حوار حول الدراسات القرآنية والقراءات المعاصرة : أرجو التعليق

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع الكشاف
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

الكشاف

New member
إنضم
15/02/2005
المشاركات
146
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
قرأت في أحد المواقع على الانترنت حواراً مع الأستاذ عبدالرحمن الحاج - باحث سوري - حول القراءات المعاصرة للقرآن الكريم . وقد ظهر لي من خلال الحوار غموض كثير من المفردات التي يستعملها السائل والمجيب معاً ، أضف إلى ذلك أن الضيف له معرفة بالكتابات المعاصرة التي تدعي إعادة قراءة القرآن ، ولكنه ظهر لي من خلال الحوار الجهل الكبير بكتب ومناهج ومصطلحات وتعبيرات المفسرين الحقيقيين كالطبري وابن كثير وغيرهم . وظهر لي من خلال الحوار أن جهود أولئك المفسرين لم تعد صالحة لأن يتشرح القرآن الكريم للمسلم المعاصر ، وأن الضيف يرى أننا ما زلنا في بداية فهمنا للقرآن الكريم ... الخ ما ذكره في ثنايا حواره من أراء لم أره قد وفق فيها . هذا هو نص الحوار ، وأرجو التكرم بالتعليق من المشرفين والمتخصصين في الملتقى كالدكتور أحمد الطعان مشكوراً.

أجرى موقع "الشهاب" حواراً مع رئيس تحرير "الملتقى الفكري للإبداع" عن الدراسات القرآنية الحديثة، والقراءات المعاصرة، ناقش فيها الحاجة إلى أداوت جديدة لفهم القرآن، وأهم الأحداث الفكرية والتاريخية التي ساهمت في بلورة التوجهات الجديدة لتفسير القرآن الكريم، والعلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني، وأسباب الاختلاف في القراءة المعاصرة، والإضافات التي قدمتها هذه القراءات في فهم القرآن..
والأستاذ عبد الرحمن الحاج، كاتب وباحث سوري، متخصص في الدراسات القرآنية والفكر الإسلامي المعاصر، رئيس تحرير "الملتقى الفكري للإبداع" (www.almultaka.net) الذي عقد مؤتمراً دولياً بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي (بيروت 11-12 شباط/فيراير 2006) تحت عنوان: "التطورات الحديثة في دراسة القرآن الكريم"، له عدد من الكتب، منها: "خطاب التجديد الإسلامي: الأزمنة والأسئلة" (بالاشتراك 2004) و"الإسلام في عالم متغير: سياسات الإصلاح الإسلامي بعد 11 أيلول" (بالاشتراك 2005)، و"حداثات إسلامية" (بالاشتراك 2006 تحت الطبع)، و"المفردة القرآنية: دراسة أصولية لسانية في نظام المعنى" (2006 تحت الطبع) وله عدد من البحوث والدراسات، منها: "تأسيس أصول التفسير وصلته بمنظور البحث الأصولي" (2005)، "المفردة كأداة لتحليل الخطاب القرآني" (2006)، وله كثير من المقالات في الصحافة العربية. -----------------

نص الحوار
س: أولا ما أهمية توضيح القرآن من خلال تفسيره أو تحليله أو دراسته مادام كتابا عربيا مبينا، إضافة إلى إحجام الرسول عن إيضاحه؟ ثم ما أهمية تطوّر /أو تطوير وسائل اكتشافه؟

علينا هنا أن نلاحظ أمرين:
أولاً: الحاجة بالنسبة للقرآن ليست في توضيحه وبيانه، بل في تأويله، فالكتاب الكريم (القرآن) فعلاً عربي ومبين لمن يريد قراءته، والمسألة هي أن هذا الكتاب يتضمن رؤية وأحكاماً تجمع طرفي التاريخ: البداية والنهاية، وإذا لم نكن مهتمين بالماضي كثيراً فاهتمامنا بالمستقبل لا مفر منه، القرآن يطرح نفسه رسالة تغطي المستقبل حتى نهاية التاريخ الوجودي للبشر في هذه الدنيا (يوم القيامة)، وهذا يقتضي من المسلم مساءلته دائماً وأبداً عن مستقبله، ويسترشد به في مساره... ثانياً: قدرة النص الكريم (وهي قدرة فائقة دون شك) على المعاصرة، أي أن يكون له معنى راهناً يتطلب من العصر ذاته مساءلته وامتحانه باستمرار، لأن العصر ليس إلا المعرفة الجديدة وتجلياتها، بهذا المعنى فإن المعرفة الجديدة هي التي يمكن أن تتحقق من معاصرة القرآن وقدرته على مواجهتها أو التفاعل معها يمكن أن يقدم تصورات جديدة لم نكن قادرين على رؤيتها؛ لأن أفقنا الثقافي والمعرفي كان أقل... وأحيلك هنا إلى نظرية "هانس روبرت ياوس" في "أفق التوقع"، وهي نظرية تستحق كثيراً من الاهتمام بالنسبة لدارسي القرآن، مع اختلاف الثقافة والمعرفة التي تكون خلفية القارئ تتفتح آفاق مختلفة، فيرى كل قارئ أشياء مختلفة، وكلما كان الاختلاف جذرياً في الخلفيات الثقافية والمعرفية سيكون هذا مؤثراً بشدة على ما نراه في النص من احتمالات تأويل. باختصار حاجة المعاصرة هي حاجة لاكتشاف تأويلات ومغازي (جمع مغزى) جديدة، تثبِّت موقع القرآن ودوره كرسالة خاتمة، من هنا تأتي أهمية تطور وسائل استكشاف معاني القرآن وتأويلاته التي سألت عنها.

س: إذا كان نزول القرآن فرَق التاريخ إلى قسمين هما ما قبل وما بعد النزول، فما الذي يفرق بين مرحلتي التفسير التقليدي والقراءات المعاصرة للقرآن الكريم؟ أو ما هي أهم الأحداث الفكرية والتاريخية التي ساهمت في بلورة التوجهات الجديدة لتفسير القرآن الكريم؟

الحقيقة أن تاريخ التفسير تواريخ وليس تاريخاً واحداً، ورغم أنه من التجاوز وضع التفسير التقليدي كما لو أن له تاريخ واحد، أو كما لو أن مفهوم التقليدي واضح، لكن مع ذلك .. فإن المسار من "التفسير التقليدي" إلى "القراءة المعاصرة" مرَّ عبر مرحلة وسيطة هي "التفسير المعاصر"، وقد شرحت في دراسة سابقة لي بعنوان " أيديولوجيا الحداثة في القراءة المعاصرة للقرآن" مميزات المرحلة الوسيطة هذه، سأعتبر ابتداء أن "التفسير التقليدي" يعتمد على نسق ثقافي ومعرفي ينتمي إلى الحضارة الإسلامية، فهو تفسير لا تدخله أي معارف جديدة، وبالتالي فإن تصوراته للعالم (فيما دون المستوى العقدي) تنتمي إلى عالم آخر، إلى التاريخ بصراعاته وخلافاته، وهذا يفسر استمرار حضور التاريخ الفكري (المذهبي وربما السياسي) في كل ما يمكن وصفه بالتفسير التقليدي بهذا المعنى، إنه التفسير الذي لا يتصل منهجياً بالمعرفة الغربية الحديثة أو المعاصرة. "التفسير العصري" ولد بتأثير استعارة من نتائج المعرفة الغربية الحديثة، لكن دون الاستفادة من المسألة المنهجية، وهو يعود تاريخياً إلى المدرسة الإصلاحية (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده)، لكنه ما اكتسب اسم المعاصرة حتى سك "مصفى محمود" (في مصر) تعبيره "التفسير العصري" في السبعينيات من القرن المنصرم، والمتابع للتفسير العصري لا يجد تحولاً على المستوى المنهجي، ما تزال الآلية والأدوات المستخدمة في التحليل والتفسير هي هي، ولكن الذي تغير هو تصور المفسِّر للعالم (Weltanschauung) أو (World View)، ومن الواضح أن الأدوات المنهجية التقليدية لم تساعده على إسقاط رؤيته الجديدة للعالم المتأثرة بقوة بالتصور الأوربي له، لهذا جاءت تأويلاته في كثير من الأحيان متعسفة، ولم يستطع تقديم تفسير متكامل للقرآن، فهو لن يستطيع بأدواته سوى تكرار ما قيل، لكن ما استطاع القيام به هو إجراء تأويلات على تلك الآيات التي تتصل بتصوره الجديد عن العالم. أما "القراءة المعاصرة" فهي شيء جديد كلياً، جديد على مستوى الأدوات والمناهج؛ إذ يحيلنا مصطلح "القراءة" إلى اللسانيات الحديثة، واللسانيات هي في المحصلة مناهج ونظريات تمثل بمجموعها أدوات بحث، يضاف إلى هذه الأدوات تصور جديد للعالم ليس هو التصور الذي وجد في "التفسير العصري"، بل هو تصور راهن متأثر بحصيلة التصور الغربي وحداثته للعالم كما انتهى إليه اليوم، تعود بدايات ظهور القراءة المعاصرة إلى الأربعينيات مع "مدرسة الأمناء" في مصر، وقد يكون الفضل للكاتب السوري "محمد شحرور" سك مصطلح "القراءة المعاصرة" نظراً لما أثارته قراءته من ضجيج، وبذلك أصبحت القراءة المعاصرة قادرة على قراء القرآن بشكل كلي، لكن المشكلة ـ كما يبدو لي ـ أن "القراءة المعاصرة" (كنظرية لا كتطبيق) أصبحت غير قادرة على قراءة تامة لكل النص، كما هو الحال في التفسير التقليدي، فمفهوم النص أصبح مختلفاً، وحديث اختلاف "مفهوم النص" حديث طويل. وأعتقد أنني أجبت ضمناً على الشق الثاني من سؤالك. س: ما هي الإضافات الحقيقة التي قدمتها القراءات المعاصرة سواء من حيث المقاربات المنهجية أو من حيث الكشوفات المعرفية؟ وما مدى العلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني؟ أريد أن أميِّز هنا بين "القراءة المعاصرة" كنظرية، و"القراءة المعاصرة" كتطبيق، فما قدمته القراءة المعاصرة كتطبيق أكثره أيديولوجيا وليس معرفة علمية، وغالباً أيديولوجيا ماركسية تاريخانية متزمتة، لهذا فإن بين الكثير الذي كتب تحت عنوان القراءة المعاصرة لا نعثر على محترمة تقدم معرفة جديدة، نعم نعثر على الكثير من القراءة الاستفزازية، وخصوصاً قراءة "محمد شحرور"، مع ذلك فإن الشيء المهم الذي قدمته القراءات المعاصرة للقرآن أنها استنفرت الباحثين والدارسين للقرآن للاطلاع على المناهج اللسانية الحديثة، لتتحول مسألة القراءة المعاصرة إلى مسألة حاجة تاريخية، وليست مرتعاً للأيديولوجيات المريضة. أما سؤالك عن العلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني فهو سؤال عن أخطر القضايا المتعلقة بالقرآن، ولا يتسع المجال هنا لمناقشتها، لقد أدى بي البحث في هذا الموضوع إلى الخلاصة التالية: إننا أمام افتراض إيماني بأن هذا النص إلهي ويحمل رسالة خاتمة، وهذا يقتضي أن تكون أحكامه فوق تاريخية، أي تحكم التاريخ ولا تحتكم إليه، وانطلاقاً من ذلك إذا لم يُحِلْ النص من داخله إلى تاريخية مفاهيم أو أحكام ما فإنه يبقى على الأصل، أي فوق تاريخي، وهذا عموماً متعلق بالأحكام، والصيغ التي ترد فيها الأحكام عموماً لا تشي بأي تاريخية، وفي هذه المسألة بالذات فإن أي تاريخية يمكن أن تقال هي في الواقع من خارج النص، ومادام النص لا يبوح بها، فليس ملزماً بها. أركون أما ما يرد بشكل واضح وصريح من الأحداث وبعض الأحكام، فهو كما أشار إليه النص، حقائق تاريخية محددة الأشخاص والأزمنة والأمكنة... الغريب أن المسألة معكوسة لدى الحداثيين العرب الذين يزعمون تقديم قراءة معاصرة للقرآن، فهم يجعلون الأحكام تاريخية ويخرجون الأحداث عن سياقها التاريخي تحت مزعم "الرمزانية" و"الأسطرة"! كما لو أنهم يقدمون قراءة مضادة أيديولوجياً، هم مسكونون بدون شك بمواجهة النص الديني وإزاحته عن طريقهم انطلاقاً من رؤية وضعية حداثوية.

س: الفرق بين التفاسير القديمة مثل تفاسير الطبري /القرطبي/ابن كثير... أو حتى التفاسير المعاصرة مثل الظلال/ صفوة التفاسير/ المنار... وبين القراءات المحدثة مثل قراءات الحاج حمد/أركون/أبو زيد...يكمن في كون القراءات المحدثة تم الاختلاف عليها بشكل كبير جدا إلى حد رفضها بالمجمل عكس التفاسير السابقة لها؛ إذ نجد اتفاق شبه عام حولها على الأقل من حيث المنهج، هذا إضافة إلى كون جل التفاسير المحدثة تفاسير جزئية غير متفرغة تماما لإتمام التفسير وهو ما يعاكس تماما نهج التفاسير القديمة الكاملة للقرآن الكريم، إلى ماذا يرجع الأمر؟ أم أن المعاصرين أصبح عاجزين حقا عن تتبع القرآن كلية؟

الاختلاف في المناهج في القراءة المعاصرة يرجع إلى سببين:
الأول: الاختلاف الهائل في العلوم التي تستند إليها هذه المناهج، فمن يقرأ البحث اللساني والعلوم الاجتماعية المتولدة عنه سيكتشف حجم الاختلاف، ولكن من المفترض أن يؤدي هذا الاختلاف إلى زيادة في الفهم، وليس إلى تناقض محتَّم كما هو حاصل غالباً؛ لأن التعدد المنهجي يفترض تعدد زوايا الرؤية.
هذا يقودني إلى السبب الثاني، فالأيديولوجيا المستفحلة في القراءة المعاصرة هي السبب الأساسي لتحوُّل التعدد المنهجي إلى تصارع منهجي وتصارع في القراءات ونتائجها. لكن أيضاً ـ كما أشرت سابقاً ـ إن تغير مفهوم النص وتعدد الأدوات وطرق البحث في القرآن من أصغر وحداته الدلالية إلى جملة بنيته النصية فالخطابية جعلت قراءة القرآن كله أمر غير ممكن نظرياً ألبته، الممكن الوحيد في القراءة المعاصرة هو كشف وتحليل جزء من الخطاب الكلي، وبالمناسبة الميزة الكبيرة للقراءة المعاصرة هو اتجاهها نحو الخطاب الكلي، وليس المعنى الجزئي، وعبر وسائل لم يكن مفكراً فيها من قبل ألبته. حاج حمد

س: إذا اخترنا دراسات كل من الحاج حمد في العالمية الثانية/والمنهجية المعرفية في القرآن، و أركون في تحليل الخطاب القرآني، نجد أن الأول متهم بالغنوص وادعاء النبوة والثاني متَّهم بمحاولة أنسنة النص القرآني أي معادلته بالنصوص التي يكتبها البشر، ما رأيكم في الاتهامات؟ وكيف ترون إسهامات كل من الرجلين؟ وما هو التصرف الذي ترونه الأمثل حيالها؟ أهو الإقصاء مثلاً؟..

هذه الاتهامات فيها بعض الصحة، لكنها تعمم أكثر من اللازم، بالنسبة لأبي القاسم ـ رحمه الله ـ فإن دراسته (العالمية الإسلامية الثانية) موغلة في بعض الأحيان في التصوف، لكن هذا الإيغال على وضوحه لا يشكل جزءاً مهماً من أطروحته، إن أطروحته فريدة دون شك، ومثيرة، لكن المنهجية التي قامت عليها فيها مشكلات عديدة، وهو لم يلتزم بها أصلاً، فنفي الترادف والاشتراك والمجاز على مستوى التحليل الغوي، ثم التأثُّر بالرؤية الماركسية لحركة التاريخ ولكن في إسقاط اجتماعي ديني (الآدمية، العائلية، القومية، العالمية) كل هذا يجعل من الموضوع يحتاج إلى كثير من التريث، على مستوى المنهج المشكلة عميقة وجوهرية، ولو أننا قمنا بمراجعة ما يقوله لوجدنا أخطاء لا تحصى... لكن المسألة الخطيرة التي استطاع أبو القاسم إنجازها هي ابتكار منهج جديد في فهم القرآن أسهم ـ على علاّته ـ بالدفع نحو تطوير الدراسات القرآنية، كما أنه قدم أفكاراً على غاية من الأهمية، ثم إنه كان على طول أطروحته وتطوراتها اللاحقة في الأبحاث الأخرى مدافعاً شرساً عن إطلاقية القرآن ونسبته الإلهية. لقد كان مؤمناً بشدة بالقرآن، لكنني ما كنت أتوقع أن ينتهي في دراساته نهايات مخيبة للآمال، لم أتوقع أبداً أن يتأثر (في دراساته الأخيرة) بشحرور مثلاً، شحرور أقل عدة بكثير من أن يتأثر به أبو القاسم، وشحرور يقف على خلفية فلسفية ماركسية، لقد كنت أتوقع من أبي القاسم أن يطور منهجه، لكنه بدل أن يتطور تراجع، ورسالته لي في (23/3/2004) كانت في جوهرها تأكيداً لنفس المنهج منذ خمس وعشرين عاماً! أما محمد أركون فليس يخفي رغبته بأنسنة النص، وإحالته إلى التاريخ، أركون مؤمن بالعلمانية بالمعنى المادي العقدي، الرجل ينظر إلى النص على أنه من إنتاج محمد (صلى الله عليه وسلم) حسب كلامه فإنه يريد "أرخنة الخطاب القرآني ذاته" و"تأصيل وتجذير للإسلام في أرض المعرفة الوضعية" من أجل "أن نعيد القرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيؤية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية ـ الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي" (حسب تعبيره حرفياً) هذه الأهداف يصرح بها في أكثر من موقع في مختلف كتبه، وخصوصاً كتبه الأخيرة منذ عام 1998 (أي منذ كتاب: "قضايا في نقد العقل الإسلامي: كيف نفهم الإسلام اليوم"). وحتى لو كان أركون يسعى نحو التاريخية، فإن ذلك لا يمنع أن دراسات أركون التي تقوم على تعدد منهجي تقدم إسهاماً رائعاً في فهم القرآن فيما لو حذفنا شقها الأيديولوجي، فمثلاً دراسته لمفهوم الوحي كتابه "القرآن"... أركون عالم كبير، لكنه أيديولوجي مثله مثلَ كثيرين غيره، ومسألة أرخنة القرآن جوهر عمله في سياق رغبته الإصلاحية بـ "تحديث الإسلام"، أي إدخال العالم الإسلامي في نسق الحداثة الغربية ذاتها، تماماً كما حصل مع المسيحية. أنا لا أنصح أبداً أن يقصي الباحث أي دراسة عنه مادامت جادَّة، لكن لا يعني هذا أن تدرَّس في جامعتنا التي اعتادت على التلقي، على الأقل في المراحل الجامعية الأولى، فمن المبكر أن يحصل هذا، يجب إصلاح التعليم أولاً، وليس ثم ما يمنع بعد ذلك من تدريس أي شيء من ذلك، أنا من حيث المبدأ ضد القيود، ليس هناك تطور للمعرفة دون حرية، الحَجْرُ يضر بالبحث العلمي، ولا يملك أحد الوصاية على الآخرين.

س: اقترب مالك بن نبي من إنجاز دراسة قرآنية في كتاب "الظاهرة القرآنية" قدم فيها تحديدات أساسية للتعامل فكريا مع القرآن في ضوء علاقة المثقف المسلم وتأثره بالفكر الغربي، لكنه لم يفعل كون إشكاليته الأساسية تختص بعلاقة النبي (ص) بالوحي (القرآن)، لكن ألا ترى أن النتائج التي توصل إليها كانت ستكون المنطلق الأفضل للتقدم بمسيرة التفاعل مع القرآن في حين نجد أن أغلب المفكرين التالين له و الذين خاضوا في مكاشفة القرآن معنى ومنهجا بصورة تنطبق كثيرا على انتقادات بن نبي للمثقفين الذين بهرتهم وضعية الغرب وواقعيته إلى حد أنهم تجرؤا على أنسنة القرآن وأرخنته؟

لم أفهم سؤالك جيداً، لكن ... ما قدمه بن نبي مهم جداً على بساطته، وهو بداية مهمة لاكتشاف الشخص الثالث في الخطاب القرآني (أعني (الله) تعالى)، ما قدمه بن نبي يستحق المتابعة، وللأسف لم تتابع، واعتمد بن نبي أدوات تحليل بدائية نسبة إلى ما هو موجود اليوم، ونحن مدعون لمتابعة هذا النوع من الدراسات المقارنة مع الكتب السماوية الأخرى (الإنجيل والتوراة)، ونحن في هذا المجال ما زلنا في البداية وعلى الرغم من أن لدينا ما نقوله، لكن الدراسات القرآنية مشغولة بعد بمسائل تقليدية.... أغتنم هذه الفرصة لأدعو الباحثين للتقدم باتجاه دراسات تحليل الخطاب المقارنة بين القرآن والكتب الأخرى، واعتقادي أن دراسات عميقة من هذا النوع مفيدة في مواجهة التاريخانية التي يتعبد بها الاستشراق التقليدي. أشير في هذا السياق إلى الدراسة المهمة التي قام بها الدكتور مصطفى بوهندي (نشرتها "دار الطليعة" في بيروت 2004) وهي دراسة مميزة، يمكن أن يبنى عليها ويتابع الجهد الكبير المبذول فيها.

س: نجد أن المنطق الذي يحكم تعامل الفكر الإسلامي في كل أحقابه يتمحور أساسا إما إلى دعوة دوغمائية للعمل بالقرآن الكريم وإما تعامل شبه معرفي يعتمد الإنشاء والتزويق في الكلام عن الخطاب القرآني؛ ما هو السبيل الأقوم لاستخراج المكنون القرآني وتحقيق حضوره الفعلي في التاريخ عبر تنزل قيمه إلى الواقع وتفعيلها فيه؟ هل من آليات إجرائية؟ أم أن التفكير البراغماتي الموصول بالقيم مازال غضًّا في الفكر الإسلامي علينا انتظار نتائجه مستقبلا...؟

سؤال تنزيل القرآن على الواقع سؤال كبير جداً، ولا أعرف بالضبط حتى الآن كيف يمكن تحقيق ذلك على نحو مثالي، لكن أعرف أننا ما زلنا في البداية، ليس بالإمكان أن نفعل ذلك دون أن نحقق معاصرتنا، أعني فهمنا المعاصر للقرآن، والفهم المعاصر لا يعني بالضرورة نفياً للفهم التقليدي، نحتاج أن يكون القرآن سبيل لمراجعة شاملة للتراث الفكري الديني، وبدون هذه المراجعة النقدية الشاملة، والقراءة المعاصرة للقرآن، ليس بإمكاننا أن نحقق هذا التنزيل على الواقع، وأي تفكير بالتنزيل بالمعنى الحرفي للكلمة على أرض الواقع دون إحداث هاتين العمليتين سيكون تفكير تبسيطي للقضية.

س: يعتبر غارودي أن المسلمين أخلطوا كثيرا بين "الفقه" و"الشريعة" ويرى أن أساس تحرير الإنسان المسلم هو التمييز بين المفهومين كون الفقه تقنين قرآني لا يقارن من حيث الكم بما ورد في النص القرآني من تشريع كان الأساس في كل الرسالات السماوية وسبب نهوض الجيل الأول من حملة الإسلام، لذلك علينا نحن المسلمين إذا شئنا النهضة أن نعطي الأولوية للشريعة قبل الفقه، ما مدى موافقتكم لهذا الرأي؟ وكيف يجب أن نتعاطى مع المضمون القرآني الرحب للوصول إلى القضايا الأساسية للنهضة؟

نعم هناك فرق بين الفقه والشريعة، كما هناك فرق بين الدين وفهم الدين، والنص وفهم النص، لكن غارودي يذهب بعيداً عندما يعمم التاريخانية على أكثر أحكام الشريعة وليس فقط الفقه الإسلامي، أتفق مع غارودي أن علينا أن نعطي الأولوية للشريعة، نعم أتفق معه، ولكن لست معه في المنحى التاريخاني الذي ذهب إليه، ولا في تحديده لما هي حدود الشريعة في نصوص القرآن الكريم.... لماذا لأنه لا يوجد نص دون فهم له، ليس هناك نصوص دينية عذراء، النصوص ليست معلقة في الهواء، لا توجد شريعة دون فقه لها، الدين لا يتجلى إلا من خلال فهم ما له، والتاريخانية تظل أبداً تطارد هذا الفهم، وتبقى على تخوم النص القرآني، وفي غيره تطاله دوماً. سؤال النهضة هذا شبيه بسؤالك السابق عن التنزيل، لكن باختصار أي تفكير بالنهضة يمر عبر القرآن، عبر إعادة قراءته، ونحن ما زلنا نحلم بإعادة قراءته، الآن نحن في طور تطوير الأدوات والمنهاج، في بداية توجه نحو ابتكار طريق ومناهج جديدة للتعامل مع القرآن الكريم، مازلنا في البداية، وعندما يصبح لدينا علم واضح لأصول التفسير يستثمر كل ما أبدعته المعرفة الإنسانية إلى اليوم، عندها يمكن القول إننا نتقدم، وأننا على مشارف صناعة خطاب إسلامي جديد يمكن الثقة به. وباعتقادي أن الفكر ليس وحده يصنع التغيير، لكن بدونه لا يمكن أن يحدث تغيير حقيقي، إلا إذا كان التغيير مجرد التحاق بالآخرين، وأنا أرفض القبول بذلك.

المصدر
 
أخي الحبيب الكشاف أشكركم على ثقتكم ...
سأنزل في الملتقى أربع حلقات حوارية مع جريدة الوقت البحرينية فيها رد غير مباشر على الأفكار الموجودة في اللقاء الذي أجري مع الباحث الصديق عبد الرحمن الحاج ...
والحقيقة قوله : // الحاجة بالنسبة للقرآن ليست في توضيحه وبيانه، بل في تأويله //
هي المحك الذي تنطلق منه القراءات الجديدة للقرآن الكريم فالمهم أن يكون القرآن مبرراً للوجود الواقعي أياً كان هذا الواقع إنه كما قال طيب تيزيني // القرآن يقول كل شيءٍ ولا يقول شيئاً // وهو يعني أن القرآن يقول كل شيءٍ يريده الإنسان ولا يقول أي شيءٍ لا يريده الإنسان وبالتالي لا تبقى هناك حاجة للقرآن إلا أنه يضفي المشروعية للواقع عبر لوي عنقه كما يشاء المؤول عبر " اللعب الحر " ...
القرآن بنظر هذا النفر من الباحثين لا ينص على مطالب محددة وإنما فيه كل شيء كما قال حسن حنفي مؤخراً " سوبر ماركت " وبالتالي يصبح الإنسان هو الحاكم على القرآن الكريم عبر التأويل الذي يتحدث عنه الحاج إن صح أن نسميه تأويلاً ..

أمر آخر يتعلق بالمناهج الحديثة وجدواها في قراءة القرآن الكريم : لقد وجهت سؤالاً مرات عديدة حتى لقد بح صوتي للحاج وغيره من المهتمين بالمناهج الجديدة في لقاءات خاصة وعامة هو : ما هي الإضافات التي يمكن أن نحصل عليها من خلال الوسائل الجديدة لقراءة القرآن الكريم ... أو نريد دراسة تبين لنا : الإمكانات التي تضيفها قراءة القرآن الكريم عبر المناهج الحديثة وتكون هذه الإمكانات غير ممكنة عبر القراءة القديمة أعني عبر أصول الفقه الإسلامي وقواعده . حتى الآن لم أجد إجابة ولعل ذلك لقصور اطلاعي .
من خلال قراءاتي في كتب الخطاب العلماني وجدت أركون وعلي حرب وشحرور أكثر من تبجحوا بالقراءات المعاصرة ولم أجد لديهم جديداً إلا شيئاً واحداً هو : الطعن في كتاب الله عز وجل من حيث مصدره ومنهجه وآياته وتعاليمه وكل كتابات أركون تدور حول تورخة النص كما يفعل أبو زيد أيضاً وهذه التورخة وهذا الطعن في القرآن الكريم ليس مصدره هو المناهج الجديدة أبداً وإنما الخلفية الفلسفية المرتابة للباحث نفسه ولا علاقة للمناهج بها .
 
وأنا أشكرك أيضاً على ما تبذله وتكتبه في التصدي لمثل هذه الدعوات المضللة بارك الله جهدك وسدد رأيك.
 
حسن أبو هنية (*): القراءة الإبداعية للقرآن عند طه عبدالرحمن


أوَليسَ الإنسان هو الكائن الذي ينسى، وينسى أنه ينسى، كما يذكرنا المبدع الذاكر طه عبد الرحمن، فلماذا لم نعد نذكر من الحضارة الغربية سوى أنّها عقل وتعقيل، هل أصابنا الجنون أم ابتلينا بالنسيان؟ مَن الذي أصرّ على نعت الحداثة بأنها حضارة منكفئة على "اللوغوس" في دلالته اليونانية الأصلية أو القول بإيجاز إنها "حضارة لوغوس"؟

نعم هذا صحيح، ولكن أليس من معاني "اللوغوس" التي برزت معنيان اشتهرا أكثر من غيرهما، وهما: "العقل" و"القول"؛ فحينئذ، تكون الحضارة الحديثة حضارة ذات وجهين: "حضارة عقل" و"حضارة قول"؟

لكن الوجه الذي شغل الناس عمومًا والمتفلسفة والحداثيين خصوصًا أكثر من الآخر إلى حد الافتتان به، هو كونها "حضارة عقل"، لماذا التعنت إذن، لم لا نقرّ مع عبد الرحمن بأنّ ما نشاهده في واقعنا هو نقل للحداثة الموجودة في واقع الحداثة الغربية، وهذا النقل ليس فيه ابتكار ولا جمال، ودعونا نتساءل كيف نتصرف مع هذا الواقع، كيف نصبح لا ناقلين للحداثة، بل مبدعين لها، ولنبدأ بقراءة القرآن إبداعًا لا ابتداعًا.

إذا سلّمنا بأن القراءة الحداثية للقرآن الكريم لم تحقق الهدف المنشود التي توخت إنجازه ولا المقاصد الشريفة التي سعت إلى إحداثها في العالم العربي من التحرير والتنوير، وتبين أنها جلبت مزيدًا من الاستلاب والظلمة بسبب اعتمادها مناهج حداثية مقلدة للنسق الغربي وإسقاطها آليًّا على القرآن الكريم؛ الأمر الذي أدى إلى التشكيك في صحة النص القرآني وأصله الإلهي وقداسته وتمام تشريعه وصلاحيته، وإذا تقرّر أنّه لا سبيل إلى التحقّق بالحداثة إلا بإنجاز تحرر حقيقي من الوصاية والهيمنة للدخول في أفق الإبداع، فما هي آليات القراءة المبدعة للقرآن الكريم؟

لا بدّ من التأكيد أنه لا سبيل للمسلمين من أجل الدخول في أفق الحداثة وإنجاز حداثة حقيقية مبدعة من تحقيق قراءة جديدة للقرآن الكريم باعتباره أساسَ وجود الأمة الإسلاميّة وسر صناعة تاريخها، الذي دشّن الفعل الحداثي الإسلامي الأول، وهو ما يعترف به جمع من الحداثيين جزئيًّا كمحمد أركون وغيره.

ومن هنا، فإن تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني لا يتحقّق إلا بإبداع قراءة ثانية تعمل على تجديد الصلة بالقراءة النبوية الأولى، وتفجر الطاقات الإبداعية في عصرنا كما فعلت في العهد النبوي، وإذا كانت الحداثة في المجتمعات الغربية أنجزت على أساس مواجهة المؤسسات الكنسية التي مارست وصايتها على الدين والثقافة والسياسة وتسببت في وقوع حروب دينية مزقت المجتمع، فإنّ الحداثة الإسلامية قامت على النقيض مع مقتضيات الحداثة الغربية التي قامت على التصارع مع الدين وأنجزت إبداعًا منفصلًا على أساس القطيعة.

فالحداثة الإسلامية الأولى قامت على أساس التفاعل مع الدين، ولا بد للحداثة الإسلامية الثانية أن تسلك نفس المنهج التفاعلي لإنجاز إبداع متصل. لقد شكلت قراءة النص القرآني أحد أهم انشغالات وتحديات النخبة الحداثية العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، وذلك لما يتمتع به القرآن الكريم من دور وتأثير مركزي في تشكيل العقل العربي الإسلامي، وذلك باعتباره أحد أهم العقبات المعرفية التي تقف عائقًا أمام تحقيق النهضة والتقدم والتحرر.

وقد انتهجت القراءة الموسومة بالحداثية منهجًا مقلّدًا لنسق الحداثة الغربية، وعلى الرغم من الاختلاف البيّن والمقاربات المتعدّدة لمفهوم الحداثة عند أهلها؛ إلا أن القراءة العربية للحداثة تعاطت معها كمشروع مكتمل بدأ في لحظة تاريخية في الغرب ولا بد أن تشمل آثاره العالم بأسره، وآمن الحداثيون العرب بجملة الصفات التي طبعت المشروع الحداثي الغربي مع اختلافهم في أولوية الصفات المميزة للحداثة وتحليل أسبابها ونتائجها.

فالحداثة عند بعضِهم هي النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر، وهي عند آخرين الدخول في أفق العلم والتقنية وممارسة السيادة على الطبيعة والمجتمع والذات، وقد تطرف بعض الحداثيين العرب بقصر الحداثة على صفة واحدة كالانقطاع عن التراث أو نزع القداسة عن العالم أو أنها تبني العقلانية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان، واعتبرها بعض الحداثيين العرب الدخول في أفق العلمانية والانفصال عن الدين.

لا توجد قراءة عربية حداثية متكاملة للنص القرآني كما هو واضح، لكنّنا نجد دعوات عديدة لإنجازها تضع لنا خططًا واستراتيجياتٍ تقوم على جملة من الآليات تقوم على وجوب تحقيق قطيعة معرفية مع القراءات الإسلامية التراثية التي تعمل على ترسيخ الإيمان والاعتقاد واستبداله بترسيخ التشكيك والانتقاد، ومن أشهر دعاة القراءة النقدية الحداثية محمد أركون وأتباعه من التونسيين مثل عبد المجيد الشرفي ويوسف صديق، والمصري نصر حامد أبو زيد، والسوري طيب تيزيني، ويدخل في هذا الباب دعوة المصري حسن حنفي التأويلية بشكل أقلّ حدّة.

اتبعت دعوات القراءة المقلّدة في سبيل تحقيق مشروعها الحداثي النقدي مجموعةً من الخطط تهدف إلى رفع العوائق الاعتقادية، ومن أبرزها: خطة أنسنة القرآن الكريم، والتي تهدف إلى رفع عائق القداسة عن النص القرآني، عن طريق التعامل مع الآيات القرآنية باعتبارها وضعًا بشريًّا.

وقد عبّر عن ذلك عبد المجيد الشرفي بنزع "الميثية" عن النصّ الديني بمحاولة أنسنته بعلمنة القراءة، وانتهجت هذه القراءة الحداثية عمليات خاصة، كحذف عبارات التعظيم المتداولة إسلاميًا واستبدال المصطلحات المقررة تاريخيًّا بمصطلحات جديدة، كاستبدال مصطلح نزول القرآن بالواقعة القرآنية، والقرآن الكريم بالمدونة الكبرى، والآية بالعبارة، والاستشهاد بالكلام الإلهي والكلام الإنساني على نفس الرتبة في الاستدلال، والتفريق بين مستويات مختلفة في الخطاب الإلهي، كالتفريق بين الوحي والتنزيل، والقرآن والمصحف، والشفوي والمكتوب.

وفي هذا السياق يقول محمد أركون: "وكنت قد بينت في عدد من الدراسات السابقة أن مفهوم الخطاب النبوي يطلق على النصوص المجموعة في كتب العهد القديم والأناجيل والقرآن كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيمائية للنصوص، لا إلى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية".

ويؤكد هذا المعنى أبو زيد بقوله: "إن القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم". وكان من نتائج التطبيق المنهجي لخطة أنسنة القرآن، جعل القرآن نصًّا لغويًّا لا يختلف عن النصوص البشرية، وترتب على هذه المماثلة اللغوية بين النص القرآني والنصوص البشرية اعتبار النص القرآني مجرّد نص أنتج وفق المقتضيات الثقافية التي تنتمي إليها اللغة ولا يمكن أن يفهم أو يفسر إلا بالرجوع إلى المجال الثقافي الذي أنتجه.

كما شدد على ذلك نصر حامد أبو زيد بقوله: "إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية، بمعنى أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم إنتاجها طبقًا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي". ومن نتائج هذه القراءة الحداثية جعل القرآن إشكاليًا؛ بحيث يصبح النص مجملًا ينفتح على احتمالات متعددة وتأويلات غير متناهية. فالطيب تيزيني يرى: "أن الوضعيات الاجتماعية المشخصة في المجتمع العربي بما انطوت عليه من سمات ومطالب اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية… إلخ، هي التي تدخلت في عملية خلخلة النص القرآني وتشظيه وتوزعه بنيويًّا ووظيفيًّا في اتجاهات طبقية وفئوية وأقوامية إثنية متعددة، وقد أتى ذلك على نحو ظهر فيه هذا النص معادًا بناؤه وفق قراءات متعدده محتملة تعدد تلك الاتجاهات وحواملها المجسدة بالوضعيات المذكورة إيّاها". ومن النتائج المترتبة على القراءة الحداثية، فصل النص القرآني عن مصدره الإلهي وربطه بالقارئ الإنساني، واعتباره نصًّا غير مكتمل كما يؤكد ذلك تيزيني بقوله: "فإننا في الاختراق الحالي نواجه المسألة من حيث هي مساءلة حول "تمامية المتن القرآني"، وكما هو بيّن، فإنّ إجماعًا على هذه التمامية يغدو والحال كذلك أمرًا خارج المصداقية التاريخية التوثيقية".

لكن الإبداع الموصول يقوم على مقاصد وغايات وآليات غفلت عنها دعوى القراءات الحداثية المقلّدة تارةً، وتنكرت لها تارةً أخرى، على الرغم من اقترابها ظاهريًّا؛ فالخطط الإبداعية المتصلة للقراءة لا تقصد إلغاء القداسة باعتبارها عائقًا معرفيًّا، وإنما تهدف إلى إلغاء كل تقديس في غير موضعه كتقديس الذات أو الفرد، وبالتالي فإن خطة الأنسنة الإبداعية إنما تكون بقصد تحقيق "الكرامة الإنسانية": فانتقال الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري يحقق كرامة الإنسان.

وهو ما يعزز التفاعل الديني، فالقرآن إنما هو وحيٌ نزلَ بلسان الإنسان العربي، وإن كان خطابه يتوجه إلى الإنسانية عامّة، وبهذا لا جدال بأن القرآن إنما هو وحي اتخذ في شكل تبليغه وتحققه اللساني وضعًا إنسانيًّا، وهو ما يعيد الاعتبار للإنسان، ليس بالتخلص من سلطة الإله، كما هو شأن القراءة المؤنسنة التي وقعت في رق التقليد، وإنما بموافقة الإرادة الإلهية التي أرادت أن يكون الإنسان خليفة في تدبير شؤون العالم. فخطة الأنسنة المبدعة تعمل على إعادة صلة الإنسان بخالقه وتحقق كرامته، وتكشف عن مظاهر تكريم الإنسان وأسبابه ومراتبه في القرآن، وتستخرج الأدلة التي تؤكد على مبدأ الاستخلاف، وقد تنبه لخطة الأنسنة في القرآن الكريم بعض الحداثيين العرب كهشام جعيط. ومن الاستراتيجيات المتبعة في القراءة الحداثية العربي، خطة عقلنة النص القرآني، والتي تهدف إلى رفع عائق الغيبية، وبحسب هذه القراءة فإن العائق الأكبر يتمثل في اعتقاد أن القرآن وحي جاء من عالم الغيب، ولذلك لا بدّ من التعامل مع الآيات القرآنية طبقًا للمنهجيّات والنظريات الحديثة.

كما يرى أركون: "من أجل زحزحة إشكالية الوحي من النظام الفكري والموقع الإبستمولوجي الخاص بالروح الدوغمائية، إلى فضاءات التحليل والتأويل التي يفتتحها الآن العقل الاستطلاعي الجديد المنبثق حديثًا". ومن العمليات المتبعة في سبيل تحقيق خطة عقلنة النص القرآني اعتبار علوم القرآن التي اتبعها علماء المسلمين تشكل وسائط معرفية متحجرة تمنع من التواصل مع النص القرآني، وتعيق أسباب النظر العقلي.

ومن هنا كان لا بد من نقل مناهج علوم الأديان المتبعة في تحليل ونقد التوراة والأناجيل وتطبيقها على النص القرآني، والتوسل بالمناهج المعتمدة في علوم الإنسان والمجتمع، واستخدام النظريات النقدية والفلسفية الحديثة، وإطلاق سلطة العقل دون حدود. وقد ترتب على خطة القراءة العقلانية للقرآن تغيير مفهوم الوحي الذي اعتبرته القراءة الحداثية عائقًا مفهوميًّا لا بد من استبداله بتأويل يسوغه العقل، واعتبار كل ما يناقض العقل في النص القرآني من قضايا وأخبار، ما هو إلا مجرد شواهد تاريخية تعبر عن أحد أطوار الوعي الإنساني الذي تم تجاوزه. فنصر أبو زيد يعتبر أن: "السحر والحسد والجن والشياطين مفردات في بنية ذهنية ترتبط بمرحلة محددة من تطور الوعي الإنساني".

ولا تقصد خطة التعقيل الإبداعية إلغاء مفهوم الغيب كما فعلت القراءة المستلبة، وإنما عملت على توسيع مفهوم العقل في التعامل مع الآيات القرآنية، وذلك باستثمار وسائل النظر والبحث التي وفرتها المناهج والنظريات الحديثة. فالتعامل العلمي مع الآيات القرآنية يساهم في الكشف عن بعض المعالم الخفية المميزة للعقل الذي جاء به القرآن، وهو عقل الآيات وليس عقل الآلات والأدوات، وعقل القيم لا عقل النسب والعدد؛ الأمر الذي يوسع آفاق العقل بإدراك أسرار التوجهات القيمية للإنسان والأسباب الموضوعية للوقائع، ناقلًا إيّاه من الطور المادي الخالص إلى مزاوجة المادي بالمعنوي.

وهكذا، فإن العمليات المنهجية التي تهدف إلى تحقيق العقلانية المبدعة من خلال قراءة النص القرآني تعمل على توسيع آفاق العقل باستثمار مبدأ التدبر الذي أرشدت إليه الآيات بوصل الظواهر المختلفة بالقيم والأخلاق والأحداث بالاعتبار.

وتكتمل أركان القراءة الحداثية باعتماد الخطة التاريخية، والتي تهدف إلى رفع عائق الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وإبطالها كأحكام ثابتة وأزلية، وقد توسلت هذه القراءة الحداثية في سبيل إلغاء عائق الاعتقاد بالأحكام، من خلال ربط الآيات القرآنية بالظروف والسياقات الزمانية المختلفة، وترتب على اتباع خطة الأرخنة، اعتبار النص القرآني كأيّ نص تاريخي آخر لا يتضمن تمام التشريع الإسلامي واعتبار آيات الأحكام مجرد وصايا ومواعظ لا تحمل صفة القوانين التي تنظّم حياة المسلم في شتى المجالات، وحصر القرآن في مجال الأخلاقيات الباطنية الخاصة.

وإذا كانت القراءة الحداثية المقلدة للنسق الغربي للحداثة اعتمدت التاريخانية المنقولة من أجل إلغاء الأحكام الشرعية باعتبارها عائقًا، فإن القراءة الإبداعية تهدف إلى ربط الآيات القرآنية بظروفها البيئية والزمنية وسياقاتها المختلفة، من أجل ترسيخ الأخلاق والقيم، وهذا الوصل يعمل على تقوية التفاعل الديني.

فالسياقات والظروف المخصوصة التي وردت فيها الآيات القرآنية ما هي إلا تجليات للتحقق الأمثل للمقاصد والغايات التي جاءت بها هذه الآيات، ويعني هذا أنه كلما تجددت الظروف والسياقات فلا بد من تجدد تحقق هذه القيم التي تعمل على تجديد الإيمان بها. فالآيات القرآنية محفوظة بحفظ قيمها في مختلف الأحوال والأطوار، وبذلك فالتاريخ لا يستعيد اعتباره بإلغاء الأحكام، وإنما بتوسيع مفهوم الحكم بالمزاوجة بين الوجه القانوني والأخلاقي مع التأكيد على أولوية الجانب الأخلاقي باعتبار أن الأخلاق ضرورات، لا كمالات تؤسس لرقي الإنسان وبناء حضارته كما بيّن ذلك ابن خلدون، وغيره من علماء الإسلام.

وبناءً على ذلك، فإنّ الانشغال بالسلوك في الحياة في خطّة القراءة القرآنية التاريخية الإبداعية تتجاوز التاريخية التي وقعت في التقليد، من خلال العناية بالسلوك الدنيوي باعتبار أن الأخرويّ يمثل عائقًا في سبيل تحقيق الحداثة، وتستند القراءة التاريخية المبدعة على عمليات منهجية تكشف عن مختلف أشكال التخلق ومواضعه ونماذجه ودرجاته في النص القرآني، واستخراج الأدلة التي ترسخ مبدأ الاعتبار التي دعت إليه الآيات القرآنية.

فالأحداث التاريخية التي تذكرها هذه الآيات ليست مجرد وقائع تنبني على أسباب موضوعية، وإنما هي موجهة لتحقيق مقاصد وغايات وقيم مخصوصة تشكل عِبرًا للإنسان للعمل بها في تغيير نمط سلوكه ومجرى حياته. فالنص القرآني الخاتم يمتد في الزمان ولا بدّ أن نبحث في الآيات القرآنية لا عن علامات الماضي فنقع في الماضوية المضرة، وإنما يجب البحث عن علامات الحاضر لتحقيق الاهتداء في القادم، في سبيل صناعة تاريخية مستقبلية.

وبهذا يصبح النص القرآني نصًّا راهنًا راهنية دائمة لا تنقطع، فقد اختص القرآن قيم أخلاقية وروحية عليا، ومن المعلوم أن القيم لا تتأثر بتغير الأزمان كما هو شأن الوقائع المتغيرة، بل إن القيم هي التي تؤثر في الزمان وتغيره، وتطبيقها هو الأساس في صناعة التاريخ و الحضارة.

إن الاستراتيجيات الحداثية المتبعة من قبل النخب العربية في قراءة النص القرآني لم تفلح في تحقيق جملة الغايات والمقاصد التي سعت إلى تحقيقها من النهوض والتقدم والتحرر، ولم تنجح في صناعة حداثة عربية إسلامية، ذلك أنها توسلت بمفاهيم حداثية منقولة أعادت فيه إنتاج الواقع الحداثي الغربي، وخاضت صراعات مفتعلة بالمماثلة بين ما حدث في أوروبا من صراع بين العلماء ورجال الكنيسة، الأمر الذي أدى بالحداثيين العرب إلى اتّباع جملة المسلمات التي انبنت عليها الحداثة في الواقع الغربي دون اعتبار لمقومات الحداثة العربية الإسلامية.

أما تحديث الفكر الإسلامي، فلا بد أن يمرّ عبر تحقيق قراءة حداثية للآيات القرآنية تتسم بالإبداع والجدة، ولا يكون الإبداع حقيقيًّا إلا إذا كان إبداعًا موصولًا يأخذ بأسباب وآليات إنتاج التراث التفسيري والثقافي الإسلامي، وإذا كانت القراءة الإبداعية تتفق مع خطط القراءة المقلدة في بعض جوانبها التنسيقية فإنّها تختلف عنها بما تحققه من ترشيد التفاعل مع النص القرآني والقيام بتدشين أهداف نقدية تحقق مقاصد تكريم الإنسان بدلًا من رفع القداسة، وتعمل على توسيع آفاق العقل بدلًا من إقصاء الغيب، وتشدّد على ترسيخ الأخلاق بدلًا من تعطيل الأحكام الشرعية، تأسيسًا على مبادئ الاستخلاف والتدبر والاعتبار.

ومن المفارقات الغريبة أنّ جهود الحداثيين العرب رسخت حالة التخلف والتردي من خلال إشاعة جو من الاضطراب والتشكك لاعتمادها نفس المبادئ التي انبنت عليها الحداثة الغربية، وهي الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالله، والتوسل بالعقل وترك التوسل بالوحي، والتعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة، كما بيّن ذلك فيلسوفنا الكبير طه عبد الرحمن.


(*) موقع التقرير، 13 شتنبر 2014
 
أحسن طريقة لمناقشة القراءات الحداثية المقلدة من أجل إنتاج قراءة حديثة مبدعة. إستقراء التنظيرات والتأصيلات ودراستها، ثم الشروع في تطبيقات عملية تبين العقلانية الواقعية في الخطاب القرءاني ومقاصده، وتبرز الشمولية في وجه التاريخانية، وتستنبط ما يخدم الإنسان والإنسانية في التعامل مع التحديات المعاصرة بلغة عصرية يفهمها الإنسان المعاصر في ظل الثقافة المعاصرة.
 
عودة
أعلى