عندما احتل الفرنسيون سوريا وطردوا الملك فيصل بن الحسين الهاشمي وحكومته منها سنة 1920 م ، قام بعض أعيان السوريين بالدعوة إلى مؤتمر في جنيف لعرض قضيتهم على المجتمع الدولي أملا في تلبية مطالبهم بالحرية والاستقلال ، عرف باسم المؤتمر السوري الفلسطيني ، وحضر ذاك المؤتمر الشيخ محمد رشيد رضا بوصفه عضوً مؤسسًا في حزب الاتحاد السوري ، وشخصية سورية وطنية ، وأرَّخ لرحلته تلك بعدة مقالات في مجلة المنار سماها (الرحلة الأوروبية) ، كعادته في التأريخ لرحلاته وأسفاره في مجلته ، أقتبس من تلك المقالات هذا الحوار الذي دار بينه وبين بعض الصحفيين في جنيف يدعى (موسيو ماتيل) :
يقول الشيخ رحمه الله :
" وكان رئيس مؤتمرنا قد دعا مدير جريدة (تريبون دي جنيف) ، وسكرتيريه إلى العشاء مع أعضاء المؤتمر في الفندق، فأجابوا الدعوة، وقد رغب إلي سكرتير قلم التحرير (موسيو ماتيل) أن أجلس بجنبه على المائدة؛ لأجل الحديث معه، فأجبت مرتاحا، ودار بيننا حديث طويل أتممناه في سمرنا بعد العشاء.
بدأت الحديث بأن بينت له خلاصة علاقة الشرق بالغرب، وما يود اقتباسه من علومه وفنونه، وما يكره من أفكاره وشؤونه، وما ينكر من مدنيته المادية، ومطامعه الاستعمارية، التي كان التنازع عليها موقدا لنار الحرب الأخيرة، وينتظر أن يوقد نار حرب أخرى شر منها، إلا أن يتلافى عقلاء أوربة الأحرار هذا الخطر بمقاومة هذه السياسة، وإرجاع الدول المستعمرة عن التمادي في هذه المطامع، وإقناعها بالاستفادة من بلادنا، وإفادتها، مع ترك أمر الحكم فيها لأهلها.
قال: إن مدنيتكم مدنية آداب وفضائل، فحافظوا عليها، فهي خير لكم من مدنية الغرب المادية الفاسدة التي هي - كما ترى - مظاهر رياء وزينة وشهوات.
قلت: إننا راضون بآدابنا وفضائلنا، ولا نريد أن نستبدل بها غيرها، ولا سيما هذه الآداب والتقاليد والعادات المبنية على الأفكار المادية، والشهوات النفسية، التي تبيح السكر والزنا والقمار، وسلب الأقوياء لحقوق الضعفاء، وإنما نريد أن نقتبس بعض الفنون والصناعات المساعدة على العمران.
قال: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا أمما صناعية مثلنا؛ فإن الشرق غير مستعد لذلك كالغرب، ثم إن هذه الصناعات من مفسدات الأخلاق أيضا، فإذا أنشئ في الشرق معامل كمعامل أوربة فإنه يدخل فيها النظام المالي الأوربي، والأحوال الاجتماعية الغربية المبنية على الطمع والنهب والمزاحمة وسائر المفاسد، أي كمسألة العمال، واختلاط النساء والرجال، ومفاسدهما كثيرة معلومة.
قلت - وقد ظننت أنه مخادع؛ لأنه سياسي -: إن الشرق قد سبق الغرب إلى الصناعات العظيمة الباقية آثارها من ألوف السنين في مصر وغيرها، بل جميع أصناف البشر مستعدون لكل علم وصناعة، والشعوب التي سبقت لها مدنية صناعية يكون استعدادها أقوى بسبب تأثير الوراثة، وهذه أمة اليابان شرقية، وهي من الجنس الأصفر الذي كان يظن أنه أقل استعدادا من الأبيض الذي نحن منه مثلكم، وقد ساوت أوربة في كل علم وصناعة.
قال: إنني أعني بأنكم لا تستطيعون أن تكونوا أمما صناعية لعدم الداعية لا لضعف في الاستعداد الفطري، والداعية هي الحاجة التي تولدها كثرة السكان، وعدم كفاية الأرض لمعيشتهم، والشرقيون الأقدمون الذين ترقوا في الصناعة كالمصريين والأشوريين كانوا ممن ضاقت بهم بلادهم.
قلت - وأنا أريد اختصار البحث الاجتماعي، والانتقال إلى البحث السياسي-: إننا لا نحاول الآن أن نشيد معامل تغنينا عن كل صناعات أوربة، وأميريكة؛ فإن لهذه موانع اقتصادية عندنا تحول دون ربحنا منها، وفوزنا على مصنوعات الغرب التي تزاحمنا فيها، وإنما نحن محتاجون أشد الاحتياج إلى بعض الفنون والصناعات الضرورية لترقية زراعتنا واستغلال أرضنا فبها يتضاعف ريعها، ونحن أعرف بما نحتاجه، وما نحن مضطرون إليه منها، وإنما نريد أن نستفيد من أمثالكم الأحرار ما يجب السعي إليه منا ومنكم في علاقة بلادنا ببلادكم؛ فإن حكوماتكم الاستعمارية لا تتركنا أحرارا في شؤون حياتنا، حتى نختار لأنفسنا ما
نحافظ به على مدنيتنا، ونقتبس ما نشاء من شعوبها، وندع ما نشاء، وقد كنا جاهلين بكنه مطامعها وخفايا سياستها فعرفنا، ونائمين فاستيقظنا.
إنني مغتبط بك؛ لأنني رأيتك على رأينا في المدنية المادية ومفاسدها، والظاهر أن أصحاب هذا الرأي في أوربة قليلون، وهو رأي شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر، فقد حدثنا عنه أستاذنا الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده المصري الشهير، أنه لما زاره في آخر سياحة له في أوربة (وكان ذلك في مصطافه بمدينة بريتن في 10 أغسطس سنة 1903) ، سأل الفيلسوف الإمام: هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ قال: نعم زرتها منذ 19 سنة عقب الاحتلال البريطاني لأمور تتعلق بالاحتلال ومالية مصر ومسألة السودان
قال: هل رأيت في هذه المرة تغيرا في الأفكار؟ وما ترى من الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟ قال: لم ألاق كثيرا من الناس هذه المرة؛ لأنني حديث عهد، ومثل هذاالتغير يؤخذ العلم به عنكم، قال الفيلسوف: (الحق عند أوربة للقوة) .
الإمام: هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملتهم على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعه.
الفيلسوف: محي الحق من عقول أهل أوربة، واستحوذت عليها الأفكار المادية، فذهبت بالفضيلة، وهذه الأفكار المادية ظهرت في اللاتين أولا، فأفسدت الأخلاق، وأضعفت الفضيلة، ثم سرت عدواها منهم إلى الإنكليز، فهم الآن يرجعون القهقرى بذلك، وسترى هذه الأمم يختبط بعضها ببعض، وتنتهي إلى حرب طامة؛ ليتبين أيها الأقوى، فيكون سلطان العالم.
الإمام: إني آمل أن يحول دون ذلك همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير مبادئ الحق والعدل ونصر الفضيلة.
الفيلسوف: وأما أنا فليس عندي مثل هذا الأمل فإن هذا التيار المادي لا بد أن يبلغ مده غاية حده.
(موسيو راسيل) : إنني أنا أعتقد مثل هذا الاعتقاد، ولست كالفيلسوف سبنسر، وكثير من العقلاء يعتقدونه، وهو لا يحتاج إلى كل علم سبنسر وفلسفته؛ فإن الترف واتباع الشهوات - الذي هو أثر طبيعي للثروة وسعة الحضارة - هو أهلك الأمم السابقة، وأزال حضارتها في الشرق والغرب كأممكم العربية والمصرية، وأممنا اليونانية والرومانية، وهو الذي لا بد أن يقضي على مدنيتنا الحاضرة؛ فإن سنة الاجتماع في كل الأمم واحدة لا تتغير.
قلت: نحن نعتقد هذا من يعرف منا علم الاجتماع، ومن لا يعرفه؛ لأنه منصوص في القرآن في آيات، منها قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء: 16) ، وفي آيات أخرى أن لله سننا في الأمم، كقوله: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} (آل عمران: 137) ، وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل، ولكن الأمم الأوربية تعلم من هذه السنن ما لم يكن يعلمه من قبلها، حتى المسلمون الذين أرشدهم كتابهم إليها، وشرع بعض حكمائهم في جعلها علما مدونا، كابن خلدون الفيلسوف العربي المشهور، ولكنهم ظلوا مقصرين في ذلك، حتى وسع نطاق هذا العلم مثل الفيلسوف سبنسر وغيره، فهم - بإرشاد هذا العلم - يجتهدون في اتقاء الهلاك اجتهادا، ربما يكون سببا في تأخيره، فنحن في هذه الفرصة يجب أن نتقي شر اعتدائهم علينا؛ ليطول أمد السلام فيكم وفينا.
قال: إن التأخير ليس بمستطاع، وقد حكيت عن الفيلسوف سبنسر أنه كان يائسا من تلافي مفاسد الأفكار المادية، ونصر الحق والفضيلة عليها، وأنا أخبرك بأنه يوجد كثير من عقلاء أوربة يعتقدون أن خرابها سيكون قريبا، وأنه ربما يكون هذا الجيل آخر جيل فيها، وحجتهم عليها هذه الحرب الأخيرة.
قلت: ألا ترى أن من الممكن التوسل بأمثال هؤلاء العقلاء إلى بث الدعوة في الشعوب الأوربية بإلزام حكوماتها ترك العدوان على حريتنا واستقلالنا، اكتفاء بمبادلة المنافع بينهم وبيننا، وتلافيا لما تولده المطامع في بلادنا من التنازع بين الدول الطامعة فيها، الذي يفضي إلى الحرب الآتية، وهي التي إذا وقعت ستكون القاضية.
قال: لا إمكان؛ فهؤلاء السياسيون لا يحولهم عما تربوا، ومرنوا عليه من المطامع والدسائس إلا القوة القاهرة.
قلت: وبم تنصح لنا إذن؟
قال: اجمعوا كلمتكم، وحافظوا على دينكم، وآدابكم وفضائلكم، واستعدوا للاستفادة من الحرب الآتية، فإذا كانت شعوبكم تتبع رأي الزعماء العقلاء مثلكم فإنكم تستفيدون من فرصة الحرب الآتية ما فاتكم مثله في الحرب الماضية، وإلا فلستم الآن بأهل للاستقلال ولا للحرية، بل تحتاجون إلى تربية طويلة.
هذا ملخص حديثنا السياسي على المائدة وفي السمر بعدها، بل كان من حريته التامة أن صرح بما لا يجوز لي أن أنقله عنه إلا بإذنه، وهو يعتقد أن ساسة الغرب يكذبون فيما يرموننا به من العيوب؛ ليحتجوا به على إقناع مجالسهم، وأحرار شعوبهم بالاعتداء علينا، ومن مجاملته الأدبية لي قوله: إنني أعتقد بتناسخ الأرواح، وقد رأيت روحي قريبة من روحك، ولكنها لم تبلغ درجتها في الارتقاء، وإنني أرجو أن تدركها بعد موت وحياة أخرى، فنلتقي في الحياة الثالثة تلاقي الاتحاد والمساواة، فأجبته بمجاملة تليق بالمقام، وأثنيت على ما أفادنا، وما نصح به لنا، مغتبطا باتفاقنا في الأفكار والآراء " .
مجلة المنار ، عدد ذي الحجة - 1340هـ ، أكتوبر - 1922م ، مقالة ( الرحلة الأوروبية - 6 ) .
(صورة للشيخ رشيد رضا مع أعضاء المؤتمر )
يقول الشيخ رحمه الله :
" وكان رئيس مؤتمرنا قد دعا مدير جريدة (تريبون دي جنيف) ، وسكرتيريه إلى العشاء مع أعضاء المؤتمر في الفندق، فأجابوا الدعوة، وقد رغب إلي سكرتير قلم التحرير (موسيو ماتيل) أن أجلس بجنبه على المائدة؛ لأجل الحديث معه، فأجبت مرتاحا، ودار بيننا حديث طويل أتممناه في سمرنا بعد العشاء.
بدأت الحديث بأن بينت له خلاصة علاقة الشرق بالغرب، وما يود اقتباسه من علومه وفنونه، وما يكره من أفكاره وشؤونه، وما ينكر من مدنيته المادية، ومطامعه الاستعمارية، التي كان التنازع عليها موقدا لنار الحرب الأخيرة، وينتظر أن يوقد نار حرب أخرى شر منها، إلا أن يتلافى عقلاء أوربة الأحرار هذا الخطر بمقاومة هذه السياسة، وإرجاع الدول المستعمرة عن التمادي في هذه المطامع، وإقناعها بالاستفادة من بلادنا، وإفادتها، مع ترك أمر الحكم فيها لأهلها.
قال: إن مدنيتكم مدنية آداب وفضائل، فحافظوا عليها، فهي خير لكم من مدنية الغرب المادية الفاسدة التي هي - كما ترى - مظاهر رياء وزينة وشهوات.
قلت: إننا راضون بآدابنا وفضائلنا، ولا نريد أن نستبدل بها غيرها، ولا سيما هذه الآداب والتقاليد والعادات المبنية على الأفكار المادية، والشهوات النفسية، التي تبيح السكر والزنا والقمار، وسلب الأقوياء لحقوق الضعفاء، وإنما نريد أن نقتبس بعض الفنون والصناعات المساعدة على العمران.
قال: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا أمما صناعية مثلنا؛ فإن الشرق غير مستعد لذلك كالغرب، ثم إن هذه الصناعات من مفسدات الأخلاق أيضا، فإذا أنشئ في الشرق معامل كمعامل أوربة فإنه يدخل فيها النظام المالي الأوربي، والأحوال الاجتماعية الغربية المبنية على الطمع والنهب والمزاحمة وسائر المفاسد، أي كمسألة العمال، واختلاط النساء والرجال، ومفاسدهما كثيرة معلومة.
قلت - وقد ظننت أنه مخادع؛ لأنه سياسي -: إن الشرق قد سبق الغرب إلى الصناعات العظيمة الباقية آثارها من ألوف السنين في مصر وغيرها، بل جميع أصناف البشر مستعدون لكل علم وصناعة، والشعوب التي سبقت لها مدنية صناعية يكون استعدادها أقوى بسبب تأثير الوراثة، وهذه أمة اليابان شرقية، وهي من الجنس الأصفر الذي كان يظن أنه أقل استعدادا من الأبيض الذي نحن منه مثلكم، وقد ساوت أوربة في كل علم وصناعة.
قال: إنني أعني بأنكم لا تستطيعون أن تكونوا أمما صناعية لعدم الداعية لا لضعف في الاستعداد الفطري، والداعية هي الحاجة التي تولدها كثرة السكان، وعدم كفاية الأرض لمعيشتهم، والشرقيون الأقدمون الذين ترقوا في الصناعة كالمصريين والأشوريين كانوا ممن ضاقت بهم بلادهم.
قلت - وأنا أريد اختصار البحث الاجتماعي، والانتقال إلى البحث السياسي-: إننا لا نحاول الآن أن نشيد معامل تغنينا عن كل صناعات أوربة، وأميريكة؛ فإن لهذه موانع اقتصادية عندنا تحول دون ربحنا منها، وفوزنا على مصنوعات الغرب التي تزاحمنا فيها، وإنما نحن محتاجون أشد الاحتياج إلى بعض الفنون والصناعات الضرورية لترقية زراعتنا واستغلال أرضنا فبها يتضاعف ريعها، ونحن أعرف بما نحتاجه، وما نحن مضطرون إليه منها، وإنما نريد أن نستفيد من أمثالكم الأحرار ما يجب السعي إليه منا ومنكم في علاقة بلادنا ببلادكم؛ فإن حكوماتكم الاستعمارية لا تتركنا أحرارا في شؤون حياتنا، حتى نختار لأنفسنا ما
نحافظ به على مدنيتنا، ونقتبس ما نشاء من شعوبها، وندع ما نشاء، وقد كنا جاهلين بكنه مطامعها وخفايا سياستها فعرفنا، ونائمين فاستيقظنا.
إنني مغتبط بك؛ لأنني رأيتك على رأينا في المدنية المادية ومفاسدها، والظاهر أن أصحاب هذا الرأي في أوربة قليلون، وهو رأي شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر، فقد حدثنا عنه أستاذنا الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده المصري الشهير، أنه لما زاره في آخر سياحة له في أوربة (وكان ذلك في مصطافه بمدينة بريتن في 10 أغسطس سنة 1903) ، سأل الفيلسوف الإمام: هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ قال: نعم زرتها منذ 19 سنة عقب الاحتلال البريطاني لأمور تتعلق بالاحتلال ومالية مصر ومسألة السودان
قال: هل رأيت في هذه المرة تغيرا في الأفكار؟ وما ترى من الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟ قال: لم ألاق كثيرا من الناس هذه المرة؛ لأنني حديث عهد، ومثل هذاالتغير يؤخذ العلم به عنكم، قال الفيلسوف: (الحق عند أوربة للقوة) .
الإمام: هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملتهم على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعه.
الفيلسوف: محي الحق من عقول أهل أوربة، واستحوذت عليها الأفكار المادية، فذهبت بالفضيلة، وهذه الأفكار المادية ظهرت في اللاتين أولا، فأفسدت الأخلاق، وأضعفت الفضيلة، ثم سرت عدواها منهم إلى الإنكليز، فهم الآن يرجعون القهقرى بذلك، وسترى هذه الأمم يختبط بعضها ببعض، وتنتهي إلى حرب طامة؛ ليتبين أيها الأقوى، فيكون سلطان العالم.
الإمام: إني آمل أن يحول دون ذلك همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير مبادئ الحق والعدل ونصر الفضيلة.
الفيلسوف: وأما أنا فليس عندي مثل هذا الأمل فإن هذا التيار المادي لا بد أن يبلغ مده غاية حده.
(موسيو راسيل) : إنني أنا أعتقد مثل هذا الاعتقاد، ولست كالفيلسوف سبنسر، وكثير من العقلاء يعتقدونه، وهو لا يحتاج إلى كل علم سبنسر وفلسفته؛ فإن الترف واتباع الشهوات - الذي هو أثر طبيعي للثروة وسعة الحضارة - هو أهلك الأمم السابقة، وأزال حضارتها في الشرق والغرب كأممكم العربية والمصرية، وأممنا اليونانية والرومانية، وهو الذي لا بد أن يقضي على مدنيتنا الحاضرة؛ فإن سنة الاجتماع في كل الأمم واحدة لا تتغير.
قلت: نحن نعتقد هذا من يعرف منا علم الاجتماع، ومن لا يعرفه؛ لأنه منصوص في القرآن في آيات، منها قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء: 16) ، وفي آيات أخرى أن لله سننا في الأمم، كقوله: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} (آل عمران: 137) ، وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل، ولكن الأمم الأوربية تعلم من هذه السنن ما لم يكن يعلمه من قبلها، حتى المسلمون الذين أرشدهم كتابهم إليها، وشرع بعض حكمائهم في جعلها علما مدونا، كابن خلدون الفيلسوف العربي المشهور، ولكنهم ظلوا مقصرين في ذلك، حتى وسع نطاق هذا العلم مثل الفيلسوف سبنسر وغيره، فهم - بإرشاد هذا العلم - يجتهدون في اتقاء الهلاك اجتهادا، ربما يكون سببا في تأخيره، فنحن في هذه الفرصة يجب أن نتقي شر اعتدائهم علينا؛ ليطول أمد السلام فيكم وفينا.
قال: إن التأخير ليس بمستطاع، وقد حكيت عن الفيلسوف سبنسر أنه كان يائسا من تلافي مفاسد الأفكار المادية، ونصر الحق والفضيلة عليها، وأنا أخبرك بأنه يوجد كثير من عقلاء أوربة يعتقدون أن خرابها سيكون قريبا، وأنه ربما يكون هذا الجيل آخر جيل فيها، وحجتهم عليها هذه الحرب الأخيرة.
قلت: ألا ترى أن من الممكن التوسل بأمثال هؤلاء العقلاء إلى بث الدعوة في الشعوب الأوربية بإلزام حكوماتها ترك العدوان على حريتنا واستقلالنا، اكتفاء بمبادلة المنافع بينهم وبيننا، وتلافيا لما تولده المطامع في بلادنا من التنازع بين الدول الطامعة فيها، الذي يفضي إلى الحرب الآتية، وهي التي إذا وقعت ستكون القاضية.
قال: لا إمكان؛ فهؤلاء السياسيون لا يحولهم عما تربوا، ومرنوا عليه من المطامع والدسائس إلا القوة القاهرة.
قلت: وبم تنصح لنا إذن؟
قال: اجمعوا كلمتكم، وحافظوا على دينكم، وآدابكم وفضائلكم، واستعدوا للاستفادة من الحرب الآتية، فإذا كانت شعوبكم تتبع رأي الزعماء العقلاء مثلكم فإنكم تستفيدون من فرصة الحرب الآتية ما فاتكم مثله في الحرب الماضية، وإلا فلستم الآن بأهل للاستقلال ولا للحرية، بل تحتاجون إلى تربية طويلة.
هذا ملخص حديثنا السياسي على المائدة وفي السمر بعدها، بل كان من حريته التامة أن صرح بما لا يجوز لي أن أنقله عنه إلا بإذنه، وهو يعتقد أن ساسة الغرب يكذبون فيما يرموننا به من العيوب؛ ليحتجوا به على إقناع مجالسهم، وأحرار شعوبهم بالاعتداء علينا، ومن مجاملته الأدبية لي قوله: إنني أعتقد بتناسخ الأرواح، وقد رأيت روحي قريبة من روحك، ولكنها لم تبلغ درجتها في الارتقاء، وإنني أرجو أن تدركها بعد موت وحياة أخرى، فنلتقي في الحياة الثالثة تلاقي الاتحاد والمساواة، فأجبته بمجاملة تليق بالمقام، وأثنيت على ما أفادنا، وما نصح به لنا، مغتبطا باتفاقنا في الأفكار والآراء " .
مجلة المنار ، عدد ذي الحجة - 1340هـ ، أكتوبر - 1922م ، مقالة ( الرحلة الأوروبية - 6 ) .
(صورة للشيخ رشيد رضا مع أعضاء المؤتمر )