاطعة مُؤَصِلة.. تستأصل شأفة الخلاف بعيدا عن التعصب وضيق الأفق واتباع المتشابهات وترك المحكمات.
وللإجابة على هذه الأسئلة نستعين بالله ونتوكل عليه, ونقول كما قال موسى عليه السلام: "رب اشرح لي صدري, ويسر لي أمري, واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي". ونقول: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب".
وانظر بحثي كاملا بكل أجزائه (حول مسألة الحكم بغير ما أنزل الله: في ضوء القران والسنة) في الملتفى المفتوح, حيث سأضعه هناك قريبا إن شاء الله.
وسوف أضع هنا ما يتناسب مع هذا القسم من الملتقى.
ولنبدأ بعون الله:
1- نظرات تأصيلية حول آيات الحكم بغير ما أنزل الله
" لكي يستقيم للمخالف استدلاله بآية المائدة (44){ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} على ما أقام له كتابه من كفر جميع من لم يحكم بما أنزل الله دون تفصيل.. اللهم إلا من حكم منهم في واقعة معينة من غير استحلال. وذهب ينكر كينونة الشمس في رابعة النهار, فادعى أن اليهود (لم يكونوا مستحلين) !! "
أقول ردا على ذلك: الإشكالات والتردد في قضية التكفير وفي تفسير آيات الحكم بغير ما أنزل الله عند كثير من الباحثين- مثل: أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب، ولا يتعدى إلى المسلمين. أو أن حكمها عام يدخل فيه الجميع.. إلخ- يقطعه ما سوف سأقوله الآن بإذن الله:
(((هناك فرق كبير جدا وواضح وضوح الشمس في كبد السماء بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم, وبين مجرد ورود العام على سبب, فإنه لا يقتضي التخصيص))).
تأمل أخي هذه العبارة جيدا - وقد نبه إلى هذه القاعدة الإمام ابن دقيق العيد (نيل الأوطار 4: 305-307), وعنه العلامة القرضاوي (فقه الصيام ص44)- فهي مهمة جدا وخطيرة, تفصل النزاع في الكثير والكثير من القضايا. مثلا قضية الصوم في السفر وحديثها الشهير (ليس من البر الصيام في السفر).., هذا الحديث ليس على عمومه وإطلاقه هكذا, بل اقرأ –لزاما, وقبل أن تكمل تعليقي هذا- سبب ورود الحديث, ثم طبق عليه هذه القاعدة. ثم طبق ذلك على آيات الحكم بغير ما أنزل الله ...
فقد روى مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم.. الحديث.
فتأمل قولهم((نعم)), فقد جعلوه ديناً كباقي الشرائع المنصوص عليها في كتابهم، وبهذا النص تفهم معنى التبديل الذي أراده العلماء ويَظهَرُ لك أنّ المقصود بـ(الكافرون) في آية المائدة هو المبدل للشرع.. " فإن حكم إنسان بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". [ وانظر لزاما(الباب الثاني- الفصل الرابع من هذا البحث؛ لتعلم المقصود بمصطلح التبديل عند العلماء) ].
قال الإمام الحافظ إسماعيل بن إسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله –فيما نقله عنه أبو رائد المالكي في مقاله: الحكم بغير ما أنزل الله.. مسألة العصر- : " فمن فعل مثل ما فعلوا (أي اليهود) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره ".
إليك -ثانية- نص الحديث من صحيح مسلم كاملا فاصلا قاطعا: جعلت تعليقاتي على متن الحديث بين أقواس هكذا (( )) :
(1700) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن أبي معاوية. قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن البراء بن عازب. قال:
مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما (( أي مسود الوجه، من الحممة، الفحمة)) مجلودا. فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقا "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قالوا: نعم(( تنبه أخي القارئ إلى هذه الكلمة جيدا)). فدعا رجلا من علمائهم. فقال "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا، إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم(( أي أنهم بدلوا التوراة وحرفوها وغيروا الأحكام الموجودة فيها بتبديلها, فحذفوا حكم الله من التوراة, ووضعوا مكانه ما شرعوا هم بأهوائهم..,فتأمل)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه". فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إلى قوله: إن أوتيتم هذا فخذوه} [5 /المائدة /41] يقول(( أي العالم اليهودي الذي سبق ذكره في أول الحديث)): ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا(( كلمة "فاحذروا" واضحة كل الوضوح لكل ذي عينين في أنهم يسخطون على حكم الله ويأنفون منه, بل يفضلون حكم أهوائهم على حكم الله, وهذا هو الكفر بعينه كما يقول أهل السنة والجماعة )). فأنزل الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة /44]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [المائدة /45]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة /47]. في الكفار كلها.
رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وغيرهم. وهو حديث صحيح جدا صححه مسلم والوادعي(الصحيح المسند ص95), وهو كما قالا
فتأمل –أخي القارئ- جيدا في الحديث, وما علقتُ عليه.
وتأمل ما جاء في الحديث " فأنزل الله تعالى(( فكان إنزال الله لهذه الآيات مترتبا على ما فعلته اليهود, فدلالة السبب والسياق والقرائن التي وردت في سبب النزول قاطعة كل القطع في أن الآية وردت في من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً ومبدلا )): ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
وبهذا يتضح أنهم لم يستحلوا ما وضعوه بقولهم (( نعم)) فحسب, بل إنهم ذهبوا إلى ما هو أبعد-كما يقول العنبري- من الاستحلال.. إلى الرضا والتسليم والإقرار بأن هذا هو حكم التوراة .
وبهذا قال أئمة الإسلام: الطبري, والجصاص, وابن كثير, وغيرهم ممن سترى أقوالهم في الفصل الثاني من هذا الباب.
وبهذا تعلم بطلان كلام من يحتج بهذه الآية على كفر من حكم بالقوانين الوضعية من غير التفصيل الذي ذكرناه في الباب الأول: فصل(قبل أن نبدأ).
هداني الله وإياك إلى ما فيه الصواب. والحمد لله أولا واخرا.
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون", وأقوال العلماء فيها.
إن قول الحق تبارك وتعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه عمومان اثنان –كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ بندر العتيبي- :
الأول منهما: (من) التي تشمل -بعمومها- كل حاكمٍ بغير ما أنزل الله، فلا تقتصر على القاضي أو ولي الأمر الأكبر أو نائبه فقط؛ بل يدخل في هذا العموم كلُّ أحدٍ حكم بغير ما أنزل الله حتى الأب بين أولاده. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام) مجموع الفتاوى 18/170 , فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء ، فتأمل هذا المعني جيدا.
لذلك هذه الآيات تعم الإمام الأكبر، وتعم القاضي، والمحتسب، والمعلم، والعامل، والزوجة… وهكذا، وأيضاً هي تعم جميع أحكام الله تعالى، فكل حكم أنزله الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الفرائض والواجبات أو الحدود..؛ مما علم في الدين بالضرورة، أو ما ثبت من الشرع، وبان بياناً واضحاً لا إشكال فيه ولا شبهة، صغيراً كان أو كبيراً داخل في هذه الآية. فأكل الربا، و الزنا، و شرب الخمر، ووطأ الحائض حال حيضها. لذلك لما فهم السلف رضي الله عنهم ذلك على هذا الوجه جعلوا الكفر في الآية كفر دون كفر, كما أنهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يستدلوا بهذه الآية على تكفير حكام المسلمين الكفر الأكبر بدون تفصيل ؛ لأنهم لو فعلوا ذلك للزمهم أن يكفروا كل صاحب كبيرة ، حيث إن من زنا فقد حكم بغير ما أنزل الله ، ومن شرب الخمر متعمداً فقد حكم بغير ما أنزل الله …وهكذا . ولذلك فالأصل في الآية هو كفر دون كفر إلا أن هناك صورة تلحق صاحبها بالكفر الأكبر؛ ما إذا حكم الشخص بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك أو جاحداً به أو مكذباً له أو معانداً أو شاكاً أو غير ذلك من أسباب الكفر, وتحققت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه.
ولسنا نقول هذا تهويناً من شأن الحكم بما أنزل الله, بل نحن نعلم يقيناً أن الحاكمين والمحكومين والمتحاكمين إلى القانون اللعين الذي هو بئس القرين قد أتوا شيئاً إداً؛ تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا, وأن هذا الفعل أشد عند الله من القتل والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا وجميع الموبقات والمهلكات عدا الشرك بالله. ونحن لا نكتب ما نكتب إلا ردّاً لغلو الغالين، وتكفير المكفرين؛ الذين فتحوا الباب مشرعاً –بأفعالهم وأقوالهم – لكل أعداء الدين ومناوئيه ؛ ليصفوا الإسلام بالتطرف، والمسلمين بالإرهاب.. من غير تمييز، وبلا تفصيل.., فكانوا – بسوء صنيعهم – سداً منيعاً في وجه الدعوة الحقة للإسلام الحق، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستنزاف مقدراتهم، وشل قواهم, فالله يصلحهم ، ويسدد دربهم.
فلا يهولنك أخي المسلم ما تسمعه من إطلاق لفظ مرجئ على من قال ذلك ؛ فهو قول السلف قاطبة, وقد ذكر العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي رحمه الله تعالى:"أن طائفة المنصورية – وهم مبتدعة ضلال – نبزوا أهل السنة بالإرجاء، لكونهم لا يكفرون تارك الصلاة إذا لم يجحدها !! زاعمين أن هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل". (البرهان في عقائد أهل الإيمان ص69)
والثاني من العمومين: أن (ما) التي تشمل – بعمومها أيضاً- كل حكمٍ لله تعالى، فلا تقتصر فقط على الأمور القضائية ولا الخصومات.
فإن نظرتَ لهذا التقرير المأخوذ من عمومِيْ الآية علمتَ أن هذا يشمل كلّ عاصٍ لله تعالى بأيّ معصيةٍ دقّت أو جلّت, استمر عليها طيلة حياته أو لم يستمر, جعلها مبدأ له طيلة حياته(مع اعترافه بحرمة ما يفعله) أو لم يجعلها؛ فالزاني –مثلاً- حقيقة أمره أنه قد حكّم هواه بدلاً من أن ُيحكِّم ما أنزل الله في شأن نفسه، وكذلك الحالق لحيته والجائر بين أولاده والكاذب متعمدا وشارب الخمر.. فإنهم قد حكّموا الهوى بدلاً من تحكيم شرع الله تعالى في شأن اللحية والعدل في التعامل مع الأولاد واجتناب الزنا والخمر والكذب.
ولأجل هذه اللوازم الفاسدة التي مآلها التكفير بالذنب جاءت نصوصُ العلماء حاسمةً للمسألة مبيِّنةً للفهم الصحيح للآية من أنها ليست على ظاهرها هذا. فلقد فسر السلف رضي الله عنهم قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " بأنه كفر دون كفر أو كفر لا يخرج من الملة. فالمعنى الصواب والصحيح للآية أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً أو مبدلاً فقد كفر. فالكفر المذكور في الآية المعنيون به هم اليهود ومن فعل فعلهم. ويدخل في معنى "الجحودِ والتبديلِ" "الاستخفافَ بأحكام الشريعة والاستهزاءَ بها, أو تفضيلَ غيرها عليها, أو اعتقادَ عدم وجوب العمل بها, أو اعتقادَ جواز الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة ".
ولا يلزم من ذلك-كما هو واضح بين لكل منصف باحث عن الحق والحقيقة, مفارق لربقة الهوى والتعصب- أنه لا يكفر إلا بالجحود. وقول المرجئة-هداهم الله- يحصر الكفر في الجحود.
وإليك كلام الأئمة, وأعلام الأمة.. كاملا بنصه وحروفه, ليكون هذا الكتاب الذي بين يديك جامعا مستغنيا عن غيره, ولتعلم تواتر ما ذكرت لك في تفسير الآية في أمتنا الإسلامية:
1- قال الإمام ابن القيم في كتاب الصلاة ص55: " فصل: الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول(ص) جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده.. فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه.. يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفي عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه: فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد. ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً ولا يطلق عليهما اسم كافر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد، وكذلك قوله: [ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] فهذا كفر عمل، وكذلك قوله : [ من أتى كاهناً فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد] وقوله: [ إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما]، وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكمترك العمل به، فقال تعالى : من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتأمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما (البقرة: 84).تعملون
فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم. ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقبل فريق منهم فريقاً وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر], ففرق بين قتاله وسبابه، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به والآخر كفراً، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم. فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقاً أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان. فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى { من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة:44) ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة
وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع عن سفيان عن بن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً. وسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافراً. وليس الكافران على حد سواء ".
2- سأل إسماعيل بن سعد الإمام أحمد بن حنبل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله ..) ما هذا الكفر ؟
قال: " كفر لا يخرج من الملة ". انظر مسائل ابن هانئ (2/192). وقال ابن هانئ في سؤالاته(2042): "وسألته عن حديث طاووس عن قوله: كفر لا ينقل عن الملة ؟ قال أبو عبد الله: إنما هذا في هذه الآية: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ".
وانظر مرويات الإمام أحمد فى التفسير2/45, ومسائل أحمد برواية أبي داود(209) -وقد طبع طبعتان الأولى بتحقيق الشيخ محمد رشيد رضا وتصحيح الأستاذ محمد بهجت البيطار طبع في مصر. والثانية بتحقيق طارق بن عوض الله مكتبة ابن تيمية ط1, 1420هـ - . وهو ما أكده الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى(7/ 522): " وقال ابن عباس وغير واحد من السلف... كفر دون كفر وفسق دون فسق وظلم دون ظلم. وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما".
وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/254)، وتلميذه ابن القيم في "حكم تارك الصلاة" ( ص59-60): أن الإمام أحمد –رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم؛ فقال: "كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه".
3- البخاري(انظر السطور السابقة).
4- يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في الإيمان(ص89: 90): " وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل: فقول الله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال ابن عباس: (ليس بكفر ينقل من الملة) وقال عطاء بن أبي رباح: (كفر دون كفر). فقد تبين لنا إذا كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله وإن خالطه ذنوب فلا معنى له إلا أخلاق الكافر وسنتهم؛ لأن من سنن الكافر الحكم بغير ما أنزل الله. ألا تسمع قوله: " أفحكم الجاهلية يبغون ". وتأوليه عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية, إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون".
5- يقول ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6/166) : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟! قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس".
6- يقول أبو عبد الله ابن بطة العكبري "الإبانة" (2/723): "باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة"، وذكر ضمن هذا الباب(2/ 733-737): الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة".
7- يقول الإمام محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/520): ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً- دون أصله- لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلامة، من ذلك قول ابن عباس-أي كفردون كفر- في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾.
وقال(2/523) معقباً على أثر عطاء- أي كفر دون كفر، وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق- : وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل".
8- يقول ابن الجوزي في " زاد المسير" (2/366): وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقر به؛ ولم يحكم به؛ فهو ظالم فاسق".
9- يقول ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". (انظر لزاما معنى التبديل في العنصر الرابع من هذا البحث)
10- يقول الإمام القرطبي-وهو شيخ القرطبي صاحب التفسير الشهير- في المفهم شرح صحيح مسلم(5/117): "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وقال أيضا في المفهم(5/117-118): "ومقصود هذا البحث، أنَّ هذه الآيات – آيات المائدة – المراد بها: أهل الكفر والعناد، وأنها وإن كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى: إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ النساء:48. وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يغفر، والكفر لا يغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفراً".
11- قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن(6/190): " قوله تعالى: فأوْلئك هم الكافرون, والظالمون, والفاسقون. نزلت كلها في الكفار, ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء(فذكره بطوله). فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار, أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول(ص)فهو كافر. قاله ابن عباس ومجاهد ".
12- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(3/267) في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة 44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " أ.هـ
وقال أيضا(7/312): (وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة. وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
وقال أيضا في منهاج السنة(5/130) : " فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً، والحكم بما أنزل الله واجب ".
13- يقول ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً.
14- يقول البقاعي " نظم الدرر" (2/ 460): (ولما نهى عن الأمرين وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو خوف أو رجاء أو شهوة رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق. قال ابن عباس: (من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق).
15- يقول الشاطبي "الموافقات" (4/39): "هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر".
16- يقول ابن حجر العسقلاني "فتح الباري" (13/120): "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافراً، ولا يسمى – أيضاً – ظالماً؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، فبقيت الصفة الثالثة" ؛ يعني الفسق.
17- يقول الخازن في تفسيره(1/ 310): " قال جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غيّر حكم الله من اليهود؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر. وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب).
18- يقول الجصاص في أحكام القرآن (2/439): "المراد: جحود حكم الله، أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله. فهذا كفر يخرج عن الملة، وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلماً. وعلى هذا تأوله من قال: إنما نزلت في بني إسرائيل، وزجرت فينا. يعنون أن من جحد حكم الله، أو حكم بغير حكم الله, ثم قال: إن هذا حكم الله؛ فهو كافر، كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك ".
19- يقول أبو المظفر السمعاني في تفسيره ( 2/42 ) : " واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ، ويقولون: " من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا لا يكفر بترك الحكم".
20- يقول ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر: "وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) نزلت في أهل الكتاب. قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا. قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر".
21- يقول الإمام ابن حزم في الفصل في الملل والنحل(2/227): "وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به – قلت: أي الذي لم يجحد بقلبه وإنما عمل بما يضاد الحق وهو يعتقد أن الحق بخلاف ما عمل - فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك".
22- تأمل ما رواه الخطيب -رحمه الله- في (تاريخ بغداد 10/183، ترجمة الخليفة المأمون، ترجمة رقم5330):
"أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا الحسن بن خضر قال: سمعت ابن أبي دؤاد يقول: أُدخل رجلٌ من الخوارج على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آيةٌ في كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال له المأمون: ألكَ عِلمٌ بأنها مُنزَلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيتَ بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل، قال: صدقتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين."
أقول: قد استجاب هذا (الخارجي) ورجع إلى الحق .. فهلا رجع إلى الحق – أيضاً – أولئك الحدثاء المحدثون، المتأثرون بالخوارج المبهورون بآرائهم السالكون نهجهم, الناسجون على منوالهم..!! هذا ما نرجوه ونأمله من الله جل وعلا, قال تعالى( فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) القصص 50
وقال تعالى:( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور51
23- قال الإمام أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الحكيم (3/42): "﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ كائناً من كان، دون المخاطبين خاصة؛ فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً. أي: من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً، كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيّناً ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لاستهانتهم به".
24- يقول علامة الشام جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل(6/ 1998): " كفر الحاكم بغير ما أنزل الله بقيد الاستهانة والجحود له, وهو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عكرمة وابن عباس).
وهناك نقول أخرى كثيرة انظرها في البحث هناك في الملتفى المفتوح بإذن الله.
3- توحيد الربوبية والألوهية ومدى علاقته بالحكم بغير ما أنزل الله
" لقد وقفت على رسالة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تناقض فيها صاحبها وأتى بما لم يأت به من سبقه من الغرائب، وقد قرر في رسالته أن هنالك فرقاً بين من حكم بغير ما أنزل الله دون أن يشرع قانوناً لذلك وبين من وضع قانوناً. فالأول لا يكفر وأما الثاني فهو وكل من حكَّم قانونه أو عمل به كافر خارج من الملة مادام أنه قد علم بمخالفته لحكم الله –وقد رددتُ على ذلك في كلامي تحت عنوان: قبل أن نبدأ-.
ودليله على ذلك: أن التشريع حق لله وحده وأن من شرَّع فإنه يلزمه أمران : رفض شريعة الله إذ لو لم يرفضها لما استبدل بها غيرها والثاني أنه تعدى على حق من حقوق الله وأن ذلك ينافي التوحيد, وأن الله سبحانه قد اختص بأشياء منها العبادة ، ومنها الخلق والرزق التدبير، ومنها الحكم والتشريع أيضاً ... إلى أن قال: فمن صرف شيئاً اختص اللّـه به لغيره فقد أشرك شركاً أكبر كالذي يعبد غير الله، أو يدعي علم الغيب من دون الله، أو يشرع من دون الله، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها ".
أقول ردا عليه: هذه مجازفة ، "فالعزُّ والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره" فيما يقول القرطبي في "المفهم", كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، قالا : قال رسول الله(ص): "العزُّ إزارهُ ، والكبرياءُ رداؤه ، فمن ينازعني عذبته" .
وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبَّة، أو ليخلقوا شعيرة" .
قال القرطبي في المفهم(5/432): "وقد دل هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علَّق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع".
ومما يؤكد أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، حديث عائشة قالت: "دخل علَّي رسول الله(ص) وقد سترتُ سهوةً لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلوَّن وجههُ, وقال: "يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله" .
ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، فإن أهل السُّنَّة لم يكفروا منهم إلاَّ من استحل أو قصد العبادة والمضاهاة، أما من لم يستحل، ولم يقصد العبادة والمضاهاة، فليس بكافر.
وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه ويحتقر غيره، وكذلك الخلق والتصوير من خصائصه سبحانه، فنحت التماثيل فيه مضاهاة لخلق الله تعالى, ولم يكفر أهل السنة منهم إلا من استحل ذلك أو قصد العبادة والمضاهاة. وصفوةُ القول أنَّ ثمة أوصافاً إلهية انفردَ اللهُ لها دون خلقهِ ، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير ، وأهل السُّنَّة لم يكفروا المنازع له فيها بإطلاق ، وإنما سلكوا منهج التفصيل ، فكذلك التشريع والحكم إذا لم يكن عن استحلال فليس بكفر ، وفاعله فاسق صاحب ذنب كبير ، ولا يكفر كسائر الكبائر غير المكفرة –كما يقول الدكتور الفاضل خالد العنبري في هزيمة الفكر التكفيري ص25- .
والذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله, وليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر ومنه ما هو شرك أصغر وضابط ذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ما ذكرناه آنفاً وعليه إجماع الأمة أن الأمر يرجع إلى الجحود والاستحلال. ولا يقال أن من اتبع حكم القانونيين وهو يعلم أنه على ذنب أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله لأن هذا الأمر يتعلق بالاعتقاد كما قررنا وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر ولو كان في مسألة يوافق حكمها حكم الله. أما بدون هذه العقيدة كأن يفعل ذلك إتباعاً للهوى أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية فليس عندنا ما نكفره به.
أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية فلا شك أنه لا يكون إلا شركاً أكبر لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله، ليس الأمر كذلك لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله, وإلا لزمك التكفير بالذنوب والمعاصي ولو كانت من الصغائر, وهذا باطل عاطل.
وقرر المخالفون أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي –ويحتجون بكلام(يأتي في الفصل الرابع) مبتور للعلامة ابن عثيمين-.
أقول ردا عليهم: الذي عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن كل ذنب دون الكفر (ومنه بالطبع- عند كل من أنصف- تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً) لا يعد قرينة على الاستحلال القلبي، فإن المعاصي التي دون الكفر بوجه عام إما أن يستحلها صاحبها عملياً أو قلبياً فبالأول يكون فاسقاً وبالثاني يكون كافراً ومن قال غير هذا فعليه البيان.
تنبــيه: "ولا يفوتني التأكيد على أمر مهم, وهو أن الكتاب ليس قُرباناً لحكام المسلمين !! ولست أبتغي به مرضاتهم !! فو الذي نفسي بيده ليس هذا مقصدي؛ بل إنني أرمي لما هو أسمى من ذلك؛ ألا وهو نصرة المعتقد الحقّ؛ معتقدِ أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، والتي أساء لها البعض بإيراداتهم وشبهاتهم. ومعاذ الله أن أكون قد كتبتُ ما كتبتُ محاباةً أو مجاملةً أو استماتةً في الدفاع عن الحكام ! بل الباعث على تأليف هذا الكتاب هو حمايةُ: أصولِ أهل السنة والجماعة من هجمات المُغرضين, وعُقولِ المسلمينَ من الفكر الضالّ بجميع صوره". اهـ من كلمة لفضيلة الشيخ الفاضل بندر بن نايف بن نصهات العتيبي.
فهل صحيح أن من يقول بالتفصيل في مسألة القوانين الوضعية يعد من المرجئة ؟ أم أن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تقتضيه أصولهم البينة النيرة.. ؟
وهل هناك نصوص عن أئمة الإسلام مثل ابن راهويه وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حزم تدل على كفر من حكم بالقوانين الوضعية دون تفصيل ؟ وما حقيقة الإجماعات التي يحكيها مخالفونا عن هؤلاء الأئمة ؟ ومتى يُكفّر الحاكم بغير ما أنزل الله ؟ وما معنى مصطلحات مثل التبديل والالتزام.. ؟
أسئلة كثيرة ومهمة, تحتاج إلى إجابة شافية قاطعة مُؤَصِلة.. تستأصل شأفة الخلاف بعيدا عن التعصب وضيق الأفق واتباع المتشابهات وترك المحكمات.
وللإجابة على هذه الأسئلة نستعين بالله ونتوكل عليه, ونقول كما قال موسى عليه السلام: "رب اشرح لي صدري, ويسر لي أمري, واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي". ونقول: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب".
وانظر بحثي كاملا بكل أجزائه (حول مسألة الحكم بغير ما أنزل الله: في ضوء القران والسنة) في الملتفى المفتوح, حيث سأضعه هناك قريبا إن شاء الله.
وسوف أضع هنا ما يتناسب مع هذا القسم من الملتقى.
ولنبدأ بعون الله:
1- نظرات تأصيلية حول آيات الحكم بغير ما أنزل الله
" لكي يستقيم للمخالف استدلاله بآية المائدة (44){ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} على ما أقام له كتابه من كفر جميع من لم يحكم بما أنزل الله دون تفصيل.. اللهم إلا من حكم منهم في واقعة معينة من غير استحلال. وذهب ينكر كينونة الشمس في رابعة النهار, فادعى أن اليهود (لم يكونوا مستحلين) !! "
أقول ردا على ذلك: الإشكالات والتردد في قضية التكفير وفي تفسير آيات الحكم بغير ما أنزل الله عند كثير من الباحثين- مثل: أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب، ولا يتعدى إلى المسلمين. أو أن حكمها عام يدخل فيه الجميع.. إلخ- يقطعه ما سوف سأقوله الآن بإذن الله:
(((هناك فرق كبير جدا وواضح وضوح الشمس في كبد السماء بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم, وبين مجرد ورود العام على سبب, فإنه لا يقتضي التخصيص))).
تأمل أخي هذه العبارة جيدا - وقد نبه إلى هذه القاعدة الإمام ابن دقيق العيد (نيل الأوطار 4: 305-307), وعنه العلامة القرضاوي (فقه الصيام ص44)- فهي مهمة جدا وخطيرة, تفصل النزاع في الكثير والكثير من القضايا. مثلا قضية الصوم في السفر وحديثها الشهير (ليس من البر الصيام في السفر).., هذا الحديث ليس على عمومه وإطلاقه هكذا, بل اقرأ –لزاما, وقبل أن تكمل تعليقي هذا- سبب ورود الحديث, ثم طبق عليه هذه القاعدة. ثم طبق ذلك على آيات الحكم بغير ما أنزل الله ...
فقد روى مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم.. الحديث.
فتأمل قولهم((نعم)), فقد جعلوه ديناً كباقي الشرائع المنصوص عليها في كتابهم، وبهذا النص تفهم معنى التبديل الذي أراده العلماء ويَظهَرُ لك أنّ المقصود بـ(الكافرون) في آية المائدة هو المبدل للشرع.. " فإن حكم إنسان بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". [ وانظر لزاما(الباب الثاني- الفصل الرابع من هذا البحث؛ لتعلم المقصود بمصطلح التبديل عند العلماء) ].
قال الإمام الحافظ إسماعيل بن إسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله –فيما نقله عنه أبو رائد المالكي في مقاله: الحكم بغير ما أنزل الله.. مسألة العصر- : " فمن فعل مثل ما فعلوا (أي اليهود) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره ".
إليك -ثانية- نص الحديث من صحيح مسلم كاملا فاصلا قاطعا: جعلت تعليقاتي على متن الحديث بين أقواس هكذا (( )) :
(1700) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن أبي معاوية. قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن البراء بن عازب. قال:
مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما (( أي مسود الوجه، من الحممة، الفحمة)) مجلودا. فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقا "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قالوا: نعم(( تنبه أخي القارئ إلى هذه الكلمة جيدا)). فدعا رجلا من علمائهم. فقال "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا، إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم(( أي أنهم بدلوا التوراة وحرفوها وغيروا الأحكام الموجودة فيها بتبديلها, فحذفوا حكم الله من التوراة, ووضعوا مكانه ما شرعوا هم بأهوائهم..,فتأمل)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه". فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إلى قوله: إن أوتيتم هذا فخذوه} [5 /المائدة /41] يقول(( أي العالم اليهودي الذي سبق ذكره في أول الحديث)): ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا(( كلمة "فاحذروا" واضحة كل الوضوح لكل ذي عينين في أنهم يسخطون على حكم الله ويأنفون منه, بل يفضلون حكم أهوائهم على حكم الله, وهذا هو الكفر بعينه كما يقول أهل السنة والجماعة )). فأنزل الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة /44]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [المائدة /45]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة /47]. في الكفار كلها.
رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وغيرهم. وهو حديث صحيح جدا صححه مسلم والوادعي(الصحيح المسند ص95), وهو كما قالا
فتأمل –أخي القارئ- جيدا في الحديث, وما علقتُ عليه.
وتأمل ما جاء في الحديث " فأنزل الله تعالى(( فكان إنزال الله لهذه الآيات مترتبا على ما فعلته اليهود, فدلالة السبب والسياق والقرائن التي وردت في سبب النزول قاطعة كل القطع في أن الآية وردت في من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً ومبدلا )): ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
وبهذا يتضح أنهم لم يستحلوا ما وضعوه بقولهم (( نعم)) فحسب, بل إنهم ذهبوا إلى ما هو أبعد-كما يقول العنبري- من الاستحلال.. إلى الرضا والتسليم والإقرار بأن هذا هو حكم التوراة .
وبهذا قال أئمة الإسلام: الطبري, والجصاص, وابن كثير, وغيرهم ممن سترى أقوالهم في الفصل الثاني من هذا الباب.
وبهذا تعلم بطلان كلام من يحتج بهذه الآية على كفر من حكم بالقوانين الوضعية من غير التفصيل الذي ذكرناه في الباب الأول: فصل(قبل أن نبدأ).
هداني الله وإياك إلى ما فيه الصواب. والحمد لله أولا واخرا.
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون", وأقوال العلماء فيها.
إن قول الحق تبارك وتعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه عمومان اثنان –كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ بندر العتيبي- :
الأول منهما: (من) التي تشمل -بعمومها- كل حاكمٍ بغير ما أنزل الله، فلا تقتصر على القاضي أو ولي الأمر الأكبر أو نائبه فقط؛ بل يدخل في هذا العموم كلُّ أحدٍ حكم بغير ما أنزل الله حتى الأب بين أولاده. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام) مجموع الفتاوى 18/170 , فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء ، فتأمل هذا المعني جيدا.
لذلك هذه الآيات تعم الإمام الأكبر، وتعم القاضي، والمحتسب، والمعلم، والعامل، والزوجة… وهكذا، وأيضاً هي تعم جميع أحكام الله تعالى، فكل حكم أنزله الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الفرائض والواجبات أو الحدود..؛ مما علم في الدين بالضرورة، أو ما ثبت من الشرع، وبان بياناً واضحاً لا إشكال فيه ولا شبهة، صغيراً كان أو كبيراً داخل في هذه الآية. فأكل الربا، و الزنا، و شرب الخمر، ووطأ الحائض حال حيضها. لذلك لما فهم السلف رضي الله عنهم ذلك على هذا الوجه جعلوا الكفر في الآية كفر دون كفر, كما أنهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يستدلوا بهذه الآية على تكفير حكام المسلمين الكفر الأكبر بدون تفصيل ؛ لأنهم لو فعلوا ذلك للزمهم أن يكفروا كل صاحب كبيرة ، حيث إن من زنا فقد حكم بغير ما أنزل الله ، ومن شرب الخمر متعمداً فقد حكم بغير ما أنزل الله …وهكذا . ولذلك فالأصل في الآية هو كفر دون كفر إلا أن هناك صورة تلحق صاحبها بالكفر الأكبر؛ ما إذا حكم الشخص بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك أو جاحداً به أو مكذباً له أو معانداً أو شاكاً أو غير ذلك من أسباب الكفر, وتحققت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه.
ولسنا نقول هذا تهويناً من شأن الحكم بما أنزل الله, بل نحن نعلم يقيناً أن الحاكمين والمحكومين والمتحاكمين إلى القانون اللعين الذي هو بئس القرين قد أتوا شيئاً إداً؛ تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا, وأن هذا الفعل أشد عند الله من القتل والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا وجميع الموبقات والمهلكات عدا الشرك بالله. ونحن لا نكتب ما نكتب إلا ردّاً لغلو الغالين، وتكفير المكفرين؛ الذين فتحوا الباب مشرعاً –بأفعالهم وأقوالهم – لكل أعداء الدين ومناوئيه ؛ ليصفوا الإسلام بالتطرف، والمسلمين بالإرهاب.. من غير تمييز، وبلا تفصيل.., فكانوا – بسوء صنيعهم – سداً منيعاً في وجه الدعوة الحقة للإسلام الحق، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستنزاف مقدراتهم، وشل قواهم, فالله يصلحهم ، ويسدد دربهم.
فلا يهولنك أخي المسلم ما تسمعه من إطلاق لفظ مرجئ على من قال ذلك ؛ فهو قول السلف قاطبة, وقد ذكر العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي رحمه الله تعالى:"أن طائفة المنصورية – وهم مبتدعة ضلال – نبزوا أهل السنة بالإرجاء، لكونهم لا يكفرون تارك الصلاة إذا لم يجحدها !! زاعمين أن هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل". (البرهان في عقائد أهل الإيمان ص69)
والثاني من العمومين: أن (ما) التي تشمل – بعمومها أيضاً- كل حكمٍ لله تعالى، فلا تقتصر فقط على الأمور القضائية ولا الخصومات.
فإن نظرتَ لهذا التقرير المأخوذ من عمومِيْ الآية علمتَ أن هذا يشمل كلّ عاصٍ لله تعالى بأيّ معصيةٍ دقّت أو جلّت, استمر عليها طيلة حياته أو لم يستمر, جعلها مبدأ له طيلة حياته(مع اعترافه بحرمة ما يفعله) أو لم يجعلها؛ فالزاني –مثلاً- حقيقة أمره أنه قد حكّم هواه بدلاً من أن ُيحكِّم ما أنزل الله في شأن نفسه، وكذلك الحالق لحيته والجائر بين أولاده والكاذب متعمدا وشارب الخمر.. فإنهم قد حكّموا الهوى بدلاً من تحكيم شرع الله تعالى في شأن اللحية والعدل في التعامل مع الأولاد واجتناب الزنا والخمر والكذب.
ولأجل هذه اللوازم الفاسدة التي مآلها التكفير بالذنب جاءت نصوصُ العلماء حاسمةً للمسألة مبيِّنةً للفهم الصحيح للآية من أنها ليست على ظاهرها هذا. فلقد فسر السلف رضي الله عنهم قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " بأنه كفر دون كفر أو كفر لا يخرج من الملة. فالمعنى الصواب والصحيح للآية أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً أو مبدلاً فقد كفر. فالكفر المذكور في الآية المعنيون به هم اليهود ومن فعل فعلهم. ويدخل في معنى "الجحودِ والتبديلِ" "الاستخفافَ بأحكام الشريعة والاستهزاءَ بها, أو تفضيلَ غيرها عليها, أو اعتقادَ عدم وجوب العمل بها, أو اعتقادَ جواز الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة ".
ولا يلزم من ذلك-كما هو واضح بين لكل منصف باحث عن الحق والحقيقة, مفارق لربقة الهوى والتعصب- أنه لا يكفر إلا بالجحود. وقول المرجئة-هداهم الله- يحصر الكفر في الجحود.
وإليك كلام الأئمة, وأعلام الأمة.. كاملا بنصه وحروفه, ليكون هذا الكتاب الذي بين يديك جامعا مستغنيا عن غيره, ولتعلم تواتر ما ذكرت لك في تفسير الآية في أمتنا الإسلامية:
1- قال الإمام ابن القيم في كتاب الصلاة ص55: " فصل: الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول(ص) جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده.. فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه.. يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفي عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه: فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد. ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً ولا يطلق عليهما اسم كافر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد، وكذلك قوله: [ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] فهذا كفر عمل، وكذلك قوله : [ من أتى كاهناً فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد] وقوله: [ إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما]، وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكمترك العمل به، فقال تعالى : من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتأمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما (البقرة: 84).تعملون
فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم. ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقبل فريق منهم فريقاً وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر], ففرق بين قتاله وسبابه، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به والآخر كفراً، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم. فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقاً أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان. فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى { من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة:44) ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة
وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع عن سفيان عن بن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً. وسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافراً. وليس الكافران على حد سواء ".
2- سأل إسماعيل بن سعد الإمام أحمد بن حنبل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله ..) ما هذا الكفر ؟
قال: " كفر لا يخرج من الملة ". انظر مسائل ابن هانئ (2/192). وقال ابن هانئ في سؤالاته(2042): "وسألته عن حديث طاووس عن قوله: كفر لا ينقل عن الملة ؟ قال أبو عبد الله: إنما هذا في هذه الآية: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ".
وانظر مرويات الإمام أحمد فى التفسير2/45, ومسائل أحمد برواية أبي داود(209) -وقد طبع طبعتان الأولى بتحقيق الشيخ محمد رشيد رضا وتصحيح الأستاذ محمد بهجت البيطار طبع في مصر. والثانية بتحقيق طارق بن عوض الله مكتبة ابن تيمية ط1, 1420هـ - . وهو ما أكده الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى(7/ 522): " وقال ابن عباس وغير واحد من السلف... كفر دون كفر وفسق دون فسق وظلم دون ظلم. وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما".
وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/254)، وتلميذه ابن القيم في "حكم تارك الصلاة" ( ص59-60): أن الإمام أحمد –رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم؛ فقال: "كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه".
3- البخاري(انظر السطور السابقة).
4- يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في الإيمان(ص89: 90): " وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل: فقول الله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال ابن عباس: (ليس بكفر ينقل من الملة) وقال عطاء بن أبي رباح: (كفر دون كفر). فقد تبين لنا إذا كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله وإن خالطه ذنوب فلا معنى له إلا أخلاق الكافر وسنتهم؛ لأن من سنن الكافر الحكم بغير ما أنزل الله. ألا تسمع قوله: " أفحكم الجاهلية يبغون ". وتأوليه عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية, إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون".
5- يقول ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6/166) : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟! قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس".
6- يقول أبو عبد الله ابن بطة العكبري "الإبانة" (2/723): "باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة"، وذكر ضمن هذا الباب(2/ 733-737): الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة".
7- يقول الإمام محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/520): ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً- دون أصله- لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلامة، من ذلك قول ابن عباس-أي كفردون كفر- في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾.
وقال(2/523) معقباً على أثر عطاء- أي كفر دون كفر، وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق- : وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل".
8- يقول ابن الجوزي في " زاد المسير" (2/366): وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقر به؛ ولم يحكم به؛ فهو ظالم فاسق".
9- يقول ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". (انظر لزاما معنى التبديل في العنصر الرابع من هذا البحث)
10- يقول الإمام القرطبي-وهو شيخ القرطبي صاحب التفسير الشهير- في المفهم شرح صحيح مسلم(5/117): "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وقال أيضا في المفهم(5/117-118): "ومقصود هذا البحث، أنَّ هذه الآيات – آيات المائدة – المراد بها: أهل الكفر والعناد، وأنها وإن كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى: إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ النساء:48. وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يغفر، والكفر لا يغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفراً".
11- قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن(6/190): " قوله تعالى: فأوْلئك هم الكافرون, والظالمون, والفاسقون. نزلت كلها في الكفار, ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء(فذكره بطوله). فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار, أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول(ص)فهو كافر. قاله ابن عباس ومجاهد ".
12- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(3/267) في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة 44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " أ.هـ
وقال أيضا(7/312): (وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة. وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
وقال أيضا في منهاج السنة(5/130) : " فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً، والحكم بما أنزل الله واجب ".
13- يقول ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً.
14- يقول البقاعي " نظم الدرر" (2/ 460): (ولما نهى عن الأمرين وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو خوف أو رجاء أو شهوة رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق. قال ابن عباس: (من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق).
15- يقول الشاطبي "الموافقات" (4/39): "هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر".
16- يقول ابن حجر العسقلاني "فتح الباري" (13/120): "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافراً، ولا يسمى – أيضاً – ظالماً؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، فبقيت الصفة الثالثة" ؛ يعني الفسق.
17- يقول الخازن في تفسيره(1/ 310): " قال جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غيّر حكم الله من اليهود؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر. وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب).
18- يقول الجصاص في أحكام القرآن (2/439): "المراد: جحود حكم الله، أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله. فهذا كفر يخرج عن الملة، وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلماً. وعلى هذا تأوله من قال: إنما نزلت في بني إسرائيل، وزجرت فينا. يعنون أن من جحد حكم الله، أو حكم بغير حكم الله, ثم قال: إن هذا حكم الله؛ فهو كافر، كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك ".
19- يقول أبو المظفر السمعاني في تفسيره ( 2/42 ) : " واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ، ويقولون: " من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا لا يكفر بترك الحكم".
20- يقول ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر: "وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) نزلت في أهل الكتاب. قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا. قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر".
21- يقول الإمام ابن حزم في الفصل في الملل والنحل(2/227): "وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به – قلت: أي الذي لم يجحد بقلبه وإنما عمل بما يضاد الحق وهو يعتقد أن الحق بخلاف ما عمل - فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك".
22- تأمل ما رواه الخطيب -رحمه الله- في (تاريخ بغداد 10/183، ترجمة الخليفة المأمون، ترجمة رقم5330):
"أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا الحسن بن خضر قال: سمعت ابن أبي دؤاد يقول: أُدخل رجلٌ من الخوارج على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آيةٌ في كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال له المأمون: ألكَ عِلمٌ بأنها مُنزَلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيتَ بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل، قال: صدقتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين."
أقول: قد استجاب هذا (الخارجي) ورجع إلى الحق .. فهلا رجع إلى الحق – أيضاً – أولئك الحدثاء المحدثون، المتأثرون بالخوارج المبهورون بآرائهم السالكون نهجهم, الناسجون على منوالهم..!! هذا ما نرجوه ونأمله من الله جل وعلا, قال تعالى( فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) القصص 50
وقال تعالى:( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور51
23- قال الإمام أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الحكيم (3/42): "﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ كائناً من كان، دون المخاطبين خاصة؛ فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً. أي: من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً، كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيّناً ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لاستهانتهم به".
24- يقول علامة الشام جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل(6/ 1998): " كفر الحاكم بغير ما أنزل الله بقيد الاستهانة والجحود له, وهو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عكرمة وابن عباس).
وهناك نقول أخرى كثيرة انظرها في البحث هناك في الملتفى المفتوح بإذن الله.
3- توحيد الربوبية والألوهية ومدى علاقته بالحكم بغير ما أنزل الله
" لقد وقفت على رسالة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تناقض فيها صاحبها وأتى بما لم يأت به من سبقه من الغرائب، وقد قرر في رسالته أن هنالك فرقاً بين من حكم بغير ما أنزل الله دون أن يشرع قانوناً لذلك وبين من وضع قانوناً. فالأول لا يكفر وأما الثاني فهو وكل من حكَّم قانونه أو عمل به كافر خارج من الملة مادام أنه قد علم بمخالفته لحكم الله –وقد رددتُ على ذلك في كلامي تحت عنوان: قبل أن نبدأ-.
ودليله على ذلك: أن التشريع حق لله وحده وأن من شرَّع فإنه يلزمه أمران : رفض شريعة الله إذ لو لم يرفضها لما استبدل بها غيرها والثاني أنه تعدى على حق من حقوق الله وأن ذلك ينافي التوحيد, وأن الله سبحانه قد اختص بأشياء منها العبادة ، ومنها الخلق والرزق التدبير، ومنها الحكم والتشريع أيضاً ... إلى أن قال: فمن صرف شيئاً اختص اللّـه به لغيره فقد أشرك شركاً أكبر كالذي يعبد غير الله، أو يدعي علم الغيب من دون الله، أو يشرع من دون الله، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها ".
أقول ردا عليه: هذه مجازفة ، "فالعزُّ والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره" فيما يقول القرطبي في "المفهم", كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، قالا : قال رسول الله(ص): "العزُّ إزارهُ ، والكبرياءُ رداؤه ، فمن ينازعني عذبته" .
وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبَّة، أو ليخلقوا شعيرة" .
قال القرطبي في المفهم(5/432): "وقد دل هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علَّق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع".
ومما يؤكد أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، حديث عائشة قالت: "دخل علَّي رسول الله(ص) وقد سترتُ سهوةً لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلوَّن وجههُ, وقال: "يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله" .
ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، فإن أهل السُّنَّة لم يكفروا منهم إلاَّ من استحل أو قصد العبادة والمضاهاة، أما من لم يستحل، ولم يقصد العبادة والمضاهاة، فليس بكافر.
وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه ويحتقر غيره، وكذلك الخلق والتصوير من خصائصه سبحانه، فنحت التماثيل فيه مضاهاة لخلق الله تعالى, ولم يكفر أهل السنة منهم إلا من استحل ذلك أو قصد العبادة والمضاهاة. وصفوةُ القول أنَّ ثمة أوصافاً إلهية انفردَ اللهُ لها دون خلقهِ ، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير ، وأهل السُّنَّة لم يكفروا المنازع له فيها بإطلاق ، وإنما سلكوا منهج التفصيل ، فكذلك التشريع والحكم إذا لم يكن عن استحلال فليس بكفر ، وفاعله فاسق صاحب ذنب كبير ، ولا يكفر كسائر الكبائر غير المكفرة –كما يقول الدكتور الفاضل خالد العنبري في هزيمة الفكر التكفيري ص25- .
والذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله, وليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر ومنه ما هو شرك أصغر وضابط ذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ما ذكرناه آنفاً وعليه إجماع الأمة أن الأمر يرجع إلى الجحود والاستحلال. ولا يقال أن من اتبع حكم القانونيين وهو يعلم أنه على ذنب أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله لأن هذا الأمر يتعلق بالاعتقاد كما قررنا وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر ولو كان في مسألة يوافق حكمها حكم الله. أما بدون هذه العقيدة كأن يفعل ذلك إتباعاً للهوى أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية فليس عندنا ما نكفره به.
أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية فلا شك أنه لا يكون إلا شركاً أكبر لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله، ليس الأمر كذلك لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله, وإلا لزمك التكفير بالذنوب والمعاصي ولو كانت من الصغائر, وهذا باطل عاطل.
وقرر المخالفون أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي –ويحتجون بكلام(يأتي في الفصل الرابع) مبتور للعلامة ابن عثيمين-.
أقول ردا عليهم: الذي عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن كل ذنب دون الكفر (ومنه بالطبع- عند كل من أنصف- تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً) لا يعد قرينة على الاستحلال القلبي، فإن المعاصي التي دون الكفر بوجه عام إما أن يستحلها صاحبها عملياً أو قلبياً فبالأول يكون فاسقاً وبالثاني يكون كافراً ومن قال غير هذا فعليه البيان.
تنبــيه: "ولا يفوتني التأكيد على أمر مهم, وهو أن الكتاب ليس قُرباناً لحكام المسلمين !! ولست أبتغي به مرضاتهم !! فو الذي نفسي بيده ليس هذا مقصدي؛ بل إنني أرمي لما هو أسمى من ذلك؛ ألا وهو نصرة المعتقد الحقّ؛ معتقدِ أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، والتي أساء لها البعض بإيراداتهم وشبهاتهم. ومعاذ الله أن أكون قد كتبتُ ما كتبتُ محاباةً أو مجاملةً أو استماتةً في الدفاع عن الحكام ! بل الباعث على تأليف هذا الكتاب هو حمايةُ: أصولِ أهل السنة والجماعة من هجمات المُغرضين, وعُقولِ المسلمينَ من الفكر الضالّ بجميع صوره". اهـ من كلمة لفضيلة الشيخ الفاضل بندر بن نايف بن نصهات العتيبي.