حوار مع جريدة الوقت البحرينية // د. أحمد الطعان //

أحمد الطعان

مستشار
إنضم
15/12/2005
المشاركات
452
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
سوريا - دمشق
في حوار مع الباحث السوري أحمد الطعّان
القرآن مقدّس ولا مكان للقراءات التحريفية بدعوى التأويل

الحلقة الأولى​
الوقت - نادر المتروك:
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’. وفيما يلي نصّ الحوار معه:
* كيف تقيّم وضعية الخطاب العلماني في قراءاته للنص الديني المسلّحة بالمعرفة المعاصرة؟
- لكلّ نصّ بشري خصوصياته التي يُفترض أن يراعيها قارئ النص، فهناك شروط اجتماعية وثقافية وسياقية لابد أن تكون حاضرة أثناء أية قراءة لأي نص ينطق به البشر. ومن هنا لابد لمن يقرأ شكسبير وابن الفارض ودانتي وابن خلدون أن يضع في اعتباره شروط الفهم التاريخية التي أسهمت في تشكيل نصوصهم. وأي قارئ عربي يقوم بقراءة نقدية لشكسبير من خلال موروثه الثقافي العربي ويسعى لإسقاط هذا الموروث على نصوص شكسبير فإنه سيتعرض لسخرية وتهكّم الباحثين الغربيين والشرقيين على السواء. هذا فيما يتعلق بنصوص البشر.
* ولكن العلمانيين يقولون إن النصوص الإلهية تتأنسن عندما يخاطب بها الله البشر؟
- هنا توجد مغالطة شديدة، لأن فهم النصوص الإلهية بالفعل يخضع لمواضعات البشر ولكن ليس بالضرورة أن تخضع هذه النصوص لما تخضع له نصوص البشر من قابلية الخطأ والكذب وغير ذلك، وإلا فسينقلنا هذا إلى قضية أخرى وهي قضية الإيمان والأبعاد الغيبية فيه. إذاً لابد أن تكون النصوص الإلهية ذات ميزة خاصة وهي كونها معصومة عن الخطأ، بينما نصوص البشر يمكن أن توصف بذلك، ولكن فيما يتعلق بالنصوص الإلهية حين يقول المؤمن ذلك فهذا يعني أنه قد تخلى عن إيمانه أو تخلى إيمانه عنه.
والأمر الآخر هو أننا يجب أن نفرّق بين نص جاء ليقرّر مبادئ عملية سلوكية نازلة من علٍ، وبالتالي يُطالب هذا النص بممارسةٍ ما وبسلوكٍ ما وبيقينٍ ما، وبين نص آخر هو نص تأمّلي القصد منه هو تحريك المشاعر ومداعبة الخيال وإثارة الأحلام. القرآن الكريم يرسم منهج حياةٍ للمؤمنين به، وهو نصّ قانوني بالدرجة الأولى، وإذا كان يمكن قراءة النص القانوني بالطريقة التي يريدها الخطاب العلماني فهذا يعني أنه لا توجد جريمة ولا يوجد مجرم على وجه الأرض لأنه من الممكن بسهولة قراءة كلّ نص آلاف القراءات وتأويله - أو بعبارة أصح - تحريفه آلاف التحريفات.
مقاربات أم مواربات؟
* هذه رؤية نقدية شديدة تجاه مقاربات الخطاب العلماني الموجّه نحو النص الديني. أليس كذلك؟
- إن ما تسمّيه مقاربات - وهو للتعبير عن التواضع العلمي ومحاولة الاقتراب من الحقيقة - لا أظن أنه ينطبق على الرصيد الأكبر للمُنتَج العلماني، لأنه لا يقدّم لنا مقاربات وإنما يقدّم لنا ‘’مواربات’’ هدفها التنصّل من الحقيقة، فهو في غالبيته خطاب لا يعترف أصلاً بوجود الحقيقة. إنّ الحقيقة في الإسلام نصَّ عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهي كما جاء في الحديث كمثل ‘’المحجة البيضاء ليلها كنهارها’’، ولكن الخطاب العلماني في الواقع لا يريد أن يبني علاقة مع الحقيقة لأن ذلك يكلّفه بتكاليف وواجبات وربما تصبح المغارم أكثر من المغانم، ولذلك يثير الغبش والغبار دائماً أمام الشمس محاولاً حجبها عن الأعين ليقنع الآخرين بأن الشمس لا وجود لها، ويُستغَل مفهوم التأويل لكونه مفهوماً إسلامياً قرآنياً وتراثياً كمدخل إلى الهرمينوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة جديدة أو معاصرة أو تنويرية أو غنوصية أو غير ذلك، ومن ثَم تصبح المعاني القرآنية المستقرة، والأصول الثابتة، والأفهام السلفية الراسخة والمعلومة من الدين بالضرورة والمجمَع عليها؛ أفهاماً تاريخية خاضعة للتجديد والتغيير والمعاصَرة، لتحِعل محلَّها معان أكثر تطوراً ورضوخاً للعصر والواقع.
الخطاب العلماني والقرآن
* هل يمكن تقديم توضيح للرؤية التي ينطلق منها العلمانيون في تأويل النص القرآني مثلا؟
- في نظر الخطاب العلماني؛ المؤلف مات، والقصدُ خرافة، ولا توجد قراءة بريئة، والأصل في الكلام التأويل، وقوة النص في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه، في اشتباهه والتباسه، لا في إحكامه وأحكامه. فالنصّ ليس نصّاً على المُراد بقدر ما هو حيِّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والتحوير، والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة ذاتها، فهي تُخفي بالضبط ما تشير إليه. إن القرآن الكريم في منظور هذا الخطاب العلماني لا يفلت من هذه القراءة النسبية المفتوحة، فهو ما إن انتقل من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنمي - بتعبير طيب تيزيني - عبر البشر الفرادى والمجتمعين المتشظين وفق مواقعهم المجتمعية.
ومن هنا، فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكلّ ما يُراد منه ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، فليس للقرآن معنى محدّد نهائي، إنه يقول كلّ شيءٍ من دون أن يقول شيئاً.
بين الهرمينوطيقا وقواعد الشافعي
* ولكن ما الضير في تفسير القرآن وفقا للهرمينوطيقيا؟
- المشكلة أنه يُفسَّر القرآن بناءً على خواطر وهواجس تحدّث بها شلايرماخر، أو هايدغر، أو رولان بارت أو دريدا. بينما يُضرب بقواعد الشافعي وأبي حنيفة وأصولهما عرض الحائط. إن الهرمينوطيقا اختُرعت في الأصل لقراءة النصوص الأدبية والشعرية، نعم يوجد في الغرب منْ حاول قراءة الكتاب المقدس من خلالها، ولكن ذلك حصل بعد أن انهارت قداسة الكتاب المقدس في الغرب، وتخلى الغربيون عن الإيمان بهذه القداسة بعد عصر النهضة وتفاقم الشك والإلحاد، فأصبح الكتاب المقدس كأي كتاب أدبي آخر يُدرس من منظور إنساني من دون أي اعتبار للبعد الغيبي الإلهي. والأمر الآخر أن الغاية من الهرمينوطيقا في الأساس ليس هو فهم النص أو البحث عن معناه، وإنما الغاية الأولى هو تنمية الموهبة الإبداعية، والقدرة القولية، بتحريض من النص نفسه وتشجيع من رموزه وعلاماته، وإثراء الفكر، وإثارة الذاكرة من خلال إيحاءاته واستدعاءاته.
قداسة القرآن
* وبأي نحو ينبغي أن يكون التعامل مع القرآن الكريم إذاً، خصوصا في هذا الشهر الكريم؟
- القـرآن الكريم يُقرأ لكي يُفهم وتقوم عليه عقيدة وشريعة وسلوك في المقام الأول، أما ما يتحصّل بعد ذلك من فوائد أخرى رمزية أو تخيلية أو اشارية فهي تابعة للمقاصد الأولى والأساسية والجوهرية، ويجب ألا تتناقض معها أو تُصادمها. إن قداسة القرآن هي بُعد بدهي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتجاوزه أو يَغضَّ الطرف عنه، ولابد لكل مسلم - حتى يكون مسلماً - أن ينطوي في قلبه على تبجيل شديدٍ لكتاب الله عز وجل، وتمجيد وتعظيم لكلماته سبحانه وتعالى، ولا يوجد أي تناقض بين هذه القداسة، وبين الشرح والفهم عن الله عز وجل، فالباري عز وجل أنزل كلامه ليُفهم أولاً، وأحال في ذلك إلى أهل الذكر: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
قداسة القرآن وحاجز العبث
* ولماذا لا يُعجب ذلك الخطاب العلماني؟
- لأن قداسة القرآن حاجز بينه وبين العبث، وسدّ عظيم يحول بينه وبين اللعب، وليس أي لعب! بل اللعب الحر، ولذلك فهو يبحث بين المناهج الحديثة عن أكثر المناهج جدوى في تحطيم هذه القداسة وتهشيمها، فوجد ذلك بحسب تصوّره في اللسانيات. فهي أولاً - بحسب ظنه - ساهمت في تقويض أُحادية المعنى للنص الديني، وجعلته يخضع لفهم القارئ وظروفه وقدرته على توليد المعنى. وكأن المنهج الأصولي الإسلامي منهج أُحادي المعنى. لكن المراد في الخطاب العلماني ليس تعدّد المعنى أو احتمالات المعنى، وإنما فوضى المعنى أو نسبية المعنى. إن المنهج الأصولي الإسلامي يذكر للكلمة المعاني التي تحتملها ثم يُرجح المعنى المراد بناء على المرجِّحات الموجودة في النص، أو القرائن الحافة به، أو السياق والسباق، أو الأصول العامة للشريعة، وليس الاستدلال بالتشِّهي أو العبث أو الخيال أو الموهبة، وإنما بالدليل.
* وهل أن اللسانيات في الخطاب العلماني يُراد منها نزع هيبة القرآن وقداسته؟
- نعم، وهو ما لا يخجل الخطاب العلماني من المصارحة به حين يؤكد أن دراسة القرآن دراسة ألسنية لغوية محضة الغاية، منها التحرّر من هيبة النصوص اللاهوتية، لأنها تبدو فوق الزمان والمكان والمشروطيات اللغوية، وأن فائدة الألسنية أنها تُزحزح قداسة النص وهيبته المفروضة علينا. المراد إذاً هو خلخلة الإيمان بالنص، والمقصود بالإيمان طبعاً الإيمان التقليدي، لأن هناك مفهوماً جديداً للإيمان هو إيمان ما بعد التحرير. ذلك هو المنهج البنيوي البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي يتبناه الخطاب العلماني، وهذه هي اللسانيات التي يُراد أن يُفسَّر القرآن الكريم على أساسها بحيث تستحيل القراءة البريئة، ويفقد النص انتماءه إلى كاتبه بعد كتابته، ويفقد مصدره الإلهي بعد تنزله وتأنسنه، ويصبح عرضةً للذبح وتقطيع الأوصال بسكاكين الجزارين، ويا ليته يُذكى بطريقة صحيحة، وإنما يصعق صعقاً، أو بشكل أكثر توحشاً، حيث يُنهش نهشاً في كل أطرافه وأجزائه، فتسيل دماؤه حتى ‘’يصبح جثة هامدة لا حراك فيها’’ كما يصرح بذلك الخطاب العلماني.
 
أخي الدكتور أحمد : شكر الله لك ما كتبت يراعك , وجاد به فكرك , جعلك الله شوكة في حلوقهم , وأظن هذه الهجمة ما زالت في بدايتها , ولعلهم يريدون أبعد مما يلمحون , كما آمل من فضيلتكم جعل بقية الحلقات تحت هذا الرابط فهو أنفع من تفريقها , خاصة ونحن بصدد دمج للمواضيع المتشابهة إن شاء ربي , شكر الله لكم مسعاكم .
 
أحمد الطعان في حوار مع «الوقت»:
الإسلام دين متجدّد وليس بحاجةٍ إلى الحداثة الغربية

الحلقة الثانية​
الوقت - نادر المتروك:
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’. وفيما يلي نصّ الحوار معه:
في حلقة اليوم، يتحدّث الباحث أحمد الطعان عن التجديد في الإسلام، ويؤكد أن الإسلام بذاته متجدّد، ويردّ المفاهيم التجديدية التي يطرحها العلمانيون، ويجد أنها فقدت المعيار الحقيقي في التجديد. فيما يأتي الحلقة الثانية من الحوار:
؟ هناك حديث متواصل بشأن التجديد الديني. ما هو فهمكم لمفهوم التجديد؟
- التجديد تطهير للدين من التراكمات والإضافات البشرية التي تعلق به عبر الأجيال، والاعتصام من جديد بحبل الله عز وجل، وهما الكتاب والسنة، أو هو إزالة الحوائل التي تحول دون رؤية المحجة بيضاء كما أرادها المشرّع سبحانه وتعالى. وبعكس ما قال هاملتون؛ فالإسلام دين متجدّد دائماً، وهذا معنى كونه غضاً طرياً دائماً، وذلك لأنه كلمة الله الأخيرة للبشرية، ولذلك جاءت الشريعة مرنة تحمل في داخلها ومن داخلها بذور التجدّد المستمر، والإسلام في ذلك يعتبر استثناءً بين الأديان كما يرى غلنر، إذ هو قادر على التجدّد من دون أن يخضع للحداثة، لأنه قادر على المواءمة المستمرة مع الواقع من دون أن تهتز أصوله أو كلياته، أو بعبارة أخرى لا حاجة لأن تهتز هذه الأصول والكليات لأنها ليست عبئاً على البشر. فالقرآن الكريم بما أحال إليه وما نبّه إليه من أصول للفهم والاستنباط؛ يكون قد وضع أمام العقل الإنساني المنهجية التي تفتح أمامه دائماً آفاق المرونة والمواءمة المستمرة مع كل ما يهم البشرية في حالها ومآلها.
العقل والميتافيزيقيا
؟ وما موضع العقل في التجديد؟
- إن التجدّد والتجديد لا يعنيان الاستقلالية المطلقة للعقل، فلابد أن يظل العقل دائماً وراء الوحي مهتدياً بنوره حتى لا يأتيه في ظلمات الحيرة والأهواء. هناك مجموعة من المفكرين المغالين يعتبرون الإسلام مجرد فكرة خالية من الأبعاد الميتافيزيقية، لتخضع لعناصر الزمن والتاريخ والتطور، وبالتالي سيصبح الإسلام شيئاً بالياً لا معنى له.. سيصبح ديناً للذكرى فقط كما حصل مع المسيحية كما يصرّح أحد أقطاب المسخة العلمانية العربية، والذين يمثلون هذا التيار هم على استعداد لتقبل أي شيء يمكن أن يحل محلّ الإسلام. المهم أن يكون جديداً بغض النظر عن ضرره ونفعه.
الكتاب والسنة
؟ فما هو المعيار الذي لابد أن يُلحظ في التجديد؟
- في كثير من الأحيان نحن بحاجة فقط إلى صياغات جديدة تلبي طموحات العقل الإنساني إلى المعرفة وتخرجه من الحالة النسقية السطحية التي تسبّب ضجراً لبعض العقول المتلهفة إلى رؤى إبداعية في وسط هذا الزحام الهائل من الأفكار. التجدّد في الإسلام هو أن تظل الأمة على وعي من أن هناك محوراً ومركزا عليها أن لا تبتعد عنه، وهذا المحور والمركز هو الكتاب والسنة. هما بمثابة الراية في وسط المعركة، يشدّ الجنود أنفسهم إليها ويتطلعون إليها. هذا هو المعيار الذي تقرأ الأمة نفسها من خلاله حتى لا تشط عن طريق الهداية.
المسلمون قوّالون والغرب يفعل
؟ لكن أين هو مجال العمل الفكري في هذا التجديد؟
- ليس التجديد المراد اليوم هو في كثرة التنظير ومؤتمرات الحوار وكثرة المشروعات والاجتهادات والرؤى، وإنما في شيءٍ واحد مُهدر في الغالب هو ‘’العمل’’. المسلمون اليوم شغلهم الغرب بمئات المؤتمرات والندوات من دون أن تلاحظ أي جدوى لذلك، لأن الغرب يمسك بزمام المبادرة وهي الممارسة والتطبيق، أما المسلمون فمشغولون بالتنظير والتقرير. والغريب أن هذا المطب هو أهم أمرٌ حذّر منه القرآن الكريم في آيات كثيرة فالقرآن يقول ‘’يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون’’. لا توجد قيمة حث عليها القرآن كقيمة العمل ‘’وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون’’، لأن الغاية الأساسية التي يريدها القرآن منا هي العمل والمبادرة إلى السلوك الصحيح والتطبيق السديد ‘’إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه’’. وقد تكررت هذه الكلمة في القرآن بشكل يمكن معه القول بأن محور الدعوة القرآنية بعد الاعتقاد هي العمل. ولكن الواقع بعكس ما يريده القرآن، فالمسلمون اليوم منخرطون في مؤتمرات الحوار والأقوال التي تصرف عليها الملايين بينما ساحات الأعمال وميادين المعركة الحقيقية فارغة.
؟ وأين تكمن المشكلة؟
- المشكلة أنه حين خلت الساحة العملية امتلأت الساحة القولية، فالكل قادر على الكلام والترديد والتنميق، ولعل هذا هو الذي حذّر منه رسولنا الكريم (ص) حين قال ‘’هلك الثرثارون، هلك المتشدقون، هللك المتنطعون’’. كثرة في الكلام، وتشدّق بالمصطلحات الغريبة، وانبهار باللغة الجديدة ومحاولة محمومة لإبداع مصطلحات ولغة جديدة غير مفهومة قائمة على الترميز والخلط، مع نماذج كثيرة للعجرفة والامتلاء بالأنانية والشعور النخبوي والنظر إلى الآخرين من أبراج عاجية.. وهذا هو التنطع، أي التكبر الذي مر ذكره الآن في الحديث الشريف.
المسؤولية التاريخية للأمة
؟ ألا يفهم مما سبق أنك ضد الاجتهاد ومراجعة الأطر النظرية بشكل مستمر؟
- لا، هذا مطلوب، ولكن بشرط ألا يطغى جانب على آخر، وما ألاحظه اليوم هو الطغيان الشديد للجانب التنظيري على الجانب العملي. والحقيقة أن التجديد إذا أُريد له أن يكون حقيقياً وعصامياً لابد أن ينطلق أولاً من الإحساس بالمسؤولية التاريخية للأمة، ومن ثم بمسؤوليتها الحضارية والوعي بحاجاتها وضروراتها ومن ثم إدراك متطلبات اللحظة الواقعية مع الإنسان والكون والحياة. والحال التجديدي اليوم أن كثيراً من المنظرين ينطلقون من هموم الآخر ومسؤولياته ومتطلباته لمعالجة واقع وهموم وقضايا وإشكالات مختلفة تماماً.
؟ هل يمكن التفصيل في نماذج المجددين اليوم؟
- هناك من يعدّ المعيار الوحيد للتجديد هو الواقع، فما يتلاءم معه هو الصواب بغض النظر عن حقيقة هذا الواقع ومدى صلاحه أو فساده، يعني أن يصبح الواقع هو الحاكم المطلق، وفي الغالب فإن الواقع الذي سيفرض نفسه هو واقع الأقوى وبالتالي فهو الذي سيمتلك زمام الحكومة أما واقعية الأوساط الضعيفة والفقيرة فستظل منبوذة ومنظوراً إليها على أنها تخلف ورجعية بغض النظر عن الحسن والقبح الذاتيين، أي يصبح التحسين والتقبيح ليس للعقل ولا للشرع وإنما للواقع، والواقع هنا ليس أكثر من غطاء لبراغماتية الأقوى الذي يمتلك القنبلة النووية بيد ويبرز باليد الأخرى لائحة حقوق الإنسان والعدالة والحرية كما يفسرها هو طبعاً.
هكذا تكلم العلمانيون
؟ وماذا عن أولئك الذين يمارسون التجديد باختراق اللا مفكر فيه؟
- نعم، هناك منْ يرى التجديد في تحريك العقول إلى المناطق المحرّمة، والخروج من الأصولية العقائدية الدوغمائية والإطار اللاهوتي للفكر الإسلامي، والتحرّر من ثنائيات الإيمان والضلال، والعقل والإيمان، والوحي والحقيقة. وإعادة النظـر في كل المسلمـات التراثية والعقائد الدينية التي يتلقاها المسلم منذ الطفولة، وتجنُّب الإجابات الجاهزة، وتحرير المعرفة من الدائرة الأرثوذكسية المغلقة التي تمارس نوعاً من الاستلاب على مريديها، والسبيـل إلى هـذا الأمل - بنظرهم - هو التخلص من سلطة النصوص المغلقة، والتحرّر من قال الله وقال الرسول، والتحرّر من سلطة السلف، والإجماع، والقياس، لأن هذه السلطات تلغي العقل وتجعله لا يفكر إلا انطلاقاً من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه. هكذا تكلم العلمانيون.
؟ ومنْ من هؤلاء قال ذلك صراحةً؟
- عبّر عن هذه النتيجة أدونيس بصراحة عندما اعتبر الرؤية الإسلامية هي السبب في الاتباعية وضمور الإبداع لأنها تكرّس المحرم، فلذلك لابد من الثورة على هذا المحرم والتأسيس للشهوانية والإباحية.
لابد من الثورة على التقاليد الاجتماعية الدينية والعودة إلى البداية، حيث لا خجل ولا عار، حيث ‘’اللا خطيئة فاللذة هي القيمة. وحيث الإلحاد الذي يُمثل خروجاً عن النسق الديني للمجتمع ولذلك فهو ‘’نهاية الوعي وبداية لموت الله [سبحانه] أي بداية العدمية التي هي نفسها بداية لتجاوز العدمية’’. إن هذا المستوى المأمول هو روح التجديد بنظر أصحاب هذا التيار.
؟ وما هو التجديد الإيجابي المطروح حاليا؟
- هناك منْ يعدّ التجديد هو في حسن الفهم والتنزيل، فإذا كان نزول الوحي قد انقطع من السماء إلى الأرض فإن وظيفة المجتهد اليوم تتمثل في القدرة على التنزيل من المصحف إلى الواقع والقدرة على ترتيب الأولويات والاقتناص النافع للحظة الراهنة. ومن الحكم التي نزل لأجلها القرآن منجّماً ومفرّقاً عبر 23 عاماً هي أن يعطي للمجتهدين عبر القرون اللاحقة دافعية الفهم والتنزيل المستمر للقرآن بحيث يظل القرآن هو المعيار الذي يُقرأ الواقع دائماً من خلاله. وبهذه الطريقة يظل القرآن ناظماً منهجياً والواقع حاضراً والعقل فاعلاً. وهذا المستوى من التجديد يحتاج إلى بيئة تمكّنه من ممارسة آلياته، أما في اللحظة الراهنة فهناك عقبات شديدة تحول دون ذلك، ومنها وجود الآخر الذي يحاربنا بالوسائل كافة ليحول دون نهضة الأمة من كبوتها لأن في نهضتها سداً أمام عولمته وبضائعه وخروجاً من هيمنته. وهناك الواقع السياسي المرير الذي تعيشه البلدان الإسلامية والذي يكرّس الفرقة السياسية بالإضافة إلى الطائفية الدينية والطائفية الفكرية.
البوطي مجدّد القرن
؟ ألا تبدو متشائماً وسوداوياً في نظرتك للمستقبل؟
- لا، بل أنا متفائل جداً ولله الحمد، وأعتقد أن ما يبذله عدد من العلماء المجدّدين من أمثال العلامة محمد سعيد رمضان البوطي الذي أعدّه مجدّد المئة الخامسة عشرة للهجرة، والعلامة يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله، وكذلك مؤسسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي إضافة إلى عدد كبير من العلماء والإصلاحيين الذين ينتهجون تيار الوسطية الإسلامية في مختلف البلاد الإسلامية؛ إن هذه الجهود الطيبة المباركة ستؤتي أكلها وستثمر ثماراً طيبة مباركة إن شاء الله عز وجل ولو بعد حين. والله أعلم .
 
الإسلام محصّن ضد العلمانية..

الإسلام محصّن ضد العلمانية..

الإسلام محصّن ضد العلمانية.. وهي إلى زوال

الحلقة الثالثة​
الوقت - نادر المتروك:
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’. وفيما يلي نصّ الحوار معه:
في وقفة اليوم مع الباحث الإسلامي أحمد الطعان؛ يتجه الحديث نحو موضوع الإسلام والعلمانية ومناقشة رؤية طرحها المفكر الأميركي المسلم خالد أبو الفضل في حوار سابق له مع ‘’الوقت’’، حيث تحدّث عن التجديد الإسلامي الذي رأى مالك بن نبي وعبد الكريم سروش أرقى نماذجه المعاصرة، وقال إن غياب هذا النموذج التجديدي سيترتب عنه اتجاه المثقفين المسلمين إلى العلمانية. يُحلّل الطعان هذه الرؤية رافضاً في كلّ الأحوال السقوط في العلمانية، مؤكدا وجود حصانة داخلية في الإسلام ضد العلمانية. وفي يلي نص الحوار:
؟ في حوار ‘’الوقت’’ مع المفكر خالد أبو الفضل، يؤكد أن غياب التجديد الإسلامي الحقيقي سيؤدي إلى زيادة الاتجاه إلى العلمانية. كيف تعلّق على هذه النظرة؟
- لقد سبق يوم أمس وأشرنا إلى أن البعض يرى أن التجديد هو في الخروج من عباءة الإسلام نهائياً، والبعض يرى أن التجديد هو في إعمال العقل في النص كما أمر الله عز وجل بالقراءة والتدبر والتفكر، ومن ثم المواءمة بين الواقع والنص بحيث لا يتم التلاعب بالنص أو إلغاؤه باسم الاجتهاد والتجديد، وكذلك لا يتم تجاهل الواقع وإهداره لأن النص في الأصل جاء لهداية الواقع وترشيده، فدعوة أي باحث إلى التجديد في كثير من الأحيان تخفي وراءها موقعه الأيديولوجي، ويكون شعار التجديد هو الأكمة التي تخفي وراءها ما تخفي من أيديولوجيات وأهواء غريبة تريد أن تتوغل داخل السياق الإسلامي.
تحليل رؤية أبو الفضل
؟ إذن، كيف تحلّل فكرة خالد أبو الفضل تلك؟
الفكرة التي يشير إليها أبو الفضل يمكن - من وجهة نظري - تحليلها إلى شكلين أو احتمالين: الأول أنه في غياب التجديد الحقيقي سيتحول المسلمون - ولاسيما - المثقفون إلى العلمانية. والثاني أنه في هذه الحالة يمكن أن يتجه الإسلام نفسه كرسالة إلى التعلمن.
وهنا أقول إنه يمكن أن تتحوّل شريحة ما من المجتمع إلى العلمانية في ظل الترويج الشديد والخداع والتلاعب بالعقول والأفكار، أو في بيئة يغيب عنها الوعي ويجمد الاجتهاد ويقعد العلماء والمجتهدون عن ممارسة نشاطهم الدعوي والترشيدي بينما الفضائيات تقتحم بيوتهم.
وحتى في هذه الحالة - في تصوري - لن يطول المكث في الإطار العلماني لسببين: الأول أن العلمانية نفسها الآن في عقر دارها تجني ثماراً مريرة على صُعُد مختلفة. والثاني أن الغرب نفسه - على المستوى الشعبي اليوم - يحمل في داخله بذوراً قوية جداً للاتجاه نحو الإسلام، أو نحو التدين بشكل عام، ولن يجد أمامه إلا الإسلام كمظلة تنقذه من المادية التي انحط فيها.
اللقاح ضد العلمانية
؟ هناك كتابات كثيرة في الغرب تتحدّث عن ذلك.
- نعم، ولعل كتاب هوستن سميث ‘’لماذا الدين ضرورة حتمية’’ يُبرز هذه الفكرة بشكل بارع جداً. لقد أخفقت العلمانية في البلاد الإسلامية إخفاقاً ذريعاً، وهي الآن في حالة احتضار بعكس ما يروّج عدد من العلمانيين، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الحالة التركية حيث بعد سنوات طويلة من محاولة العلمنة بالحديد والنار نجد أن الإسلام اليوم هو الأقوى وهو المرشّح لاستقطاب القاعدة الشعبية بشكل يحيّر الدارسين. وأشير إلى أن الإسلام يحمل في داخله حصانة ضد العلمانية أو ما أسميه ‘’اللقاح ضد العلمانية’’، ومن المعلوم أنه في الأمراض الفتاكة يُعطى الأطفال لقاحات من المرض نفسه لكن بقدر محدود لكي يصبح الجسم منيعاً ضد المرض، وهذا حال الإسلام مع العلمانية، فالعلمانية هي الدنيوية المحضة، والإسلام أباح لأبنائه أن يستمتعوا بطيبات الحياة الدنيا وحرّم عليهم الخبائث. قال عز وجل (ولا تنس نصيبك من الدنيا) وقال (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث). وهنا يكمن اللقاح ضد العلمانية.
 
نشكر للدكتور أحمد الطعان هذه التوضيحات النافعة ونشأل الله أن يبارك بجهده وعلمه وأن نرى منه إصدارات جديدة تبين زيف الخطاب العلماني .
 
الحلقة الرابعة : العلاقة مع الغرب

الحلقة الرابعة : العلاقة مع الغرب

أحمد الطعان في حوار مع «الوقت»:
سيتحسّن العالم عندما يشيخ الغرب وتخور قواه

الحلقة الرابعة​
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’.
في الوقفة الحوارية الأخيرة مع الطعان، يقول بأن النبي (ص) ‘’لم يجعل من نفسه إلا لبنة في البناء، تقوم به لبنات متراصة، لتشكّل بناء متماسكاً قوياً’’، إلا أن واقع الحال اليوم ليس على هذه الشاكلة كما يتأسّف الطعان، ويرى بأنه باتت ‘’تسيطر علينا عقلية المنقذ الأوحد’’، وليس العمل الجماعي المحفوف بروح الفريق التواضع والتعاون. ويتطرّق الطعان في هذه الوقفة لقضية الغرب والشرق، ويُقدّم في ذلك وجهة نظر تقوم على تسليب الغرب والتشكيك في وجهه الحضاري اليوم. وفيما يلي نص الحوار:
؟ العلاقة الجدلية بين الإسلام والغرب لا تزال قائمة في المشهدين الإسلامي والغربي معاً، وعلى الرغم من محاولات الاحتواء ومؤتمرات الحوار والتفاهم، إلا أنّ العلاقة الجدلية هذه بقيت تفرز الكثير من الآثار المنفّرة. كيف تحللون هذه العلاقة ومواصفاتها الحضارية القائمة اليوم؟
- كما نلاحظ العلاقة المطروحة اليوم هي العلاقة بين الإسلام والغرب، وليس بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والمسيحية، فلماذا تسود هذه العبارة ‘’ الإسلام والغرب’’؟ لقد كان يمكن أن تكون العلاقة بين الشرق والغرب على نحو آخر لولا الاستغلال النفعي للدين، فقد أرادت الكنيسة منذ مئات السنين أن تخلق عدواً في مواجهتها لكي تشغل الناس بالالتفاف حولها، وهذا ما تفعله الإدارة الأمريكية اليوم حين تضخّم من خطر الإرهاب وخطر الإسلام حتى تكسب تعاطف الشعب الأمريكي، ومن هنا ظل الغرب دائماً يتطلع إلى الشرق على أنه خصم ولم يملّ من محاولة الهيمنة والاستغلال، فلا يخفق في حملة عسكرية حتى يشرع في التجييش لحملة أخرى، ولم تكن هذه العلاقة قاصرة على الحملات العسكرية، بل كان يرافق ذلك حملات أخرى من الاستشراق والتنصير مارست دورها في مزيد من التشويه والطمس والمسخ، فكانت الهوة تزداد بشكل دائم بين الشرق والغرب.
؟ وكيف يمكن للغرب أن يقبل الشرق؟
- لن يقبل الغرب الشرق شريكاً في إعمار واستثمار الكون، ولن يقبله نداً في الإنسانية، ولكنه سيقبله بمقدار ما يحقق له مصالحه ويؤمّن له رفاهيته، ويقبل منه عنصريته، والأصوات التي تتحدث اليوم عن الإسلام كشريك جاءت متأخرة فضلاً عن كونها خافتة في وسط الصخب الإعلامي الإمبريالي.
العالم في مأساة
؟ ألا تبدو أنك تخرج كثيراً على فكرة التفاؤل؟
- إن مجرد نظرة سطحية إلى العالم اليوم ومنذ عقود طويلة تكشف لك عن مأساة العالم اليوم، والمأساة التي جرّ الغرب إليها العالم، وكم هي الهوة سحيقة بين بني البشر، الملايين يموتون جوعاً وفقراً في الشرق بينما غيرهم ينعمون بالرفاهية في الغرب، الأطفال في الشرق أقرب إلى الهياكل العظمية، بينما أطفال الغرب يتقلعون سمناً وشبعاً، في مثل هذا العالم الذي تغيب فيه العدالة والإنسانية والمساواة لا يمكن الحديث فيه عن الأمان والطمأنينة ولا يمكن الحديث فيه عن السلام والمحبة إلا إذا كان ذلك على شكل شعارات مجردة أصبحت مملة ومهترئة.
؟ فمتى إذن سيكون الغرب طيباً وشريكا؟
- لن يكون الغرب طيباً إلا إذا أفلس، وهو في الطريق إلى ذلك، ولن يكون شريكاً إلا إذا شعر أن مكاسب الاستبداد والهيمنة والقوة في خطر ولا بديل إلا بقبول الشراكة والندية مع الشرق ‘’ الإسلام ‘’. حين تتلاشى مخالب الغرب ‘’ تخور قواه ‘’ وتشيخ حضارته، عندئذ يبدأ بجدية يتحدث عن الأخلاق والإنسانية والعدالة والحرية، ويسهم مع الشرق عندئذ في تحويل الشعارات التي ظلت خلبية طوال قرون عديدة إلى واقع ممكن، أو على الأقل واقع محتمل.
الهمجي النبيل أفضل
؟ لكن.. ماذا عن الوجه الحضاري للغرب؟ التكنولوجيا ودولة الرفاهية؟
- يتحدث الكثيرون الذين بهرهم سحر الغرب اليوم عما قدّمه الغرب للبشرية في مجال التكنولوجيا والرفاهية وكل ما يخدم الإنسانية في المجال المادي، ولا يملّون من التغني بالحضارة الحديثة، لكن هؤلاء يغمضون أعينهم عن الكوارث والمآسي التي جلبتها هذه الحضارة! ولا أدري لماذا تطغى مكاسب هذه الحضارة على كوارثها في أعينهم مع أنه هناك شبه إجماع بين المراقبين والمحللين على أن هذه الحضارة إذا لم تُرشّد فإنها تسير إلى هاوية لا يمكن التنبؤ بمدى أخطارها على البشرية. لقد شاهدنا منذ فترة قريبة إطلاق مركبة فضائية أمريكية في نفس الوقت الذي كانت فيه تتداعى قضية الجندي الأمريكي الذي اغتصب فتاة عراقية صغيرة وقام بقتلها وقتل كل أفراد أسرتها، المسحورون بالغرب يرون أن إطلاق المركبة الفضائية وما يرافقها من منجزات علمية لصالح البشرية تغطي على حادثة الاغتصاب والقتل تلك!
؟ إلا أن ذلك لا يغيّب المنجزات الحضارية للغرب؟
- لكن المنطق الإنساني يقول بأنه إذا كانت منجزات الحضارة والعلم ستوظف لفرض القوة والهيمنة والقتل والاغتصاب فإنه من الأفضل للبشرية أن تعود إلى حياة ‘’الهمجي النبيل’’ الذي تحدث عنه جان جاك روسو.
الإسلام ليس عدوا
؟ وما هي نظرتكم إلى طبيعة الاندماج الذي تمثله النخبة الإسلامية في بلدان الغرب وطبيعة الفكر الإسلامي الذي تصدر عنه (مثال طارق رمضان)؟
- إن ما تمارسه النخبة الإسلامية المثقفة في الغرب في غاية الأهمية لأنه إحدى الوسائل المجدية لتغليب معادلة الشعوب على الساسة، فحتى هذه اللحظة لا تزال النسبة الغالبة من الشعوب الأوربية خاضعة لثقافة التشويه والمسخ التاريخية التي مارستها الكنيسة والاستشراق قديما والإعلام فيما يخـــص الإرهـــاب حديثاً بالنسبة للإسلام، وأبرز مثال على ذلك معارضة النسبة الأكبر من هذه الشعوب لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي توجساً من غالبيتها المسلمة، وإذا استطاعت هـــذه النخبـــة أن تُوصّل رسالة الإسلام الغضة الطريـــة التي ليلها كنهارها، وأن تخرق الحجــــب الكثيفــــة التي نسجها تحكّم العداء وتراكـــم الأخطـــاء أمـــام الشعوب الأوربية؛ فعندئذ ستدرك هـــذه الشعوب أن الإسلام ليس عدواً، وأن المسلم ليس وحشاً، ولعلها عندئذ تسهم في تعديل كفة السياسة المنحازة ضد الإسلام والمسلمين وقضاياهم.
العمل والجماعية
؟ هل لديكم ما تضيفونه في نهاية الحوار؟
- أحب أن أعيد التذكير بأهمية المبادرة العملية، وأن يعي صناع القرار في بلادنا جسامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم، فعليهم أن يباشروا الآن قبل فوات الأوان؛ التضحية بالمصالح الشخصية لحساب المصالح الوحدوية والجماعية والمستقبلية. التعاون هو المفتاح السحري للنجاح والقوة والحضارة، والفرقة والتشرذم هما النافذة المشرعة التي يدخل منها العدو والذل والهوان والتخلف. تأمّل معي في حديث نبوي شريف ‘’مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأجمله وأكمله إلا موضع لبنة منه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون به ويقولون لو وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين’’.
هذا الحديث يضع أمامنا مثالاً رائعاً للعمل الجماعي والتواضع والانخراط في روح الفريق دون تردد، فالنبي (ص) يجعل من نفسه لبنة في بناء النبوة، هذا البناء الذي أسهم في بنائه إخوانه من الأنبياء جميعاً. أين هذا من علماء هذا الزمان وحكام هذا الزمان؟! فالعالِم اليوم لا يرضى أن يكون لبنة في بناء، بل لا بد أن يكون هو البناء كله، لا يرضى إلا أن يكون أوحد دهره وفريد عصره ومن لم يَجُدِ الزمان بمثله! وكذلك كل حاكم اليوم يعدّ نفسه هو محور التاريخ والقائد الوحيد، والمنقذ الفريد! ولذلك تجد عبارات التمجيد قد نفدت من القواميس في البلدان العربية لكثرة أصحاب الجلالة والفخامة والعظمة المتفردين الذين يتفنن المتملقون في تمجيدهم وتبجيلهم! والله أعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.
 
عودة
أعلى