حوار حول الدراسات القرآنية مع الدكتور لؤي فتوحي

المستصفى

New member
إنضم
16/07/2006
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
أولا: نبذة لطيفة:
حصل "لؤي فتوحي" على درجة البكالوريوس في العلوم في الفيزياء، من كلية العلوم فيجامعة بغداد في عام 1984، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفلك من قسم الفيزياء من "جامعة درم" في المملكة المتحدة في عام 1988.

كان عنوان أطروحته هو: "أول رؤية للهلال، ومشاكل أخرى في الفلك التاريخي".

بدأ الدكتور "لؤي" العمل في مجال النشر في تكنولوجيا المعلومات منذ عام 1999؛ حيث عمل في "روكس بريس" حتى عام 2003، وهو أحد مؤسسي "باكت ببلشينغ"؛ حيث لا يزال يعمل منذ عام 2003.

يشغل "لؤي" منصب المدير العام للعمليات لفرع الشركة في "برمنغهام - بريطانيا"، والمدير العام لفرع الشركة في "مومباي - الهند".
يستمتع "لؤي" بالعمل في مجال النشر والتكنولوجيا والإدارة.
تحوَّل "لؤي" من المسيحية إلى الإسلام في أوائل عشرينياته، وهو مهتم بشكل خاص بدراسة القرآن.
للمزيد من التفاصيل عن كيفية تطوُّر اهتمامه بالإسلام، يمكن مراجعة مقدمة كتابه عن النبي عيسى في التاريخ.

لقد نشر الدكتور "فتوحي" عددًا من الكتب، وأكثر من أربعين بحثًا باللغتين العربية والإنكليزية، كما أن لديه اهتمامًا خاصًّا بدراسة الشخصيات، والأحداث التاريخية المذكورة في القرآن، ومقارنة الرواية القرآنية بروايات العَهْدينِ القديم والجديد، والمصادر اليهودية والمسيحية الأخرى، والمصادر التاريخية المستقلة.

وهذه هي أحدث كتبه باللغة الإنكليزية:
1- النسخ في القرآن والقانون الإسلامي (2012).
2- عيسى النبي المسلم: التاريخ يتحدَّث عن مسيح من البشر لا عن إله؛ (2010).
3- الجهاد في القرآن: الحقيقة من مصدرها (الطبعة الثالثة)، (2009)، (تُرجمت بعض فصول هذا الكتاب، ونُشِرَ مع كتابات أخرى باللغة البرتغالية).
4- لغز المسيح: المسيح في القرآن، والعهد الجديد، والعهد القديم، ومصادر أخرى. (2009).
5- لغز الصلب: محاولة قتل عيسى وَفْقًا للقرآن، والعهد الجديد، والمصادر التاريخية. (2008).
6- لغز قوم إسرائيل في مصر القديمة: الخروج في القرآن، والعهد القديم، واللُّقى الأثرية، والمصادر التاريخية، (مع شذى الدركزلي). (2008) (ظهر هذا الكتاب أولاً عام 1998 تحت عنوان: "التاريخ يشهد بعصمة القرآن"، ونُشِرَت ترجمة من هذه الطبعة باللغة العربية في عام 1999، وترجمة إندونيسية عام 2005).
7- لغز عيسى التاريخي: المسيح في القرآن، والكتاب المقدس، والمصادر التاريخية، (2007)، (نُشر مرة أخرى في ماليزيا عام 2009)، (نُشِر باللغة الإندونيسية عام 2012).
8- النبي يوسف في القرآن، والكتاب المقدس، والتاريخ: تعليق تفصيلي جديد على سورة يوسف، (2005)، (نُشِر مرة أخرى عام 2007).
كما ترجم "لؤي" مع زوجته الدكتورة "شذى الدركزلي" كتاب "جلاء الخاطر"؛ للشيخ عبدالقادر الجيلي، حاليًّا في طبعته الثانية.

فكان حريٌ بنا أنْ نلقى الدكتور؛ ونتحدث حول أعماله وأفكاره، ونقف على أهم جهوده التي بذلها في سبيل التعريف بالإسلام، وإيصال رسالته إلى أكبر عدد من الناس.. فإلى الحوار:
الألوكة: في البَدْء، نودُّ أن نعرف ما الذي جعلك تركِّز على القرآن؟
د. فتوحي: هنالك ثلاثة مصادر وثائقية عن الإسلام: القرآن، والحديث، والكتابات القديمة المختلفة عن تاريخ وعقائد الإسلام.

كل هذه المصادر مهمة، ولكنها ليست بنفس الدرجة من الدلالة:
• فالقرآن يحتوي على جوهر رسالة الإسلام.

• أما حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيفسِّر ويوسِّع هذه الرسالة، إلا أنه يعمل ضمن حدود هيكل مبادئ وعقائد القرآن.

• ثم هنالك الكتابات التاريخية التي تحاول فهم القرآن والحديث، والربط بينهما، ووصف السياقات التاريخية لكليهما.

من المعلوم أن القرآن دوِّن قبل الحديث والكتابات الإسلامية القديمة الأخرى، إلا أن للقرآن صفتين أخريين تميزانِه عن كل المصادر الأخرى:
أولاً: إنه كلام الله الحرفي، أما الحديث القُدسي، الذي يُنسَب إلى الله، لا يُعتَبَر كلام الله الحرفي.

ثانيًا: لقد حُفِظَ القرآن مثلما نزل، فلم يتعرَّض إلى أيَّة تغييرات عفوية، أو تلاعبات مقصودة من قِبَل الذين نقلوه شفهيًّا وكتابةً، هذا شيء لا يمكن قوله عن المصادر الأخرى؛ فالكتابات القديمة وضعها علماء ومؤرِّخون لا بد أن يكونوا قد أخطؤوا في بعض ما قالوا، بالرغم من سلامة النية وعِظَم الجهد؛ حيث إن الخطأ من طبيعة البشر.

ينطبق الشيء نفسه على مصادر الحديث النبوي، الذي هو موضوع خلاف بين العلماء المسلمين؛ مما جعلهم يستحدثون نظامًا معقَّدًا ومفصلاً لتصنيف الحديث، وللتمييز بين درجات صحة الأحاديث المختلفة، بل وما هو أكثر أهمية من ذلك، هو أن القرآن يخبرنا بأن الله قد حفظ القرآن من التغيير والتلاعب: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41 - 42].

لا يقول القرآن مثل هذا الشيء عن أي مصدر آخر للإسلام.

في الواقع، إن هذا الوصف خاص بالقرآن وحده، حتى بين الكتب الدينية الأخرى، كما يخبرنا القرآن بأن الكتب التي نزلت على أنبياء قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- تعرَّضت للتلاعب من قِبَل الناس، فلم تَبْقَ نسخها الأصلية.

على سبيل المثال، يتحدث القرآن في أكثر من موضع عن أهل الكتاب الذين كانوا: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46].

كما يجب أن نتذكر أيضًا بأنه، خلافًا للمصادر الأخرى، فإن القرآن هو الكتاب الذي يقرؤه المسلمون في الصلاة وفي العبادات الأخرى.

لذلك، ومع كون الحديث، والكتابات القديمة الأخرى هي مهمة لدراسة الإسلام؛ فإن القرآن يحتل مكانًا فريدًا لعدد من الأسباب.

الألوكة: نودُّ أن نعرف ماذا يعني مصطلح "الدراسات القرآنية"؟
د. فتوحي: إن المصطلح التقني الذي تُدْرَج تحته مختلف الدراسات القرآنية؛ هو "علوم القرآن".

ظهر هذا المصطلح بعد ظهور وتطوُّر عدد من العلوم التي تركِّز على القرآن، بالرغم من أن المسلمين أَبْدَوا اهتمامًا كبيرًا بدراسة مختلف مظاهر القرآن -منذ أيام الإسلام الأولى؛ أي: قبل تأليف هذا المصطلح- تشمل المواضيع التي تقع تحت هذا المصطلح: جمع القرآن، وترتيب القرآن، وتصنيف السور والآيات إلى مكية ومدنية، وغير ذلك من أساليب التصنيف، وتاريخ نزول السور والآيات، وتفسير القرآن، ومفهوم النسخ، ومفردات القرآن، وخط القرآن، وغير ذلك من المواضيع.

بعبارة أخرى، يشمل تعبيرُ "الدراسات القرآنية" كلَّ علم يعالج جانبًا من كتاب الله؛ لذلك فإن "علوم القرآن" و"الدراسات القرآنية" هما تعبيران شاملان يشيران إلى عدد كبير من المواضيع.

بالرغم من أن معظم الكتابات في علوم القرآن تركِّز على مواضيع معينة؛ إلا أن هنالك كتبًا حاولت أن تقدِّم عرضًا عامًّا للمواضيع التي تقع تحت مصطلح: "علوم القرآن".

أحد الأعمال التقليدية هي كتاب "البرهان في علوم القرآن"؛ لبدر الدين الزركشي (ت. 749ه/1391م)، وكتاب جلال الدين السيوطي (911ه/1505م): "الإتقان فيعلومالقرآن".

أما عن الكتب الحديثة، فهناك كتاب "مناهل العرفان في علوم القرآن"؛ لمحمد الزرقاني.

الألوكة: نودُّ أن نعرف ما يعني مصطلح: "الدراسات القرآنية" في الفكر الغربي عمومًا؟
د. فتوحي: كما ذكرتَ، استعمل علماء المسلمين هذا المصطلح؛ ليشمل عددًا كبيرًا من مجالات الدراسة التي تتعلق بالقرآن، يعكس هذه الاهتمام التوقير الذي يكنُّه المسلمون للقرآن، أما العلماء الغربيون، فقد أَبْدَوا اهتمامًا ضئيلاً ببعض هذه المواضيع، مثلاً: نشر العلماء المسلمون عددًا كبيرًا من الأعمال حول مفهوم النسخ، بل إن أقدم هذه الكتابات يعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني والقرن الثالث الهجري، بينما لا نجد سوى كتاب واحد أكاديمي مخصص للنَّسخ باللغة الإنكليزية، موضوع من قِبَل باحث غير مسلم.

إن كتابي عن النسخ -الذي نُشِر حديثًا- هو أول عمل باللغة الإنكليزية من قِبَل عالم مسلم.

ركَّز الباحثون الغربيون -غالبًا- اهتمامهم بالقرآن على تاريخ نصه؛ حيث اقترحوا عددًا من النظريات المختلفة حول كيفية تطوُّر نص القرآن، ليس بالمستغرَب بأنه مثلما لا تقبل هذه الدراسات الأصل الإلهي للقرآن، فإنها لا توافق على أن نص القرآن قد حُفِظ من غير تغيير من قِبَل الناس.

الألوكة: ما هو مجال بحثك الرئيس في الدراسات القرآنية؟
د. فتوحي: إنني مهتم بشكل خاص بالدراسات الدينية المقارِنة، أي مقارنة القرآن بالنصوص الدينية غير الإسلامية، وعلى وجه التحديد: "العهد القديم، والعهد الجديد، والمصادر اليهودية والمسيحية الثانوية".

وهذا يعود جزئيًّا إلى خلفيِّتي، ولكوني نشأت في عائلة مسيحية حتى أسلمتُ في بدايات العشرينيات من عمري، وجزئيًّا إلى عيشي في الغرب الذي يربط هُوِيَّته بالثقافة اليهودية - المسيحية.

من الطبيعي أن الإيمان هو أحد أساسات أي نظام عقائدي ديني، فهنالك دائمًا أشياء يجب أن نؤمن بها، من غير أن نستطيع اختبار صحَّتها.

على سبيل المثال: "يوم القيامة"، و"الجنة"، و"جهنم"؛ هي مفاهيم يجب علينا أن نؤمن بها، بالرغم من أننا لن نستطيع أن نتحقق منها ونعيشها إلا في وقتها المكتوب.

إلا أن الدراسات الدينية المقارِنة أحيانًا ما تهمل هذه الحقيقة، وتحاول أن تبرهن بأن المفاهيم المؤسسة على الإيمان لأحد الأديان، هي أقوى من مثيلتها في دين آخر، بينما الحقيقة هي أنه لما كان من غير الممكن اختبار هذه العناصر الإيمانية؛ فإن من غير الممكن "البرهنة" على أن بعضها أكثر "صحة" من الأخرى.

لذلك؛ فإنني أفضِّل تركيز اهتمامي على منحيين يساعدان على جعل المقارنة أكثر إقناعًا:
أولاً: النظر إلى التناسق الداخلي لعناصر أي دين، على سبيل المثال: تختلف صورة عيسى في كتب "مارك"، و"لوقا"، و"متَّى" في العهد الجديد بشكل جوهري، عن صورته التي يرسمها كتاب "يوحنا"؛ فالصورة في هذا الأخير تزيل كل اختلاف بين عيسى والله، إلا أن الكتب الثلاثة الأولى تصوِّر عيسى كإنسان، لا أكثر.

هذا هو مثال واحد على عدم التناسق الذي يتخلل المصادر المسيحية، بما في ذلك كتب العهد الجديد السبعة والعشرين، بالإضافة إلى هذا، فإن مثل هذه المعتقدات المسيحية لا تتوافق مع العهد القديم، بالرغم من أن النصارى يدَّعون بأنهم يؤمنون بالعهدين القديم والجديد.

أما المنحى الثاني: فهو البحث عن تفاصيل يمكن اختبارها بواسطة معلومات خارجية، وهنا يمكن استخدام الادِّعاءات العلمية والتاريخية؛ لأن هذه ليست من المفروض أن تكون مؤسسة على الإيمان، ولكن تعكس حقائق موضوعية خارجية.

الألوكة: لعلك قرأت كتاب د. لورانس براون " Bearing True Witness "، أعتقد أنه ينتمي لنفس المجال؟
د. فتوحي: مع ارتخاء قبضة الكنيسة على عقول الناس، وفقدانها للسيطرة عليهم في بداية عصر النهضة؛ بدأ الباحثون في النظر بشكل نقدي وتفصيلي إلى الكتب الدينية اليهودية والمسيحية، بما في ذلك كتابا العهد القديم والجديد.

قادهم هذا تدريجيًّا إلى تشخيص مختلف العيوب والتناقضات في هذه الكتب:
فهنالك عدد لا يحصى من الكتب والدراسات الغربية، التي تناولت -بشكل نقدي وتفصيلي- المشاكل الداخلية التي يعاني منها كتابَا العهد القديم والجديد.

وأخرى درست التناقضات بين المعارف التاريخية والعلمية المتزايدة، وما يقوله هذان الكتابان.

وأخرى تناولت تاريخ نصَّي العهدين القديم والجديد، وكيف تطوّرا، وكيف تغيَّرا على مرور الزمن؟

على سبيل المثال -ومن غير التضمين بأن هذه الأعمال أكثر أهمية من غيرها- تمثِّل كتابات "بارت ايرمان" -البروفيسور في جامعة "نورث كارولاينا" في "شابيل هل"- نموذجًا جيدًا على النوع الأخير من هذه الدراسات.

أما في مجال دراسة النص التاريخي في الكتاب المقدس -وخاصة قصة موسى في العهد القديم- فقد شارك البروفيسور "وليم ديفير" بالكثير من البحث العلمي، كما كتب البروفيسور "إد بارش ساندرس" كثيرًا عن عيسى في التاريخ.

كما ذكرت، هي كتابات لا تُحصَى في هذا المجال، إلا أنه ليس هنالك باحث جِدّي هذا اليوم، يعتبر قصص العهدين القديم والجديد كتابات تاريخية دقيقة، أو بأن أي من هذين الكتابين هو كلام الله.

الألوكة: هل بإمكانك التوسع بشكل أكثر تفصيلاً عن بحوثك في القرآن؟
د. فتوحي: أجل، لديَّ اهتمام رئيس بموضوعين:
أولهما هو "الإعجاز التاريخي" للقرآن، على العكس من الإعجاز العلمي والإعجاز اللغوي، يكاد الإعجاز التاريخي لا ينال أي اهتمام من قبل الباحثين والمؤرخين.

هذا مجال جديد من الدراسات القرآنية، أحاول أن أؤسِّسه، وأن أشجع الأكاديميين وعلماء القرآن على المُضِي فيه.

لقد بحث العلماء المسلمون بشكل مكثَّف روايات القرآن والمصادر الإسلامية الأخرى، بالإضافة إلى المصادر اليهودية والمسيحية، إلا أن مدى هذه الدراسات بقي محدودًا؛ لأن العلماء نظروا إلى هذه الروايات ضمن منظور النص الديني فقط، من دون محاولة ربطها بما نعرفه الآن عن التاريخ من المصادر المستقلة، النصوص منها والآثار، يعني هذا عدم إمكانية استخدام هذه الدراسات لتحديد أي من الروايات أكثر دقة من الناحية التاريخية.

لا يقارن المنهج الذي اتَّبعته الروايات التاريخية في القرآن مع مقابلاتها في العهدين القديم والجديد فقط، ولكنه أيضًا يقيِّمها كلها، مستخدمًا مصادر تاريخية مستقلة.

لقد درست بشكل تفصيلي القصص والتفاصيل التاريخية للأنبياء: عيسى، وموسى، ويوسف - عليهم السلام.

إن "عيسى التاريخي" هو موضوع ثابت في البحث الأكاديمي الغربي منذ قرون، إلا إن دراستي لهذا الموضوع هي الأولى التي تَعرِض منظورًا إسلاميًّا، وتقدِّم الموضوع إلى مجال البحث الإسلامي.

إن مساهمتي البحثية هي في مجال تمحيص تناسق وتلاحم كل رواية، وكذلك - وهو الأهم - مقارنتها بالحقائق التاريخية الموثوقة.

استطعت بهذه الطريقة أن أبيِّن أن روايات القرآن تختلف بشكل مهم عن تلك الموجودة في المصادر اليهودية والمسيحية، وأن ما يقوله القرآن هو متَّفق مع ما نعرفه عن التاريخ.

أما المصادر اليهودية والمسيحية، فإنها مليئة بالتناقضات الداخلية، بالإضافة إلى مخالفتها لحقائق تاريخية ثابتة، تنقض مثل هذه الاكتشافات النظرةَ الشائعة بين الباحثين الغربيين ومنتقدي القرآن بأن القرآن قد نُقِلَ جُزئيًّا من المصادر اليهودية والمسيحية.

بالرغم من وجود تشابهات بين الروايات القرآنية ومقابلاتها في تلك المصادر، فإن الاختلافات بينها هي أكبر بكثير، مما يجدر الانتباه له: أن القصص القرآنية لا تحتوي على الأخطاء التاريخية، والتناقضات الداخلية التي تعاني منها الروايات اليهودية والمسيحية.

لا يمكن لأية عملية نقل من المصادر اليهودية والمسيحية أن تنجح في أن تتجنَّب بشكل كلي هذه الأخطاء؛ لأن بعض هذه الأخطاء لم تنكشف إلا بعد نزول القرآن بقرون، وبعضها في القرنين الأخيرين؛ نتيجة الحفريات واللُّقى الأثرية.

هنالك مجال بحثي آخر أخذتُ بالتركيز عليه حديثًا، وهو تاريخ النص القرآني، قاد بحثي في هذا المجال إلى كتابي الأخير: "النسخ في القرآن والقانون الإسلامي"، الذي نشر حديثًا من قِبَل "راوتليدج"، هذا هو فقط الكتاب الثاني باللغة الإنكليزية حول النسخ، بعد كتاب "جون برتن" الذي نُشِر قبل أكثر من عشرين سنة.

إن الذي دفعني إلى القيام بهذه الدراسة التفصيلية لمفهوم النسخ، هو دلالاتها العميقة فيما يخص تاريخ النص القرآني، لقد أدرك الباحثون الغربيون دائمًا هذا الأمر، واستخدمه غالبيتهم في التشكيك في سلامة نص القرآن، إلا أن علماء المسلمين لم يفعلوا ما يكفي للتعامل مع هذه الدلالات.

في الواقع، غالبًا ما تُترَك هذه الدلالات حتى من غير الاعتراف بها، وبالتالي يكتفي العلماء عادةً بالكتابة عن تاريخ نص القرآن، من غير حتى أن يشرحوا فهمهم للنسخ، وتأثير هذا الفهم على آرائهم حول عملية جمع القرآن.

إن سلامة النص القرآني هي إحدى مجالات البحث الرئيسة التي أهتم بها كثيرًا.

إن النسخ هو أيضًا في صميم موضوع القانون الإسلامي؛ لذلك فقد قادني الاهتمام بتاريخ نص القرآن إلى دراسة النسخ، وقادني النسخ بدوره إلى الاهتمام بمعنى وتاريخ وتطور القانون الإسلامي.

الألوكة: ما رأيك في كتاب "جون برتن" بشأن النسخ؟
د. فتوحي: كان كتاب "جون برتن" لمدة عشرين سنة المرجِع الوحيد عن هذا الموضوع للباحثين الغربيين، الذين لا يقرؤون العربية، من هذه الناحية، فقد ساعد كتاب "جون برتن" في تقديم النسخ إلى القارئ الغربي.

استخدم "برتن" إلمامه الواسع بالمصادر المختلفة عن هذا الموضوع في تقديم دراسة تفصيلية، زاد في فائدتها منهج البحث الموضوعي الذي التزمه، إلا أن كتاب "برتن" يعاني من عيوب أربعة أساسية:
أولاً: أن كتاب "برتن" أكثر تقنية من أن يقرأه مَن ليس له خلفية جيدة في تاريخ القانون الإسلامي، ناهيك عن القارئ العام.

ثانيًا: ضاعف من تأثير التقنية العالية للكتاب الأسلوبُ غير السهل للكاتب، وعرضه المشتبِك لمادة البحث.

ثالثًا: يفرط الكتاب في تركيزه على ترتيب تاريخ تطور نظريات النسخ، مستعملاً مزاعمَ نسخ معينة أداةً لهذا الغرض، إلا أن ترتيب هذا التاريخ محكوم عليه بأن ينبني على قدر كبير من التخمين، بينما يمكن دراسة مزاعم نسخ معينة -باستخدام المصادر المتوفرة- بقدر أكبر بكثير من اليقين والوضوح.

رابعًا: يفشل كتاب "برتن" في الإشارة إلى بعض أقدم المصادر عن النسخ، وهو أمر ضروري لدراسة: كيف تطور هذا المُعتَقَد في مراحله الأولى؟

ولقد بذلتُ جهدًا ليس بالقليل؛ لكي أجعل كتابي يعالج هذه المسائل الأربع:
أولاً: كتبتُ هذا الكتاب بشكل يجعل قراءته ممكنة للمثقَّف العام، بالإضافة إلى المختص، كما يبحث الكتاب كل مظاهر النسخ بالعمق المطلوب لبناء صورة كاملة عن طبيعة هذه الظاهرة، وتحديد ما إذا كانت مبدأً قرآنيًّا أصيلاً.

لقد أعطيت القارئ كل المعلومات المطلوبة، وقُدْتُه بعناية خلال الموضوع؛ لكيلا يحتاج إلى معلومات مسبقة أو قراءة خارجية.

ثانيًا: نظَّمتُ الكتاب بطريقة منطقية، تجعل من السهولة للقارئ أن يرى في كل مرحلة موضعه في الرحلة الكاملة في بحث الموضوع.

ثالثًا: ركَّزت على اختبار مصداقية النسخ من خلال دراسة المفاهيم التي تقف وراء مختلف أشكالها، والكيفية التي تم بها تطبيقها، لقد تجنَّبتُ محاولة ترتيب تاريخ تطور هذه النظريات، من خلال رسم الخط الزمني لها بشكل مفصَّل، أو تحديد الدور الذي لعبه علماء معينون في ظهور هذه النظريات.

أي استنتاج من مثل هذه المحاولات، من الممكن أن يكون محفوفًا بالكثير من الشك، وهو ذو علاقة ضعيفة بالسؤال عن حقيقة النسخ، ودلالات الجواب على القانون الإسلامي.

لقد اقتصرتُ على تشخيص التسلسل الزمني لأنواع النسخ الثلاث، وهو أمر يمكن استنتاجه بسهولة نسبية من المصادر المتوفرة، وهذا لا يمكن إنجازه دون استشارة أقدم المصادر عن النسخ، وهو يعالج القصور الرابع في كتاب "برتن".

الألوكة: من هم القرَّاء الذين تستهدفهم بكتاباتك؟
د. فتوحي: أحاول أن أخاطب كلاًّ من القارئ العامِّ المُطَّلع، والقارئ المتخصص في مجالات بحثي.

هذا ليس بالسهل؛ لأن ما يجعل كتابًا ما ذا قيمة للباحث الأكاديمي والخبير، يمكن أن يجعله صعب القراءة على القارئ غير المتخصص، إلا أنني أخصص الكثير من الجهد لجعل كتاباتي متيسِّرة للقارئ العام المُطَّلِع.

أما سبب الطبيعة الأكاديمية لكتاباتي، فهو أنني أحاول أن أؤسِّس الإعجاز التاريخي للقرآن، كمجال بحث موثوق في الدراسات القرآنية على أعلى المستويات.

إنني أكتب باللغة الإنكليزية بشكل رئيس؛ لأنني أركِّز على القارئ الغربي غير المسلم، وتتطلَّب مخاطبة القارئ غير المسلم الأخذ بنظر الاعتبار كيف يفكِّر هذا القارئ، وعرض المعلومات والحجج بشكل مناسب له.

إن عيشي في بريطانيا لعشرين سنة، يجعلني أشعر بواجب خاص تُجَاه القرَّاء غير المسلمين في الغرب، إلا أنني أعتقد أن على العلماء المسلمين الذين يعيشون في بلاد الإسلام أيضًا -خاصة في البلدان العربية- أن يعطوا اهتمامًا أكثر لنظرائهم غير المسلمين في البلدان غير الإسلامية.

يجب أن أذكر أن المواضيع التي أكتب عنها هي مصدر اهتمام المسلمين أيضًا.

لقد تُرجِمَت بعض كتاباتي إلى العربية، والإندونيسية، والبرتغالية.

الألوكة: ما هي الكتابات التي أنت حاليًّا مشغول بها؟
د. فتوحي: هنالك عدد من المشاريع الكتابية التي تشغلني حاليًّا.

إنني أترجم كتابي حول النسخ إلى العربية، هذا هو العمل الوحيد باللغة العربية الذي أنا حاليًّا مشغول به، لقد بدأت العمل في كتابين يتناولان عددًا من المفاهيم في القرآن، كما أن في نيتي -بإذن الله- أن يكون تاريخ نص القرآن موضوع عمل قادم.

الألوكة: سألنا البروفيسور "اندرو رايبين" -المتخصِّص في الدراسات القرآنية- حول مستقبل هذه الدراسات، فقال: إنه مستقبل لامع جدًّا.. فكيف ترى مستقبل الدراسات القرآنية؟
د. فتوحي: كان القرآن -ولا يزال دائمًا- قلب الإسلام ونصه الأكثر دراسة؛ لذلك فإن مقدار الاهتمام بهذا الكتاب لن يتضاءل، إلا أنني أود أن أرى تنوعًا أكثر، وإبداعًا في المواضيع التي تجري دراستها.

إن المعرفة البشرية في العلوم الطبيعية والاجتماعية خاصة تتطوَّر بشكل سريع جدًّا، وإنني آمل أن أرى هذا منعكسًا بشكل أكبر وأفضل على دراسة القرآن.

في نفس هذا الساق نقول: هنالك الكثير الذي يمكن عمله في مجال دراسة الروايات التاريخية في القرآن، وربطها بفهمنا المتزايد للأماكن والأوقات ذات الصلة بهذه الروايات.

يجب أن يُقاد هذا الجهد من قِبَل الجامعات، ومراكز البحث، والمؤسسات التعليمية، وهو يحتاج إلى التنسيق بين الباحثين في مختلف المجالات.

إن بإمكان الأفراد المساعدةَ في مباشرة الاهتمام في موضوع الإعجاز التاريخي، إلا أن إعطاءه زخمًا كافيًا ليصبح مجالاً ثابتًا في الدراسات القرآنية؛ يتطلب جهودًا ومصادر منسَّقة ومستمرة، لا يمكن أن توفِّرها إلا مؤسسات كبرى متخصصة.

الألوكة: ما هو -برأيك- سبب تحامل بعض الكتَّاب المسيحيين على الإسلام والقرآن؟
د. فتوحي: إن تبنِّي وعرض فكرة مشوَّهة عن الإسلام والقرآن ليس بأمر جديد؛ حيث تعود هذه الظاهرة إلى أقدم الإشارات إلى الإسلام وكتابه في المصادر اليهودية والمسيحية، بالرغم من أن اللغة المستخدمة تعكس التفكير وقيم الزمان؛ ففي سِنِيه وعقوده الأولى، كان يُنظَر إلى الإسلام على أنه تهديد لليهودية والمسيحية، لأنه -بالرغم من تأكيده بأن هذين الدينين جاءا من نفس المصدر الذي جاء منه القرآن- رفض بشكل مفتوح ومباشر الكيفية التي طوَّر بها الناس هذين الدينين.

على سبيل المثال: رفض القرآن -بشكل كامل- صَلب المسيح، وعقيدة الخلاص المرتبطة به، إلا أن هذه العقيدة هي في صُلب المسيحية التي طوَّرها القديس "بولس"، والتي أصبحت النسخة السائدة من هذا الدين.

لكن طبعًا انتشار الإسلام في أراضٍ مختلفة، وتحوُّله إلى دين للدولة والصراعات السياسية والعسكرية مع أمم أخرى؛ حتَّم أن يستمر العداء للإسلام وأن يزداد، بل إننا نعلم أنه حتى خلال حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قامت عدة قبائل يهودية في المدينة بالتآمر مع مشركي مكة ضد الخطر الذي رأوا أن الدين الجديد يمثِّله.

أما انتشار الإسلام، فقد جعله هدفًا أكبر لأعداء أكبر.

أما في الزمن الحاضر، فقد هوجِمَ الإسلام على أساسات تعكس روح الزمان؛ على سبيل المثال: في هذا الزمن - الذي تُحتَرَم فيه قيم؛ مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتسامح -عُرِضَ الإسلام- وطبعًا كتابه كذلك - على أنه دين رجعي تخالف تعاليمه كل هذه القيم.

أخذ هذا التشويه أكثر أشكاله بشاعة في الطريقة التي قُدِّمَ فيها مفهوم "الجهاد" في وسائل الإعلام العالمية وبين السياسيين، ويجب أن نقر هنا بأن أفرادًا وجماعاتٍ ضالَّة من المسلمين قد أعطت ذريعة لمثل هذا التشويه، إلا أنه ليس من الصعوبة على أحد أن يرى أن هذه الأقلية الصغيرة غير المثقَّفة ليست بممثِّلة للإسلام، أو القرآن، أو مسلمي العالم الذين يتجاوز عددهم البليونين.

من الطبيعي أن يكون على المسلمين الذين يعيشون في الغرب واجب خاص في تبديد هذه الصورة المشوَّهة عن دينهم.

إنني أتذكر كيف بدأت وسائل الإعلام الأمريكية، والبريطانية - والغربية بشكل عام - بتمحيص كل وجه من أوجه الإسلام، وكل أنواع الادِّعاءات المهينة له بعد الهجوم على أمريكا في "11-أيلول- 2001"، بل وفقدت بعض وسائل الإعلام -بشكل كلي- القدرةَ والرغبة على التمييز بين المسلمين وتلك المجموعة الصغيرة، هذا هو ما قادني إلى وضع كتابي عن مفهوم "الجهاد في القرآن".

الألوكة: لكتب "د. جيرالد ديركس"، و "د. لورانس براون" أثر عظيم في اعتناق الإسلام، أتساءل: هل لكتبك أثر في ذلك؟
د. فتوحي: من المرجَّح أن تكون أعمال الدكتورين "ديركس"، و"براون" قد وصلت إلى ناس أكثر من الناس الذين اطلعوا على أعمالي، إلا إنني آمل أن تكون أعمالي قد ساعدت بعض غير المسلمين على أن يدركوا الإشارات الإعجازية التي جعلها الله في القرآن، وجذبتهم إلى الإسلام، وأن تكون قد جعلت آخرين على الأقل يفكرون في رسالة الإسلام بجدية، وأن تكون أيضًا قد ساعدت المسلمين على أن يتعلموا أكثر عن إعجاز كتاب الله.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ((فوالله، لأَنْ يهديَ الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النَّعَم)).

إذا كانت هداية إنسان واحد هي فضلاً كافيًا لشخص عظيم مثل علي بن أبي طالب؛ فإنها -ولا شك- فضل يكفيني.

عبد الرحمن أبو المجد: أشكرك جزيل الشكر على جهودك في الدراسات القرآنية، وفي تأصيل الإعجاز التاريخي في القرآن الكريم، وعلى إتاحة هذا الحوار لنا، على الرغم من وقتك المشغول.

د. فتوحي: شكرًا جزيلاً على هذه الفرصة الكريمة للتحدث عن أعمالي وأفكاري، وتعريف كثير من القراء بها، بارك الله في كل الجهود التي تبذلونَها في سبيل التعريف بالإسلام، وإيصال رسالته إلى أكبر عدد من الناس.


رابط الموضوع: حوار عن الدراسات القرآنية في موقع الألوكة
 
عودة
أعلى