محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الحمد لله العليم الحكيم ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وأحاطهم بعلمه ورحمته ، وجعلهم مختلفين لحكمة أرادها من حكمته ؛ والذي أرسل الرسل مبشرين من آمن بعفو الله ورحمته ، ومنذرين من عاند بعقوبته ونقمته .
والصلاة والسلام على من اصطفاه خاتما لرسالاته، وجعله للعالمين رحمة بمنته ،فبلغ رسالة ربه للناس وألزمهم بحجته .. وبعد :
فمنذ بدء الخليقة كان الحوار ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ ! قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، قَالَ : فَذَاكِ لَكِ " ( [1] ) .
وقبل خلق آدم e كان حوار : ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [ ( البقرة : 30 ) ؛ وبعد خلق آدم كان حوار : ] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [ ( البقرة : 31 : 33 ) ؛ وحوار آخر : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ . قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ [ ( الأعراف : 12 : 18 ) ، وكان بعد دخول آدم الجنة حوار : ] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ . وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [ ( الأعراف : 20 : 21 ) ، ثم بعد معصية آدم وحواء وظهور شؤم المعصية كان حوار : ] .. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ . قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ . قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [ ( الأعراف : 22 : 25 ) .
ثم كان حوار ابني آدم ، ثم حوارات الرسل مع قومهم الكفار ؛ وحواراتهم مع المؤمنين ، وحوارات المؤمنين مع الكافرين .. وهكذا ؛ فالحياة لا تخلو من حوار حق أو باطل ، جاد أو هزلي ، نافع أو ضار ؛ وطبيعة الحياة تستلزم الخلاف ففيها صراع دائم بين عقول مختلفة أو قوى مختلفة .
فيمكن القول : إن قضية الحوار سنة كونية ، ومبدأ شرعي ، وأسلوب حياة لا غنى للخلق عنه .
والحوار قاسم مشترك على مستوى الأمم والجماعات والأديان والأفراد ؛ بل حدث الحوار في عالم الحشرات ، فتلك نملة نصحت قومها : ] قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [ ( النمل : 18 ) ؛ وحدث الحوار بين الإنسان والطير ؛ بين سليمان u والهدد : ] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [( النمل : 20 : 22 ) .. إلى قوله تعالى : ] قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [ ( النمل : 27 ) .
ومن أعجب أنواع الحوار .. حوار الإنسان مع أعضائه التي تشهد عليه يوم القيامة : ] وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ ( فصلت : 21 ) .
ولحكمة أرادها الباري تعالى لا يزال الناس مختلفين ؛ والناس عندما يختلفون لا يخرج علاج هذا الخلاف عن أمرين : أما بقوة السنان وإما بقوة اللسان ، ونعني بالأول : الحرب والقتل ؛ وهذا النوع من العلاج قديم قدم الخلاف ، وهو منطق الظلمة على مر التاريخ واجهوا به الأنبياء والعلماء والمؤمنين بعد أن أقيمت الحجة على الظالمين ، وظهر بعد الحوار أنهم مغلوبون ، ولذا قال الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [ ( آل عمران : 21 ، 22 ) .
أما النوع الثاني لمعالجة الخلاف فهو : الحوار للوصول إلى الحق ، وهو منهج الرسل ، فالسبيل إلى الوصول للآخر ليس إلا عن طريق الحوار ، لأن القناعات الداخلية هي طريق الإيمان الخالي من الشوائب ، وأما القوة فقد تصنع موافقة ظاهرة ومعاندة باطنة ، أي تصنع نفاقًا متربصًا ليس من ورائه خير .
إن الحوار ترياق فعال لمعالجة كثير من الأدواء الفكرية والعقدية ، فبالحوار تنفتح مغاليق الشبهات ، وبه تدرأ الكثير من مكنونات النفس وتراكمات العقائد الضالة المضلة ، وبه يتضح الحق ويستبين سبيله .
فللحوار قوة قد تكون أقوى من قوة السلاح الفتاك ، لأنه يعتمد على القناعات الداخلية والتي بلا شك لها تأثير كبير في واقع الفرد والمجتمع .
والمتصفح أوراق التاريخ يقف على ما يدهش العقل من أثر الحوار الجاد في تغيير الفرد .. بل في تغيير الأمم ؛ وهل آمن من آمن إلا بالحوار ؟ وهل عاند من عاند إلا بعد حوار ؟ وهل رضي من رضي بالمعايشة دون قتال إلا بعد حوار ؟
وللحوار في القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة مساحات استوعبت جميع حالات الحوار : حوار النفس ، وحوار الأخوة الإسلامية ، وحوار المخالفين في الرأي ، وحوار المخالفين في الدين . إذ الحوار بكل صوره وأبعاده وأهدافه وآثاره مادة علمية لها ظلال عميقة في واقع التطبيق والتغيير .
فارتباط الحوار بمعنى الرجوع عن الشيء وإلى الشيء – كما يقول د صالح بن حميد - يثبت في الضمير الإنساني فضيلة الاعتراف بالخطأ ، ويركز على قيمة عظمى من قيم الحياة الإنسانية ، وهي القبول بمبدأ المراجعة ، بالمفهوم الحضاري الواسع الذي تجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته ، إذا اقتضت لوازم الحقيقة وشروطها هذه المراجعة ، واستدعى الأمر إعادة النظر في المسألة المطروحة للحوار على أي نحو من الأنحاء ، وصولاً إلى جلاء الحق .
فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية ، المستندة أساسًا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة ، وهو موقف فكري وحالة وجدانية وهو تعبير عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية ، وهو سمة التسامح ، لا بمعنى التخاذل والضعف بوازع من الهزيمة النفسية ، ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر ، والتسامي عن الضغائن، والتجافي عن الهوى والباطل ( [2] ).
ولا شك أن الحوار يختلف من حال إلى حال ومن ظرف إلى ظرف : فالحوار مع الكبير ليس كالحوار مع الصغير ؛ والحوار مع العالم ليس كالحوار مع الجاهل ؛ والحوار مع الجبابرة ليس كالحوار مع غيرهم ، والحوار مع المؤمنين ليس كالحوار مع الكافرين .. إن الحوار عملية تهدف إلى إقناع الخصم أو رد شبهته أو إقامة الحجة عليه أو إيقاف جبروته وطغيانه ؛ وللوصول إلى هذه الأهداف كلها أو بعضها يجب أن ننظر بخبرة وبصيرة في حال المحاور ، وفي القضية التي يتعلق بها الحوار ، وفي الأسلوب الذي ينبغي استخدامه معه ، وفي الحد الذي نقف عنده .
والحوار باق طالما أن هناك حياة ؛ إذًا هو باق إلى قيام الساعة ؛ إذ البشر لا يستغنون عن الحوار عند الاتفاق أو عند الاختلاف ، ولما كان الخلاف بين البشر لا ينتهي سواء بين المناهج المختلفة أو بين المناهج المتوافقة - وهذا لا يخلو منه زمان حتى يأذن الله تعالى بزوال الأرض ومن عليها ؛ فقد قال الله تعالى : ] وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ ( هود : 118 ، 119 ) - فسيظل الحوار كذلك لا ينتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها ؛ بل إن هناك حوارات أخرى يوم القيامة : حوار في ساحة العرض يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وحوار بين البشر والرسل للشفاعة العظمى ، وحوار عند الحساب ، وحوار بين الإنسان وأعضائه ، وحوار بين أهل المظالم ، وحوار في الجنة ، وحوار في النار ، وحوار بين أهل الجنة وأهل النار ..
هكذا يأخذنا هذا العرض من بدايته إلى منتهاه إلى الوقوف على أهمية الحوار ، وأنه من لوازم الحياة .
وفي عالمنا المعاصر بات الحوار من المصطلحات التي تتردد كثيرًا ، وترددها أطراف متعددة مختلفة مشاربهم متباينة أفكارهم متنوعة أهدافهم ؛ أراد منه بعضهم أعظم الحق ، وأراد منه آخرون أعظم الباطل ، والأصل في ذلك هو منهج المحاور وهدفه من الحوار وطريقته فيه ، وسيرته العلمية والعملية .
وفي عالم اليوم الذي تقاربت فيه كل القوى المعادية للإسلام وأهله ، وتداعت أمم الأرض على الأمة الإسلامية كما تتداعى الأكلة على قصعتها ؛ واتحد كثير من هذه الشعوب على اختلاف اللغة والمشارب والمعتقدات في أمور كثيرة ، أهمها الحرب على الإسلام ، وإن اتخذوا في ذلك أسماء عديدة آخرها الحرب على الإرهاب .
في ظل هذه التداعيات بات من المهم جدا أن تراجع الأمة واقعها ومواقفها وهويتها في مواجهة هذه الهجمة الشرسة ؛ ولابد أن تتخذ في ذلك القرارات العملية المبنية على حسن الدراسة للواقع الذي انتهت إليه الأمة وأسبابه ووسائل العلاج .
فلابد إذا من إعادة بناء الذات مع النظر في مواجهة الآخر .
ولإعادة بناء الذات لابد أن نتحاور - نحن المسلمين - فيما بيننا حتى نتفق ، ولابد أن نتعلم أسلوب المحاورة السليم حتى لا نتجاوز الخطوط الحمراء .. ولابد أن نعلم من هو مثلنا الأعلى في كل من الحوار والجدل حتى نقتدي به .. ولابد أن نحدد القضايا التي تخضع للحوار والقضايا التي لا تخضع له .. ولابد .. ولابد .. أمور كثيرة متعددة فرض الحديث فيها والخوض بتفاصيلها تعدد الفرق ، واختلاف المناهج ، وازدياد اتساع الشقة بين المسلمين ، وخروج كثير منهم عن جادة الصواب ومنهج الحق .. حتى غدا الحوار السليم مفقودا ، وحل محله الحوار الذي هدفه إخراس الخصم لا التفاهم معه ، وإظهار خيبته لا الاعتذار عنه ، والتعالي أمام الناس بقوة الجدل وشدة التفلسف لا ببساطة الفكر وسهولة الفهم ... هذا في أحسن الأحوال ؛ أما أسوأها ؛ وعلى صفحة أخرى بين الفئات الإسلامية فإن حبل الحوار قد انقطع منذ أمد ، والأمل بقيام وسيلة أو وسيط للتفاهم قد خبا منذ مدة ، وأصبح كل في واد ، وغدا كل فريق على انفراد حتى خيل إلى كل فريق أن الآخر ضال فاجر أو فاسق نافر .
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة .. أليس من سبيل لإيقاف هذا التفتت في صخرة الإسلام والتصدع في بنيانه ؟ .. أليس من أسلوب يجمع الشتات ويلم الشمل ويؤصل بذور الوحدة وينميها ويرعاها .. لمواجهة الهجمة الشرسة الموجهة إلى الإسلام وأهله ؟ ( [3] )
ولما كان الحوار لابد منه لإعادة بناء الذات وجب على الجميع السعي الحثيث ليكون هذا الحوار مثمرًا ، ولا يمكن أن يكون مثمرًا إلا إذا حفه أدب الحوار ، والالتزام بشروطه ، مع حسن القصد والتوجه إلى الله تعالى بإخلاص أن يبارك في مجالس الحوار المنعقدة ، وأن يسدد أهلها ، ويلهمهم الصواب ، ويوفقهم لما فيه رضاه سبحانه .
فأما ما نشاهده اليوم في الواقع وفي وسائل الإعلام - كالفضائيات والإذاعات والشبكة العنكبوتية وغيرها - فيختلف تمامًا عما يجب من لوازم أدب الحوار ؛ فهناك الاستئثار , والصراخ , والعصبية , والتنابز , والازدراء , والنظرة الدونية ؛ حتى ليخيل إليك في بعض البرامج الحوارية أنك في حلبة مصارعة ؛ أيهما يطرح الآخر أرضا بضربة قاضية !! ( [4] ) . يقول د عمر عبيد حسنة : ولعل من المشاهد الحوارية المزرية ، الحوارات التي تتم على مستوى الذات في الكثير من المحافل الثقافية والفضائيات بين اتجاهيـن متناقضين أو رأيين مختلفين ، والتي غالبًا ما يسودها الضجيج والصياح والزعيق والاستخفاف بعقل المشاهد والسامع والمشارك ، والتي هي أقرب لمناقرة وصراع الديكة منها للحوار الهادئ ... إنها ملاكمـة ومصارعـة - لكن بالكلمات - باسم الحوار ، وإن كانت لا تعدم استعراض العضلات وحركات الأيدي ، فبدلاً من أن يؤدي مثل هذا الحوار للوصول إلى مشترك إنساني ، يزيد الفرقة ، ويثير الأحقاد ، ويعمق الخلاف ، ويغتال المشترك ، وينتهي إلى العداوة والتربص والسعاية وسوء النية . إن مثل هذه الندوات والمشاهد التي تسمى حوارية هي أقدر على الهدم والمنابذة منها على البناء ومعالجة الفجوات والوصول إلى التفاهم وبناء المشترك الإنساني ، وقد لا ينتج عنها إلا إبراز شخصية مقدمي الحوار والبرهنة على أهميتهم وطول باعهم في العلم والثقافة ، واتخاذ ساحة الحوار مجالاً للغطرسة ومصادرة الآراء وتقطيعها وطرح اتجاهاتهم الفكرية والسياسية ، حتى ولو كان ذلك على حساب المتحاورين والحوار نفسه (!) ( [5] )
وحتى لا تضيع الأوقات ، ويضيع الحق في وسط المهاترات ، ويضيع الناس بين ذلك ، فلابد من إعادة النظر في ضبط هذه المحاورات والخروج بها من الاستخفاف بعقلية المشارك والمشاهد معا ، إلى الطرح الجاد والمناقشة العلمية الهادئة في جو من الأدب وحسن المجاوبة للوصول إلى الفائدة المرجوة من هذه الحوارات .
وأما مع الآخر فلابد من قراءة جيدة محيطة بالآخروفكرهوتاريخهوأهدافهوواقعهومواقفهمعالأمة، ثم النظر فيما يكون من التعامل معه وفق الضوابط الشرعية مع دراسة الواقع والمصالح والمفاسد .
إن الأمة التي اختارها الله لتكون خاتمة الأمم وخير الأمم ] كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [ ( آل عمران : 110 ) ، واختار لها خير الرسل وخاتمهم محمد e] مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [ ( الأحزاب : 40 ) ، وأنزل إليه خير الكتب ] وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [ ( المائدة : 48 ) ، ورضي لها الإسلام دينا ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [ ( المائدة : 3 ) ، وجعلها معيارية الأمم والشاهدة عليهم ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [ ( البقرة : 143 ) ؛ إن الأمة التي هذه صفاتها يتوجب عليها أن تحمل مسئولية دعوة البشرية إلى خير ما آتاها الله تعالى ، وأن تنهض بالأمر كما نهض به أولها ؛ وأن تعود إلى معينها الصافي ( الكتاب والسنة ) بالفهم الصحيح لهما ، ليكون سيرها صحيحا موفقا .
ولما كان الحوار مع الذات ومع الآخر من أصول الدعوة الإسلامية المباركة ؛ كان لابد لمن يتصدى لها أن يكون على فقه تام بقضية الحوار ؛ وإن كان الأولون قد عدوا الجدل علما ووضعوا له ضوابطوشروطا وآدابا ، فيمكن أن يقال : إن ( علم الحوار ) في عصرنا هذا قد حل مكان علم الجدل ، وقد حوى أبوابه وزاد عليها .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .. [ من مقدمة كتاب ( الحوار منهجا وثقافة ) ] .
[1] - البخاري ( 4832 ) ، ومسلم ( 2554 ) .
[2] - من محاضرة بعنوان ( الإسلام وحوار الحضارات ) للشيخ صالح بن عبد الله بن حميد ألقاها مساء يوم الاثنين 23/7/1423هـ في إطار فعاليات معرض الكتاب الدولي الذي نظمته جامعة الملك سعود في مقرها بالرياض .
[3] - انظر مقدمة ( نحو كلمة سواء ) ص 5 ، 6 باختصار وتصرف .
[4] - في حوار مع سلمان العودة أجراه موقع الإسلام اليوم ، بتصرف .
[5] - انظر تقديم د حسنة لكتاب الحوار .. الذات والآخر لعبد الستار الهيتي ؛ ص 27 .
والصلاة والسلام على من اصطفاه خاتما لرسالاته، وجعله للعالمين رحمة بمنته ،فبلغ رسالة ربه للناس وألزمهم بحجته .. وبعد :
فمنذ بدء الخليقة كان الحوار ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ ! قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، قَالَ : فَذَاكِ لَكِ " ( [1] ) .
وقبل خلق آدم e كان حوار : ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [ ( البقرة : 30 ) ؛ وبعد خلق آدم كان حوار : ] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [ ( البقرة : 31 : 33 ) ؛ وحوار آخر : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ . قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ [ ( الأعراف : 12 : 18 ) ، وكان بعد دخول آدم الجنة حوار : ] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ . وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [ ( الأعراف : 20 : 21 ) ، ثم بعد معصية آدم وحواء وظهور شؤم المعصية كان حوار : ] .. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ . قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ . قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [ ( الأعراف : 22 : 25 ) .
ثم كان حوار ابني آدم ، ثم حوارات الرسل مع قومهم الكفار ؛ وحواراتهم مع المؤمنين ، وحوارات المؤمنين مع الكافرين .. وهكذا ؛ فالحياة لا تخلو من حوار حق أو باطل ، جاد أو هزلي ، نافع أو ضار ؛ وطبيعة الحياة تستلزم الخلاف ففيها صراع دائم بين عقول مختلفة أو قوى مختلفة .
فيمكن القول : إن قضية الحوار سنة كونية ، ومبدأ شرعي ، وأسلوب حياة لا غنى للخلق عنه .
والحوار قاسم مشترك على مستوى الأمم والجماعات والأديان والأفراد ؛ بل حدث الحوار في عالم الحشرات ، فتلك نملة نصحت قومها : ] قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [ ( النمل : 18 ) ؛ وحدث الحوار بين الإنسان والطير ؛ بين سليمان u والهدد : ] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [( النمل : 20 : 22 ) .. إلى قوله تعالى : ] قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [ ( النمل : 27 ) .
ومن أعجب أنواع الحوار .. حوار الإنسان مع أعضائه التي تشهد عليه يوم القيامة : ] وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ ( فصلت : 21 ) .
ولحكمة أرادها الباري تعالى لا يزال الناس مختلفين ؛ والناس عندما يختلفون لا يخرج علاج هذا الخلاف عن أمرين : أما بقوة السنان وإما بقوة اللسان ، ونعني بالأول : الحرب والقتل ؛ وهذا النوع من العلاج قديم قدم الخلاف ، وهو منطق الظلمة على مر التاريخ واجهوا به الأنبياء والعلماء والمؤمنين بعد أن أقيمت الحجة على الظالمين ، وظهر بعد الحوار أنهم مغلوبون ، ولذا قال الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [ ( آل عمران : 21 ، 22 ) .
أما النوع الثاني لمعالجة الخلاف فهو : الحوار للوصول إلى الحق ، وهو منهج الرسل ، فالسبيل إلى الوصول للآخر ليس إلا عن طريق الحوار ، لأن القناعات الداخلية هي طريق الإيمان الخالي من الشوائب ، وأما القوة فقد تصنع موافقة ظاهرة ومعاندة باطنة ، أي تصنع نفاقًا متربصًا ليس من ورائه خير .
إن الحوار ترياق فعال لمعالجة كثير من الأدواء الفكرية والعقدية ، فبالحوار تنفتح مغاليق الشبهات ، وبه تدرأ الكثير من مكنونات النفس وتراكمات العقائد الضالة المضلة ، وبه يتضح الحق ويستبين سبيله .
فللحوار قوة قد تكون أقوى من قوة السلاح الفتاك ، لأنه يعتمد على القناعات الداخلية والتي بلا شك لها تأثير كبير في واقع الفرد والمجتمع .
والمتصفح أوراق التاريخ يقف على ما يدهش العقل من أثر الحوار الجاد في تغيير الفرد .. بل في تغيير الأمم ؛ وهل آمن من آمن إلا بالحوار ؟ وهل عاند من عاند إلا بعد حوار ؟ وهل رضي من رضي بالمعايشة دون قتال إلا بعد حوار ؟
وللحوار في القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة مساحات استوعبت جميع حالات الحوار : حوار النفس ، وحوار الأخوة الإسلامية ، وحوار المخالفين في الرأي ، وحوار المخالفين في الدين . إذ الحوار بكل صوره وأبعاده وأهدافه وآثاره مادة علمية لها ظلال عميقة في واقع التطبيق والتغيير .
فارتباط الحوار بمعنى الرجوع عن الشيء وإلى الشيء – كما يقول د صالح بن حميد - يثبت في الضمير الإنساني فضيلة الاعتراف بالخطأ ، ويركز على قيمة عظمى من قيم الحياة الإنسانية ، وهي القبول بمبدأ المراجعة ، بالمفهوم الحضاري الواسع الذي تجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته ، إذا اقتضت لوازم الحقيقة وشروطها هذه المراجعة ، واستدعى الأمر إعادة النظر في المسألة المطروحة للحوار على أي نحو من الأنحاء ، وصولاً إلى جلاء الحق .
فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية ، المستندة أساسًا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة ، وهو موقف فكري وحالة وجدانية وهو تعبير عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية ، وهو سمة التسامح ، لا بمعنى التخاذل والضعف بوازع من الهزيمة النفسية ، ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر ، والتسامي عن الضغائن، والتجافي عن الهوى والباطل ( [2] ).
ولا شك أن الحوار يختلف من حال إلى حال ومن ظرف إلى ظرف : فالحوار مع الكبير ليس كالحوار مع الصغير ؛ والحوار مع العالم ليس كالحوار مع الجاهل ؛ والحوار مع الجبابرة ليس كالحوار مع غيرهم ، والحوار مع المؤمنين ليس كالحوار مع الكافرين .. إن الحوار عملية تهدف إلى إقناع الخصم أو رد شبهته أو إقامة الحجة عليه أو إيقاف جبروته وطغيانه ؛ وللوصول إلى هذه الأهداف كلها أو بعضها يجب أن ننظر بخبرة وبصيرة في حال المحاور ، وفي القضية التي يتعلق بها الحوار ، وفي الأسلوب الذي ينبغي استخدامه معه ، وفي الحد الذي نقف عنده .
والحوار باق طالما أن هناك حياة ؛ إذًا هو باق إلى قيام الساعة ؛ إذ البشر لا يستغنون عن الحوار عند الاتفاق أو عند الاختلاف ، ولما كان الخلاف بين البشر لا ينتهي سواء بين المناهج المختلفة أو بين المناهج المتوافقة - وهذا لا يخلو منه زمان حتى يأذن الله تعالى بزوال الأرض ومن عليها ؛ فقد قال الله تعالى : ] وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ ( هود : 118 ، 119 ) - فسيظل الحوار كذلك لا ينتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها ؛ بل إن هناك حوارات أخرى يوم القيامة : حوار في ساحة العرض يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وحوار بين البشر والرسل للشفاعة العظمى ، وحوار عند الحساب ، وحوار بين الإنسان وأعضائه ، وحوار بين أهل المظالم ، وحوار في الجنة ، وحوار في النار ، وحوار بين أهل الجنة وأهل النار ..
هكذا يأخذنا هذا العرض من بدايته إلى منتهاه إلى الوقوف على أهمية الحوار ، وأنه من لوازم الحياة .
وفي عالمنا المعاصر بات الحوار من المصطلحات التي تتردد كثيرًا ، وترددها أطراف متعددة مختلفة مشاربهم متباينة أفكارهم متنوعة أهدافهم ؛ أراد منه بعضهم أعظم الحق ، وأراد منه آخرون أعظم الباطل ، والأصل في ذلك هو منهج المحاور وهدفه من الحوار وطريقته فيه ، وسيرته العلمية والعملية .
وفي عالم اليوم الذي تقاربت فيه كل القوى المعادية للإسلام وأهله ، وتداعت أمم الأرض على الأمة الإسلامية كما تتداعى الأكلة على قصعتها ؛ واتحد كثير من هذه الشعوب على اختلاف اللغة والمشارب والمعتقدات في أمور كثيرة ، أهمها الحرب على الإسلام ، وإن اتخذوا في ذلك أسماء عديدة آخرها الحرب على الإرهاب .
في ظل هذه التداعيات بات من المهم جدا أن تراجع الأمة واقعها ومواقفها وهويتها في مواجهة هذه الهجمة الشرسة ؛ ولابد أن تتخذ في ذلك القرارات العملية المبنية على حسن الدراسة للواقع الذي انتهت إليه الأمة وأسبابه ووسائل العلاج .
فلابد إذا من إعادة بناء الذات مع النظر في مواجهة الآخر .
ولإعادة بناء الذات لابد أن نتحاور - نحن المسلمين - فيما بيننا حتى نتفق ، ولابد أن نتعلم أسلوب المحاورة السليم حتى لا نتجاوز الخطوط الحمراء .. ولابد أن نعلم من هو مثلنا الأعلى في كل من الحوار والجدل حتى نقتدي به .. ولابد أن نحدد القضايا التي تخضع للحوار والقضايا التي لا تخضع له .. ولابد .. ولابد .. أمور كثيرة متعددة فرض الحديث فيها والخوض بتفاصيلها تعدد الفرق ، واختلاف المناهج ، وازدياد اتساع الشقة بين المسلمين ، وخروج كثير منهم عن جادة الصواب ومنهج الحق .. حتى غدا الحوار السليم مفقودا ، وحل محله الحوار الذي هدفه إخراس الخصم لا التفاهم معه ، وإظهار خيبته لا الاعتذار عنه ، والتعالي أمام الناس بقوة الجدل وشدة التفلسف لا ببساطة الفكر وسهولة الفهم ... هذا في أحسن الأحوال ؛ أما أسوأها ؛ وعلى صفحة أخرى بين الفئات الإسلامية فإن حبل الحوار قد انقطع منذ أمد ، والأمل بقيام وسيلة أو وسيط للتفاهم قد خبا منذ مدة ، وأصبح كل في واد ، وغدا كل فريق على انفراد حتى خيل إلى كل فريق أن الآخر ضال فاجر أو فاسق نافر .
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة .. أليس من سبيل لإيقاف هذا التفتت في صخرة الإسلام والتصدع في بنيانه ؟ .. أليس من أسلوب يجمع الشتات ويلم الشمل ويؤصل بذور الوحدة وينميها ويرعاها .. لمواجهة الهجمة الشرسة الموجهة إلى الإسلام وأهله ؟ ( [3] )
ولما كان الحوار لابد منه لإعادة بناء الذات وجب على الجميع السعي الحثيث ليكون هذا الحوار مثمرًا ، ولا يمكن أن يكون مثمرًا إلا إذا حفه أدب الحوار ، والالتزام بشروطه ، مع حسن القصد والتوجه إلى الله تعالى بإخلاص أن يبارك في مجالس الحوار المنعقدة ، وأن يسدد أهلها ، ويلهمهم الصواب ، ويوفقهم لما فيه رضاه سبحانه .
فأما ما نشاهده اليوم في الواقع وفي وسائل الإعلام - كالفضائيات والإذاعات والشبكة العنكبوتية وغيرها - فيختلف تمامًا عما يجب من لوازم أدب الحوار ؛ فهناك الاستئثار , والصراخ , والعصبية , والتنابز , والازدراء , والنظرة الدونية ؛ حتى ليخيل إليك في بعض البرامج الحوارية أنك في حلبة مصارعة ؛ أيهما يطرح الآخر أرضا بضربة قاضية !! ( [4] ) . يقول د عمر عبيد حسنة : ولعل من المشاهد الحوارية المزرية ، الحوارات التي تتم على مستوى الذات في الكثير من المحافل الثقافية والفضائيات بين اتجاهيـن متناقضين أو رأيين مختلفين ، والتي غالبًا ما يسودها الضجيج والصياح والزعيق والاستخفاف بعقل المشاهد والسامع والمشارك ، والتي هي أقرب لمناقرة وصراع الديكة منها للحوار الهادئ ... إنها ملاكمـة ومصارعـة - لكن بالكلمات - باسم الحوار ، وإن كانت لا تعدم استعراض العضلات وحركات الأيدي ، فبدلاً من أن يؤدي مثل هذا الحوار للوصول إلى مشترك إنساني ، يزيد الفرقة ، ويثير الأحقاد ، ويعمق الخلاف ، ويغتال المشترك ، وينتهي إلى العداوة والتربص والسعاية وسوء النية . إن مثل هذه الندوات والمشاهد التي تسمى حوارية هي أقدر على الهدم والمنابذة منها على البناء ومعالجة الفجوات والوصول إلى التفاهم وبناء المشترك الإنساني ، وقد لا ينتج عنها إلا إبراز شخصية مقدمي الحوار والبرهنة على أهميتهم وطول باعهم في العلم والثقافة ، واتخاذ ساحة الحوار مجالاً للغطرسة ومصادرة الآراء وتقطيعها وطرح اتجاهاتهم الفكرية والسياسية ، حتى ولو كان ذلك على حساب المتحاورين والحوار نفسه (!) ( [5] )
وحتى لا تضيع الأوقات ، ويضيع الحق في وسط المهاترات ، ويضيع الناس بين ذلك ، فلابد من إعادة النظر في ضبط هذه المحاورات والخروج بها من الاستخفاف بعقلية المشارك والمشاهد معا ، إلى الطرح الجاد والمناقشة العلمية الهادئة في جو من الأدب وحسن المجاوبة للوصول إلى الفائدة المرجوة من هذه الحوارات .
وأما مع الآخر فلابد من قراءة جيدة محيطة بالآخروفكرهوتاريخهوأهدافهوواقعهومواقفهمعالأمة، ثم النظر فيما يكون من التعامل معه وفق الضوابط الشرعية مع دراسة الواقع والمصالح والمفاسد .
إن الأمة التي اختارها الله لتكون خاتمة الأمم وخير الأمم ] كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [ ( آل عمران : 110 ) ، واختار لها خير الرسل وخاتمهم محمد e] مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [ ( الأحزاب : 40 ) ، وأنزل إليه خير الكتب ] وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [ ( المائدة : 48 ) ، ورضي لها الإسلام دينا ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [ ( المائدة : 3 ) ، وجعلها معيارية الأمم والشاهدة عليهم ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [ ( البقرة : 143 ) ؛ إن الأمة التي هذه صفاتها يتوجب عليها أن تحمل مسئولية دعوة البشرية إلى خير ما آتاها الله تعالى ، وأن تنهض بالأمر كما نهض به أولها ؛ وأن تعود إلى معينها الصافي ( الكتاب والسنة ) بالفهم الصحيح لهما ، ليكون سيرها صحيحا موفقا .
ولما كان الحوار مع الذات ومع الآخر من أصول الدعوة الإسلامية المباركة ؛ كان لابد لمن يتصدى لها أن يكون على فقه تام بقضية الحوار ؛ وإن كان الأولون قد عدوا الجدل علما ووضعوا له ضوابطوشروطا وآدابا ، فيمكن أن يقال : إن ( علم الحوار ) في عصرنا هذا قد حل مكان علم الجدل ، وقد حوى أبوابه وزاد عليها .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .. [ من مقدمة كتاب ( الحوار منهجا وثقافة ) ] .
[1] - البخاري ( 4832 ) ، ومسلم ( 2554 ) .
[2] - من محاضرة بعنوان ( الإسلام وحوار الحضارات ) للشيخ صالح بن عبد الله بن حميد ألقاها مساء يوم الاثنين 23/7/1423هـ في إطار فعاليات معرض الكتاب الدولي الذي نظمته جامعة الملك سعود في مقرها بالرياض .
[3] - انظر مقدمة ( نحو كلمة سواء ) ص 5 ، 6 باختصار وتصرف .
[4] - في حوار مع سلمان العودة أجراه موقع الإسلام اليوم ، بتصرف .
[5] - انظر تقديم د حسنة لكتاب الحوار .. الذات والآخر لعبد الستار الهيتي ؛ ص 27 .