حوار محمد عبده 1902م والاضطهاد المزعوم المنسوب للإسلام واضطهاد المسيحية

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
غرة جمادى الآخر - 1320هـ
4 سبتمبر - 1902م
رقم المجلد (5/401)
الكاتب : محمد عبده
__________
الاضطهاد في النصرانية والإسلام
المقالة الثانية لذلك الأستاذ الحكيم والفيلسوف العليم

ذكرت الجامعة في الجزء الثامن من السنة الثالثة في سياق الكلام على ما
جرى لابن رشد أن للناس آراء في : هل الدين المسيحي أوسع صدرًا في احتماله
مجاورة العلم والفلسفة ، أو أن الدين الإسلامي هو الأرحم خلقًا والأوسع حلمًا من
الدين المسيحي في قبول أهل النظر في الكون إذا نزلوا بداره ، ولاذوا بجواره ،
وذكرت أن للقائلين بتسامح الدين المسيحي مع العلم وأهله دون الدين الإسلامي أن
فولتير وديدرُو ورُوسُّو ورِنَان قالوا فيما يضاد الدين ما قالوا ولم يصابوا بضرر ،
وابن رشد لم يقل شيئًا سوى أنه قرر ما قال أرسطو وأوضحه مع تصريحه
بسلامة اعتقاده ومع ذلك أهين وبصق على وجهه .
وللقائلين بسعة حلم الإسلام أن الإسلام لم يحكم بإحراق أحد لمجرد الزيغ في
عقيدته ، وكم حكمت المسيحية بذلك !
ثم جعلت أهل الرأي الأول آخر من يتكلم وقالت : ( فيردُّ عليهم الأولون
بقولهم : هل يجب أن يكون التسامح مع القريب فقط ، أم مع القريب والغريب معًا ؟
ثم ، ألا تذكرون الحروب والفتن التي قامت بين شعوب المسلمين وحكامهم بسبب
الاعتقادات الدينية فأضعفت أمتهم وفرقت كلمتهم ، فهل يجوز أن تسموا محاربة
شخص واحد وإعدامه ( محاربة للإنسانية ) ولا تُسموا كذلك محاربة شعب لشعب
وأمة لأمة ) ا هـ .
ثم قالت الجامعة : إنها لا تفصل بين القولين ، ولكنها فصلت فيهما فصلين
الأول في قولها : ( إنا نرى أن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية
بحكم الشرع ؛ لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معًا ، وبناءً على ذلك فإن التسامح
يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية ، فإن الديانة المسيحية قد
فصلت بين السلطتين فصلاً بديعًا مَهَّدَ للعالَم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن
الحقيقي وذلك بكلمة واحدة : ( أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) .
وبناءً على ذلك ؛ فإن السلطة المدنية في هذه الطريقة إذا تركت للسلطة الدينية
مجالاً للضغط على حرية الأفراد من أجل اعتقاداتهم الخصوصية فضلاً عن قتلهم ،
وسقي الأرض بدمائهم البريئة ، فإنها تجني جناية هائلة على الإنسانية ، وعلى ذلك
لا يكون في هذه الطريقة من التسامح أكثر مما في تلك إذا بدا منها نقص ، ولو كان
هذا النقص أخذ شقيقتها ؛ لأنه لا نقص أعظم من نقص القادر على التمام ، والفصل
الثاني في قولها : ( إن العلم والفلسفة قد تمكنا إلى الآن من التغلب على الاضطهاد
المسيحي ولذلك نما غرسها في تربة أوربا وأينع وأثمر التمدن الحديث ، ولكنهما لم
يتمكنا من التغلب على الاضطهاد الإسلامي ، وفي ذلك دليل واقعي على أن النصرانية
كانت أكثر تسامحًا ) اهـ
* * *
( الجواب الإجمالي )
وإني أعجل في الجواب بما يلاقي هذين الحكمين إجمالاً ، أما الأول فإن كان
الإنجيل فصل بين السلطتين بكلمة واحدة ، فالقرآن قد أطلق القيد من كل رأي
بكلمتين كبيرتين لا كلمة واحدة ، قال في سورة البقرة : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 256 ) وقال في سورة الكهف { وَقُلِ
الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ( الكهف : 29 ) .
وأما الثاني فأسأل الجامعة في جوابه : أين الاضطهاد الواقع على العلماء اليوم
عند المسلمين ؟ وأين أولئك العلماء المضطهدون ؟ وأريد بالعلماء أولئك الذين
يساوون مَن ذكرتهم من فولتير و ديدرو و روسو وأمثالهم ، وكيف ساغ لها أن تقول
ما تقول ، وهي في أرض مصر ، ومصر بلاد إسلامية وحالها كما ترى ؟ فإذا أرادت
شاهدًا على حال المسيحية والعلم ، فلتمر بنظرها اليوم على أسبانيا ، ولتقف برهة
من الزمان ثم لتحكم ، يمكنها أن تعد من طلبة العلوم المسلمين مئين في مدارس
المسيحيين من جزويت وفرير وأميركان وهي مدارس دينية ، خصوصًا مدارس
الجزويت ، فهل يمكنني أن أجد طالبًا واحدًا مسيحيًّا في مدرسة دينية إسلامية يباح
الدخول فيها لكل طالب علم من أي ملة ؟ لا نجد إلا قليلاً منهم في مدارس الحكومة
لعلمهم أنها مدارس رسمية لم يقم بناء تعليمها على الدين ، فهل سمع أن والدًا
اضطهد لأنه بعث بولده إلى مدرسة مسيحية يديرها قسوس مسيحيون ؟ ألا يعد
هذا من تسامح الإسلام مع العلم اليوم ؟
لولا أن موضوع كلامي محدود باعتبار التسامح بالنسبة إلى العلم والفلسفة
وحدهما لذكرت لصاحب الجامعة أنه يوجد في بلاده طائفتان تعد إحداهما بالألوف
وتزعم كل منهما أن لها نسبة إلى الإسلام وهي تعتقد بما لا ينطبق على أصل من
أصوله حتى أصل التوحيد والتنزيه عن الحلول ولا تقول بفرض من فروضه
المعلومة منه بالضرورة ، وأجمع فقهاء الأمة على أنهما من قبيل المرتدين والزنادقة
لا تؤكل ذبائح أفرادهما ، ولا يباح لهم أن يتزوجوا من المسلمات ، وإنما اختلفوا في
قبول توبة من تاب منهم ، ومن العلماء من قال لا تقبل توبته ، وهم مع ذلك
عائشون بجوار المسلمين ومضى عليهم ما يزيد على تسعمائة سنة وقد كانوا تحت
سلطان المسلمين والإسلام في أوج القوة ، دخلوا في حكم الأتراك وهم أيام كان ملك
فرنسا يستنجد بملكهم وكانت عساكرهم على أسوار فيينا ، كان أولئك الذين يراهم
المسلمون قد خرجوا من دينهم وأَسَرُّوا عقيدةً تُنَاقض عقيدتهم قد ظهروا بأعمال
تضاهي أعمالهم وهم جيرانهم وتحت أيديهم وفي مُكْنتهم محوهم ، ومع ذلك عاشوا إلى
اليوم ولهم أحبة وأصدقاء بين المسلمين ، وللمسلمين بينهم مصافون وأودَّاء ، فهل عُهِدَ
مثل ذلك عن المسيحيين ؟
غير أن موضوع قولي محدود كما قلت فلا أخرج عنه وأراني أضفت فيه
بكلمتي المجملة ، ولكن لا يكفي لبيان ما عرضت به الجامعة في قولها ( هل يجب
أن يكون التسامح مع القريب فقط أو مع القريب والغريب إلخ ) ولا لتحقيق الحق
فيما حكمت به في حكمها إلا تفصيل تعرض فيه حالة الدينين مع العلم تحت نظر
القارئ على وجه يمكن معه الحكم عن فهم ، ولا تلتبس فيه الحقيقة بالوهم .
* * *
( الجواب التفصيلي )
أرى الجامعة جاءت في كلامها بأربعة أمور آتي بها على حسب ترتيب النسق
في تعبيرها .
( الأول ) : أن المسلمين قد تسامحوا لأهل النظر منهم ولم يتسامحوا لمثلهم
من أرباب الأديان الأخرى .
( الثاني ) : أن من الطوائف الإسلامية طوائف قد اقتتلت بسبب الاعتقادات
الدينية .
( الثالث ) : أن طبيعة الدين الإسلامي تأبى التسامح مع العلم وطبيعة الدين
المسيحي تيسر لأهله التسامح مع العلم .
( الرابع ) : أن إيناع ثمرالمدنية الحديثة إنما تمتع به الأوربيون ببركة
التسامح الديني المسيحي ؛ فلا بد لي من الكلام على كل واحد من هذه الأمور
الأربعة ، وأبتدئ منها بالثاني لقلة الكلام عليه .
* * *
( نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد )
لم يُسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين ( الآخذين بعقيدة السلف )
والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما ، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة
والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة
كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين
غيرها ، نعم سمع بحروب تعرف بحروب الخوارج كما وقع من القرامطة وغيرهم
وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد ، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في
طريقة حكم الأمة ، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل
أن يغيروا شكل حكومة ، وما كان من حرب بين الأمويين و الهاشميين فهو حرب
على الخلافة وهي بالسياسة أشبه بل هي أصل السياسة .
نعم وقعت حروب في الأزمنة الأخيرة تشبه أن تكون لأجل العقيدة وهي ما
وقع بين دولة إيران والحكومة العثمانية وبين الحكومة العثمانية والوهابيين ولكن
يتسنى لباحث بأدنى نظر أن يعرف أنها كانت حروبًا سياسية ويبرهن على ذلك
بالولاء المتمكن بين الحكومتين اليوم مع بقاء الاختلاف في العقيدة وبين الحكومة
العثمانية وابن الرشيد أمير الوهابيين .
أما الحروب الداخلية التي حدثت بعد استقرار الخلافة في بني العباس
وأضعفت الأمة وفرقت الكلمة فهي حروب منشأها طمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم
الاستئثار بالسلطان دون سواهم ومصدر ذلك كله جهلهم بدينهم وارتخاء حبل التمسك
به في أيديهم ، وأكبر داء دخل على المسلمين في هممهم وعقولهم إنما دخل عليهم
بسبب استيلاء الجهلة على حكومتهم .
أقول : ( الجهلة ) وأريد أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم
يكن لعقائده تمكن من قلوبهم ، ولو رزق الله المسلمين حاكمًا يعرف دينه ويأخذهم
بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن الكريم في إحدى اليدين ، وما قرر الأولون وما
اكتشف الآخرون في اليد الأخرى ذاك لآخرتهم وهذا لدنياهم وساروا يزاحمون
الأوربيين فيزحُمونهم .
ما لنا وللحكام نعرض لهم ؟ الذي عليّ أن أقول ولا أخشى منازعًا : إنه لم
تقع حرب معروفة بين المسلمين للحمل على عقيدة من العقائد أو على تركها ، على
أن هذا الأمر الذي جاءت به الجامعة ، وألجأتنا إلى الكلام فيه خارج عن الموضوع
بالمرة ؛ لأن الكلام في التسامح الديني مع العلم ، لا فى تسامح عقيدة مع عقيدة أو
دين مع دين وإلا لأوردنا لها من حروب الطوائف المسيحية بعضها مع بعض
وحروبها مع غيرها ما يستغرق أجزاء الجامعة بقية هذه السنة إذا أوجزنا ما
استطعنا ، هل أذكرها بما كان يقع في القسطنطينية من سفك الدماء بين
الأرثوذوكس والكاثوليك على عهد القياصرة الرومانيين ؟ هل أذكرها بحادثة
برتملي سنتهلير التي سفك فيها الكاثوليك دماء إخوانهم البروتستانت وأخذوهم في
بيوتهم على غرة وقتلوهم نساء ورجالاً وأطفالاً ، بماذا أذكّر الجامعة من أمثال هذه
الوقائع التي اسود لها لباس الإنسانية ، وتسلّبت لحدوثها البشرية ؟ هل يمكن لأحد
أن يروي حادثة مثلها وقعت بين شعوب المسلمين بعضهم مع بعض لخلاف في
العقيدة مهما عظم الاختلاف .
* * *
( تساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملة )
ثم أرجع إلى الأمر الأول من الأمور الأربعة ؛ لأن الكلام عليه أقل منه على
الأمر الثالث ، وإنني لا أستدل على رعاية الإسلام للحكماء من الملل غيرالمسلمة
بقول كاتب مسلم ، وإنما أرجع في جميع ما أذكر إلى كتب المؤرخين والفلاسفة من
المسيحيين وأذكر أسماء جماعة من المسيحيين وغيرهم بلغوا من الحظوة عند
الخلفاء وعامة المسلمين وخاصتهم ما لم يبلغه غيرهم قال المستر دراير أحد
المؤرخين وكبار الفلاسفة من الأمريكان : ( إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء
لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على
مجرد الاحترام ، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام ، ورقوهم إلى المناصب
في الدولة حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا مسنيه )
( هو يوحنا بن ماسويه الشهير ) وقال في موضع آخر : ( كانت إدارة المدارس
مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة
أخرى، لم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه
بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة .
قال الخليفة العباسي الأكبر المأمون: ( إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه
ونخبته من عباده ؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وارتفعوا
بقواهم عن دنس الطبيعة وهم ضياء العالم وهم واضعو قوانينه ولولاهم لسقط العالم في
الجهل والبربرية ) .
وقال في موضع آخر : ( إن العرب قد زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود
ومؤدبي أولادهم من النسطوريين ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده
بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين ) . ولست في حاجة إلى ذكر ما أسس
الخلفاء والملوك من المدارس وأقاموا من المراصد وما حشدوا من الكتب إلى
المكاتب ؛ لأن هذا خارج عن بحثنا الآن ، وسيرد عليك شيء منه فيما بعد .
***
( طائفة من الحكماء والعلماء الذين حظوا عند الخلفاء )
أذكر ممن اشتهر من الحكماء بالحظوة عند الخلفاء جيورجيس بن بختيشوع
الجنديسابوري طبيب المنصور كان فيلسوفًا كبيرًا علت منزلته عند المنصور ؛ لأنه
كانت له زوجة عجوز لا تُشتهى فأشفق عليه المنصور وأنفذ إليه بثلاث جوار
حسان فردّهن ، وقال : إن ديني لا يسمح لي بأن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية .
فأعلى مكانته حتى على وزرائه .
ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة وخرج إليه ماشيًا يسأل عن حاله
فاستأذنه الحكيم في رجوعه إلى بلده ليدفن مع آبائه فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة
فقال : رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار . فضحك المنصور وأمر تبجهيزه
ووصله بعشرة آلاف دينار ( وهو المنصور الدوانيقي المشهور بالإمساك وكزازة
اليد ) وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب ، ثم
سأله عمن يخلفه عنده فأشار إلى عيسى بن شهلاثا أحد تلامذته فأخذه المنصور مكان
جيورجيس فطفق يؤذي القسوس والبطارقة ويهددهم بمكانه عند الخليفة لينال منهم
رغائبه فشعر الخليفة بذلك فطرده .
وممن حظي عند المنصور نوبخت المنجم وولده أبو سهل وكانا فارسيين على
مذهب الفُرس ثم كانت ذرية مسلمة لأبي سهل ، وكانوا جميعًا منجمين لهم شهرة في
علوم الكواكب فائقة .
وممن حظي بالمكانة العليا عند الخليفة المهدي : تيوفيل بن توما النصراني
المنجم ، وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان ، وله كتب في التاريخ جليلة
ونقل كتاب أميروس إلى السريانية بأفصح عبارة .
وممن ارتفع شأنه عند الرشيد من الفلاسفة : بختيشوع الطبيب وجبريل ولده
ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني ، ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة طبية
وغيرها وخدم الرشيد ومن بعده إلى المتوكل ، وكان يعقد في داره مجلسًا للدرس
والمناظرة ولم يكن يجتمع في بيت للمذاكرة في العلوم من كل نوع والآداب من كل
فن مثل ما يجتمع في بيت يوحنا بن ماسويه .
وممن علا قدره في زمن المأمون يوحنا البطريق مولى المأمون أقامه كذلك
أمينًا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة .
كذلك ارتفع شأن سهل بن سابور ، وسابور ابنه وكانا نصرانيين وولي سابور
بن سهل بيمارستان جنديسابور .
وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيبًا عند المعتصم ولما مات جزع عليه
جزعًا شديدًا وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة النصارى وكان بختيشوع
بن جبريل عند المتوكل يومًا فأجلسه بجانبه وكان عليه درَّاعة حرير رومية بها فتق
فأخذ المتوكل يحادثه يعبث بالفتق حتى وصل إلى النيفق ( هو ما اتسع من الثوب )
ودار الكلام بينهما حتى سأله المتوكل : بماذا تعلمون أن الموسوس
( المصاب بخبل في عقله ) يحتاج إلى الشد ؟ فقال بختيشوع : إذا عبث بفتق
دراعة طبيبه حتى النيفق شددناه فضحك المتوكل حتى استلقى .
وفي أيام المتوكل اشتهر حنين بن إسحق النصراني العبادي وهو من أشهر
المترجمين لكتب أرسطو وغيره وامتحن المتوكل صدقه فظهرت له عزيمة لا تفلّ ؛
فأقطعه إقطاعات واسعة وكان قد عرف بفصاحة العبارة وحسن الترجمة في زمن
المأمون وهو فتًى ؛ فكلفه بترجمة الكتب وكان يعطيه وزن ما يترجم ذهبًا وكانت
بينه وبين الطيفوري النصراني محاسدة أفضت إلى طلب الحكم على حنين في
مجلس الأساقفة بالحُرْمِ من الكنيسة فمات غمًّا لاضطهاد أهل طائفته له مع عزته
وعلو قدره عند الخليفة وهذا الطيفوري أيضًا كان من المقربين عند الخلفاء .
وممن ارتفع شأنه عند الخلفاء والخاصة والعامة في زمنه أيام خلافة الراضي :
متى بن يونس المنطقي النصراني النسطوري كان مفننًا في جميع العلوم العقلية
أخذ عنه أبو نصر الفارابي وانتهت إليه الرياسة في بغداد وكان من أهل دير قنى
ونشأ في مدرسة مارماري وقرأ على روفائيل و بنيامين الراهبين اليعقوبيين .
ومن المقربين عند الخليفة : قسطا البعلبكي من فلاسفة دولة الإسلام وهو
النصراني ، طلبه الخلفاء إلى بغداد لأجل الترجمة ثم يحيى بن عدي بن حميد بن
زكريا المنطقي انتهت إليه الرياسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته . وقرأ على متى
ابن يونس وعلى أبي نصر الفارابي .
ومنهم أبو الفرج الطبيب فيلسوف عالم ، قالوا : كان كاتب الجاثليق ومتميزًا
في النصارى ببغداد وكان يقرئ صناعة الطب في البيمارستان العضدي وكان
معاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا والرئيس يمدح طبه ولا يحمد فلسفته وله كلام فيه .
وممن كانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء والخاصة والعامة ثابت بن قرة
الحراني الصابئ من طائفة الصابئين المعروفة ، وتربى في بيت محمد بن موسى
بن شاكر الفلكي المشهور وبلغ في علوم الفلسفة مبلغًا لم يدانه فيه غيره ، وله تآليف
كثيرة في المنطق والطب والرياضيات وبلغ عند المعتضد مقامًا تقدم فيه عنده على
وزرائه ، ووُلِدَ ثابت هذا سنة إحدى عشرة ومئين بحران ثم كان ابناه إبراهيم و سنان
على قدم أبيهما ، ومن حفدته أبو الحسن ثابت بن قرة ، وكان ثابت وإبراهيم وسنان
صابئين ولهم من المنزلة ما علمت ومدحهم كثير من شعراء المسلمين وهم صابئة .
ماذا أعد للجامعة من الفلاسفة والحكماء من الملل المختلفة الذين وسعهم صدر
الإسلام ، ولم يضن عليهم بالرعاية والاحترام ، هل تريد أن أتمم الكلام بذكر كثير
من فلاسفة الإسلام المسلمين الذين نالوا أسمى الدرجات وأعلى المقامات عند الخلفاء
والملوك ، هل أنا في حاجة إلى ذكر فيلسوف الإسلام أبي سيف يعقوب الكندي وهو
بصري الأصل .
أين الأمير إسحاق الذي كان أميرًا للمهدي والرشيد على الكوفة
وهو من ذرية الأشعث بن قيس أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
عالمًا بالطب والفلسفة والهيئة والحساب والموسيقى واشتغل بالترجمة ، كما اشتغل
غيره بها فترجم كثيرًا من كتب الفلسفة وأوضح الغامض منها ، وكانت له المكانة
العليا عند المأمون والمعتصم وولده أحمد ، هل أنا في حاجة إلى ذكر بني موسى بن
شاكر محمد وأحمد و الحسن الذين اشتغلوا في مساحة الكرة الأرضية ومعرفة محيطها
وقطرها وما كان لهم من المنزلة عند الأمراء والخلفاء ؟ أأذكر ابن سينا ومنزلته في
قومه ووصوله إلى مسند الوزارة عند شمس الدولة ؟ أم أذكر الفارابي وما كان له
من المكانة عند سيف الدولة بن حمدان .
لا ريب أن أبا العلاء المعري يصلح أن يكون رجلاً ممن تعني الجامعة بنشر
تراجمهم وقد قال ما لم يقل بمثله فولتير وروسو ، وقد مات مع ذلك على فراشه
وقبره اليوم مزار يُرْحَل إليه في بلده .
أظن أنه يسهل بعد سرد ما عددناه أن يعرف قراء الجامعة أن الإسلام كان
يوسع صدره للغريب كما يوسعه للقريب بميزان واحد وهو ميزان احترام العلماء
للعلم ، ويسهل عليَّ أن ألتمس العذر للجامعة بأنها عندما كتبت ما كتبت تمثلت لها
بعض حوادث قيل : إنها حدثت للدين وما حدثت له ، بل كان سبب حدوثها إما سياسة
خرقاء أو جهالة عمياء أو تَأْرِيث بعض السفهاء ، لا أطيل خوف الإملال وأنتقل
الآن إلى الأمر الثالث وهو المقابلة بين طبيعة الدينين ، وهو أهم مما سبق ومما
سيلحق .
* * *
( طبيعة الدين المسيحي وأصوله )
( تمهيد ) ظنت الجامعة أن الدين المسيحي فصل بين السلطة الدينية
والسلطة المدنية ؛ ولذلك كان في طبيعته التسامح ، أما الدين الإسلامي فمن أصوله
أن السلطان ملك وخليفة ديني وذلك مما يصعب معه التسامح في رأيها .
ليس هذا بكافٍ في بيان طبيعة كل من الدينين واستعدادها للتسامح مع العلم أو
مع أية عقيدة تخالفها بل لا بد من بيان أركان الدين وأهم أصوله التي ترجع إليها
جميع الفروع ، وعنها تصدر الآثار الحقيقية .
عند النظر في أي دين للحكم له أو عليه في قضية من القضايا يجب أن يؤخذ
ممحصًا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو مُحْدَثَاتهم التي ربما تكون جاءتهم
من دين آخر ، فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لاتباع ذلك الدين في بيان بعض
أصوله فليؤخذ في ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين ، ومن تلقوه على
سذاجته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه ، وإنني أوجز القول في إيراد الأصول
الأولى التي وردت في الأناجيل المعروفة الآن في أيدي المسيحيين وجاءت في كلام
أئمتهم الأولين . ثم إيراد ما جر إليه الأخذ بتلك الأصول بحكم طبيعة الدين .
* * *
( الأصل الأول للنصرانية الخوارق )
أول أصل قام عليه الدين المسيحي وأقوى عماد له هو خوارق العادات ، تقرأ
الأناجيل فلا تجد للمسيح عليه السلام دليلاً على صدقه إلا ما كان يصنع من
الخوارق وعددها في الأناجيل يطول شرحه ؛ ثم إنه جعل ذلك دليلاً على صحة الدين
لمن يأتي بعده فجعل لأصحابه ذلك كما تراه في الإصحاح العاشر من إنجيل مَتَّى
وغيره ، وإذا تتبعت جميع ما قال الأولون من أهل هذا الدين تجد خوارق العادات من
أظهر الآيات على صحة الاعتقادات ، ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي
يصدر مخالفًا لشرائع الكون ونواميسه ، فإذا ساغ أن يكون ذلك لكل من علا كعبه
في الدين ؛ لم يبقَ عند صاحب الدين ناموس يعرف له حكم مخصوص .
زاد الإنجيل على هذا أن الإيمان ولو كان مثل حبة خردل كافٍ في خرق
نواميس الكون كما قال في الإصحاح السابع عشر من متى : ( فالحق أقول لكم لو
كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك ،
فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم ) وفي الحادي عشر من مرقس : ( 23
لأني الحق أقول لكم : إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ، ولا يشك
في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون ، فمهما قال يكون له 24 لذلك أقول لكم :
كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم ) .
فكل بحث يؤدي إلى أن للكون شرائع ثابتة ، وأن للعلل والشرائط أو الأسباب
أو الموانع أحكامًا في معلولاتها أو ما شرطت فيه أو ما تسبب عنها أو ما استحال
وجوده لوجودها كان مضادًا لهذا الأصل في أي زمن ، وقد كان كل علم من علوم
الأكوان لا بد فيه من هذا البحث فكل علم مضاد لهذا الأصل ، ثم إن صاحب
الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى البحث في الأسباب والمسببات ؛ لأن اعتقاده في
الشيء أن يكون وإرادته لأن يكون كافيان في حصوله فهو في غنًى عن العلم ،
والعلم عدو لما يعتقد ، فما أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه في سلطانه .
* * *
( الأصل الثاني للنصرانية سلطة الرؤساء )
وبعد هذا الأصل أصل آخر وهو السلطة الدينية التي منحت للرءوساء على
المرءوسين في عقائدهم وما تُكنه ضمائرهم ، وقد أحكم هذه السلطة ما ورد في
16-19 من إنجيل متى : ( أعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على
الأرض يكون مربوطًا في السموات ، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في
السموات ) وفي 18-18 منه : ( الحق أقول لكم ، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء ، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في
السماء ) .
فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص : إنه ليس مسيحيًّا صار كذلك ، وإذا قال :
إنه مسيحي فاز بها فليس المعتقد حرًّا في اعتقاده يتصرف في معارفه كما يرشده عقله
بل عَيْنَا قلبه مشدودتان بشفَتَيْ رَئيسه ؛ فإذا اهتزت نفسه إلى بحث أوقفها قابض على
تلك السلطة ، وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه
النصرانية خمسة عشر قرنًا طوالاً .
* * *
( الأصل الثالث للنصرانية ترك الدنيا )
وبعد هذين الأصلين أصل ثالث ، وهو التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة
تجد هذا الأصل في الأناجيل وفي أعمال الرسل وكلما قرأت في الكتب الأولى
عثرت به ، وتجد الأوامر الصادرة بالانقطاع إلى الملكوت من عالم الملك صريحة
في الإصحاح السادس والعاشر والتاسع عشر من إنجيل متى فما جاء في السادس :
( لا تقدرون أن تخدموا الله والمال 25 ؛ لذلك أقول لكم : لا تهتموا لحياتكم بما
تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون ، أليست الحياة أفضل من الطعام ،
والجسد أفضل من اللباس ( إلى أن قال ) 33 ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره
وهذه كلها تزاد لكم 34 فلا تهتموا للغد ؛ لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره ،
وقال في التاسع عشر : 23 الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات
24 وأقول لكم . إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت
الله ) وفي العاشر : ( 9 لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم 10 ولا
مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ، إلخ ) .
وحث على الرهبانية وترك الزواج وفي ذلك قطع النسل البشري قال في
( 19من متى ) : ( يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع
أن يقبل فليقبل ) ثم إن ملكوت السموات قد نيط أمره بالإيمان المجرد عن النظر في
الأكوان ، فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم ،
والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه ، لا ريب أن همه يكون
في الصلاة وصرف القلب بكليته إلى العبادة دون سواها وليس الفكر في الخليقة من
العبادة عنده ، فإن عبادة الإنجيل ليست شيئًا سوى الإيمان والصلاة .
* * *
( الأصل الرابع للنصرانية الإيمان بغير المعقول )
وبعد هذه الأصول أصل رابع ، وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول لا
يختلف فيه كاثوليك ولا أرثوذكس ولا بروتستانت ، وهو أن الإيمان منحة لا دخل
للعقل فيها وأن من الدين ما هو فوق العقل بمعنى ما يناقض أحكام العقل وهو مع
ذلك مما يجب الإيمان به قال القديس أنسيلم : ( يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على
قلبك بدون نظر ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت ) فليس الإيمان وهو الوسيلة
الفردة إلى النجاة في حاجة إلى نظر العقل والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل
فيه نظره ، وقول القديس : ( ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت ) نوع من
التفصيل على النزعة البشرية إلى الفهم وعلى الميل الفطري إلى تصور ما يتعلق
به الاعتقاد وإلا فمجرد الإيمان كافٍ في الخلاص ، ثم الويل كل الويل لطالب
الفهم إذا أدى اجتهاده إلى شيء يخالف ما تعلق به إيمانه ، فكأن معنى الفهم أن يخلق
المؤمن لنفسه ما يسلي به نفسه على إيمانه بغير المفهوم .
* * *
( الأصل الخامس للنصرانية الكتب المقدسة
حاوية كل ما يحتاج إليه البشر في المعاش والمعاد )
ثم ينضم إلى الأصول الأربعة أصل خامس ، وهو أن الكتب المعروفة بالعهد
القديم والعهد الجديد تحتوي على كل ما يحتاجه البشر إلى علمه ، سواء كان متعلقًا
بالاعتقادات الدينية والآداب النفسية والأعمال البدنية مما يؤدي إلى نيل السعادة في
الملكوت الأعلى ، أو كان من المعارف البشرية التي يتأتى للعقل الإنساني أن يتمتع
بها قال تيرتوليان - وهو أفضل من وصف الاعتقاد المسيحي في نهاية القرن
الثالث قبل أن تعرض عليه البدع الكثيرة - : ( إن عقائد المسيحية أسست على
الكتب السماوية ، ودليل صحة هذه الكتب قِدَمُها ، وكونها أقدم من كتاب أميروس ،
وأقدم من أقدم أثر معروف عند الرومانيين ، وأقدم من تأسيس الحكومة الرومانية
نفسها ، والزمن ناصر الحقيقة ، ثم تحقق النبوّات التي وردت فيها ) ثم قال : ( إن
أساس كل علم عندهم هو الكتاب المقدس ، وتقاليد الكنيسة ، وأن الله لم يقصر
تعليمنا بالوحي على الهداية إلى الدين فقط ، بل علمنا بالوحي كل ما أراد أن نعلمه
من الكون ؛ فالكتاب المقدس يحتوي من العرفان على المقدار الذي قدر للبشر أن
ينالوه من جميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض وما فيها ،
وتاريخ الأمم مما يجب تسليمه مهما ضارب العقل أو خالف شاهد الحس ، فعلى
الناس أن يؤمنوا به أولاً ، ثم يجتهدوا ثانيًا في عمل أنفسهم على فهمه ؛ أي على
تسليمه أيضًا كما ترى ، وقال بعض فضلائهم : إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله
من الكتاب المقدس .
* * *
( الأصل السادس للنصرانية
التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الأقربين )
ينظم تلك الأصول كلها أصل سادس وهو آخرها فيما أرى ، ذلك الأصل هو
الذي ورد في الصحاح العاشر من إنجيل متّى وهو : ( 34 لا تظنوا أني جئت
لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا 35 فإني جئت لأفرق
الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها 36 وأعداء الإنسان أهل بيته)
وقد صرح في عدة مواضع من الإنجيل أن الإخلال بشيء من محبة المسيح أو
بالانقياد إلى جميع ما أوصى به موجب للهلاك ، وإن كان قد جاء في مواضع كثيرة
أن الإيمان وحده كاف في الخلاص غير أن روح الشدة التي جاءت في قوله : ( لا
تظنوا أني جئت لألقي سلامًا إلخ ) هي التي بقي أثرها في نفوس الأولين من
المعتقدين بالدين المسيحي وعفت على آثار ما كان يصح أن تستشعره النفوس من
بعض الوصايا الأخر .
* * *
( نتائج هذه الأصول وآثارها )
من هنا أعرض المسيحيون الأولون عن شواغل الكون وصدوا عن سبيل
النظر فيه إظهارًا للغنى بالإيمان والعبادة عن كل شيء سواهما ، وحجروا على همم
النفوس أن تنهض إلا إلى الدعوة إلى ذلك الإيمان وتلك العبادة ووسائل الدعوة هي
الإيمان والعبادة كذلك ، فإذا نزعت العقول إلى علم شيء من العالم وضعوا أمام
نظرها كتب العهد القديم وحصروا العلم بين دفاتها استغناءً بالوحي عن كل عمل
للعقل سوى فهمه من عباراته وليس يسوغ لكل ذي عقل فهمه بل إنما يتلقى فهمه
من رؤساء الكنيسة خوفًا من الزيغ عن الإيمان السليم ( البروتستانت رأوا أنه يجوز
تفسير الكتاب لغير الكنيسة ) .
ثم إن إلقاء السيف ووضع التفريق بين الأقارب والأحبة إنما جاء حافظًا لذلك
كله فإذا خطر على قلب أحد خاطر سوء يرمي إلى معارضة شيء من أمور الإيمان
المقررة وجب قطع الطريق على ذلك الخاطر ، ولم يجز في شأن صاحبه هوادة ولا
مرحمة ، كما أفهمه المسيح بعمله على حسب ما ورد في الإنجيل فقد قيل له : 47
( أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك 48 فأجاب وقال للقائل له : من
هي أمي ومن هم إخوتي 49 ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي ) ونحو
ذلك مما يدل على وجوب المقاطعة بين من يعتقد بالدين المسيحي ومن يحيد عن
شيء من معتقده ، ولا يخفى أن الشيء يكون بذرة ثم نبتًا ثم شجرًا فانظر إلى ما صار
أمر هذه البدايات بحكم الطبيعة .
وقر في نفوس المسيحيين أن السلامة في ترك الفكر والأخذ بالتسليم وتقرر
عند القوم قاعدة أن : ( الجهالة أم التقوى ) ( وكثير من أهل الأديان مسيحيين
ومسلمين لا يزالون يجرون على هذه القاعدة ببركة ما ورثوا عن أبناء الزمن الغابر )
فحصروا التعليم في الأديار ومنعت الكنيسة أن ينشر التعليم بين العامة إلا ما كان
دعوة إلى الصلاح وتقرير الإيمان على وجه ظاهر وبقي غير القسيسين في جهالة
حتى بأمور الدين وحقائقه وأسراره ، ظهرت ذات الذنب التي تنسب إلى هالي في
سنة 1682 فاضطربت لظهورها أوربا ولجأوا إلى البابا واستجاروا به فأجارهم
وطردها من الجو فولّت في الفضاء مذعورة من لعنته ولم تعد إلا بعد خمس وسبعين
سنة ! !
لم يكن يسمح لأحد أن يبدي رأيًا يخالف صريح ما في الكتاب وعندما أظهر
بلاج رأيه في أن الموت كان يوجد قبل آدم أي إن الحيوانات كان يدركها الموت
قبل أن يحظى آدم بالأكل من الشجرة قام لذلك ضوضاء وارتفعت جلبة وانتهى
الجدال والجلاد إلى صدور أمر إمبراطوري بقتل كل شخص يعتقد بذلك ، يقول
المؤرخ : وهكذا عُدَّ الاعتقاد بأن الموت كان يزور الأحياء قبل آدم جريمة على
الملك .
أحرقت كتب البطالسة والمصريين بالإسكندرية على عهد جول قيصر ثم إن
تيوفيل بطريرك الإسكندرية انتحل أدنى الأسباب لإثارة ثورة في المدينة لإتلاف ما
تبقى في مكتبة البطالسة بعضه بالإحراق وبعضه بالتبديد ، قال أوروسيوس المؤرخ :
إنه رأى أدراج المكتبة خالية من الكتب بعد أن نال تيوفيل الأمر الإمبراطوري
بإتلافها بنحو عشرين سنة .
ثم جاء بعد تيوفيل ابن أخته سيريل ، وكان خطيبًا مفوهًا له على الشعب سلطان
بفصاحته ، وكان في الإسكندرية بنت تسمى هيباتي الرياضية تشغل بالعلوم والفلسفة
وكان يجتمع إليها كثير من أهل النظر في العلوم الرياضية ، وكان لا يخلو مجلسها
من البحث في أمور أخر خصوصًا في هذه المسائل الثلاث : ( من أنا ، وإلى
أين أذهب ، وماذا يمكنني أن أعلم ) .
فلم يحتمل ذلك القديس سيريل مع أن البنت لم تكن مسيحية بل كانت على دين
آبائها المصريين فأخذ يثير الشغب عليها حتى قعدوا لها وقبضوا عليها في الطريق
وهي سائرة إلى دار ندوتها وجردوها من ثيابها وأخذوها إلى الكنيسة مكشوفة العورة
وقتلوها هناك ثم قطع جسمها وجرد اللحم عن العظم وما بقي منها ألقي في النار ،
يقول المؤرخ راوي هذه القصة : ولم يسأل سيريل عما صنع بهيباتي ولم تنظر
الحكومة الرومانية فيما وقع عليها ، ولعل ذلك كان أول ما تقررت تلك القاعدة :
( الغاية تشفع للوسيلة ) .
ما من عقيدة ظهرت في المسيحية وأريد تقريرها من فريق ونازع فيها فريق
إلا وقد سالت لها الدماء فليراجع التاريخ لتتمثل أرض مصر مصبوغة بدماء
المسيحيين من فريقين مختلفين عندما أريد تقرير عبادة العذراء واتخاذها لله أمًّا .
وكان ذلك في طبيعة الدين : أن من لم يتبع المسيح فهو هالك والهالك لا يستحق
الحياة ، ألم تر في الإصحاح الخامس من الأعمال إلى قصة الرجل الذي باع جميع
ما عنده وعندما جاء إلى بطرس أعطاه الثمن وادخر لنفسه شيئًا أخفاه عنه فاطلع
بطرس على حقيقة الأمر ووبخ الرجل وتصرف فيه بسلب حياته من طريق
المعجزة ثم جاء امرأته وكان لها اطلاع على ما أخفى زوجها ولم تنهه فوبخها
بطرس وأخبرها بموت زوجها فماتت هي أيضًا . فإذا كان الله يسلب الحياة جزاء
على اختلاس الرجل شيئًا من مال نفسه لم يقدمه هدية للرسل فكيف تكون الحياة من
حقه إذا خالف خلفاء الله في الأرض ونابذهم فيما يعتقدون .
قال البابا أنوسان الثالث عند الكلام في مصادرة الذين يخالفون العقيدة
الكاثوليكية : ( لا يجوز أن يترك لأولاد الجاحدين سوى الحياة وترك الحياة لهم مَنٌّ
وإحسان ) فلم يقصر الجزاء على الجاحدين ولكن عدّاه إلى أولادهم وعدّ ترك الحياة
لأولادهم يتمتعون بها ضربًا من الإحسان عليهم ؛ لأنه لا حق لهم في أن يعيشوا وقد
جحد آباؤهم .
* * *
( مقاومة النصرانية للعلم )
لا أجد في التاريخ ذكرًا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة
لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية التي كان يفصل فيها تارة
بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع وثالثة بسفك الدماء فتخمد شعلة العلم وينتصر
الدين المحض . وإنما الذكر كل الذكر لما كان بين المسيحية وما جاورها من الملل
الأخرى من الحروب الدينية للحمل على العقيدة بما كان يعتقد المسيحيون ، وما كان
يقع بني ملوك أوربا من التسافك في الدماء بإغراء رؤساء الكنيسة ، وأمر ذلك
معروف عند من له إلمام بالتاريخ وليس من موضوعنا الكلام فيه .
ولكن أرى شبه نزاع بين العلم والدين ظهر في أوربا بعد ظهور الإسلام
واستقرار سلطانه في بلاد الأندلس واحتكاك الأوربيين بالمسلمين في الحروب
الصليبية .
رجع الآلاف من الغزاة الصليبيين إلى بلادهم وحملوا إلى الناس أخبارًا
تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة من أن المسلمين جماعة من
الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة وأجلوا عنها دين التوحيد ونفوا منها كل فضيلة
وإخلاص ، وهم وحوش ضارية وحيوانات مفترسة ، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم
قضوا على قومهم أن أعدائهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة ذوي ود ووفاء وفضل
مجاملة .
ثم كان الخليفة الْحَكَم الثاني جعل من بلاد الأندلس فِرْدَوْسًا كما قال الفيلسوف
الأميركاني ، وكان اليهود والنصارى يتلاقون في تلك البلاد تحت ظلال الأمن
والحرية ، قال بطرس المحترم الشهير : إنه رأى كثيرًا من العلماء يأتون إلى تلك
البلاد لتلقي العلوم الفلكية حتى من بلاد إنكلترا وأولئك الذين يسعون إلى طلب العلوم
من أي بلاد جاءوا كانوا يجدون فيها رحبًا وسعة وكان قصر الخليفة يشبه أن يكون
مصنعًا للكتب نسخ وتذهيب وتجليد ، إلخ ما قال .
ثم انتشرت صناعة الورق التي اخترعها العرب ثم اكتشفت المطبعة وسهل
على الناس أن ينشروا آرائهم بعد أن تنبهت أفكارهم بما جلب إليهم رسل العلم الذين
حملوه إليهم عن أهالي أسبانيا ومن حملوه مما جاورهم ثم انساب إلى العقول شيء
مما سماه الأوربيون فلسفة ابن رشد ، عند ذلك اهتمت المسيحية بالأمر وأخذت
تحارب كل ما يظهر على ألسنة الناس أو يرد على أسماعهم مما يخالف ما في
الكتب المقدسة وتقاليد الكنيسة .
قال دي رومنيس : إن قوس قزح ليست قوسًا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده
إذا أراد بل هي من انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء . فجلب إلى روما وحبس
حتى مات ثم حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها ألقيت في النار ، وقيل في علة الحكم :
إنه أراد الصلح بين كنيستى روما وإنكلترا ، وأي ذنب أعظم من هذا الصلح ؟ هو
أضخم بلا ريب من ذنب القول بأن قوس قزح من انعكاس ضوء الشمس في نقط
الماء .
* * *
( مراقبة المطبوعات ومحكمة التفتيتش )
أنشئت المراقبة على المطبوعات وحتم على كل مؤلف وكل طابع أن يعرض
مؤلفه أو ما يريد طبعه على القسيس أو المجلس الذي عين للمراقبة وصدرت أحكام
المجمع المقدس بحرمان من يطبع شيئًا لم يعرض على المراقب أو ينشر شيئًا لم
يأذن المراقب بنشره ، وأوعز إلى هذا المراقب أن يدقق النظر حتى لا ينشر ما فيه
شيء يومئ إلى مخالفة العقيدة الكاثوليكية ووضعت غرامات ثقيلة على أرباب
المطابع يعاقبون بها فوق الحرمان من الكنيسة ( كأن الحكومة العثمانية على ما
تنشر بعض الجرائد أخذت نسخة من قرار المجمع المقدس لتجري عليه مراقبة
المطبوعات ولكن للسياسة لا للدين ) أنشئت محكمة التفتيش لمقاومة العلم والفلسفة
عند ما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد خصوصًا في جنوب فرنسا وإيطاليا
أنشئت هذه المحكمة الغربية بطلب الراهب توركماندا .
قامت المحكمة بأعمالها حق القيام ففي مدة ثماني عشرة سنة - من سنة
1481 إلى سنة 1499 حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصًا بأن
يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير
فشهروا وشنقوا ، وعلى سبعة وتسعين ألفًا وثلاثة وعشرين شخصًا بعقوبات مختلفة
فنفذت ثم أحرقت كل توراة بالعبرية .
ماذا كانت وسائل التحقيق عند هذه المحكمة المقدسة ؟ وسيلة واحدة هي أن
يحبس المتهم وتجرى عليه أنواع العذاب المختلفة بآلات التعذيب المتنوعة إلى أن
يعترف بما نسب إليه ، وعند ذلك يصدر الحكم ويعقبه التنفيذ ، قرر مجمع لاتران
سنة 1502 أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد ، وطفق الدومينكان يتخذون
من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه شيئًا من الصناعة والعبادة ، لكن ذلك
لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيء
من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره .
اشتدت محكمة التفتيش في طلب أولئك المجرمين طلاب العلم والسعاة إلى
كسبه ، ونيط بها كشف البدعة فيها مهما اشتد خفاؤها - في المدن وفي البيوت ، في
السراديب ، في الأنفاق ، في المخازن ، في المطابخ ، في المغارات في الغابات ،
في الحقول فوفت بما كلفت به مع البهجة والسرور اللائقين بأصحاب الغيرة على
الدين عملاً بالقول الجليل ( ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا ) كان يؤخذ الرهبان في
صوامعهم ، والقسوس في كنائسهم ، والأشراف في قصورهم ، والتجار بين
بضائعهم ، والصناع في مصانعهم ، والعامة في بيوتهم ومزارعهم ، وحيثما وجدوا ،
وأينما ثقفوا ، ويوقفون أمام المحكمة وتصدر الحكام عليهم يوم اتهامهم .
قرر مجمع لاتران أن يكون من وسائل الاطلاع على أفكار الناس الاعتراف
الواجب أداؤه على المذهب الكاثوليكي أمام القسيس في الكنيسة ( أي الاعتراف
بالذنوب طلبًا لغفرانها ) تذهب البنت أو الزوجة أو الأخت لأجل الاعتراف بين يدي
القسيس يوم الأحد فيكون مما تسأل عنه عقيدة أبيها أو زوجها أو أخيها وما يبدر من
لسانه في بيته وما يظهر في أعماله بين أهله ، فإذا وجد القسيس متلقي الاعتراف
شيئًا من الشبهة في طلب العلم غير المقدس على من سأل عنه رفع أمره إلى
المحكمة فينقضُ شهابُ التهمة عليه ، فإذا سأل عن الشاهد الذي عول عليه في إتهامه
لا يجاب وإنما يقام التعذيب مقام شخص الشاهد وهو من أهله حتى يعترف أوقعت
هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه
شيء من نور الفكر إذا نظر حوله أو التفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه ، وأن
السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه ، وقال
باغلياديس ما كان يقوله جميع الناس لذلك العهد : ( يقرب من المحال أن يكون
الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه ) .
حكمت هذه المحكمة من نشأتها سنة 1481 إلى سنة 1808 على ثلاثمائة
وأربعين ألف نسمة منهم نحو مائتي ألف أحرقوا بالنار أحياءً .
* * *
( اضطهاد المسيحية للمسلمين واليهود والعلماء عامة )
لما كان ابن رشد هو الينبوع الذي تفجر منه ماء العلم والحرية في أوروبا
على زعم القسوس ، وكان ابن رشد أستاذًا يتعلم عنده كثير من اليهود وقد اتهموا
بنشر أفكاره وآرائه ثم هو مع ذلك مسلم صب غضب الكنيسة على اليهود
والمسلمين معًا فصدر الأمر في 30 مارس سنة 1492 بأن كل يهودي لم يقبل
المعمودية في أي سن كان وعلى أي حال كان يجب أن يترك بلاد أسبانيا قبل شهر
يوليو ( تموز ) ومن رجع منهم إلى هذه البلاد عوقب بالقتل وأبيح لهم أن يبيعوا ما
يملكون من عقار ومنقول بشرط أن لا يأخذوا في الثمن ذهبًا ولا فضة وإنما يأخذون
الأثمان عروضًا وحوالات ، ومن ذا الذي يشتري اليوم بثمن ما يأخذه بعد ثلاثة
أشهر بلا ثمن ؟ ( يعنى أن أموال اليهود تكون مباحة بعد جلائهم الذي يتم في يوليو)،
وصدر أمر توركماندو أن لا يساعدهم أحد من سكان أسبانيا في أمر من أمورهم ،
وهكذا خرج اليهود تاركين كل ما يملكون ناجين بأرواحهم على أنه لا نجاة لكثير
منها فقد اغتالها الجوع ومشقة السفر مع العدم والفقر ، وفي فبراير ( شباط ) سنة
1502 نشر الأمر بطرد أعداء الله المغاربة ( المسلمين ) من أشبيلية وما حولها -
من لم يقبل المعمودية منهم يترك بلاد أسبانيا قبل شهر ( نيسان ) وأبيح لهم أن
يبيعوا ما يملكون على الشرط الذي وضع لليهود ، ولكن وضع للمسلمين شرط
آخر وهو أن لا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية ومن خالف فجزاؤه
القتل ، فهؤلاء المساكين نفوا جميعًا إلى القتل إن لم يكن قتل الجزاء عند الرجوع،
فالموت ملاقيهم بالتعب مع العري والجوع .
ألا يعجب القارئ إذا رأى أن برونو يحرق بالنار حيًّا بعد حبس طويل سنة
1600 لأنه قال بقول الصوفية في وحدة الوجود وقال : إن هذا العالم يحتوي على
عوالم كثيرة . الحمد لله رب العالمين .
ظهر القول بكروية الأرض - ذلك الأمر الذي عرفه المسلمون وصار رأيًا لهم
في أول خلافة بني العباس ولم تتحرك له شعرة في بدن - فأحدث اضطرابًا شديدًا
في عالم النصرانية ولا يسع هذا المقال ما وقع من الحوادث في شأنه .
هل يصدق القارئ أن ما قصده كريستوف كولمب من السفر في المحيط
الأطلانطيقي لعله يكتشف أرضًا جديدة كان من الأمور التي اهتمت لها الكنيسة
وحكم مجمع سلامانك بأنه مخالف لأصول الدين ، ثم أعيد النظر فيه وعرض على
أقوال الآباء من كريزيستوم و أوغستين و جيروم و غريغوار و بازيل و إنبراوز
وعلى رسائل الرسل والأناجيل والنبوات والزبور والأسفار الخمسة ولم ينتج هذا
العرض شيئًا ، ولكن ساعده على ما قصد بعض الملوك رغم الكنيسة كما هو معلوم ،
قال كريستوف كولمب بأن الذي أوحى إليه هذا القصد النبيل هي كتب ابن رشد ،
من هنا نفهم لِمَ قامت له الكنيسة وقعدت ؟
ما أشد تمسك الكنيسة بهذا الأصل الجليل ( السلطة للقسوس والطاعة على
العامة ) كل رأي لم يصدر عن ذلك المصدر الديني الذي يربط ويحل في الأرض
والسماء فهو باطل تجب مقاومته بكل ما يستطاع ، لهذا حكم على غاليلي الذي ذهب
إلى أن حركة الكواكب هي على النظام المعروف عند الفلكيين اليوم .
* * *
مقاومة الكنيسة للحقن تحت الجلد : هل تدري ماذا حصل من المقاومة
لإدخال الحقن تحت الجلد بمادة المرض ؟ اكتشف هذه الطريقة الطبية عند المسلمين
في الأستانة ثم نقلتها إلى أوروبا امرأة تسمى ماري مونتاجو سنة 1721 فقامت
قيامة القسوس وعارضوا في استعمالها واحتيج في تعضيدها إلى التماس المساعدة
من ملك إنكلترا ، وعادت هذه الشدة في المعارضة عندما اكتشفت طريقة تطعيم
الجدري .
* * *
مقاومة تسهيل الولادة : أي مقاومة لم يلاقها اكتشاف تخدير المرأة عند
الولادة حتى لا تحس بألم الطلق ، اكتشاف أميركاني رأت حضرات القسوس فيه أنه
يخلص المرأة من تلك اللعنة أو تلك العقوبة التي سجلت عليها في سفر التكوين ؛ إذ
جاء في الإصحاح الثالث منه : ( وقال للمرأة تكثيرًا أكثر أتعاب حملك بالوجع تلدين
أولادًا ) .
* * *
مقاومة السلطة المدنية وحرية الاعتقاد : نشر البابا منشورًا في سنة 1864
جاء فيه لعن كل من يقول بجواز خضوع الكنيسة لسلطة مدنية أو جواز أن يفسر
أحد شيئًا من الكتب المقدسة على خلاف ما ترى الكنيسة أو يعتقد بأن الشخص حر
فيما يعتقد ويدين به ربه ، وفي منشور له سنة 1868 أن المؤمنين يجب عليهم أن
يفدوا نفوذ الكنيسة بأرواحهم وأموالهم ، وعليهم أن ينزلوا لها عن آرائهم وأفكارهم
ودعا الروم الأرثوذكس والبروتسانت إلى الخضوع للكنيسة الرومانية على هذه
الوجه .
في سنة 1871 كان النزاع بين حكومة بروسيا والبابا في عزل أستاذ في
إحدى الكليات رأى رأيًا لا يروق للحزب الكاثوليكي فحرمة البابا وطلب من
الحكومة عزله وكانت إحدى المعضلات السياسية غير أن عزيمة بسمارك نصرت
مدنية القرن التاسع عشر على سلطان الكنيسة وأبقت الأستاذ وجعلت التعليم تحت
السلطة المدنية .
* * *
مقاومة الجمعيات العلمية والكتب : لا أذكر الجمعيات العلمية ( الأكادميات )
التي ألغيت والاجتماعات التي عطلت لا لشيء كان فيها سوى هداية البشر إلى
منافعهم وتنوير بصائرهم بكشف ما احتجب عنهم من سر الخليقة بالبحث النظري
ومن الطريق العقلي من غير استشارة المسيطر الإلهي وهو الكنيسة ، ولكن أذكر
شيئًا واحدًا وهو أن الكردينال أكسيمنيس أحرق في غرناطة ثمانية آلاف كتاب بخط
القلم فيها كثير من ترجمة الكتب المعول عليها عند علماء أوربا لذلك العهد .
* * *
( البروتستانت أو الإصلاح )
ربما يقول قائل : إن هذا الذي ذكرت هو عمل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية
ولكن قد قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة
ويبيحون لعامة أهل الدين أن ينظروا فيها ويفهموها وقد رفعوا تلك السيطرة عن
الضمائر والعقول ، ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى
بزغت شمس العلم بالمغرب وبسط للعلم بساط التسامح ، وذلك لا يمكن أن يكون إلا
جريًا مع طبيعة الدين .
لا أذكر في الجواب عن ذلك إلا ما ذكر البروتستانت أنفسهم في تاريخ
الإصلاح : استمرت عقوبة الموت قانونًا يحكم به على كل من يخالف معتقد الطائفة
وقد أمر كلفان [1] بإحراق سيرفيت في جنيف ؛ لأنه كان يعتقد أن الدين المسيحي كان
قد دخل عليه شيء من الابتداع قبل مجمع نيقة ، وكان يقول : إن روح القدس
ينعش الطبيعة بأسرها ، فكان جزاؤه على هذا أن شوي على النار حتى مات وهكذا
أحرق فايتي في تموز سنة 1629 .
كان لوتير أشد الناس إنكارًا على من ينظر في فلسفة أرسطو وكان ذلك
المصلح يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنس الكذاب ، ونحو ذلك من الألقاب التي لا
بأس بها إذا صدرت من أهل الغيرة على الدين في طريق الدفاع عنه ! ! وكان
كلفان أقل شتمًا للفيلسوف من لوتير لكنه لم يكن أحسن ظنًا به ولا أوسع صدرًا لمن
يطلع على شيء من كتبه ، وكان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف ( المعلم
الأول ) فتأمل الفرق بين الفريقين ! !
قالوا : البرتستانت قاموا يطالبون بالحرية في فهم الكتب المقدسة وبإبطال
السلطة على غفران الذنوب والتجارة ببيع الثواب والسعادة الأخروية وإبطال عبادة
الصور ، ولكنهم لم يغيروا شيئًا من الاعتقاد بأن الكتب المقدسة هي نبراس الهداية في
طريق العلم البشري كما أنها منبع نور الإيمان بالدين الإلهي ، وأنه لا يباح للعقل أن
ينساق في نظره إلى ما يخالف شيئًا مما حوته وأنه لا حاجة إلى شيء من العلم
وراء ما ورد فيها ، وبالجملة إنهم لم يبطلوا أصلاً من الأصول الستة التي تقدمت إلا
أنهم قالوا بمنع غلو الرؤساء في سلطتهم المبنية على الأصل الثاني في سابق قولنا .
قالوا : ولهذا لم يكن مذهب الإصلاح أخف وطأة على العلم ولا أفضل معاملة
له من الكاثوليك ؛ لأن كلا المذهبين يرجع إلى طبيعة واحدة ( وهي القائمة على
الأصول الستة ) ولم يكن لأهل النظر العقلي جزاء في كلا الملتين إلا القتل وسفك
الدم .
لو كنت ممن يحب الجدال في الدين لعددت فيما ذكرته من عناصر الدين
المسيحي ما تضمنه قول بعض الناقدين عند الكلام على الحروب المسيحية
واضطهادات الكنيسة ( ما أهون الدم على من يمثل في عبادته أكل الدم وعلى من
يعتقد أن خلاص العالم الإنساني من الخطيئة إنما كان بسفك الدم البريء على يد
المعتدي الأثيم ) لكني في بحثي هذا لا أريد أن أستعمل قوة الخيال ، ولا أن أذكر ما
يعد من قبيل الجدال ، وإنما آتي بما هو حكاية حال ، ليس للناظر فيها مقال .
* * *
( الفصل بين السلطتين في المسيحية )
بقي علينا الكلام فيما جعلته الجامعة أساسًا للفصل بين السلطتين الدينية
والملكية وبه كانت طبيعة الدين المسيحي أدعى إلى التسامح مع العلم في نظرها ،
لو سلمنا أن في تلك العبارة معنى الفصل كما قالت الجامعة ، وقال كثير غيرها ممن
أرادوا مقاومة السلطة الدينية فماذا يفيد الفصل إذا كان دين الملك نفسه يقضي عليه
بمعاداة العلم ؟ أفلا يغلب اعتقاد الملك وما يملك نفسه مما فيه نجاته الروحية على
مطالب الملك ؟ وكم من ملك جعل مصالح مملكته قربانًا لسلطان عقيدته ، هب أن
مصالح الملك تكون دائمًا أغلب على النفس من حكم العقيدة وقاهر الإيمان والوجدان
وقد أقام الدين سلطتين منفصلتين : إحداهما تحل وتربط في الأرض وفي السماء فيما
هو من خاصة الدين والأخرى تحل وتربط في الأرض فيما هو من خصائص الدنيا ،
أفلا يكون هذا الفصل قاضيًا بتنازع السلطتين وطلب كل واحدة منهما التغلب على
الأخرى فيمن تحت رعايتهما معًا ؟ وهل يسهل على السلطة الدينية أن تدع رعاياها
تتصرف في أبدانهم وأموالهم بل وفي عقولهم أيدي الملوك بما تقتضيه مصالح الملك
الفاني إذا كان ذلك التصرف مخالفًا لما جاء في كنز المعارف وهو الكتب السماوية
وتأويل الرؤساء الروحيين وسنتهم فإذا همت هذه السلطة بالمعارضة أفتصبر
الأخرى ؟ هذا هو الذي وقع في العالم المسيحي منذ ظهرت سلطة الدين .
كيف يتسنى للسلطة المدنية أن تتغلب على السلطة الدينية وتقف بها عند حدها
والسلطة الدينية إنما تستمد حكمها من الله ثم تمد نفوذها بتلك القوة إلى أعماق قلوب
الناس وتديرها كيف تشاء والملك لا قوة له إلا بأولئك الناس المغلوبين للسلطة
الدينية ؟ لا يتأتى للملك أن يغالب تلك القوة إلا بعد أن يتناول من الوسائل ما لا يعد
لإضعاف سلطتها ، نعم هذا الفصل يسهل التسامح لو كانت الأبدان يحكمها الملك
يمكنها أن تأتي أعمالها على حدة مستقلة عن الأرواح التي تحيا بها والأرواح كذلك
تأتي أعمالها بدون الأبدان التي تحمل قواها .
ثم هل هذا هو معنى قول الإنجيل ؟ القصة على ما جاء في الإنجيل أن بعض
المرائين أراد أن يتسقط المسيح ليأخذ عليه ما ينم به فسأله : أيجوز أن نعطي جزية
لقيصر ؟ فأجاب لم تجربوني ائتوني بدينار لأنظر إليه ، فأتوه بدينار فقال : لمن
هذه الصورة والكتابة ؟ قالوا له لقيصر ، فقال : أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله
فمعناه الظاهر من سياق القصة أن صاحب السكة التي تتعاملون بها إذا ضرب
عليكم أن تدفعوا منها شيئًا فادفعوه له ، أما قلوبكم وعقولكم وجميع ما هو من الله
وعليه طابع صنعته فلا تعطوا منه لقيصر شيئًا ، والعلم ليس مما عليه طابع قيصر
بل عليه طابع الله ، فلا يمكن أن يكون العلم تحت سلطة غير السلطة الروحانية
الدينية ، فأي تسامح مع العلم في هذا .
* * *
( اعتقاد المسلمين في المسيح والمسيحية )
هذا الذي عرضناه من طبيعة الدين المسيحي وأوردناه من مشاربه فيما بعد
نشأته وما وقع من حوادث مع طلاب العلم ورواد المعارف في كل زمن إلى ما
يقرب من أيامنا هذه كل ذلك مأخوذة من تاريخهم الذي كتبوه عن أنفسهم ومن
نصوص كتبهم الدينية التي يتوكأون عليها فيما ذكرنا من سيرتم وأعمالهم .
أما رأيي ورأي أهل العقيدة الصحيحة من المسلمين في المسيح عليه السلام
ودينه فهو على غير ما رآه القارئ ، إنا نعتقد أن المسيح روح الله وكلمته ورسوله
إلى بني إسرائيل بُعِثَ مصدقًا لما بين يديه من التوراة وجاءهم من الدين بما فيه هدى
لهم ورشاد في شئون معاشهم ومعادهم ولم يطالبهم بتعطيل قوة من قواهم التي وهبهم
الله تعالى إياها بل طالبهم بشكر الله تعالى عليها ولا يشكر حق الشكر إلا باستعمالها
جميعها فيما أعدها الله له .
والعقل من أجل القوى بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها والكون جميعه هو
صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه ، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل
للوصول إليه ، وكل ما صح عندنا عن السيد المسيح لا يخالف شيء منه هذا الذي
نعتقد ، فإن صح عنه شيء يكون في ظاهره مخالفة لهذه الأصول أمكننا تأويله حتى
يرجع معناه إليها أووكلنا الأمر فيه إلى الله وقلنا ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) ؟
الدين دين الله وهو دين واحد في الأولين والآخرين لا تختلف إلا صوره
ومظاهره ، وأما روحه وحقيقة ما طولب به العالمون أجمعون على ألسن الأنبياء
والمرسلين فهو لا يتغير - إيمان بالله وحده وإخلاص له في العبادة ومعاونة الناس
بعضهم لبعض في الخير وكف أذاهم بعضهم عن بعض ما قدروا ، وهذا لا ينافي
الارتقاء في الدين بارتقاء عقول البشر واستعدادهم لكمال الهداية ، ونعتقد أن دين
الإسلام جاء ليجمع البشر كلهم على هذه الأصول ، ومن أهم وظائفه إزالة الخلاف
الواقع بين أهل الكتاب ودعوتهم إلى الاتفاق والإخاء والمودة والائتلاف وهذا ما
عمل عليه المسلمون قرنًا بعد قرن بحسب قوة تمسكهم بالإسلام .
فإذا سأل سائل بماذا كان ذلك الذي قدمت فيما سبق هو اعتراف فضلاء
الأوربيين أنفسهم في منافاة طبيعة الدين للعلم واشتداده في معاداته فما هذا الانقلاب
الذي حصل في أوربا ، وما هذا التسامح الذي يتمتع به العلم اليوم في أقطارها ؟
فجوابه في الكلام على الأمر الرابع مما ذكرت الجامعة ، وهو يكون بعد عرض
طبيعة الدين الإسلامي وما يليق أن يكون له مع العلم وما انجر إليه الحال بمقتضى
تلك الطبيعة ، وما عرض عليها مما سترها وحال بينها وبين أثرها في أخريات
الأيام ؟ وسنوجز القول فيه كما أوجزناه فيما مضى .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلفان هو الزعيم الثاني للبروتستانت ولوثر الأول .
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
16 جمادى الأولى - 1320هـ
20 أغسطس - 1902م
الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد
قاضي القضاة في الأندلس

هذا الفيلسوف أشهر فلاسفة المسلمين وأكبر أساتذة أوربا في العلم والفلسفة ؛
لأن فلسفته انتقلت من الأندلس ( أسبانيا ) إلى سائر بلاد أوربا فكانت مبدأ نهضة
الأوربيين الحاضرة . ولد سنة 520 في قرطبة ، وتوفي سنة 595 في بلاد المغرب .
وقد نشرت مجلة الجامعة الغراء تاريخه وتكلمت عن فلسفته ، واستطردت إلى
مسائل أخرى كمذهب المتكلمين في الوجود والمقابلة بين الإسلام والنصرانية في
اضطهاد العلم والفلسفة وعدمه ، وقد وقع في تلك الترجمة غلط في هذه المسائل .
والإنسان دائما عرضة للخطأ والغلط فيما تعلمه وأتقنه فكيف يكون حاله فيما لم
يتعلمه بالتلقي عن أهله إذا تكلم أو كتب فيه ، وإن صاحب الجامعة الفاضل لم يتعلم
علم الكلام الذي هو فلسفة العقائد الإسلامية لأنه ليس مسلمًا؛ ولا فلسفة اليونانيين
لأنها قد نسخت بالفلسفة العصرية ، فلا شك عندنا أنه لم يتعمد تكفير القاضي ابن رشد
ولا نسبة أئمة المسلمين في العقائد إلى إنكار ارتباط الأسباب بالمسببات ، ولكن
بعض الذين قرأوا تلك الترجمة في مجلته أساءوا الظن به واحتموا عليه ورغبوا
إلينا في الرد عليه ؛ لأن من وظيفة المنار الدفاع عن العقائد الإسلامية وعن أئمة
المسلمين .
وطلب بعضهم مثل ذلك من بعض أساتذتنا الأعلام ، الذين يُرجع إليهم إذا
اعتكر من ليل الشبهات الظلام ، ولما رأينا ذلك الأستاذ وعد الطالبين بأن يكتب في
بيان حقيقة تلك المسائل التي وقع فيه الخطأ أمسكنا نحن عن الكتابة ؛ لأنه هو الأجدر
بالفصل بين الحق والباطل ، والذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل ، وقد تفضل علينا
وعلى الجامعة بما كتب فننشر في هذا الجزء مقالته في فلسفة ابن رشد ومذهب
المتكلمين ( وسننشر في الأجزاء التالية مقالاته في الاضطهاد في النصرانية
والإسلام ) .
تمهيد لمقالة الأستاذ الحكيم :
لا بد لفهم قراء المنار هذه المقالة من ذكر ما قالته الجامعة في فلسفة ابن رشد لأن
كاتب المقالة لم يذكر فيها إلا مواضع النقد قالت الجامعة :
المادة وخلق العالم
إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات ، وهو يرى
في ذلك رأي أرسطو ، فيقول : إن كل فعل يُفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن
حركة ، والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق وهذا الشيء هو
رأيه في المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها ، ولكن ما هي هذه المادة ؟ هي
شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف ، بل هي ضرب من الافتراض لا
بد منه ولا غنى عنه ، وبناء عليه يكون كل جسم أبديًّا بسبب مادته أي أنه لا يتلاشى
أبدًا لأن مادته لا تتلاشى أبدًا ، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل
لا بد له من هذا الانتقال وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون ، وعلى ذلك تكون
الحركة مستمرة في العالم ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية
الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط ، وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو
مصدر القوة والفعل ( أي الخالق سبحانه وتعالى ) يكون غير مختار في فعله ؛ لأن
الحرية والاختيار يقتضيان كونه محدثًا والخالق تنزه عن أن يكون حديثًا .
* * *
اتصال الكون بالخالق
(هذا فيما يختص بخلق العالم ، وهو مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين
كما ترى ، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويدبره ) .
لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة ،
فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة ، فإنه كما أن كل شئون المدينة
تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا
لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون كذلك الخالق في
الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها ، وإن لم يكن له دخل مباشرة
في كل جزء من هذه القوات ، فبناء على ذلك لا يكون للكون ( اتصال ) بالخالق
مباشرة ، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده ، وهذا العقل الأول هو عبارة
عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب ، وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف
قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات ، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر
يعتبرها أعضاء أصيلة للحياة والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر ، أما العقل
الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر ، ولكل دائرة منها عقل أي قوة
تعرف بها طريقها كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه ، وهذه العقول الكثيرة
المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض إنما هي
عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء
إلى أرضنا هذه ، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها ، وبناء على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه المحركات علم بكل ما يحدث في العالم .
* * *
طريق الاتصال
وإن قيل : ما هي علاقة الإنسان بالخالق ، فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد
أيضًا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه ( النفس ) وخلاصة ذلك أن الكون
عقل فاعل وعقل منفعل ، فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير
قابل للامتزاج بالمادة ، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل
باقي قوى النفس ، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين ، ذلك أن العقل
المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل كما أن القوة تقتضي شكلاً توضع به ، وأول
نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تُدعى العقل المكتسب ، ولكن قد تتحد النفس البشرية
بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج
بالعقل القديم الأزلي ، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره فإنما
وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به ، وأما
إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم ، فالعلم إذًا هو سبب الاتصال
بين الخالق والمخلوق ، ولا طريق غير هذا الطريق ، ومتى اتصل الإنسان بالله صار
مثله يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب ويخرق بنظره حجب
الأسرار التي تكتنف الكون فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كُنه الأمور وجد
نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية .
أما المتصوفة فإنهم يقولون: ( إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد ، وليس العلم صروريًّا له ) .
وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي
قاعدته العلم والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة
بعضها ببعض وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا ، ومن هذه المبادئ شيء
يستولي على العالم ويضع فيه العقل فهو عقل الإنسانية ، وهذا الشيء الذي يسميه
عقلاً أيضا هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر لا يزيد ولا ينقص ،
والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكميات متباينة ، على أن من كان منهم أكثر
استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة .
* * *
الخلود
ثم تكلمت الجامعة بعد ما تقدم عن رأي ابن رشد في خلود النفس فقالت بعد
كلام ما نصه : ( قال : إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل
ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء والملاشاة ، والعقل الخاص المنفعل من صفاته
الفناء مع جسم الإنسان ، وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالداً والعقل المنفعل
فانيًا ، ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد ، إن هذا
العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية ، فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون
سواها ، وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة
عن الحياة الثانية ) اهـ .
* * *
دفع وهم عن فلسفة ابن رشد والمتكلمين
لأستاذ حكيم ، وفيلسوف عليم
قرأت ما نشرت الجامعة من ترجمة ابن رشد ، مررت على ما نقلت من آراء
المتكلمين وآرائه بغير تدقيق لأنني أعرف آراء الفريقين من قبل ولم يكن لي قصد
إلى النقد وإنما أريد أن أستفيد جديدًا ، لهذا لم يقف نظري لأول وهلة إلا على ما
حوته تلك الجملة ( الاضطهاد في النصرانية والإسلام ) قرأتها بتروٍّ وانتهيت منها
إلى حكم من الجامعة يخالف ما أعتقد ولا يلتئم مع ما أعرف ويعرف العارفون من
الشواهد التاريخية ، عند ذلك تحركت نفسي إلى كتابة سطور ، أشير فيها إلى كشف
مستور ، أو إعادة ذكر مشهور على أسماع الجمهور .
لاقاني بعض قراء تلك الترجمة فرأيت الأثر في نفسه أشد ، ولسانه في العتب
أحد ، وذكر أشياء في غير هذا الفصل من الترجمة ، ولفتني إلى إعادة النظر فيها ،
رجعت إلى الترجمة فوجدت فيها موضعين آخرين يطلبان مني الكلام عليهما وبأن
أحاديث الجامعة فيهما ، لو كانت منزلة الجامعة من نفسي منزلة غيرها من المجلات
التي لا يُعْنَى كاتبوها إلا بنقل ما يقع تحت أنظارهم ، أو تحبير ما يعبر عن أهوائهم
وأفكارهم ، من دون عناية بتقرير الحقيقة ، ولا رعاية لمعتقدات القراء لوجدت من
شواغل عملي ما يصرفني عن ذكر ما عرض فيها ، لكنها من المجلات التي لو
أهملت مباحثها من إمعان النظر وجعلتها في جانب عما تستحقه من النقل لبخستها
حقها ، ونَبَوْتُ بها عن موضعها .
لهذا رأيت أن أذكر لها ما رأيت في ذينك الموضعين وأبين حقيقة الأمر في
الثالث أما الموضعان فهما : ( فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود ) و ( فلسفة ابن
رشد وآراؤه في خلق العالم واتصال الكون بالخالق وطريق اتصال الإنسان به
والخلود ) وهما موضوع كلامي اليوم .
* * *
فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود
قالت الجامعة : فلسفة المتكلمين هذه ( أي في وجود العالم ) مبنية على أمرين :
الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق . والثاني : وجود خالق
مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له وبما أن الخالق مطلق التصرف
في كونه فلا تسأل إذًا عن السبب إذا حدث في الكون شيء لأن الخالق نفسه هو
السبب وليس من سبب سواه ، إذًا فلا يلزم عن ذلك قطعيًّا أن يكون بين حوادث
الكون روابط وعلائق كأن ينتج بعضها عن بعض ؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر
الخالق وحده وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصوَّر بها الآن
وذلك بقدرة هذا الخالق ، ثم ذكرتْ في الجملة التي تلي ما تقدم أن هذه فوضى ،
وأن روحًا جديدًا أخذ يُدْخِلُ شيئًا من النظام فيها[1] .
حدوث المادة عند المتكلمين ليس معناه أن تكون بخلق خالق ، فإن الخلق في
اصطلاحهم هو الإيجاد وكون المادة صادرة عن موجد لم يختلف فيه المتكلم
والفيلسوف الإلهي ، فأرسطو يقول : إن المادة قد استفادت وجودها من موجدها
وهو الواجب وواسطة فيض الوجود عليها هو العقل الفَعَّال على ما سيأتي بيانه ، وإن
كان لا أول لوجودها ، وإنما حدوث المادة عند المتكلمين هو وجود الأجسام وعوارضها
بعد أن لم تكن موجودة بحيث يفرض لوجودها بداية زمانية تنتهي إليها سلسلتها من
جانب الماضي ، ولا يجوز أن يوصف بالأزلية إلا الله وحده في صفاته عند القائلين
بأنها وجودية ، وقبل هذه البداية التي لا يمكن تحديدها لم يكن وجود سوى وجود خالق
الكون ، ثم إنه أراد إيجاد الكون فأوجده من العدم البحت ، هذا هو بناء مذهب
المتكلمين وهو مذهب أهل النظر من المسيحيين واليهود أيضًا فلم يخالف فيه ملّي
من أهل الملل الثلاث .
أما كون هذا المذهب وحده هو الذي يصح أخذه من القرآن ، أو أنه يجوز أن
يتفق مع معاني القرآن رأي آخر بل هو الذي يظهر منه ، فذلك بحث آخر لسنا
بصدده الآن فإن كلامنا في تصوير مذهب المتكلمين .
الأصل الثاني وهو وجود خالق مطلق التصرف لازم للأصل الأول ؛ لأن هذا
العالم إذا كان موجودًا بفعل موجد فموجده هو خالقه وهو مطلق التصرف بمعنى أنه
يختار ما يخلق على الوجه الذي يخلق .
والمتكلمون وإن اتفقوا على أن خالق العالم مختار انقسموا إلى فريقين
عظيمين ، فالقدرية منهم ويسمون بالمعتزلة أيضًا قالوا : إن الخالق وضع للكون
نظامًا تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين وأودع في المخلوقين قوًى أو قُدَرًا
تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية أو بطريق الإرادة والاختيار ،
فهذا فريق من المتكلمين لا يخالف الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها أو تأثير
قدر المخلوقين في أفعالهم ، وقد بقي من أهل هذا المذهب إلى اليوم طائفة الشيعة
الإمامية والزيدية فإنهم لا يخالفون المعتزلة في هذه الأصول فإذا حدث في الكون
حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه المباشر له وإن كانت جميع الأسباب تنتهي
إلى مصدرها الأول وهو الخالق كما يسأل الفيلسوف بلا فرق .
والفريق الآخر الذي عنته الجامعة وهو الذي يرى إسناد الآثار إلى الخالق
مباشرة لم يقطع العلاقة بين الأسباب الظاهرة ومسبّباتها بل قال : إن الله يُصدر
وجود المسبب عند وجود السبب فلا يقال : إن الأكل ( مثلاً ) هو الذي يحدث الشبع
بل الشبع شيء يحدثه الله عند الأكل ولكنه لا يحدثه عند الخوى إلا إذا أراد أن
يخرق النظام الذي جرت به سنته لأمر عظيم يريد توجيه النفوس إليه ، وحمل هذا
الفريق على هذا القول إنكار نسبة الإيجاد ومنح الوجود إلى شيء سوى واجب
الوجود ، وقالوا في الأفعال الاختيارية : إن الله يوجدها عند تعلق كسب العبد بها
ولهم في تصوير معنى الكسب كلام طويل لا يليق بهذا المقال استيفاؤه ، وقالوا : إن
الأسباب والآلات لا بد منها في صدور الأثر إلا أن الذي يعطيه الوجود عند
استكمالها هو الخالق ، ولهذا اتفق جميع المتكلمين على أن التكليف بالأحكام
الشرعية يعتمد التمكن من الإيتان بالمكلف به من حيث حال المكلف وصرّحوا بأنه
لم يقع تكليف بشيء إلا إذا تيسرت أسبابه وارتفعت الموانع منه غير أنهم يلقبون
هذه الأسباب بالعادية ؛ لأنه ليس من الواجب على الخالق أن يلتزمها مع اعتقادهم
بأنه قررها وجرت سنته بها ولقبوا ما يحدث في العالم مخالفًا لها بخارق العادة
وليس كل غريب عندهم خارقًا للعادة بل الخارق هو ما لا يدخل في مكنة قوة حادثة
ولا يقدر على إحداثه إلا للقادر على مخالفة النظام الذي سنَّه وهو الله .
هذا الفريق من المتكلمين يستند في إثبات صفة العلم لله تعالى إلى ما في هذا
العالم من النظام وإلى ما حواه ذلك النظام من الأسرار والحِكَم ، وهل يتأتى هذا
الاستناد منهم إن لم يقولوا بوجود العلاقة بين الأسباب ومسبباتها كان من هذا الفريق
أئمة تناول بحثهم كثيرًا من الفنون كالطب وعلوم المواليد الثلاث الحيوان والنبات
والمعدن منهم الأئمة الرازيون : كفخر الدين الرازي وأبي بكر الرازي ومحمود
الرازي ، وأمثالهم ومنهم مثل الإمام أبي بكر الباقلاني ، وكيف يتيسر لقائل أنه لا
علاقة بين الأسباب والمسببات أن يبرع في فنون بناؤها على الارتباط بين الآثار
وما يقارنها في العادة مما هو مصدر لها في بادئ النظر .
فإذا حدث في الكون حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه الذي جرت
سنة الله بأن يكون معه وإن شئت قلت : سأل عن السبب الذي أصدر الله وجوده
عنده ، وهل يمكن أن يقول المتكلم : إنه لا علاقة بين وجود الولد ووجود والديه أو
بين جَوْدة العمل وعلم العامل أو بين غزارة الثمر وخدمة الشجر ؟ هذا شيء لم يقل
به قائل منهم قط وإلا لما قرأ واحد منهم كتابًا ولا خط في صحيفة سطرًا ؛ لأنه لا
علاقة بين المطالعة والفهم ولا بين التحرير والأفهام .
فإن شئت أن تقول : إنه مذهب مع ذلك غامض يكدّ الذهن في فهمه فلك أن
تقول وأن تمعن النظر حتى تفهم مبانيه وأصوله وأن تناقش بالدليل الدليل ، وعلى
الله قصد السبيل .
القول بنفي الرابطة بين الأسباب ومسبباتها جدير بأهل دين ورد في كتابه أن
الإيمان وحده كافٍ في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحوّل عن مكانك فيتحول
الجبل[2] يليق بأهل دين يعدّ الصلاة وحدها إذا أخلص المصلي فيها كافية في إقداره
على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري ، وليس هذا الدين هو دين
الإسلام ، دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } ( التوبة : 105 ) الآية ، { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ } ( الأنفال : 60 ) إلخ { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) وأمثالها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ
وَالنَّهَارِ } ( البقرة : 164 ) الآيات ، فلا يمكن لأهل هذا الدين وهو هو أن يقطعوا كل
علاقة بين الأسباب في هذا العالم المسببات ، ولهم أن يتيهوا على أرباب ذلك الدين
الآخر بأن دينهم لم يوضع أساسه على دعث من الخوارق لا يلبث أن يخسف
بالسالك فيه إذا سأل عليه سيل الدليل ، وإنما وضع على مستقر من الحقائق لا
يتزلزل بالقائم عليه مهما عظم القال والقيل ، وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى
ارتفاع ما بين حوادث الكون بالترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن
يكفر بعقله .
نعم طرأ فساد على عقائد بعض المنتسبين إلى أئمة ذلك المذهب وأساءوا
الظن بالقدر وتظاهروا بترك الأسباب في أقوالهم ، وإن كانوا أشد الناس تمسكًا بها
في رذائل أعمالهم ، وتعلقوا من الخوارق بجبل وهن ميلاً إلى أهواء من جاورهم
من الملل فظن الناظرون في قذائف أفواههم أن هذه الأوهام مما بني عليهم اعتقاد
أسلافهم فلا يغترن بعد ذلك مغتر بما يظن أولئك الناظرون ولا بما يتوهمه هؤلاء
الواهمون { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الصافات : 180) .
هذا ما يتعلق برأي الجامعة في مذهب المتكلمين أو فلسفتهم وننتقل الآن إلى
روايتها مذهب الفيلسوف ورأيها فيه .
* * *
فلسفة ابن رشد ورأيه في المادة وخلق العالم
قالت الجامعة : إن المادة ( ضرب من الافتراض لا بد منه ) الافتراض يراد به عند الإطلاق الفرض وهو في اصطلاح الفلاسفة ما لا وجود له والمادة عندهم موجودة
كما قالت الجامعة فيما قبل ذلك التعريب وفيما بعده .
ثم قالت : ( وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل ( أي
الخالق سبحانه وتعالى ) يكون غير مختار في فعله ؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان
كونه محدثًا والخالق يتنزه عن أن يكون حديثًا ) وقالت بعد هذا بسطرين : ( وهو
( أي مذهب ابن رشد ) مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين كما ترى ، ثم ذكرت
أن الفيلسوف يشبه حكومة الكون بحكومة المدينة وأن المباشر للتصريف في الكون
هو العقل الأول في قلب هذه الدوائر ولكل دائرة عقل أي قوة تعرف بها طريقها )
إلخ .
أما مسألة نفي الاختيار فقد ذكرتُ عليها إيهامَهَا وأدى ذكرها كذلك إلى استنتاج
أن مذهب ابن رشد قريب من مذهب الماديين وليس الأمر في حقيقته كذلك .
يعلم كل ناظر في مذاهب فلاسفة اليونان أنهم كانوا فريقين إلهيين وماديين والأولون
فريقان مشاءون وإشراقيون واشتهر أتباع أرسطو باسم المشائين وأتباع أفلاطون
باسم الإشراقيين .
وأول مميز للإلهيين عن الماديين أن الأولين يقولون بوجود واجب بريء من
المادة والماديات وبوجود عقول مجرّدة عن المادة وغواشيها وبأن للواجب علمًا بذاته
وبجميع ما يصدر عنه وعن آثاره وأن للمعقول المجرد عقلاً علمًا بذواتها وبمَبْدئها
وبما يصدر عنها ، والماديون لا يقولون بشيء من ذلك ألبتة ، فالتقريب بينهما تقريب
بين النقيضين ، وابن رشد من مقرري مذهب أرسطو فهو من الإلهيين .
وتشبيه الفيلسوف لتدبير الكون بتدبير المدينة أكبر دليل على مفارقة الماديين
كما يفارق المجرد والمادة ، وقد شرطوا في هذا التشبيه أن المُدَبِّر خارج عن المدبَّر
مُفارقٌ له مُنَزَّهٌ عن مخالطته .
أما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة ، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن
المادة وهو أول صادر عن الواجب ، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمّى عندهم بالفلك
الأطلس ونفسٌ لذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية وعقل آخر هو العقل الثاني ، وعن
هذا الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم فلك الثوابت ونفسه والعقل الثالث
وهكذا إلى أن صدر عن العقل التاسع فلك القمر ونفسه والعقل العاشر وهو المسمّى
عندهم بالعقل الفعّال أو العقل الفياض ، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية وإليه
يرجع ما يحدث في عالمها ، ولا يكون العقل الأول ولا غيره من العقول في قلب تلك
الدوائر عند أحد من هؤلاء الفلاسفة الإلهيين بل هو مفارق لها كما أن نفوسها
جواهر مفارقة أيضًا ، ولها تعلق بأجسادها كتعلق أنفسنا بأبداننا على ما سيأتي بيانه .
والذي حمل الإلهيين على ذلك مبالغتهم في تنزيه الواجب وقولهم : إنه واحد
من جميع الوجوه وزعمهم أن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا الواحد فيلزم أن
لا يصدر عن الواجب إلا واحد وهو العاقل الأول . ولما تعددت وجوه العاقل في
ذاته والنسبة بينه وبين مصدره العاقلة لذاته وعقله لموجده صح أن يصدر عنه
متعدد ، ولهم في الاستدلال على حياة الأفلاك مقدمات لا حاجة إلى ذكرها ؛ لأن
الكلام في تصوير مذهبهم لا في تقريره أو إبطاله .
فالعقول عند الفليسوف ليست مخالطة للمادة ولا يغشاها شيء من ظلماتها
وليس العقل الأول بمدبر الكون وإنما هو مصدر الفلك الأطلس ومفيض نفسه عليه
وخزانة معقولاته ، وهكذا الأمر في كل عقل مع الفلك الذي صدر عنه وتدبير العالم
العنصري وهو ما دون فلك القمر راجع إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال .
قال الفلاسفة الإلهيون : ولا يجوز أن تكون لأفعال الله غايات وأغراض
تبعثه على إصدارها وأن ما يصدر عنه إنما يفيض بمحض الجود المطلق عن غني
مطلق ، وقد صرح ابن رشد في تهذيبه لإلهيات أرسطو بذلك وهذا مبالغة منهم في
نسبة الكمال إلى الله على أن ما يصدر عنه إنما يصدر عن علم فالذي ينفى عنه إنما
هو الاختيار بمعنى التردد بين الغايات ثم ترجيح إحداهما أما الاختيار بمعنى أن
الفعل صدر عن علم العالم بدون إكراه عليه فذلك لا ينفيه أحد منهم ، والملِّيون من
متكلمين ولاهوتيين وإن لم يصرحوا بذلك قالوا بما يئول إليه والتزموه فقد ذهب
جمهورهم والمعوَّل على رأيه عند قومه منهم أن علم الله محيط بالكليات والجزئيات
أزلاً وأبدًا وقد تعلقت إرادته بتخصيص كل كائن بما هو عليه على حسب علمه
وعلمه لازم لذاته أزلي بأزلية ذاته وكل ما يكون في الكون لا بد أن يقع على وفاق
مع علمه الأزلي جل شأنه فلا تردد عنده بين الغايات بل ما يصدر عنه اليوم كان لا
بد أن يصدر عنه ، والأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض مما انتظم في علمه
فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها في العلم ، وسواء كان القول غامضًا أو غير
غامض وسواء توجه عليه من النقد ما يصعب الجواب عنه إذا روعيت بقية
الأصول أو لم يتوجه ، كل ذلك لا يدفع عنهم أنهم قالوا بنفي الاختيار بالمعنى
المعروف عند الناس ، وإن ثبت الاختيار بالمعنى الذي يليق بكمال الله تعالى ،
فالفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وفاق في حقيقة المسألة وإن اختلفت
العبارات فابن رشد رحمه الله لم يخرج في آرائه عن الملِّيين فلا يصح أن يكون
مذهبه مذهب الماديين ولا قريبًا منه .
* * *
طريق الاتصال
يتوهم الناظر في هذا العنوان في الجامعة مع مراعاة الفصل الذي تقدمه فيها
أنه عنوان لرأي ابن رشد في طريق اتصال الكون بالخالق فإذا استمر في قراءة ما
بعد العنوان إلى آخر الفصل علم أن المراد طريق اتصال الإنسان وحده بخالقه
وعثر في آخر البحث على هذه العبارة : ( وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب
الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم ) أما ما بين العنوان وهذه العبارة فهو
مما لا يمكن أن يتحصل له معنى مفهوم في مذهب الفيلسوف ، وإني ذاكر لك رأيه في
اتصال الإنسان بالله أي قربه منه وسعادته به وفي طريقة تكميله لنفسه حتى يسعد
لذلك القرب ، وبذلك تعرف أن ما جاء في الجامعة ليس بالذي تصح نسبته إليه
خصوصًا بعد قولها : إنه أخذ مذهبه في ذلك عن أرسطو من الفصل الثالث في
كتابه ( النفس ) وما قاله أرسطو في ذلك الكتاب معروف مشهور .
أثبت أرسطو وتبعه ابن رشد وجُل فلاسفة الإسلام أن نفس الإنسان التي هو
بها إنسان وهي ما يلقبونها بالنفس الناطقة - جوهر مجرد عن المادة لا هو جسم ولا
حال في جسم ، وإنما له علاقة بالجسم يدبره ويصرفه وشبهوا هذه العلاقة بعلاقة
الملك بالمدينة وهو خارج عنها ولهذه النفس آلة في الجسم بها يكون التدبير .
وقالوا : إن انطباع المحسوسات والمعاني الجزئية في الحواس الظاهرة
والباطنة على ما فصلوه يُعِدُّ النفس لقبول الكليات ويهيؤها لتلتقي المعقولات عن
مفيضها عليها وهو العقل الفعّال الذي سبق لنا ذكره .
وجعلوا مراتب النفس في استحصالها كمالها العلمي وبلوغها ذروته أربعًا
( الأولى ) العقل الهيولاني ، وهو قوة استعداد النفس نحو المعقولات وتسميته عقلاً
تسمية مجازية و ( الثانية ) العقل بالملكة وهي القوة التي تحصل للنفس عند
حصول المعقولات الأولى مثل الجزء والكل ومثل الحكم بأن الأول أصغر من
الثاني ومثل النفي والإثبات والحكم بأنهما لا يجتمعان في محمول واحد لموضوع
واحد ، وكذلك كل ما خلص من محسوس وهو لا يحتاج في تخليصه إلى فكر
والنفس تتهيأ بهذه القوة لاكتساب المعقولات الثانية إما بالفكر وإما بالحدس ، وليس
الحدس هو الظن كما هو في المشهور بل هو سرعة انتقال النفس من المبادئ إلى
المطالب أو انتقال النفس من المعلومين إلى الوسط الذي يصل بينهما ومن ذلك إلى
معلوم ثالث بلا تجسم نظر ، ولذلك جعل مقابلاً للفكر الذي هو النظر بعينه ؟
و ( الثالثة ) قوة تسمى العقل المستفاد وهي أن تحصل المعقولات الثانية بالعقل
متمثلة كالأولى مشاهدة في الذهن ، والرابعة قوة تسمى ( العقل بالفعل ) وهي ما به
تتمكن النفس من استحضار المعقول المكتسب المفروغ منه متى شاءت من غير
افتقار إلى اكتساب .
قالوا : والذي يرقى بالنفس في هذه المراقي هو العقل الفعال ، وهو ذلك العقل
العاشر المصرّف للمادة العنصرية لا عقل الإنسانية العام كما تقول الجامعة ، فإن
أرسطو وابن رشد لا يقولان بعقل يسمى عقل الإنسانية العام بل كان ذلك من مزاعم
أفلاطون التي عُني أرسطو بإبطالها وتبعه ابن رشد وغيره في نفيها ، فالعقل الفعال
هو الذي يخرج النفس من العقل الهيولاني إلى العقل بالملكة ومن العقل بالملكة إلى
العقل المستفاد ومعه إلى العقل بالفعل .
ولما كان العقل الفعال جوهرًا عقليًّا بالفعل كانت المعقولات بأسرها حاصلة له
بالفعل ، أما نفوسنا فهي عقول بالقوة ولكنها إذا استعدت استعدادًا خاصًّا للاتصال
بذلك العقل أي بالإقبال عليه وتوجيه وجهتها نحوه ارتسم منه فيها الصور العقلية
الخاصة بذلك الاستعداد الخاص لأحكام خاصة وإدراك المعاني الجزئية بواسطة
الحواس وحركة النفس في المعقولات الأولى والبحث والتجربة والدرس وما ينحو
هذا النحو كل ذلك من محصلات الاستعداد لقبول المعقولات في الموضوعات التي
كان الاستعداد فيها . فإذا أعرضت النفس عن العقل الفعال والتفتت إلى جانب الحس
أو إلى صورة أخرى غير التي حصلت لها بذلك الاستعداد انمحى المتمثل الذي كان
أولاً كأن المرآة التي كان يحاذي بها جانب القدس قد أعرض بها عنه إلى جانب
الحس ، أو إلى شيء آخر من الأمور القدسية .
قالوا : وهذا الاتصال الذي يفيض به العقل الفعال على النفس ما استعدت له
من المعقولات له علة ، وعلته قوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس جهة الإشراق
متى شاءت بملكة متمكنة وهي المسماة بالعقل بالفعل .
ثم إن الفيلسوف وأتباع مذهب أرسطو ذكروا آراء بعض الفلاسفة ممن لا يعتد
بقولهم وفيها ما يشبه ما نسبته الجامعة لابن رشد منها أن الجوهر العاقل إذا عقل
صورة عقلية صار هو إياها ، واستدلوا على استحالة هذا القول بأنه يلزم عليه أن
تصير النفس جميع المنقولات التي تحصل لها وتصير المعقولات كلها معقولاً واحدًا
بل يلزم عليه انعدام النفس ووجوه ما عقلته أو استحالة النفس إليه وهو محال
وخلاف الفرض ونقلوا عن فرقوريوس أنه قال : إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئًا
فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهو حق في رأيهم ولكنه قال : إن
معنى اتصالها بالعقل الفعال أن تصير هي نفس العقل الفعال ؛ لأنها تصير العقل
المستفاد والعقل الفعال يتصل نفسه بالنفس فيكون العقل المستفاد ، وقد أبطلوا هذا
القول بأنه يستلزم أن يكون العقل الفعال متجزئًا قد يتصل منه شيء دون شيء وهو
مجرد لا يتجزأ أو تتصل به النفس اتصالاً واحدًا تكون به النفس كاملة واصلة إلى
كل معقول وهو ليس بحاصل في جميع الأحوال وقالوا : إن دعوى اتحاد شيء
بشيء آخر على معنى استحالة الأول إلى الثاني قضية شعرية غير معقولة فلا يصح
النظر فيها ، أما استحالة النفس إلى العقل الفعال فلم يقل به أحد .
فقد عرفت من هذا أن اتصال النفس بالعقل الفعَّال ليس معناه الفناء فيه أو
الاندغام كما عرفته الجامعة بلا معناه أن ترتفع النفس بقواها عن ظلمة الطبيعة بما
يكون لها من الاستعداد وتنجذب نحو العالم الأعلى فتشرق فيها المعلومات بمحاذاتها
لمطلع ذلك النور الأجلى ، فهل مع هذا يصح أن ينسب إلى الفيلسوف ما عدّه غير
معقول ؟
قال الفيلسوف وشيعته : إن النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصورة
المحددة غير منطبعة في جسم تقوم به بل هي جوهر عاقل ذو آلة بالجسم فإذا
استحال الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظًا للعلاقة معها بالموت لم يضر ذلك
جوهرها بل تكون باقية بما هي مستفيدة الوجود من الجواهر العقلية ، فالنفس بعد
مفارقتها للبدن باقية على استقلالها لا تعدم شخصيتها بالفناء في شيء سواها لا عقل
فعّال ولا وجود واجب وهي تسعد بكمالها العلمي والأدبي الذي حصلته مدة تعلُّقها
بالبدن ، وجَوَّزَ الفيلسوف أن تتعلق بعد فراقها للبدن بجسم آخر من عالم آخر تتخيل
فيه ما هو لذة لها ، وتشقى بجهلها ورداءة ملكاتها ، فالنفس عند الفيلسوف باقية
خالدة خلودها خلود لشخصها المتميز من كل شيء سواها سواء كان عقلاً فعالاً أو
غيره .
فهل بعد هذا يُعدُّ الفيلسوف ماديًّا ومذهبه مذهبًا ماديًّا قاعدته العلم ؟ لا بل هو
إلهي ومذهبه مذهب إلهي قاعدته العلم قائل بخلود النفس وسعادتها وشقائها وعذابها
ونعيمها كما رأيت .
بقي علينا أن نشير إلى ما نقله فلاسفة أوربا عن الفيلسوف الجليل ابن رشد
في مبدإ العالم ومصدر وجوده ، قالوا : لم يكن يُعرف العلم والفلسفة عند الأوربيين
إلا في مدارس المسلمين في أسبانيا ، فكان يقصد تلك المدارس طلاب العلم من كل
ناحية ، كان يجلس في درس الفيلسوف عدد عظيم لم تأت نهاية القرن الثاني عشر
( الميلادي ) إلا وقد انتشر بين المشتغلين بشيء من العلم رأي زعزع طمأنينة
الكنيسة وأفزع القابضين على مفاتيح القلوب بذلك الوقت الواقفين على أبوابها
يأذنون لمن شاءوا من العقائد والأفكار أن يدخل فيها ويطردون عنها ما شاءوا ذلك
الرأي الذي أخذ يتسرب إلى القلوب رغم حجابها هو أن الكون أجمع يرجع في
وجوده إلى واحد هو حياة الكل وهو روح يقوم به كل جزء منه .
وقالوا : إن الذي نشر هذا المذهب بين الناس هم تلامذة ابن رشد ففهم بعض
علمائهم من ذلك أن ابن رشد كان يقول : إن مبدإ العالم هو أصل عرضت له صور
العالم أو روح ظهر في مظاهر الكائنات كما يقول الصوفية أو نحو ذلك ، واستتبع هذا
رأيًا آخر وهو أن كل صورة من صور الموجودات إذا بطلت فإنما تعود إلى أصلها
وهو الوجود المطلق ، وظن الواهم أن الأرواح تعود بعد مفارقة الأجسام إلى
مشرقها العام ، وتفقد امتيازها فيه ، وذلك كله وإن ذهب إليه بعض النظار من
الأوربيين غير ما يقول ابن رشد ، أما ما يقول ابن رشد فهو كما ترى .
قال ابن رشد وكل من تابعه على رأيه ولم يخالفوا في ذلك أرسطو : إن
الممكن لا وجود له في ذاته وإنما يستفيد الوجود من غيره ، وقد كانوا قالوا : إن جميع
ما في الكون ما عدا واجب الوجود المبرأ من المادة وغواشيها فهو ممكن فكل ما في
العالم فهو مستفيد الوجود من غيره ، فذلك الغير إن كان ممكنًا فكي يُعطى الوجود وهو
لا وجود له إلا من غيره ، فإذا استمد منه مستمد فإنما يستمد من فضل ذلك الوجود
الذي جاءه من موجده إلى أن ينتهي إلى الوجود الأول فكل وجود سطع على
الممكنات فهو فائض من وجود الواجب فلا وجود إلا من وجوده أو كل وجود فهو
شعاع لضياء وجوده ، فإذا حرر المعنى من هذا على وجه أمكن عند العقل وجدته
يرجع إلى ما قاله السيد الشريف من أئمة أهل السنة وغيره وهو أن الممكن ليس
بشيء في ذاته ثم يكون شيئًا بالإيجاد ، والإيجاد لو حققته أمر اعتباري انتزاعي له
منشأ في الواقع ، وذلك المنشأ هو ذات الموجد وماهية الموجود الممكن التي صارت
شيئًا بتلك العلاقة الاعتبارية بينها وبين موجدها ، وهي ما يسمونها تعلق القدرة
بالمقدور ، وماهية الممكن ليست بوجود ولا الوجود أمر موجود قائم بها ، فإذًا ليس
من موجود نفس الأمر إلا وجود الواجب فكان الوجود الحقيقي واحدًا وسائر ما
يسمى وجودًا فإنما ينال ذلك بالإضافة إلى الوجود الحقيقي وأولى بالتسمية أن تكون
مجازية من أن تكون حقيقة .
مع ذلك لا يزال صاحب هذا القول يعتقد بتجرد الواجب عن المادة والمدة إلا
أن من تلقفه منه توسع فيه حتى كان من ذيوله رأي القائلين بأن الموجد الأول روح
سار في العالم وإليه يرجع كل أشخاصه لفناء شخصيتهم فيه وما هو برأي ابن رشد
ولا يعرفه .
على أن الصوفية وهم المصرحون بوحدة الوجود المعبرون بالشهود أولاً
والفناء آخرًا ، الناطقون في ذلك بما لم ينطق به أحد سواهم لم يقولوا بزوال هُوِيَّات
النفوس زوالاً حقيقيًّا بل قالوا : إنها خالدة بعد مفارقة الأبدان ولكنها تسعد في
خلودها باستغراقها في شهودها ، وذهولها عن كل ما يشغلها عن مصدر وجودها ،
فهي غنيَّة بعرفانه عن معرفتها بنفسها وهو ما يعبر عنه بالفناء ولذته ، والمحو
وبهجته ، وهو معنى تقصر دون إيضاحه العبارات ، وإن كفى في تعريفه لأهله
أخفى الإشارات .
ولعل الجامعة لا تعتب على الكاتب فيما كتب أو فيما أجاب به من طلب فقد
وفى حقًّا لها لو أغفله مع علمها بالقدرة عليه ، لحق لها أن توجه العتب إليه .
هذا ما أردنا إيجاز القول فيه متعلقًا بفلسفة المتكلمين ورأي الفليسوف وسنتبعه بمقال آخر فيما حكمت به الجامعة من الكلام على الاضطهاد في النصرانية والإسلام ،
إن شاء الله تعالى .
__________
(1) ذكرت الجامعة الغراء أن منبع هذا الروح النظامي في مجلة المنار واستشهدت لذلك بالتفسير الذي نقتبسه من دروس الأستاذ الإمام كبير رجال النهضة الإسلامية الحاضرة .
(2) المنار يشير إلى ما جاء في إنجيل لوقا من الباب 11 (23 لأني) الحق أقول لكم : إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون ، فمهما قال يكون له ، 24 لذلك أقول لكم كلما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوا فيكون لكم .
(5/361)
 
الكاتب : محمد عبده

الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم

طبيعة الإسلام مع العلم بحكم أصوله
( تمهيد للأصل الأول ) للإسلام في الحقيقة دعوتان : دعوة إلى الاعتقاد
بوجود الله وتوحيده ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأما
الدعوة الأولى فلم يُعَوَّل فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في
الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب
وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعًا واجب الوجود عالمًا
حكيمًا قادرًا وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان ، وأطلق للعقل البشري
أن يجري في سبيله الذي سَنَّتْهُ له الفطرة بدون تقييد فنبَّهه إلى أن خلق السموات
والأرض واختلاف الليل والنهار وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن
يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب فينزل من
السحاب ماء فتحيي به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر مما
فيه رزق الحي وحفاظ حياته - كل من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل منها إلى
معرفته .
ثم قد يزيده تنبيهًا بذكر أصل للكون يمكن الوصول إلى شيء منه بالبحث في
عوالمه فيذكر ما كان عليه الأمر في أول خلق السموات كما جاء في آية : { أَوَ لَمْ
يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ( الأنبياء : 30 ) ونحوها من الآيات ، وهو إطلاق لعنان العقل
البشري شوطه الذي قدر له في طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان ، وقد
يزيد التنبيه تأثيرًا في إيقاظ العقل ما يؤيد ذلك من السنة كما جاء في خبر من سأل
النبي صلى الله عليه وآله : أين كان ربنا قبل السموات والأرض فأجابه عليه السلام :
( كان في عماء تحته هواء ) [1] والعماء عندهم السحاب ، فنرى القرآن في مثل
هذه المسألة الكبرى لا يقيد العقل بكتاب ، ولا يقف به عند باب ، ولا يطالبه فيه
بحساب ؛ فليقرأ القارئ القرآن ، يغنني عن سرد الآيات الداعية إلى النظر في آيات
الكون - { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } ( الأعراف : 185 ) ، { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ } ( يس : 33 ) - { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُم } ( الروم : 22 ) وأمثال ذلك ، فلو أردت سرد جميعها لأتيت بأكثر من
ثلث القرآن بل من نصفه في مقالي هذا .
يذكر القرآن إجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكًا للعبرة ، وتذكيرًا بالنعمة ،
وحفزًا للفكرة ، لا تقريرًا لقواعد الطبيعة ، ولا إلزامًا باعتقاد خاص بالخليقة ،
وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل ، انظر كيف يقرع بالدليل :
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ( الأنبياء : 22 ) { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ } ( المؤمنون : 91 ) .
فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء
سوى الدليل العقلي ، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري ، ( وهو ما
نسميه بالنظام الطبيعي ) فلا يدهشك بخارق للعادة ، ولا يغشي بصرك بأطوار غير
معتادة ، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية ، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية ،
وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا
يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزَّلة [2] فإنه لا يعقل
أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل
كتابًا أو يرسل رسولاً .
وقالوا كذلك : إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر
لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل
عليهم من الكتاب والحكمة .
وأما الدعوة الثانية فهي التي يحتجّ بها الإسلام بخارق العادة ، وما أدراك ما
هو الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي
عليه السلام ؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره ، ولم ينقطع أثره ، هذا هو
الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو
وَهِيَ فليس مما يوجب القطع عند المسلمين . فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على
سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله ، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله ، ذلك
الخارق المتواتر المُعَوَّل عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده .
والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من
اختراع البشر هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم وقد
نزل على وتيرة واحدة ، هاديًا للضال مقومًا للمُعْوَجِّ كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي
به من الأمم ، منقذًا لهم من خسران كانوا فيه وهلاك كانوا أشرفوا عليه . وهو مع
ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه حتى لقد دُعِيَ
الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجوزا ولجأوا إلى المجالدة
بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجأوهم إلى الدفاع عن حقهم
وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد
عالمها بأضوائها ، وتنشر أنوارها في جِوائها .
وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم وطولبوا بأن يأتوا في
نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإما وجدوا طريقًا لإبطال إعجازه أو كونه لا
يصلح دليلاً على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } ( البقرة : 23 ) وقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } ( النساء : 82 ) وقال
غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم
من العقل .
معجزة القرآن جامع من القول والعلم ، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم ،
فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها وأطلقت له حق النظر في
أحنائها ، ونشر ما انطوى في أثنائها ، وله منها حظه الذي لا ينتقض ، فهي معجزة
أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها ، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها ،
أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من
جسم أو شفاء علة من بدن فهي مما ينقطع عنه العقل ، ويجمد لديه الفهم ، وإنما
يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ، ولم تضئ عقولهم بنور العلم ،
وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات[3] .
ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلاً على الحق لغير الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا
شيئًا من سنة الله في الخليقة ولا حاجة إلى بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى
تعريف .
***
( الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل الإيمان )
فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي ، والنظر عنده هو وسيلة
الإيمان الصحيح فقد أقامك معه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل ، ومن قاضاك
إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته ، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه .
بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة : إن الذي يستقصي
جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو
ناج ، فأي سعة لا ينظر إليها الحَرِجُ أكمل من هذه السعة .
***
( الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض )
أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره : اتفق
أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا يُنْظَرُ إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل
أُخِذَ بما دل عليه النقل وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع
الاعتراف بالعجز عن فهمة وتفويض الأمر إلى الله في علمه ، والطريق الثانية
تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل ،
وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم مُهِّدَتْ بين يدي العقل كل سبيل ، وأُزِيلَتْ من سبيله جميع العقبات ،
واتسع له المجال إلى غير حد ، فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما
هو أبعد من هذا ؟ أي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا
الفضاء ؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ، ولا
سماء بأجرامها وأبعادها .
***
( أصل ثالث من أصول الأحكام في الإسلام البعد عن التكفير )
هلا ذهبت من هذين الأصلين إلى ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد
أحكام دينهم وهو : إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل
الإيمان من وجه واحد حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر ، فهل رأيت
تسامحًا مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا ؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من
الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من مائة وجه ؟ إذا بلغ به الحمق هذا
المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه
فيلقى في النار .
***
( أصل رابع في الإسلام الاعتبار بسنن الله في الخلق )
يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتقاد - وهو أن لا يعول بعد الأنبياء في الدعوة
إلى الحق على غير الدليل وأن لا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات -
أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها
في معاشها ومعادها ، ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من
البشر وفي آثار سيرهم فيهم ، فما جاء في الكتاب العزيز مقررًا لهذا الأصل
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ } ( آل عمران : 137 ) ، { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلاً } ( الإسراء : 77 ) ، { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } ( فاطر : 43 ) ، { أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } ( الروم : 9 ) إلخ .
في هذا يصرح الكتاب بأن لله في الأمم والأكوان سننًا لا تتبدل والسنن
الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حَسَبِهَا تكون الآثار وهي التي
تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها بالقوانين ، ما لنا ولاختلاف العبارات والذي
ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير
ولا يتبدل وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام
حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه ، فإن غفل عن ذلك غافل
فلا ينتظرن إلا الشقاء ، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه ، أو اتصل بالمقربين سببه
فمهما بحث الناظر وفكّر وكشف وقرَّر ، وأتى لنا بأحكام تلك السنن ، فهو يجري
مع طبيعة الدين ، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه ، ولا تنفر منه ، فَلِمَ لا يعظم
تسامحها معه .
جاء الإسلام لمحو الوثنية عربية كانت أو يونانية أو رومانية أو غيرها في أي
لباس وجدت ، وفي أي صورة ظهرت ، وتحت أي اسم عرفت ، ولكن كتابه عربي
والعربية لغة أولئك الوثنيين ، أعدائه الأقربين ، وفَهْم معناه موقوف على معرفة
أوضاع اللسان ولا تُعْرَف أوضاعه حتى تُعْرَف مواضع استعمال كَلِمِه وأساليبه ،
ولن يكون ذلك إلا بحفظ ما نطق به العرب من منظوم ومنثور وفيه من آدابهم
وعاداتهم واعتقاداتهم ما يعيد عند الناظر في كلامهم صورة كاملة من جاهليتهم وما
فيها من الوثنية وأطوارها ، وهكذا صنع المسلمون الأولون ركبوا الأسفار ، وأنفقوا
الأعمار ، وبذلوا الدرهم والدينار في جمع كلام العرب وحفظه وتدوينه وتفسيره
توسلاً بذلك إلى فهم كتابهم المنزل فكانوا يعدون ذلك ضربًا من ضروب العبادة
ويرجون من الله فيه حسن المثوبة فكان من طبيعة الدين أن لا يحتقر العلم للدين
الذي ولد فيه ، بل قد يكون من الدين عِلْمُ ما ليس منه متى حَسُنَتْ النية في تناوله ،
وهذا باب من التسامح لا يقدر سعته إلا أهل العلم به ، أما المسيحيون الأولون فقد
هجروا لسان المسيح عليه السلام سريانيًا كان أو عبرانيًا وكتبوا الأناجيل باللغة
اليونانية ولم يكتب في العبرية إلا إنجيل متّى فيما يقال ، ألا ترى أن اسم الإنجيل
نفسه يوناني ؟ كل ذلك كراهةً لليهود الذين كان ينطق المسيح بلسانهم ويعظهم
بلغتهم وَتَحرُّجًا من النظر في دواوين آدابهم ، وما توارثوا من عاداتهم .
***
( الأصل الرابع للإسلام قلب السلطة الدينية )[4]
أصل من أصول الإسلام أنتقل إليه وما أجلّه من أصل قلب السلطة الدينية
والإتيان عليها من أساسها ، هَدَمَ الإسلامُ بناءَ تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها
عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم ، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا
على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه ، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغًا
ومُذكرًا لا مُهيمنًا ومُسيطرًا قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم
بِمُسَيْطِرٍ } ( الغاشية : 21-22 ) ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا
في الأرض ولا في السماء بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه
وبين الله سوى الله وحده ، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده ، وليس لمسلم
مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهم انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة
والإرشاد قال تعالى في وصف الناجين : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( وَالعصر : 3 ) وقال : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } ( آل عمران : 104 ) وقال : { فَلَوْلاَ
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ } ( التوبة : 122 ) .
فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعوهم إلى الخير وهم المراقبون
عليها يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه ، وتلك الأمة ليس لها فيهم إلا
الدعوة والتذكير ، والإنذار والتحذير ، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتبع
عورة أحد ، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد ، وليس يجب
على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن
رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف ، وإنما يجب عليه قبل
ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها
وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله
عليه وسلم وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي وشيء من الناسخ والمنسوخ
من الآثار ، فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة
والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما وله بل عليه أن يطالب المجيب
بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من
الأعمال ، فليس في الإسلام من يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه .
***
( السلطان في الإسلام )
لكن الإسلام دين وشرع فقد وضع حدودًا ورسم حقوقًا ، وليس كل معتقد في
ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله ، فقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة فيغمط
الحق ، أو يتعدى المتعدي الحد فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وُجِدَتْ
قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة ، وتلك القوة لا
يجوز أن تكون فوضى علي عدد كثير فلا بد أن تكون في واحد وهو السلطان أو
الخليفة .
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ، ولا هو مهبط الوحي ، ولا من حقه
الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة ، نعم شرط فيه أن يكون مجتهدًا أي أن يكون من
العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذِكْره بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب
والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل
والصحيح والفاسد ، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا .
هو على هذا ، لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية ، ولا
يرتفع به إلى منزلة ، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء ، إنما يتفاضلون بصفاء
العقل ، وكثرة الإصابة في الحكم [5] ثم هو مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب
والسنة ، والمسلمون له بالمرصاد ، فإذا انحرف عن النهج أقاموا عليه ، وإذا اعْوَجَّ
قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه [6] ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) [7] فإذا
فارق الكتاب والسنة في عمله ، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ، ما لم يكن في
استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه [8] فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه ، والأمة
هي صاحبة الحق في السيطرة عليه ، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها
فهو حاكم مدني من جميع الوجوه .
ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج
( تِيوُكَراتِيك ) أي سلطان إلهي ، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن
الله وله حق الأثرة بالتشريع ، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة وما
تقتضيه من العدل وحماية الحَوْزَة بل بمقتضى الإيمان فليس للمؤمن ما دام مؤمنًا أن
يخالفه وإن اعتقد أنه عدو لدين الله ، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما
يعرفه من شرائعه ؛ لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر
ظهر هو دين وشرع ، وهكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى ، ولا تزال
الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة إلى اليوم كما سبقت الإشارة إليه .
كان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية
فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه ،
تشرع وتنسخ ما تشاء وتراقب وتحاسب كما تشاء وتحرم وتعطي كما تريد وخول
السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض وحق السيطرة على
ما يحفظ نظام اجتماعهم ، في معاشهم لا في معادهم ، وعدوا هذا الفصل منبعًا للخير
الأعم عندهم ، ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في
شخص واحد ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين
وهو واضع أحكامه وهو منفذها ، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب
بالإخضاع ، وفي العقول بالإقناع ، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع ، ويبنون
على ذلك أن المسلم مستعبدًا لسلطانه بدينه ، وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان
يحارب العلم ، ويحمي حقيقة الجهل ، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح
مع العلم ما دام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين ، وقد تبين لك أن
هذا كله خطأ محض وبُعْد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام ، وعلمت
أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة ، والدعوة إلى الخير ،
والتنفير عن الشر ، وهي سلطة خَوَّلَها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم ،
كما خَوَّلَها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم ، ومن هنا تعلم ( الجامعة ) أن مسألة
السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره ، وتحرج به نفسه عن احتمال
العلم ، وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون والأندلسيون من
صنائع المعروف مع العلم والعلماء ، وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد
يقولون : إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ
الإسلام ، وأقول : إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير
الأحكام وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قرَّرَها الشرع
الإسلامي ، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته
لربه أو يُنازعه في طريق نظره .
***
( الأصل الخامس للإسلام حماية الدعوة لمنع الفتنة عن المسلمين )
قالوا : إن الدين الإسلامي دين جهادي شُرِعَ فيه القتال ، ولم يكن شرع في الدين
المسيحي ، ففي طبيعة الدين الشدة على من يخالفه وليس فيها ذلك الصبر والاحتمال
اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة وهي الشريعة التي وردت في كثير من الوصايا
المسيحية ( مَنْ ضَرَبَك على خدك الأيسر فأَدِرْ له خدك الأيمن ، من سَخَّرَكَ مِيلاً
فَسِرْ معه مِيلينِ ) ونحو ذلك ، حتى لقد طلبت فيها محبة الأعداء وإن كانت محبة
العدو مما لا يدخل تحت الاختيار بل ولا محبة الصديق وإنما الاختياري العدل بين
الأعداء والأولياء لكن في ملكوت الله كل شيء مُستطاع ولا شيء فيه بمستحيل ،
قلنا : لكن انظروا هل دَفع الشر بالشر عند القدرة عليه وعند عدم التمكن من سواه
خاص بالدين الإسلامي أو هو في طبيعة كل قادر يُعْذِرُ إلى خَصْمِهِ ؟ ليس القتل في
طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة : { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على
الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم ويضمن السلامة من غوائلهم ، ولم يكن ذلك للإكراه
على الدين ولا للانتقام من مخالفيه ولهذا لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية ، ما
تسمعه في الحروب المسيحية ، عندما اقتدر أصحاب ( شريعة المسالمة ) على
محاربة غيرهم من قتل الشيوخ والنساء والأطفال .
لم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة كما وقع كثير من الحروب بهذا القصد
بأيدي المسيحيين ، وإنما كان الصبر والمسالمة دينًا عندما كانت القدرة والقوة تعوزان
الدين ، وغاية ما يقال : إن العناية الإلهية منحت الإسلام في الزمن القصير من
القوة على مدافعة أعدائه ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل ، فتيسر له في شبيبته
ما لم يتيسر لغيره إلا في كهولته أو شيخوخته .
***
( مقابلة بين الإسلام الحربي والمسيحية السلمية )
الإسلام الحربيّ كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض تحت سلطانه ثم يترك
الناس وما كانوا عليه من الدين يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك
الاعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونًا على صيانتهم والمحافظة على
أمنهم في ديارهم وهم في عقائدهم وعباداتهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار لا يُضايَقُون
في عمل ولا يضامون في معاملة خلفاء المسلمين كانوا يُوصون قوادهم باحترام
العُبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة كما كانوا
يصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ، وكل من لم يُعِن على القتال ، جاءت السنة
المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين
( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) و ( من آذى ذميًّا فليس منا ) واستمر العمل على
ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه
الأحكام ، عند ما بدأ الضعف في الإسلام - وضِيقُ الصدر من طَبْعِ الضعيف فذلك
مما لا يُلْصَق بطبيعته ، ولا يُخْلَط بطينته .
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها
تراقب أعمال أهله وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر
مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم
وتعميدهم أَجْلَتهْمُ عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في
كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقيًّا ، لا يمنع غير المسيحي من
تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ وكما يشهد كاتبوه ،
ذلك كله ؛ لأنه ما جاء ليلقي سلامًا بل سيفًا ؛ ولأنه جاء ليفرق بين البنت وأمها
والابن وأبيه [9] والإسلام يقول كتابه في شأن الوالدين : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيّ } ( لقمان : 15 ) . فهو في اشتداده على المهددين لأمنه لا يقضي
بالفُرْقَة بين أب وابن ولا بين أم وبنت ، بل يأمر الأولاد المؤمنين أن يصحبوا
آباءهم المشركين بالمعروف في الدنيا مع محافظتهم على دينهم .
فأنت ترى الإسلام من جهة يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها
بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك
عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم ، ومن
جهة أخرى ينهي أفراد المؤمنين عن مقاطعة ذوي قربانهم من المشركين ويطالبهم
بحسن معاملتهم .
ففي طبيعته أن يَكل أمر الناس في سرائرهم إلى ربهم ، وفي طبيعته أن يجير
من لا يعتقد عقيدته ، ويحمي من لا يتبع سنته ، وإن كان في عمًى من الجهالة وخَبَل
من الضلالة ، أَفَتَرى أنه يصعب عليه بعد ذلك أن يحتمل العلم والعلماء ، ويضيق به
حلمه عن صنع الجميل بالفضل والفضلاء ، ممن ينفق عمره في تقرير حقيقة ، أو
كشف غامض أو تبيين طريقة ؟ كلا ثم كلا ، فمن بحث ونقب ، وسبر ونقر ، أو
شق الأرض ، أو ارتقى إلى السماء فهو في أمن من أن يعرض الإسلام له في شيء
من عمله إلا أن يُحْدِث شغبًا ، أو يُفْسِد أدبًا ، فعند ذلك تمتد يد الملك لرد كيد
الكائد ، وإصلاح الفاسد ، بسماح من الدين .
***
( الأصل السادس مودة المخالفين في العقيدة ) [10]
المصاهرة : أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية
وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها ،
والقيام بفروض عبادتها ، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها ، وهي منه بمنزلة البعض
من الكل ، وألزم له من الظل ، وصاحبته في العز والذل ، والترحال والحل ، بهجة
قلبه ، وريحانة نفسه ، وأميرة بيته ، وأم بناته وبنيه ، تتصرف فيهم كما تتصرف
فيه ، لم يفرق الدين في حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم
تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( الروم : 21 ) فلها حظها من المودة ، ونصيبها
من الرحمة ، وهي كما هي ، وهو يسكن إليها كما تسكن إليه ، وهو لباس لها كما
أنها لباس له ، وأين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب
الزوجة وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة على ما عُهِدَ في طبيعة البشر ،
وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم ، وذوي القربى لوالدتهم ، أيغيب
عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذي لم
يُعْهَد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه [11] .
ولا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في نشأة الدين
مما يُعَوِّد القلوب على الشعور بأن الدين معاملة بين العبد وربه ، والعقيدة طور من
أطوار القلوب ، يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب ، فهو الذي يحاسب عليها ، أما
المخلوق فلا تطول يده إليها ، وغاية ما يكون من العارف بالحق أن ينبه الغافل ، ويعلم
الجاهل ، وينصح للغاوي ، ويرشد الضال ، لا يكفر في ذلك نعمة العشير ، ولا يسلك
مسالك التعسير ، ولا يقطع أمل النصير ولا يخالف سنة الوفاء ، ولا يحيد عن
شرائع الصدق في الولاء ، ماذا ترى في الزوجة الكتابية لو كانت من أهل النظر
العقلي وذهبت مذهبًا يخالف مذهب زوجها ؟ أفينقص ذلك من مودته لها ، أو يضعف
من شعور الرحمة التي أفاضها الله بينه وبينها ، فإذا كان المسلم يتعود الاحتمال بل
يتعود المحبة والنصرة لمن يخالفه في عقيدته ، ودينه وملته ، ويألف مخالطته
وعشرته ، وولايته ونصرته ، أتراه لا يحتمل أن يرى بجواره من يُعْمِل نظره في
نظام الخليقة ليصل منه إلى اكتشاف سر أو تقرير أصل في علم أو قاعدة لصناعة
وإن كان قد يخالف ظاهرًا مما يعتقد ، أو يميل إلى رأي غير الذي يجد ، أفلا يسع
هذا ما يسع المجاهر بالخلاف ، وهو معه على ما رأيت من الائتلاف ؟ ؟
لو ذهبت أعد ما في طبيعة الإسلام من عناصر وأركان كلها تؤلف مزاج
الكرم ، وتكون حقيقة المسامحة مع العلم ؛ لأطلت على القارئ أكثر مما أطلت
ولهذا أرى من الواجب عليّ أن أختم القول بذكر أصل أشرت إليه ولا غنى لما نحن
فيه عن ذكره .
***
( الأصل السابع للإسلام الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة )[12]
الصحة : الحياة في الإسلام مقدمة على الدين ، أوامر الحنيفية السمحة إن
كانت تختطف العبد إلى ربه ، وتملأ قلبه من رَهَبِهِ ، وتفعم أمله من رَغَبِهِ ، فهي
مع ذلك لا تأخذه عن كَسْبِهِ ، ولا تحرمه من التمتع به ، ولا توجب عليه تقشف
الزهادة ، ولا تُجَشِّمه في ترك اللذات ما فوق العادة .
صاحب هذا الدين صلى الله عليه وسلم لم يقل ( بع ما تملك واتبعني ) ولكن
قال لمن استشاره فيما يتصدق به من ماله : ( الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) [13] .
الرُّخص : فرض الصوم على المؤمنين لكن إذا خشي منه المرض أو زيادته
أو زادت المشقة فيه جاز تركه بل قد يجب إذا غلب على الظن الضرر فيه ،
الوضوء والغسل من شروط الصحة للصلاة إلا إذا خشي منه الضرر أو عرضت
مشقة في تحصيل الماء . القيام مما لا تصح الصلاة إلا به إلا إذا أصابت المصلي
مشقة فيه فيسقط ويصلي قاعدًا . السعي إلى الجمعة واجب إلا إذا كان وحل غزير
أو مطر كثير أو ما يوجب تعبًا ومشقة فيسقط .
وهكذا تجد القاعدة قد عمت : ( صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان ) فترى
الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح .
الزينة والطيبات : أباح الإسلام لأهله التجمل بأنواع الزينة والتوسع في
التمتع بالمشهيات على شريطة القصد والاعتدال وحسن النية ، والوقوف عند الحدود
الشرعية ، والمحافظة على صفات الرجولية ، جاء في الكتاب العزيز :
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ( الأعراف : 31-33 ) ثم عد الله النعيم والجمال والزينة من نعمه علينا التي يذكرنا
بها فضله ، ويهيج بها نفوسنا لذكره وشكره ، كما قال : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ *
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ( النحل : 5-8 )
ثم قال : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( النحل : 14 ) .
الاقتصاد : ووضع قانونًا للإنفاق وحفظ المال في قوله : { إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } ( الإسراء : 27 ) ، { وَلاَ تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورا } ( الإسراء : 29 ) .
النهي عن الغلو في الدين : وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة
فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قَصَّهُ علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع
بنعم الله علينا في الدنيا إذ قال : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُحِبُّ المُفْسِدِينَ } ( القصص : 77 ) .
فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها ،
فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقته واعتبره حيوانًا ناطقًا لا جسمانيًا صرفًا ، ولا
ملكوتيًا بحتًا ، جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة ، استبقاه من أهل هذا
العالم الجسداني ، كما دعاه إلى أن يطلب مقامه الروحاني ، أليس يكون بذلك وبما
بينه في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } ( البقرة : 29 ) قد
أطلق القيد عن قواه ، لتصل من رقة الحياة ( مع القصد ) إلى منتهاه ، والنفوس
مطبوعة على التنافس ، قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرًا ، أو تجده لذيذًا
أو تظنه نافعًا .
وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها
السعي إلى غاية لا مطلع للرغبة وراءها ، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في
أطوار الكمال من جميع وجوهه إلى ما شاء الله أن ترقى بدون حدٍ معروف .
فإذا جمع سائق الأنفس ومُزْجِيها ومرشدها وهاديها بين شاحذين : شاحِذ التمتع
بمتاع الحياة الدنيا ، وشاحذ الرغبة في النعيم الدائم في الآخرة ، فقد جمع لها كل ما
يسمو بها عن الرضاء في الدنيا بالدون ، وفي الآخرة بعذاب الهون ، فترى كل نفس
تمضي مع استعدادها ، بشهامة فؤادها ، مضاء الزَّميعِ [14] لا تخشى العثرة بالوعيد ،
ولا تقعد عن مطلبها قِعدة الرِعديد [15] فتطلب منافعها ، من هذا الكون الذي
وُجدت فيه ووجد فها ، فتسير في مناكب الأرض ، ولا تكتفي عن الكل بالبعض ،
وتبحث في تربتها ، و لا يقف بها ظاهرها عن باطنها ؛ ولا يحجبها ظهرها عن
مديديها إلى ما في جوفها ، ولا تجد ما يصدُّها عن النظر في الهواء ، والبحث في
الماء ، والاهتداء بنجوم السماء بعد معرفة مواقعها وحركتها في مداراتها واستقامتها
وانحرافها ، وظهورها وخنوسها ، وبالجملة فكل مستعدِّ لوجه من وجوه النظر أو
الولوج في باب من أبواب العلم ، ينطلق إلى حيث يبلغ به استعداده إما للنجاة من
ضرورة ، وإما لاستتمام منفعة أو استكمال لذة لا يجد من نواهي الدين ما يصدّه عن
مطلب ، ولا ما يكف يده عن تناول رغيبه ، أين هذا من ذلك الذي لا يرى الخلاص
إلا في مجافاة هذا العالم ولذائذه ويجد أن الغنى والثروة من الحجب التي لا تُخرق
تحول بينه وبين ملكوت السموات .
كيف يتسنّى للمسلم أن يشكر الله حق شكره ، إذا لم يضع العالم بأسره تحت
نظر فكره لينفذ من ظاهرة إلى سرّه ويقف على قوانينه وشرائعه ويستخدم كل ما
يصلح لخدمته في توفير منافعه ، كيف يشكر الله إذا توانى في ذلك وقد أرشده الله
في كتابه وبسنة نبيه إلى أن عالمه إنما خلق لأجله ، وقد وضعه الله تحت تصرف
عقله ، انظر إلى لطف الإشارة في الآية المتقدمة { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } ( الأعراف : 32 ) إلخ ، حيث قال : { ِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( الأعراف : 32 ) فأهل العلم هم الذين يعرفون مقدار نعم الله تعالى فيما يرفه به
معيشتهم ، ويُجَمّل به هيأتهم ويجلي به زينتهم .
المسلمون مسوقون بنابل من دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة
والمجد ولا يرضيهم من ذلك بما دون الغاية ولا يتوفر شيء من وسائل ذلك إلا
بالعلم ، فهم محفوزون أشدَّ الحفوز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان ، وتلقيه من
أيّة شفة وأي لسان ، فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل أو عثروا به في أي جيل ، أو
ظهر لهم من أي قبيل ، هشوا له وبشوا ونصبوا إليه وكمشوا [16] ، وشدوا به
أواصرهم ، وعقدوا عليه خناصرهم ، ولا يبالون ما تكون عقيدته ، إذا نفعتهم
حكمته ، ( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ) [17] ألم يأتهم عن
ربهم : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( البقرة : 269 ) ألم يسمعوا في وصفهم قوله : { الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه } ( الزمر : 18 ) ذلك شأن المسلم مع العلم إذا كان
مسلمًا حقًّا . وذلك ما تنجرُّ إليه طبيعة دينه . وحديث ( اطلبوا العلم ولو
بالصين )[18] إن كان في سند لفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقال فسند معناه
متواتر فإنه سند القرآن نفسه فإن الله يفضل العلم بدون قيد ولا تخصيص . فالمسلم
مطالب بطلب العلم ولو في الصين ولم يكن في الصين مسلم على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم لا شيء ينقلب عند النفس الإنسانية لذة بنفسه وإن كان في أول أمره
مطلوبًا لغيره مثل العلم . تطلب العلم أولاً لحاجتك إليه في تقويم معيشة أو ترفيه
حال ، أو دفاع عن نفس وماله ، ثم لا تلبث إذا أوغلت فيه أن تجد اللذة في
العلم نفسه فتصيب اللذة بتحصيله والوصول إلى دقائقه غاية تقصد بنفسها .
وتضمحل فيها كل غاية سواها وعلة ذلك ظاهرة فإن العلم مسرح نظر النقل ،
والعقل قوة من أفضل القوى الإنسانية بل هي أفضلها على الحقيقة قد وضع لها
العليم الحكيم لذة كما منح لكل قوة سواها نعيمًا ولذة . ولست في حاجة إلى تعديد لذة
البصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس فالحيوان يعرفها بله الإنسان .
وكلما عظم اختصاص القوة بالنوع عظمت لذته باستعمالها فيما وجهت له
فيمكنك أن تستنتج من ذلك أن لا شيء عند الانسان ألذ من كشف المجهول . وإحراز
المعقول . وقد سمح الإسلام للمسلم أن يتمتع في هذه الحياة الدنيا بما يلذ له مع
القصد والاعتدال . أفلا يكون من لذائذه ومتممات نعيمه أن يسيح في مملكة العلم
ليتمع عقله ، كما يسيح في بسيط الأرض ليكسب رزقه ويُقيت أهله على أن العلم
كان من ضروريات معيشة المسلم أو حاجياتها كما ذكرنا فإذا طفق يستنبط ماءه
للضرورة ، ويستجلي سناءه للحاجة ، فلا يلبث أن يصير هو حاجة نفسه ، وشاغله
عن حاجات حسه ، حتى يدخل معه في رَمْسِهِ ، كما وقع لكثير من المسلمين . قال إمام
جليل من أئمتهم ( طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ) .
... ... ... ... ... ( له بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن أبي رزين السائل رضي الله عنه .
(2) المنار : أي لا يؤخذ منها بالتسليم بناء على أنها من الله ولا ينافي هذا أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل وكتبهم بما يقيمون من البرهان على ذلك لا بمجرد التسليم ولا باعتبار أنهم رسل الله ، ثم بعد الإيمان بالله وبهم يكمل إيمانه بالأخذ عنهم .
(3) راجع الصفحة 731 من مجلد المنار الرابع وانظر الكلام في الآيات الكونية والآيات النفسية العلمية .
(4) هذا الأصل هو ضد الأصل الثاني من أصول النصرانية (راجع ص 414) .
(5) المنار : من شواهد ذلك ارتفاع قدر العلماء على الخلفاء الذين قصروا عنهم في الفهم والعلم ألم يأتك نبأ الإمام مالك مع الخليفة هارون الرشيد (رحمهما الله) وكيف أنزل الإمام الخليفة عن المنصة وأقعده مع العامة عند إلقاء الدرس ؛ لأنه في رتبة المستفيد .
(6) من شواهد ذلك قول الخليفة الأول رضي الله عنه في خطبته : (وإن زغت فقوموني) راجع 734 من مجلد المنار الرابع .
(7) حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما (راجع 732 من مجلد المنار الرابع) .
(8) مثال ذلك أن يكون له عصبية أقوى من الأمة يخشى أن يبيدها بها (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) .
(9) تقدم نص إنجيل متى في هذا ومثله قول إنجيل لوقا 15-25 و26 (وقال لهم (يسوع) : إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وإخوانه حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا ) وفي الباب 19 من هذا الإنجيل ما نصه (27 أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم تأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) وأما أسفار التوراة فقد جاء فيها نحو ذلك في القسوة مع الأهلين المخالفين ومع سائر المحاربين قال في 13 : 6-9 من تثنية الاشتراع (وإذا أغواك سرًا أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصاء الأرض إلى أقصائها فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره بل قتلاً تقتله إلخ) وفي سفر التثنية أيضا (20 : 10-16) ما نصه (حين تقرب من مدينة لتحاربها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسلم لك بل عملت معك حربًا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم ، وكلّ ما في المدينة كُلْ غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك الذي أعطاك الرب إلهك وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة جدًا منك التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا ، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا نستبق منهم نسمة ما) .
(10) هذا الأصل الإسلامي هو ضد الأصل السادس للنصرانية (راجع ص 418) .
(11) المنار : يقول بعض النصارى : إذا كان الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ليعلم البشر التآلف والتعاطف مع التباين في العقيدة والتخالف فلماذا لم يسمح للكتابي أن يتزوج بالمسلمة لهذا الغرض ؟ والجواب أن الرجال قوامون على النساء ؛ لأنهم أقوى منهن فليس من العدل ولا من الرحمة أن يسمح لقوي يفرق دينه بينه وبين زوجته الضعيفة ويأمره ببغضها وببغض أولاده ووالديه إذا خالفوا عقيدته أن يتزوج بامرأة مخالفة ، وأباح الإسلام ذلك لمن يعمل بما أمر من العدل والرحمة وهو المسلم .
(12) هذا الأصل ضد الأصل 3 للنصرانية (راجع 413 من المنار) .
(13) المنار : يشير الكاتب إلى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة : كان سعد مريضًا في حجة الوداع فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وكان عازمًا على الصدقة بثلثي ماله وفي رواية بماله كله فسأله النبي عما ترك لولده فقال : هم أغنياء وفي رواية الجماعة أنه لم يكن له إلا بنت وفي رواية أحمد والنسائي أنه أمره أولاً بأن يتصدق بالعشر والحاصل أنه ما زال يراجعه حتى رضي صلى الله عليه بالثلث وحرم الزيادة بالحديث .
(14) هو الحازم القوي العزيمة يزمع على الأمر فيمضي فيه ولا ينثني ، والجيد الرأي المقدام .
(15) الرِّعديد الجبان الكثير الارتعاد .
(16) لعل نَصَبوا من نَصَب السَّير وهو أن يسير طول يومه سيرًا ليّنا وكَمِشَ الرجل كان سريعًا ماضيًا وكَمًشَ كماشة شجع أسرع .
(17) المنار - حديث رواه الترمذي عن أبى هريرة ، ورواه غيره بألفاظ أخرى والمعنى واحد ومنه رواية موقوفة على ابن عمر رضى الله عنهما (خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت) وفي رواية عن علي كرم الله وجهه (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) .
(18) رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شُعب الإيمان والمدخل وابن عبد البر في العلم والخطيب في الرحلة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم ، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا .
(5/441)
 
الكاتب : محمد عبده
__________
الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام
المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
ربما يسأل سائل فيقول : سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه
الحقيقي ، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم
الكونية ، ومقوّمي العقول البشرية ، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء
العلوم العقلية ، والفنون العصرية ، أوَليس الناس تبعًا لهم ؟ أفلا يكون للأديب عذره
فيما يراه ويسمعه حوله ؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية
كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة ،
ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال : إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد
يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله ،
فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم ، وسَكَنَةُ الأثواب
العَباعِب ، وقالوا : إنه مرق من الدين ، أو جاء بالإفك المبين ، ثم رفع أمره إلى
الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن . فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان
أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور ،
ومهيمن على الحق لا يحيف ، إلخ ما يقال في الشكوى . فأجيب طلبه لكن لم ينفعه
ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم
يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب ، ولا الآكل والشارب .
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي ( والد السنوسي صاحب الجغبوب )
كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية ، وجاء في
كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد
يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين . فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية ( رحمه
الله تعالى ) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب
الشيخ السنوسي ليطعنه بها ؛ لأنه خرق حرمة الدين ، واتبع سبيلاً غير سبيل
المؤمنين ، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه
وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة ، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة ،
وارتكاب الجريمة باسم الشريعة ، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ
المالكي .
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام
بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في
استهجان إدخال علم تقويم البلدان ( الجغرافيا ) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع
الأزهر ؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين . أم لم تنشر في العام
الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة
التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة ؟
ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان و الهند والعجم من شدة التمسك
بالقديم ، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين ، وإقامة الحرب على كل من
حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم ، وإن كان في البقاء عليه تلفهم ،
وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع
بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون ، وإن أجمع
عليها المسلمون الآخرون .
ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء
وجَلَبَةً ، وهَيْعاتٍ مضطربة ، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من
مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي ؟ ألا تقوم قيامة المتقين ، ألا
يصيحون أكتعين أبتعين : هذا عدوان على الدين ، هذا توهين لعقده المتين ، هذا
تغرير بأهله المساكين ، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له
اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم .
هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال : إنها عارض عرض عليهم ،
أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم ؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين
تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة
الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات ، والشمول في جميع الاعتبارات ،
فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة
واحدة تخرج من أفواههما وهي : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن
نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار . اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار
التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون
الأحاديث لتفهم أحكام الله منها . ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من
المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس
منه . فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد ، والتقيد به بدون التفات إلى ما
تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين ، وإليها كانت الدعوة ، ولأجلها منحت النبوة ،
فلم يكونوا للعلم أولياء ، ولا للمدينة السليمة أحبّاء .
هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على
تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها ، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم
يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن
حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم
من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع
الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف ؟ فقال
قائل لشيخ الرواق : إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف
فقال : إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه
( ممن مات ) قال : إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله .
وإذا قيل لأحدهم : إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً
لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها ، وإن أصول ديننا تسمح لنا
بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون ( وهم منا ) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك
من البديهيات قال : إنما أريد نصًّا فقهيًّا ، لا دليلاً عقليًّا .
وإذا قيل لهم : اختلت الشئون ، وفسدت الملكات والظنون ، وساءت أعمال
الناس ، وضلت عقائدهم ، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص ، فوثب بعضهم
على بعض بالشر ، وغالت أكثرهم أغوال الفقر ، فتضعضعت القوة ، واخترق
السياج ، وضاعت البيضة ، وانقلبت العزة ذلة ، والهداية ضلة ، وساكنتكم الحاجة ،
وألفتكم الضرورة ، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس ، فهلا نبهكم ذلك إلى
البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه ، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا :
ذلك ليس إلينا ، ولا فرضه الله علينا ، وإنما هو للحكام ينظرون فيه ، ويبحثون عن
وسائل تلافيه ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في
الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا
تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع . واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث
وآثار تقطع الأمل ، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل .
رأي رنان في الإسلام : هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من
طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان
الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية
مع العلم نقلته عنه الجامعة : ( على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في
وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال
المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد
الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة . إلا أنني أخشى
أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين
الإسلامي . ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة
الأديان بالمرة ؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه . والثاني : أنه لا يطيق أن تكون
الأديان عثرة في سبيله . فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة
لازب ) . ا هـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل .
فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام
بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم ، أو نجاحًا
في أعمالهم ، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين ؟ ومن أين يكون
ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين ؟ فإن لم تسلم بأن هذا
اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه ،
أو استهجان له أو احتقار لشأنه ، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن
ينفر بهم عن كل مجد ، وأن يحرمهم كل نفع ، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان
وغيره فما قولك في هذا ؟ ؟ ( له بقية )
( المنار ) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود
وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب .
(( يتبع بمقال تال ))
__________
(5/496)
 
16 رجب - 1320هـ
18 أكتوبر - 1902م
الكاتب : محمد عبده

الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم
( الجواب )
أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق ، ولمعة من الصدق ، أما ما نسمعة حولنا
من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم
إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة . وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة
والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر
ويتبعه ثالث ، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون
من حرّية الفكر يعوذون بالله منها . فإن شئت أن تقول : إن السياسة تضطهد الفكر
أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين . أعوذ بالله من السياسة ، ومن لفظ السياسة ،
ومن معنى السياسة ، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة ، ومن كل خيال
يخطر ببالي من السياسة ، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ، ومن كل شخص
يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة ، ومن ساس ويسوس ، وسائس ومسوس ،
يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين . لا
تقل : إن هذه السياسة من الدين ، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين ،
أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين ، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل
الجحيم ، { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ
ضَالَّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ( الصافات : 65 - 70 ) .
* * *
( جمود المسلمين وأسبابه)
وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام
وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون
أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته ( رينان ) وغيره . وإنما
هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة
الإسلام في أفئدتهم . وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من
عقولهم هو السياسة ، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع
خُطُوات الشيطان هو السياسة .
لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله ، وخلط فيه أهله ، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه
جنده ، وخُفِر عهده ، وكُفِر وعيده ووعده ؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده ، وإن وضح
للناظرين رشده ، أكل الزمان أهله الأولين ، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين ، لا هم
فهموه فأقاموه ، ولا هم رحموه فتركوه ، سواسية من الناس اتصلوا به ، ووصلوا
نسبهم بسببه ، وقالوا نحن أهله وعشيرته ، وحماته وعصبته ، وهم ليسوا منه في
شيء إلا كما يكون الجهل من العلم ، والطيش من الحلم ، وأفَنُ الرأي من صحة
الحكم .
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله . كان
الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا ، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له . ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي ؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم . فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم
وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه ، ويصطنعها بإحسانه ، فلا تساعد
الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك . وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما
يبيح له ذلك . هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا .
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من
ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه ، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى
تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم
ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين . بل جاءوا إلى
الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم . لبسوا الإسلام على أبدانهم ، ولم ينفذ منه
شيء إلى وجدانهم ، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ، ويصلي مع
الجماعات لتمكين سلطته ، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم . ومنهم من
تولى أمره ، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم
قبح سيرهم ؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم . أما العلم فلم يحفلوا بأهله ،
وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن
يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة ، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم
العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه . ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية
الدين . زعموا الدين ناقصًا ليكملوه ، أو مريضًا ليعلِِّلوه ، أو متداعيًا ليدعموه ؛ أو يكاد
أن ينفضّ ليقيموه .
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية ، وفي عادات من كان حولهم من
الأمم النصرانية ، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع
العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره ، وتفخيم أوامره ، والغوغاء عون الغاشم ، وهم يد
الظالم ، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات ، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء
والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة ، وقرروا أن
المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم ، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر
وتجمد العقول . ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص
والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة ، وأن كل ما هو
من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم
ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه ، وأن ما يظهر
من فساد الأعمال واختلال الأحوال ، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد
في الأخبار من أحوال آخر الزمان . وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل ، وأن
الأسلم تفويض ذلك لله ، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه . ووجدوا
في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات
والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام . وقد انتشر بين المسلمين جيش من
هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف ، واتخذوا من
عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل . والعامل الأقوى في حمل
النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين
وموافقة الهوى . أمور إذا اجتمعت أهلكت ؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ
في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما
يقال .
هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين
مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات ، وأخلدت به إلى
يأس يجاور به العجماوات ، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام
وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال
التي حرفت عن معانيها . ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات
إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا . نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه .
فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه
إسلامًا . والقرآن شاهد صادق { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42 ) يشهد بأنهم كاذبون ، وأَنهم عنه لاهون ، وعما
جاء به معرضون ، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن
تزول .
* * *
( مفاسد هذا الجمود ونتائجه )
طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه ، وولوع
شهواتهم بالدفاع عنه ، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول
فيها . كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد
به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره
في خليقته ، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته ، فكانت جميع الفنون مسارح
للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد ، فلما وقف الدين ،
وقعد طلاب اليقين ، وقف العلم وسكنت ريحه ، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار
سير التدريج .
إفساد الجمود للغة : أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها
وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم
إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها ، وكانوا يجدون أنهم لن
يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم ، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم ، فلما لم
يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ
قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله ، ولو نظروا في الدليل
فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر
الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا : نعوذ بالله
أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه
الشلل من تلك الناحية . فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه
منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر
الأولون في كلامهم .
وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال
بسلفه الأول ، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ
وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال
الناس إلى ما نراهم عليه اليوم . جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في
النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم
الأولين وبادت صناعاتهم ، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم ، وأصبح
الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه
الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت
الزنديق . تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر ، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة
منها .
هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت
في وجوه المتأخرين ، ليرفع بذلك منازل المتقدمين ، وعدم الاعتبار بما ورد في
الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع[1] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى
أوله خير أم آخره[2] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا
حول ولا قوة إلا بالله .
لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك
أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول ، وأي ضرر أعظم
من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول .
إفساد النظام والاجتماع : وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام
الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في
الدين . كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد ، والكل يرجع
إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا
شيعة ولا عصبية . ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما
صرح به جميعهم . ثم جاء أنصار الجمود فقالوا : يولد مولود في بيت رجل من
مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر . وإذا سألتهم
قالوا : ( وكلهم من رسول الله ملتمس ) ولكنه قول باللسان ، لا أصل له في الجنان ،
ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين
أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة لَكُنَّا اليوم في شأن غير ما
نحن فيه .
يجد المطَّلع على كتب المختلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به
أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه . يضلل بعضهم بعضًا ويرمي بعضهم بعضًا
بالبعد عن الدين وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود ، قد يؤدي
إلى الجحود .
كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفُتْيَا تخالف أشخاص في
النظر والرأي . وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه .
مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد . فلما جاء دور الجمود - دور السياسة
- أخذ المتخالفون في التنطع ، وأخذت الصلات تتقطع ، وامتازت فِرَقٌ وتألفت
شيع . كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين . وقد بذل قوم وسعهم في
تمييز الفرق تمييزًا حقيقيًّا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهميّ ، وخلف في أكثر
المسائل لفظي ، وإنما هي الشهوات وضرب السياسات أشعلت نيران الحرب بين
المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفُرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا
دواء لها .
قال قائل من عدة سنين : إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل
المذاهب الأربعة ؛ لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على
الناظر فيها أن يفهمها . وقال : إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض
أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد .
فقام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين ، كأن الطالب يطلب شيئًا
ليس من الدين ، مع أنه لم يطلب إلا الدين ، ولم يأت إلا بما يوافق الدين ، وبما
كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين . فأين قول هؤلاء ( وكلهم
من رسول الله ملتمس ) ؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر
نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه ، أو هي السياسة تحلّ ما تشاء ، وتحرم ما
تشاء وتصحح ما تشاء ، وتبطل ما تشاء ، والناس منقادون إليها بأزمة الأهواء .
جناية الجمود على الشريعة : هذا الجمود في أحكام الشريعة جرّ إلى عسر
حمل الناس على إهمالها . كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا سمحة
تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها
وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها . وأصبح الأتقياء من حملتها
يتخاصمون إلى سواها .
صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى
علمها فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلاً لا يعدّ شيئًا إذا نسب إلى من لا يعرفها .
وهل يتصوَّر من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها ؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة
شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم على
مقتضى نصوصها . وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة
الاختلاف . سألت يومًا أحد المدرسين في بعض المذاهب : هل تبيع وتشتري
وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك ؟ فأجاب أن تلك الأحكام قلما
تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس . هكذا فعل الجمود بأهله
ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة تحيي بها الناس لفعلوا ولسهل عليهم وعلى الناس أن
يكونوا بها أحياء .
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن الشريعة . لو
سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين : إما فقد العارف
بالشريعة والدين ، وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها
إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل والكل
جاهلون . وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لاعتقال لسانه عن حسن التعبير
بطريقة تفهمها العامة وعلى المتكلم إفهامها . وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه فلا
يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم . فإذا قلت للعارف تعلّمْ من وسائل
التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك واعلُ
بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لأصله انطباقًا على هذه الحادثة
مثلاً وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه . قال :
سبحان الله : هل فعل ذلك أحد من المشايخ ؟ يرى أن لا يأتي شيئًا إلا ما أتى به
شيخه الذي أخذ عنه يدًا بيد ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه
حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه . ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه
أن يعدك زنديقًا وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه ولا يدري المسكين أنه بذلك
يخالف نصوص دينه ، وأنه يتهيأ للخروج منه نعوذ بالله تعالى .
كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم
بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال خصوصًا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس
الحديث والتوحيد . فقال لي : إنه لا فائدة في ذلك قطعًا وهو تعب في غير طائل .
فقلت له : ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أن
يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهيّ . فقال : إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر
والنهي لغوًا . فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس
غايته كما يزعم . ولم ينظر في الوسيلة لاقتلاع هذا الفساد مع أن الدين يدعوه إلى
ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه . هذا كله لأنه لم ير
نفسه أهلاً لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه ، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين
يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئًا من الأوامر الإلهية التي وردت في النصيحة والتآمر
بالمعروف والتناهي عن المنكر ، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم
الكافرين أو الضالين .
لا بل إذا قلت له : إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب
منه ، أو إن هذا الكتاب الذي تعوّد الطلاب قراءته قد يضر بقارئيه وغيرُه أفضل
منه . كاد يظن أن قولك هذا مخالفٌ للدين ورأى العدول عمّا تعوّده نوعًا من
الإخلال بالدين . وقد يقيم عليك حربًا يعتقد نفسه فيها مجاهدًا في سبيل الله إذا قلت
له : إن دروس السلف كانت تقريرًا للمسائل وإملاءً للحقائق على الطلاب ولم يكن
لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلامذته ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام
والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم . وقد يعترف لك بصحة ما تقول
ولكنه يستمر في عمله اعتمادًا على أنه وجد الناس هكذا يعملون . فهل يخطر ببال
عاقل أن هذا الجمود من الدين ؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على
الدين وأهل الدين ؟
جناية الجمود على العقيدة : ذلك جمودهم في العمل وأشد ضررًا منه الجمود
في العقيدة . نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا
يجوز الأخذ فيه بالظن ، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته
والتصديق بالرسالة ، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة
وفروض العبادات وهيآتها ، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه من
النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله وبأنه يجوز أن يرسل الرسل
فتأتينا عنه بالمنقول . نسوا ذلك كله وقالوا : لا بد من اتباع مذهب خاص في العقيدة
وافترقوا فِرقًا وتمزقوا شيعًا كما قلنا ، ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في
نفس المعتقد بل ذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى
ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول .
وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادًا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم بل النقل
ولو عن غير المعروف ، فتقررت لديهم قاعدة أن عقيدة كذا صحيحة ؛ لأن كتاب كذا
للمصنف فلان يقول ذلك . ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن
يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة . وقد سرى ذلك
من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون بكل ما يقال وينقل عن معروف الاسم
وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض
مسموعاتهم .
انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف
- رضي الله عنهم - فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه ويمتحنون قوله
حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة . ولكن جمود المتأخر على ما يصل
إليه من المتقدم صير النقل فوضى فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل
للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات
الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين . وكل ما نراه من
البدع المتجددة فمنشأه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما
قال الولي بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإهمال العقل في العقائد
على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة . دخلت على الناس لذلك عقائد
يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل وجهاد شديد ،
وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف . وما
أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم ، وما أقلهم غدًا إن شاء الله .
سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية
في المساجد يوم الجمعة - ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته -
فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين ، وقال : إن العمل بدعة من
البدع يجب التنزه عنها . أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا ؟ كلا .
حدث قيل وقال وكثرة تسآل ، ودخلت السياسة ثم قيل : إن الزمان ناصر الحقيقة
وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا وسكت السائل وماذا يصنع المجيب . نعم هذا من
شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوجّ منها ووكلها
إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر
الغرس ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر . فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبيّن
حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند
السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه { مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الأَوَّلِينَ } ( المؤمنون : 24 ) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت
له أسماؤهم بلسان مضلّيِه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها
على طالبه .
ماذا يمكن أن أقول ؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات
في الدين وإذا دعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر ، وأبى واستكبر ، انظر ماذا يصنع
الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارَّة وفيهم
النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون .
هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينًا ويصعب على حفاظ الدين
إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل . فهذا معظم الأمة
تراه قد تملص من أيدي منذريه ولو شاءوا لأقبل كل منهم على صاحبه وهو أيسر
شيء على حمله الشريعة وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته ، ثم العمل على حفظه وحياطته .
* * *
( الجمود ومتعلمو المدارس النظامية)
ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقًا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق
الجديدة ، إما في مدارس الحكومات الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهن
أو خارجا عنها . لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القوقاس أو سمرقند
وبخارى أو الهند فإني لا أعرف كثيرًا من أحوالهم ، ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرًا
وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به فقد رأيت أفرادًا
قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسًا دقيقًا وهم أشد
تمسكًا بلُب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعي الورع والتقوى ولا
يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم لقومهم ، فنعم
المتعلمون هؤلاء ، أكثر الله منهم .
وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسوريا وسائر بلاد الدولة
العثمانية . سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم
ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير
المسلم ، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين بل في مدارس لم تُبنَ إلا لترويج دين غير
الدين الإسلامي . وأباحت لغير آباء هؤلاء التلامذة أن يسكتوا وأن لا ينكروا عليهم
عملهم ما دامت العقيدة سالمة من الهدم والضعضعة .
جمود تلامذة المدارس الأجنبية : هؤلاء التلامذة إن كانوا في مدارس أجنبية
لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها بل ربما يتعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى
عقائدهم شيء من الضعف ، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحتلُّ مكانها عقائد أخرى
تناقضها كما شوهد ذلك مرارًا . ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية
لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال . وكيف يكون
لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من
ينقطع لتعلمها فضلاً عن أولئك المساكين . بل لو كان هناك مرشدون على طريقة
يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلامذة أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء
صعبًا وكل أمر غير مستطاع .
فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس
أجنبية يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون . ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعًا
آخر من الأدب والحكمة كما يرجو بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه
الأمم أو كما يروّجه بعض من لا يريد الخير بها ، ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من
كل زاجر أو دافع اللهم إلا زاجرًا عن خير أو دافعًا إلى شر فاتخذوا إلههم هواهم
وإمامهم شهوتهم فهلكوا وأهلكوا . ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور
أعمالهم الجرائد كل يوم . فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة وليت الإسلام لم
يرحب صدره لمثل هذا الضر من التعليم والتعلم .
* * *
(جمود تلامذة المدارس الرسمية والأهلية)
أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من
البقية . فهؤلاء يُنَشًّأُون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة وتقرر لهم
حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني ومن عرف شيئًا
انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جامد
على ألفاظ سمعها ، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفًا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم
المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين . هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله
ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه فينفر من دينه نفرته من الجهل . ولو
قال له قائل : ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك
وخصمك . حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات
التي ورثها القوم على ما فيها من تشتيت وتعقيد وأبقوها ما ورثوها . فيعود إلى
النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه .
لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم بل قد يعده بعضهم خرافة
( نعوذ بالله ) فيأخذون عنه جانبًا ويتركون عقائده وفضائله وآدابه ويلتمسون لهم
آدابًا في غيره وقلما يجدونها فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم فلا يطلبون
إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علوّ جاه ويسلكون إلى ذلك أي طريق ولو
أضروا بالعامة أو الخاصة ( ما دام الشرف محفوظًا ) فإذا وجد بينهم من يدعي
الوطنية أو الغيرة الملية أو نحو ذلك فإنما ينثر الألفاظ نثرًا لا يرجع فيها إلى أصل
ثابت ، ولا إلى علم صحيح ولهذا يطلب المصلحة لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى
المفسدة وهو يشعر أو لا يشعر على حسب حاله . ومنهم من يصيح باسم الدين ولا
تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه ، أو درس عقيدة من عقائده فشأنهم كلام في كلام
ولبئس ما يصنعون . ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حَمَلَتهِ ما
تبتهج به قلوبهم ؛ وتطمئن إليه نفوسهم ؛ ولذاقوا طعم العلم مأدومًا بالدين وتمكنوا
من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة
وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية .
***
( الجمود علة تزول )
( المقال الخامس لذلك الإمام الحكيم وفيه بيان علاج الداء )
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما
أوجزناه في الصفحات السابقة . ولكن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن
شاء الله تعالى .
قد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو
عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث - مرض الجمود على الموجود - وكم في
الكتاب من آية تُنَفِّر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا
عليه ولا حاجة إلى إعادة ذلك . ثم إننا أشرنا أيضًا إلى بعض الأسباب التي جلبت
هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام ، وأن محدثها إما عدوُّ للمسلمين طالب
لخفض شأنهم أو لاستعبادهم ولاستغلال أيديهم لخاصة نفسه . وإما محب جاهل
يظن خيرًا ويعمل شرًا وهذا الثاني كان أشد نكاية ، وأعون على الغواية ، وهل
تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته الأولى وكرمه الفياض وينهض بأهله إلى
ما ذخر لهم فيه ؟ ؟
جاء في الكتاب المبين { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم وهو القرآن الذي أحكمت آياته ثم
فصلت من لدن حكيم خبير . وهو كما قال : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( فصلت : 3 ) وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده فلم تطل
إليه يد عدو مقاتل ولا يد محب فبقي كما نزل ، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره
وتأويله ، فذلك مما لا يلتصق به فهو لا يزال بين دَفَّات المصاحف طاهرًا نقيًّا
بريئًا من الاختلاف والاضطراب . وهو إمام المتقين ، ومستودع الدين ، وإليه
المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب وسلمت النفوس من التخبط في الضلالات .
ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولا بد أن تتمزق كلها
بأيدي أنصاره فيتبلج ضياؤه لأعيُن أوليائه إن شاء الله تعالى .
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله
بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم ، بما عرفوا من نجاح مسعاهم ،
ولكن الذين أطبقت عليهم ظُلَمُ البدع ، وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب
للشيع ، وطَمَسَتْ بصائرهم ، وفسدت عقولهم ، بما حشوها من الأباطيل ، وبما
عطلوها عن النظر في الدليل ، هؤلاء في عمى عن نوره وقلوبهم في أكنَّة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقر . يصيحون بأنهم عُمْيُ صمُّ فلا يرون له سناء ، ولا يسمعون
له نداء ، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه
وطيش الحلم وهم يعلمون . هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون
ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه ، ويقوُّون حجج أعدائه في حربه
بزعمهم الاجتماع تحت لوائه ، وما هم منه في شيء كما قدمنا .
هؤلاء لا بد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فقد اتبعوا سننهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه[3] ومن
اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم فلن يخلص مما قضى الله
في عذابهم . فقد قص عليهم سير الأولين وبَيَّنَ لهم ما نزل بهم عندما انحرفوا عن
سننه وحادوا عن شرعه ونبذوا كتابه وراءهم ظِهريًّا . أَحَلَّ بهم الذلَّ ، وَضَرَبَ
عليهم المسكنةَ ، وأَوْرَثَ غَيْرَهم أَرْضَهم وديارهم . فهل ينتظر المتبعون سننهم ،
السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم وقد قضى بأن تلك
سنته لن تجد لسنته تبديلاً .
لا تزال الشدائد تنزل بهولاء المنتسبين إلى الإسلام ، ولا تزال القوارع تحل
بديارهم حتى يفيقوا ( وقد بدأوا يفيقون من سكراتهم ) ويفزعوا إلى طلب النجاة
ويغسلوا قَذَى المُحْدَثات عن بصائرهم ، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في
انتظارهم يُعِدُّ لَهُمْ وسائل الخلاص ويؤيدهم في سبيله بروح القدس ويسير بهم إلى
منابع العلم ، فيغترفون منها ما يشاءون فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كان قد كمن فيها
من قوة فيأخذ بعضهم بيد بعض ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين .
ولهذا أقول : إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدًا ولكنه سيهذبها وينقيها
من أوضارها ، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله . وهما
الجمود سيزول وأقوى دليل على زواله بقاء الكتاب شاهدًا عليه بسوء حاله ولطف
الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه ، ويدعون إليه ويؤيدونه ، والحوادث تساعدهم ،
وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم ، هذا الكتاب المجيد الذي كان يتبعه
العلم حيثما سار شرقًا وغربًا لا بد أن يعود نوره إلى الظهور ويمزق حجب هذه
الضلالات ، ويرجع إلى موطنه الأول من قلوب المسلمين ويأوي إليها . العلم يتبعه
وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه ولا يعتمد إلا عليه .
يقول أولئك الجامدون الخامدون كما يقول بعض أعداء القرآن : إن الزمان قد
أقبل على آخره ، وإن الساعة أوشكت أن تقوم ، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد ،
وما مُنِيَ به الدين من الكساد ، وما عرض عليه من العلل ، وما نراه فيه من الخلل ،
إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم ، فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل ، فلا
حركة إلا إلى العدم ، ولا يصح أن يمتد بصرنا إلى العدم ، ولا أن ننتظر من
غاية لأعمالنا سوى العدم ( نعوذ بالله ) ، هؤلاء حَفدة الجهل وأعوان اليأس يهرفون
بما لا يعرفون . ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته ؟ إن
الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عامًا ، وإنما هي يوم
وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى . وأن آيات الله في الكون - وإن
كانت تدل على ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير ، - تشهد بأن ما بقي
لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير { فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ( النساء : 78 ) إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر
ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة . فهل يعد مثل ذلك دهرًا طويلاً
بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام ؟ إن زمنًا كهذا لا يكفي - وقد تبين أنه لم
يكف - لاهتداء الناس كافة بهديه . ولِمَ تقوم القيامة على الدين ولم تقم على شرهم وطمعهم ؟
قد وعد الله بأن يتم نوره وبأن يظهره على الدين كله فسار في سبيل التمام
والظهور على العقائد الباطلة أعوامًا ، ثم انحرف به أهله عن سبيله وصاروا به إلى
ما يرون ونرى . ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد ويأخذ الدين بيد العلم
ويتعاونا معًا على تقويم العقل والوجدان فيدرك العقل مبلغ قوته ، ويعرف حدود
سلطنته ، فيتصرَّف فيما آتاه الله تصرُّف الراشدين ، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار
العاملين ، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعًا ، وقفل راجعًا ، وأخذ أَخْذَ
الراسخين في العلم الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( كرم الله
وجهه ) فيما روي عنه : ( هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون
الغيوب ، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم
بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علمًا ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث
عن كنهه رسوخًا واعتبر بعد ذلك بقوله : ( فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين . هو القادر الذي إذا ارتمت الوهام
لتدرك منقطع[4] قدرته ، وحاول الفكر المبرَّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في
عميقات غيوب ملكوته ، وتولهت[5] القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ،
وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ، ردعها وهي
لحوب مهاوي سدف[6] الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، فرجعت إذ جبهت[7] معترفة
بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال أولي الرَّويَات خاطرة
من تقدير جلال عزته ) .
هنالك يلتقي ( أي العقل ) مع الوجدان الصادق ( القلب ) ولم يكن الوجدان
ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان الوجدان سليمًا ، وكان ما
استضاء به من نبراس الدين صحيحًا ، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن
فرقًا بين العقل والوجدان ( القلب ) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة . فإنما يقع
التخالف بينهما عرضًا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس . وقد
أجمع العقلاء على أَنَّ المشاهدات بالحس الباطني ( الوجدان أو القلب ) من مبادي
البرهان العقلي كوجدانك أنك موجود ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك
وألمك ونحو ذلك .
مُنحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب المسببات ، والفرق بين البسائط
والمركبات ، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام ، وهلع
واطمئنان ، وشماس وإذعان ، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان ؛ فهما
عينان للنفس تنظر بهما - عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد ، وهى في
حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى . فالعلم
الصحيح مقوم الوجدان ، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم ، والدين الكامل علم
وذوق ، عقل وقلب ، برهان وإذعان ، فكر ووجدان ، فإذا اقتصر دين على أحد
الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه وهيهات أن يقوم على الأخرى . ولن يتخالف
العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانيين ، والوجود الفرد وجودين .
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنه تعمله طوعًا لوجدانك ، وربما أيقنت
المنفعة في أمر وأعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك ، فتقول : إن هذا يدل على
تخالف العقل والوجدان . ولكني أقول : إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره .
عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين - إما أن يقينك ليس بيقين وأنه
صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علمًا وما هى به . وإما أن
وجدانك وَهْم تمكن فيك ، وعادة رسخت في مكان القوة منك ، وليس بالوجدان
الصحيح وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظنتها شعورًا مَنْبَعُه الغريزة وما هي
منه في شيء .
( نتيجة ) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين ؛ على سنة
القرآن والذكر الحكيم ، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه[8] ( تفكروا
في خلق الله ولا تَفَكَّروا في ذات الله ) وعندها يكون الله قد أتم نوره ولو كره
الكافرون[9] وتبعهم الجامدون القانطون ، وليس بينك وبين ما أَعِدكَ به إلا الزمان
الذي لا بد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتوضيح المنهج ، وتقويم الأعوج ،
وهو ما تقتضيه السنةِّ الإلهية في التدريج { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) . { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } ( المعارج : 6-7 ) . { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ( محمد : 7 )
وهو خير الناصرين .
... ... ... ... ( للكلام بقية )
(( يتبع بمقال تالٍ ))
__________
(1) المنار : يشير إلى حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه وهو : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( نضّر الله امرءًا سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلَّغ أوعى له من سامع ) ورواه غيرهما عن غيره .
(2) يشير إلى حديث أنس عند الترمذي وهو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) ورواه غيره .
(3) المنار : في الكلام إشارة إلى حديث : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) الحديث رواه الشيخان وغيرهما .
(4) المنقطع : ما ينقطع عند الشيء وهو آخره .
(5) تولهت : اشتد عشقها .
(6) السدف : جمع سدفه كظلمة لفظًا ومعنى .
(7) جبه : ضربت جبهته ورُدَّ .
(8) المنار - قال العراقي : رواه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه ، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمر وقال : هذا إسناد فيه نظر . قلت فيه الوازع بن نافع متروك وقال الزبيدي في شرح الإحياء : قلت حديث ابن عمر لفظه (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر وأبو الشيخ في العظمة والطبراني في الأوسط وابن عدي وابن مردويه والبيهقي وضعفه والأصبهاني وأبو نصر في الإبانة وقال غريب ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس : (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) ورواه ابن النجار والرافعي من حديث أبي هريرة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) إلخ وتعدد هذه الروايات واجتماعها يكسبها قوة والمعنى صحيح كما قال الحافظ السخاوي في المقاصد .
(9) الكافر : من يرى الدليل فيصد عنه ولا ينظر فيه أو ينظر فيعرف الحق ثم يماري فيه وينكره عنادًا ا هـ من هامش الأصل .
(5/521)
 
غرة شعبان - 1320هـ
1 نوفمبر - 1902م
الكاتب : محمد عبده

الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
وهو المقال السادس لذلك الإمام الحكيم
( حرية العلم في أوربا الآن ، ونسبتها إلى الماضي والحاضر في الإسلام )
لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة [1] وهو
( أن يتمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوربا ، وعدم
تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت
أكثر تسامحًا مع الفلسفة ) .
ليس من السهل عليَّ أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول وهو
ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في
هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية . وإنما هي عين الرضا تناولت من
حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت ثم أملت على قلبه ما جرى به
قلمه .
هل يصح أن تُسمَّى الاستكانة للغالب تسامحًا ؟ وهل يُسمَّى العجز مع التطلع
للنزاع عند القدرة حلمًا ، أم يُسمَّى غلّ الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرمًا ؟ هل
تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين
كرسي المملكة الإيطالية والمملكة البابوية في عاصمة واحدة تسامحًا من قداسة البابا
مع الملك ؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمي ذلك تسامحًا من الملك مع البابا ؛ لأنه
صاحب القوة والجيش والسلطنة ، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من
السلطة الملكية ؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم
من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين تساهلاً من العلم مع الدين لا تسامحًا من الدين
مع العلم بعد ما كان بينهما من الحوادث ما كان وبعد غلبة العلم واستيلائه على
عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعًا له في أغلبها .
***
( اقتباس مدنية أوربا من الإسلام ، وأسباب ظهورها التام )
السبب الأول الجمعيات : كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة
العلم جمعيات وأحزاب منها ما اتخذ السرَّ حجابًا له حتى يقوى ومنها ما ابتدأ
بالمجاهرة . وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه لكثرة أعوانه وضعف أعوان
العلم حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس وتبع إشراق
تلك الآداب واشتعال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما
ذكرنا . وقد وجد هذان النوران استعدادًا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل
التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها . هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما
ضايقها من غلوّ رؤساء الدين في استعمال سلطانهم واشتدادهم في استعباد العقل
والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال ، فأخذ الشعور الإنساني يتلمّس
السبيل إلى الخلاص وإذ لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية واستقبلهما بوجهه ،
وكان بعد ذلك ما كان من تأثُّر الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران ، ونفيهم من
الأوطان ، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة في أدنى الأشياء
وأعلاها حتى إنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على
الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة ، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك
الشوارع أغضب ذلك قسوس القديس أنطوان ونادوا بأن خنازير القديس لا بد أن
تمر في الشوارع على حريتها الأولى . وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة
أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس . وقالوا إن الملك
فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير
وصلصلة الجرس في عنقه .
لقائل أن يقول : إن القسوس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع
الأجراس في أعناق الخنازير ، فرضاهم بذلك يعد تسامحًا عظيمًا مع العلم ( أو
الصناعة ) ويسهل عليٍّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس
الخنازير كان يظهر من حين إلى حين إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه
المدنية التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا ننجسها قدرها كذلك .
السبب الثاني الضغط الديني : شدة الحاجة وغلوُّ الرؤساء كانا يوقدان الغيرة
في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرًا من الحقائق
التي نفعت العامة ، وتنبهت العقول للأخذ بما يهدون عليه وصارت الحرب بينهم وبين
رؤساء الدين سجالاً إلى أَنْ ظهر دعاة الإصلاح الديني ( البروتستانت ) فانضم دعاة
العلم إليهم ظنًّا منهم أن سيكونون معهم من المجاهدين في سبيل العلم . وكان منهم
إيراسم الشهير فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت
على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم ، فانفصل إيراسم ومن معه من
حماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية ، وترك المصلحين يتفرقون شيعًا ويقتل
بعضهم بعضًا وقال : ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم .
هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن عدوها
العامَّ وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض
واشتعلت نيران الحروب بينهم . قال أحد أفاضل مؤرخيهم :
( وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة لوثت يديها بالجرائم وفي العمل
لإفناء البقية حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال ، ووجدت من توالي حوادث
الانتقام وظهور مضارّه في كل طائفة أن الفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من
الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منها . والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق
وترقية الآداب وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على
حرية الأشخاص من أي طائفة كانت . من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم أصل
التسامح والرضى بمجاورة المخالف في الرأي . نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل
طائفة تعامل بها الأخرى ) انتهى كلام المؤرخ بالمعنى .
السبب الثالث : الثورة : ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية
وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم . وإنما أنبه القارئ إلى
الاعتبار بما تقدم من القول ، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم ، ليعلم أن
الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرمًا وإنما قويت عليه أحزاب العلم
فساموه استكانة وخضوعًا ، ولو شاء أن يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً .
السبب الرابع : ترك المسيحية : رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة
وإقدام قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان . وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم
في استعمال سلطانهم على النفوس كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييد دينهم .
وهم أشد الناس حرصًا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه ولم يزدهر العلم الجديد
إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه ، ولم تفتر لهم همة في نشره وتزيينه للقلوب .
ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه ، والعامة من الشعوب
في تخاذل عنه ، والأمة الفرنسية التي كانت تدعى بنت الكنيسة أصبحت من أشد
الناس عليه ، ورأت فلسفتها أن تحدّد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم . كل
ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة وطلاب اللاهوت يعدّون بالألوف . كل ذلك
وكثير من الدول ترى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض . قال
أحد رؤساء البروتستانت في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية
سنة 1901 بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانية فقدت خاصتها
الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية ما نصه مترجمًا : إذا كان الدين المسيحي ليس
شيئًا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح ( المذهب الروماني ) أو الكثلكة التي
دخلها الإصلاح بالفعل ( المذهب البروتستانتي ) فالقرن الموفي للعشرين ( القرن
الحاضر ) لا يكون مسيحيًّا أبدًا .
وقد جاء في كلام هذا الخطيب بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنًى آخر ينطبق
كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها ، فإن وفّق للنجاح في سعيه زال الخلاف - إن
شاء الله - بين الدين والعلم ، بل بين المسيحية والإسلام .
عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام : آخذ بيد القارئ الآن ، وأرجع به إلى ما مضى من
الزمان ، وأقف به وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم
والفقهاء والمتكلمين والمحدثين والأئمة المجتهدين من حولهم ؛ والأدباء والمؤرخين
والأطباء والفلكيين والرياضيين والجغرافيين والطبيعيين وسائر أهل النظر من كل
قبيل مطيفون بهم ؛ وكلُّ مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه
ووضع يده في يده يصافح الفقيهُ المتكلمَ والمحدثُ الطبيبَ والمجتهدُ الرياضيَّ
والحَكيم ، وكلُّ يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به ، وهكذا أدخل به بيتًا من
بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك طبيب يتحادثون ويتباحثون ، والإمام
البخاريُّ حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث وعمرو
ابن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى
عنه وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل : ( لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدّبته
وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به ، وإن قعد بأمر قام به ، وإن أمر بشيء كان
ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن
منه ولا باطنًا أشبه بظاهر منه بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام
زيد بن علي ( صاحب مذهب الزيدية من الشيعة ) يتعلم منه أصول العقائد والفقه
ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه
اجتهادًا في بيان المصلحة وهما من أهل بيت واحد - أمُرُّ به بين تلك الصفوف
التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم وعقيدة كل واحد
منهم أنَّ فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث [2].
الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش .
والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن
جند الخلفاء . الدين في قوته ، والعقيدة في أوج سلطانها ، وسائر العلماء ممن ذكرنا
بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر لا فرق في
ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر ، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى
أولئك المسلمين ، وأنصار ذلك الدين ، ويقول : ههنا يطلق اسم التسامح مع العلم
في حقيقته ، ههنا يوصف الدين بالكرم والحلم ، ههنا يعرف كيف يتفق الدين مع
المدنية ، عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر ، ومنهم تهبط
روح المسالمة بين العقل والوجدان ( أو بين العقل والقلب ) كما يقولون .
يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين وإنما بين أهل العلم أو بين أهل
الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل
التقييد ، وعرفوا من علة التقليد ، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز بالألقاب فلا يقول
أحد منهم لآخر : إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك . ولا تتناول أحدًا
منهم يد بأذًى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة وطلب الإخلال بأمن العامة فكان
كالعضو المجذَّم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله .
* * *
( ملازمة العلم للدين ، وعدوى
التعصب في المسلمين )
متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ، ورُمِيَ زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه
زنديق ؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض ونقول الآن : إن ذلك بدأ فيهم عندما
بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم ، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله ( تلك الفتن
التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه ، وتوهين
أركانه ، وتصدَّر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين ، وأخذ
المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان
بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها . وأنشأوا ينسون ماضي الدين ومقالات
سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالمين ، وتولى شئون
المسلمين جُهدًا لهم ، وقام بإرشادهم في الأغلب ضُلاَّلهم ، في أثناء ذلك حدث الغلوُّ
في الدين واستعرت نيران العداوات بين النظَّار فيه ، وسهل على كل منهم لجهله
بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب . وكلما ازدادوا جهلاً بدينهم ازدادوا
غلوًّا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر ( وهي لوازم الدين الإسلامي ) في
جملة ما كرهوه ، وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورًا فيه .
لا أكاد أخطّئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق
ومتزندق وزنديق من فضل ما علّمه جيرانه إذ كانوا يقولون : هرتقة وتهرتق وهو
هرتوقي أو ما يماثل ذلك . أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق
العدوى من أهل الملل المتشدِّدة وأن الذي سهّل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة
هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته ومتى ضعف
المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم .
إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم .
أصيبوا بمرض الجهل بدينهم فانهزموا من الوجود وأصبحوا أُكلة الآكل وطُعمة
الطاعم ، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو
يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك ؟ لا . بل عدا بهم الجهل على أئمة
الدين وخَدَمَةِ السنة والكتاب ، فقد حُملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعدما انتفع
بها المسلمون أزمانًا هاج الجهل بأهل تلك المدينة ، وانطلقت ألسنة المتعالمين من
البربر بتفسيقه وتضليله فجمعت تلك الكتب خصوصًا نسخَ ( إحياء علوم الدين )
ووضعت في الشارع العامّ في المدينة وأحرقت . قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في
ابن تيمية - وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين - : إنه ضالُّ مضل .
وجاء على إثر هؤلاء مقلدون يملأون أفواههم بهذه الشتائم ، وعليهم إثمها وإثم من
يقفوهم بها إلى يوم القيامة .
* * *
إهمال آثار السلف وحال
علوم الدين وطلابها
أهمل المسلمون علوم دينهم والنظر في أقوال سلفهم حتى إنك لا تجد اليوم في
أيديهم كتابًا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي ، ولا تكاد ترى
مؤلفًا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفرايني . وإذا بحثت عن كتب
هؤلاء الأئمة في مكاتب المسلمين أعياك البحث ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من
كتاب .
كُتبت على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى
السادس منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير
الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبى بكر بن العربي وكثير غيرها ، وفيها من آراء
أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه . فهل
يجد الباحث المجدّ نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق
المصادفة وحسن الاتفاق ؟ وهل يليق بأمة تدعي أنها على دين وأن لها فيه سلفًا
صالحًا أن تهجر آثار سلفها وتدع ما كتبوا طعمة للعبث وفراشًا للتراب ؟ هل وقع
مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان ؟
إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد
المسلمين فهم لا يقرأون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون يتعلم
أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها ، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها وتصحيح
مقدماتها وتمييز صحيحها من باطلها وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم . فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياها
وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله : هكذا قالوا ، وإن لم يكن القول متفقًا عليه
بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به وربما كان
صاحب الكتاب ممن لو رآه أحد من السلف لم يرضه تلميذًا يعي عنه ما يقول .
كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سوريا و الحجاز و تونس و الجزائر وقلَّ
جدًّا في المغرب الأقصى ، ولم يبقَ الاهتمام به إلا في بعض الصحاري وذلك إما
لصعوبة طرق التعليم واقتضائها الزمن الطويل ، وحاجات الناس مانعة لهم من
إفناء أعمارهم في عمل لا يسد في حاجتهم . وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على
الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء وإن
كان فيها شيء منه فهو مما لا يُعد تعليمًا دينيًّا ينظر إليه . وإما للفتور والخمود ،
الذي نشأ عن التقليد والجمود ؛ وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم ؛
وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم ؛ وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم ؛
حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الحكام لأنكروه
واستغربوه وعدُّوه بدعة في الدين وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعاره
الفارسية مخاطبًا للنبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الذين جاءوا بعدك زيّنوا لك
دينك ووشّوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته ) . فهذا الصنف من المسلمين
وهو معظمهم قد أنكر دينه الحق وعاداه ونقم على أهله القائمين بخدمته ، وإنما
اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة ولم يسمح
الدين باختصاصهم بالتقليد . فإذا وقع عن هذا الصنف ما فيه أذًى للعلم وأهله فهل
يعدّ ذلك واقعًا من دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم ، دين القرآن ، دين
السنة الثابتة ، دين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من السلف الأولين ؟
متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه : الحق أقول والحس يؤيدني : ما عادوا
العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم وأخذهم في الصد عن علمه
فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل وكانوا كلما
توسعوا في العلوم الدينية ، توسعوا في العلوم الكونية ، وضربوا الزمان بسوط من
العزّة ، أما غيرهم فكلما اتصلوا بالدين وجدّوا في المحافظة عليه أنكرهم العلم
وتجهّمهم واكفهرّ وجهه لِلِقائهم . وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم
ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل والعقل لا يصح أن يكون له في الدين
عمل ، ولا أن يظهر منه فيه أثر ، والدين من وجدانات القلب ولا علاقة بين ما يجد
القلب وما يكسب العقل فالفصل تامُّ بين العقل والدين ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما .
سامحهم الله فيما يسمونه تسامحًا مع العلم ، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل
أن يكون بينه وبينه سلم .
هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم ؟ أقول اضطهاد ولا أريد به ما
كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله ، والتنكيل بهم واختراع ضروب
التعذيب والتفنن في صنع آلات الهلاك مع الأخذ بالشبهة ، والاكتفاء في الإعدام
بمجرد التهمة ، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم ، ولا في أزمنة جهلهم ،
ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله
وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم . لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في
هذا الذي يسميه الأديب اضطهادًا إنما هو جهلهم بدينهم . فالدواء الذي ينجح في
شفائهم من الداء لا يكون إلا ردّهم إلى العلم بدينهم والتبصر فيه للوقوف على
أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه . كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين
العلم فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة .
الدعاة إلى الإسلام : فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون ، أو دعاة لأصل الدين
عارفون ، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم ، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم ؟
وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن
السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع
عشر وفيما بعد ذلك ؟ لا . إنما رأينا من الصادقين أفرادًا يظهرون متفرقين في
عصور مختلفة ربما لا يجتمع ربعه منهم فما يزيد في قرن واحد ويأخذون في العمل
ولما وجّهوا إليه ، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم فيحس الناس بهم فيأخذ المستعد
أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة ( نعوذ بالله منها ) بما عسى
يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم ، قبل أن يبلغوا من قلب واحد ما أرادوا من غرس
أفكارهم ، فينطفئ النور ، ويَدْلَهمِ الدَّيْجُور ، فهل يعدّ الأديب هذه الضربات من أيدي
أرباب السياسة اضطّهادًا للعلم لأجل حماية الدين ؟ أنزّه كل أديب عن أن يظن ذلك
وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة فلا
تعدّ حجة على الدين في نظر المنصف .
المقلِّد دون المقلَّد : ربما يقول القائل : إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في
التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما
أشبه ذلك مما هم فيه وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصًا أقرب الملل إليهم ،
فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم والتوسع في علومه مذيلاً
بما أخذوه عنهم ، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين :
قسمًا ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع ، وقسمًا يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه
ويقيت أهل القسم الأول ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان ؟ وما لك ترى المسلمين
خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت ، ثم صاروا أبعد
الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة ، والقبض على ناصية القوة
وصولجان العزة ، وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون ، يجري بهم إلى
حيث لا يعلمون ؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة ؛ وأشدهم لهفًا على
الحطام ، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض ؟ فأقول
له : إنك قد نسيت أن المقلّد إنما ينظر من عَمل المقلَّد إلى ظاهره ولا يدري سره
ولا ما بني عليه . فهو يعمل على غير نظام ، ويأخذ الأمر لا على قاعدة ، ولذلك
سقط المسلمون في شرٍّ مما كان عليه مقلّدوهم لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد
وأضافوا إلى دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه ، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي
تَنَاَزَعُه عدة قوى يذهب مع كل منها آنًا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد
فيستلقي إلى أن يستريح فينهض إلى العمل على هدًى أو يموت .
لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان : عين تنظر إلى الدنيا ، والأخرى
تنظر إلى الآخرة . فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين ، وأقذوا الأخرى بما
هو أجنبي عنهم ففقدوا المطلبين ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا وتطهير ما أقذوا.
الإصلاح والمصلحون : للقائل أن يقول : كيف تدعي أن دعاة العلم والدين
قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جوّ مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد في هذه الأيام . كلُّ يقول : ديني ملتي : إسلام مسلمون : قرآن سنة :
مجد الإسلام القديم سلفه والصالحون : تعلم تعليم : كتب قديمة كتب جديدة . وما
يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين
الإسلامي كثيرون ولا ترى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا
وصدًّا عما يدعو إليه هؤلاء ، ويمكنني أن أقول له : إن الصادق في هؤلاء ليس
بكثير عُدة ، والجمهور منهم قَلّما يخلص قصده ، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه
الكلمات لكسب بعض دريهمات : ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما
يدرسون شيئًا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه ، وإنما يلقف بعضهم عن بعض
ظواهر كالزَّبد لا تمكث في الأرض . أما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس
يسمعون ما يقولون ، ويطلبون الرشاد مما يعلمون ، خصوصًا في أمر الدين والجمع
بينه وبين مصالح الدنيا لا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا . ولكن الإصلاح
ليس ريحًا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر قد
يقول القائل : لِمَ لَمْ يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى حتى يغلبوا
الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم . وينهضوا بالمسلمين من
هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم ؟ ، ولمَ لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين
يهمسون بالقول ولا يجهرون ، وليس للعلم فيهم دعاة مليُّون ؟ أليس ذلك سبيلاً
لمؤاخذة الإسلام ، وحجة عليه ؟ ؟ وأقول له : إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون
أسعد من حظ مقلديهم ، بل المنتظر أن يكون أتعس وقد أقامت المسيحية ما يزيد
على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم أو تنشأ الحرية الشخصية ؛ أو تسري فيها
الحركة العلمية ؛ إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية ، مع توالي المنبهات ؛
وتواصل الصدمات إثر الصدمات ، ولم يمضِ على المسلمين من يوم استحكمت
فيهم البدعة وأطبقت عليهم ظلم المحدثات ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان
قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة ، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد ذلك الزمن
الذي قد يكون عُمرًا لمثل هذه الحالة ، ثم تقضي نحبها في آخره . وما أظن أن يمر
على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له .
الفرق بين التعصبين : وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر
المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلاً عن
أن يقال : إن المسلمين أشد إفراطًا فيه . والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين
في التعصب ألفاظ وكلمات ، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال
وضربات في المعاملات ؛ وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في
المستعمرات الهولاندية في الشرق ومثل مملكة الترنسفال قبل سقوطها وبلاد الناتال
في الجنوب ، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب ليعلم كيف تكون الشدة
في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية وكيف يبلغ التعصب من أهله حدًّا
تنظر إليهم فيه الإنسانية شزرًا ولا تقبل لهم فيه المدنية عُذرًا .
ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكتاب الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة
من أمرهم مع المسلمين . يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد
المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة
والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم . وأرباب الأقلام
يبحثون عن ؛ تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة ويأبى الله أن يعثرهم على
ما يبحثون عنه ، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما
يقرره فلاسفتهم .
* * *
( رأي هانوتو الأخير في
معاملة المسلمين )
موسيو هانوتو أطلق لقلمه من سنوات أن يجري في البحث عن طريقة حكم
للمسلمين وقاعدة لمعاملتهم في البلاد التي يحكمها الفرنسيون وجاء في فصول مقاله
بما لا يزال يذكره القراء . ثم بعد أن قتل المسألة علمًا ثلاث سنين رجع إلى
موضوع البحث هذه السنة بلسان غير الذي كان ينطق به ورأي غير الذي كان
يصدر عنه . وإني ذاكر ملخص ما نقلته الجرائد من خطابه الذي ألقاه في المجمع
الجغرافي في شهر مارس من هذه السنة متعلقًا بأفريقيا ، واقتصر منه على ما يتعلق
بما نحن فيه وهو بالمعنى : ( إن القواعد الجديدة التي يجب أن يكون عليها العمل
في أفريقيا هي مخالفة للقواعد القديمة التي كانت تجري عليها السياسة الاستعمارية
فيما مضى من الزمان ، أي : قبل ساعة وقوف الخطيب لإلقاء خطابه ) ثم بين هذه
القواعد الجديدة التي يعامل بها المحكومون فقال : إنها الأمن والسلم ثم قال : ( إننا
مدينون لهم بالعدل والسلم كما أننا مدينون لهم بالتساهل الديني ، ولست أشير إلى
هذا الموضوع الخطير الذي له علاقة بكل ما يثير النفس البشرية إلا إشارة خفيفة
فأقول : إن التمدن الأوربي يجد في طريقه في أفريقيا لا سيما في شمالها ذلك الدين
القديم العظيم الذي هو دين الإسلام ، والذي هو في هذه الجهات ( شمال أفريقيا ) أكثر
نشاطًا منه في غيرها . وهذا الدين يدعو إلى إله واحد ويجعل الإيمان بالتوحيد
مصدرًا لكل الفضائل الذاتية والاجتماعية ويستولي على المؤمن به استيلاءً شديدًا
فلا يعود بقدر على التفلت منه ، فمن المفروض علينا التساهل في هذا الشأن بل
ليس التساهل بكافٍ وحده ، فمن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه .
وعلينا أن نتخذ الكلمة الإسلامية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) شعارًا
لنا لا نخرج عن حدود معناها . وأن نحترم الدين الإسلامي ونحميه من كل طارئ
سوء . ولا بأس بذكر كلمة للأمير عبد القادر الجزائري في هذا المقام وهي : ( إن
أصحاب الأديان الثلاثة يشبهون ثلاثة إخوة من ثلاث أمهات ) انتهى محصل كلام
هانوتو . قبل الكلام عليه أسأل القارئ : هل سمع مثل هذه الكلمة ممن يماثل الأمير
عبد القادر في نسبه إلى صاحب الرسالة ومقامه في أهل دينه ومكانته من سلامة
العقيدة في مذهبه ؟ أو سمع ما يقرب منها ممن لا يدانيه من أهل الملل الأخرى ؟
ترى هانوتو يرشد أهله إلى اتخاذ سبيل جديد في سياسة المسلمين ، وهذا الجديد
هو السلم والأمن والتساهل مع المسلمين في أن يستمرُّوا مسلمين واحترام حقوقهم
وتركهم يعملون بدينهم . وعَدَّ هذا مبدأً جديدًا لم يسبق الجري على مثله . وهل
تجنب الحكومة الفرنسية طلبه ؟ مسألة فيها نظر . فهل يليق بمنصف أن يذكر
المسلم إذا ذكر التعصب ما دام في هذا الكون مثل هذه الدرجة منه ؟
* * *
( سياسة الإنكليز في التسامح )
نعم نحن لا ننكر أن بين الأمم الأوربية أمة تعرف كيف تحكم من ليس على
دينها ، وتعرف كيف تحترم عقائد من تسوسهم وعوائدهم ، وهي الأمة الإنكليزية فهي
وحدها الأمة المسيحية التي تقدر التسامح حق قدره . لا يصعب علينا أن نقول : إن
منشأ ذلك أن أمراءها في الحروب الصليبية وقوّاد جيشها كانوا من أشد الصليبيين
علاقة بسلطان المسلمين وأمراء جيشه . وقد امتاز الإنكليز في ذلك الزمن المظلم
بدرس عقائد المسلمين وعاداتهم فحملوا من ذلك شيئًا كثيرًا إلى بلادهم ولم تحجبهم
غشاوة التعصب عن إبصار ضوء الحق ، وظهر أثر ذلك في أقلام كثير من كتابهم
مثل ولترسكوت و شيل وغيرهما قبل أن يظهر في أقلام الكاتبين من غير الإنكليز
بأزمان طويلة . فلنا أن نقول : ولا نخشى لائمًا : إن هذه الخصلة الشريفة - خصلة
إطلاق الحرية لأهل الدين يتمتعون بأداء فرائضه مع احترام ما يحترمون - هي من
أجلّ الخصال ورثها غير المسلمين عن المسلمين . وهل أجد من يأبى عليّ القول
بأن الإسلام السليم من البدع هو أستاذ الإنكليز وعنه أخذوا هذه الخلة ؟ ألا ترى أن
نظامهم في ذلك يقرب من نظام المسلمين في يوم كانوا مسلمين : يكتفون من الناس
بالخضوع للقوانين وأداء ما يفرض عليهم من الضرائب ثم يحفظون نظام العدل
بينهم بقدر ما تسمح به السياسة لا يفرقون بين دين ودين . وهكذا كان حال
المسلمين ، وإن كان ذلك على قاعدة أبر وأرحم .
خاتمة : فإن قال قائل : أليس لهذا المقال من آخر ؟ أليس في طول الكلام
مجلبة الملل ، وترويج الكسل ، قلت : إني أوجِّه كلامي هذا إلى أهل النَّهَم إلى الفهم ،
وأرباب الشره إلى المعرفة ، ولا أظن هؤلاء إلا طالبين ما هو أوسع من هذا
المقال وأطول منه أضعافًا مضاعفة ؛ لأن الموضوع جليل ، والكلام فيه مهما كثر
قليل ، وأما القارئ الملول ، فعقله مدخول ، وعزمه مفلول ، وفكره مغلول ، وهو
قصير الهمة فيما يقصر وفيما يطول ، فلا ينظر إليه في الخطاب ، ولا يعتد به عند
الحساب ، ومع ذلك فأنا واقف عند هذا الحد . وأنتظر بتفصيل القول في مسألة
أمراض الإسلام وآثار البدع والمحدثات فيه ، والعلل التي نشبت بالمسلمين بسببها
فرصة أخرى ، وقبل أن أترك القارئ أنبهه إلى ما أجمل في هذه الفصول لم يقصد
به الطعن في حال أحد من الناس ولا طائفة من الطوائف كما يعرفه القارئ نفسه من
لباس المعاني ، وما يكسوها من الأدب والتنزه عن كل كلمة تشم منها رائحة العيب
على آخر . وقد يعلم من هذه النزاهة أن هذا رأي طبخناه لنَطْعَمَه بأنفسنا ، وننفق
منه على من تلزمنا نفقته من أهلنا ، ولم يكن يخطر ببالنا عندما أَجَدنَا طَبخه أن
نُفيض منه على غيرنا ، لكن إذا عَشَا الساري إلى ضوء نارنا ، وطلب القرى مِنَّا
قاسمناه ما لدينا ، وعرضنا عليه أَحَرَّ من نَفَسِ الحياة ، وأهنأ من خُلق الأناة إن شاء
الله . ا هـ
( المنار )
من عجيب الاتفاق أنه بعدما كتب هذا المقالات ونشر بعضها ظهرت تلك
المقالة للمستر كوربت الإنكليزي وسنلحق قوله في الإسلام بالمقالات إذا طبعت على
حدتها في كتاب ، ونبشر القراء بأن هذا الإمام وَعَدَ بأن يكتب مقالاً آخر ملحقًا بهذا
في بيان أن ما طرأ على الإسلام من البدع وما لحقها من الجمود سيكون هو السبب
في الرجوع إلى الأصل وإعادة مجد الإسلام ولعلها تنشر في الجزء الآتي .
وقد بلغ كتاب ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) نحو مائتي صفحة
وسنزيده شهادة الكاتب الإنكليزي ، ثم مقال الإمام الموعود به . وقد طُبع على ورق
جيد ، وجعلنا ثمنه مع هذا خمسة قروش صحيحة فقط رغبةً في سعة انتشاره .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يذكر القراء أن كلام الجامعة في الطعن بالإسلام كان مبنيًّا على أربعة أمور تقدم الرد على ثلاثة منها وفي هذا المقال الرد على الرابع .
(2) المنار : رواه أبو الشيخ ابن حبان في العظمة عن أبي هريرة بسند ضعيف ورواه من طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ولكن له روايات أخرى منها رواية الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بلفظ (ثمانين سنة) وفي رواية موقوفة على ابن عباس (خير من قيام ليله) ولشهرة هذا المعنى قال الغزالي : وردت السنة بكذا .
(5/561)
 
عودة
أعلى