أبو عبد العزيز
New member
- إنضم
- 06/02/2006
- المشاركات
- 40
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
أجرى الحوار في موقع الإسلام اليوم عبد الله الرشيد 29/12/1428
س:هناك معادلة مشكلة، وهي قدسية النص الشرعي وعصمته، وبشرية فهمنا له القابل للخطأ والزلل. كيف يمكن التعامل مع هذه القضية؟
ج: بشرية الفهم ونسبيته وقابليته للصواب والخطأ هذا أمر لا شك فيه، إذا تجاوزنا صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم - فجميع الناس، وجميع الصحابة، وجميع العلماء، الأئمة بأفرادهم هم عرضة للصواب والخطأ، في تفسيرهم إلى أي نص وفي استنباطهم منه، وهذا ما قاله الإمام مالك في عبارته الذهبية الشهيرة (كل واحد يُؤخذ من كلامه ويُردّ؛ إلاّ صاحب هذا القبر، مشيراً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) هذا من جهة، .
ولكن من جهة أخرى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة لإسقاط أي فهم وإسقاط أي اجتهاد وإسقاط أي تفسير، ولذلك بعض أصحاب أو أدعياء القراءات الجديدة للقرآن الكريم، يقولون ليس هناك معنى محدد أصلاً للقرآن الكريم لأي آية أو لأي نص قرآني، فضلاً عن النص الحديثي ليس له معنًى محدد لابد أن نعرفه أو أن نصل إليه وهو المقصود، وإنما إلى هذا الحد وصلوا، وإنما الأمر أن معنى النص هو كل ما فهمه أي واحد، كذلك هو المعنى في حق من فهمه، ولا يلزمه إلاّ من فهمه، وهنا بصراحة نصل أو نرجع إلى السفسطة، فلا معنى لأي شيء طبعاً، هذا اتجاه واضح أنه يرمي إلى العبثية بالنصوص وبالمقدسات بل بثوابت العلم؛ لأنه إذا كان هذا الكلام يُقال في حق القرآن الكريم، فلأن يُقال في غيره من باب أولى، فلا معنى لأي نص قانوني تلزموننا به، ولا معنى لأي نص تاريخي يحتمل جميع التفسيرات وجميع الأفهام لا معنى لأي نص أدبي أو فلسفي، وهذا يفضي إلى العبث فإذاً لابد أن تكون المسألة واضحة وحازمة؛ لأنها مسألة علمية وليست مسألة شرعية فقط، فهناك للكلام وللنصوص معاني واضحة ومحددة في أغلب الأحيان ولابد من الرضوخ إلى تلك المعاني الواضحة، وهذه المعاني تتأكد ويتأكد وضوحها ومصداقيتها بقدر ما يقول بها علماء ذوو تمكن وذوو اختصاص وذوو أمانة علمية، وبقدر ما يتزايد عددهم، وبقدر ما تكون هناك قواعد ومسالك واضحة لفهم النصوص وفي مقدمتها دلالة اللغة التي ما فتئ الناس يتفاهمون بها عبر العصور وعبر الأجيال، فإذن تبقى أن هناك نسبة كبيرة من المعاني لا يمكن أن يجادل أحد فيها، من المعاني ومن المضامين ومن الأحكام ومن الاستنباطات على الرغم من بشريتها فإنها تبلغ مبلغ اليقين بسبب وضوحها، وبسبب القواعد التي اعتمدت فيها بسبب القائلين بها.
إذاً قضية نسبية وبشرية الفهم ليست أبداً معبراً ولا ذريعة للتشكيك في جميع الأفهام والاستنباطات، بل هناك ما لا يُحصى من المعاني القطعية الواضحة التي لا يشك فيها إلاّ مكابر وجاحد وعابث.
س:ما هي المعايير العلمية التي يمكن من خلالها محاسبة الأفهام البشرية للنص؟
ج: هذا السؤال تقريباً تكفّلت بالجواب عنه علوم متعددة في مقدمتها علم أصول الفقه، وعلم مناهج التفسير أو قواعد التفسير، وأهم ما يمكن الإحالة عليه؛ لأننا لا يمكن أن نفصل الآن في هذه القضايا، بل إن هناك علوماً تتناولها أهم ما يمكن الإحالة عليه هو كما ذكرت قبل قليل اللغة؛ لأن التشكيك في جميع التفسيرات وجميع الأفهام إنما هو تشكيك في اللغة نفسها، فنحن نتفاهم باللغة، ونفهم تراث العصر العباسي وعصر السلف بل نفهم نصوصاً من العصر الجاهلي، ونفهم نصوصاً أدبية وتاريخية وفلسفية ولا نختلف فيها أو لا نختلف في فهمها إلاّ قليلاً، فإذاً قواعد اللغة كلها تعتبر حاكمة في هذا المجال، اللغة ليست عبثاً، والنصوص التي نزلت بها منزهة عن العبث، فإذن وفق ما يقتضيه اللسان العربي وقواعده اللغوية والنحوية والبلاغية والقواعد الأصولية في هذا المجال كثيرة؛ دلالة الأمر دلالة النهي، دلالة العام ودلالة الخاص، مفهوم المخالفة، حروف المعاني هذه كلها أمور موجودة، بالإضافة إلى أن فهم النص في أي لغة في معظمه لا يحتاج إلى القواعد، وإنما يحتاج إلى القواعد فيما قد يحتمل ويحتمل، وإلاّ فالآن حينما تعطي أي نص لأي عربي يقرؤه، من العسير أن تقول له كيف فهمت منه، كيف فهمت منه أنه يلزمك أن تفعل كذا، هذا مفهوم عند الناس بالبداهة وبالسليقة المتوارثة، وهناك أمر آخر وهو المحكمات الشرعية نفسها؛ لأنه إذا كانت نسبية التفسير ونسبية الفهم والاستنباط ترد في بعض الأمور فإن هناك أموراً تتجاوز ذلك، وتوصف بالقطع واليقين هي أمور بديهيات في الدين، فإذن الاحتكام إليها يقطع كل تلاعب باللغة،
بالإضافة إلى هذه المحكمات هناك بديهيات العقول التي تستحضر السياق، وتستحضر المعاني المشتركة بين البشر، وتستحضر منطقية التفسير، كما أن هناك في أصول الفقه قواعد كثيرة تسمى قواعد العقلية.
فإذن بصفة عامة تفسير النصوص ليس بدعاً في العمل العلمي كله والعمل العقلي، فكل ما كان قاعدة وحجة عند العقلاء وعند أهل العلم والبحث والنظر فهو يعتمد لكنه لا يزيل الخلاف بصفة نهائية، ولكن يجعل الخلاف قليلاً أو يجعله هامشياً.
س:لكن الاستنباط العقلي يتفاوت بتفاوت عقول الناس هذا يوجد مساحة أكبر للاختلاف؟
ج:أولاً: لم يقل أحد من العلماء وربما لم يقل أحد من المسلمين أن هناك شيئاً يمكن أن يلغي الخلاف أو يزيله بين الناس بصفة كاملة، هذا غير ممكن، بل الأدلة العقلية والنقلية تدل على أن الخلاف يبقى وارداً، والصحابة اختلفوا، والملائكة اختلفوا، والأنبياء اختلفوا، لكننا نحن نتحدث عن تقليص دائرة الاختلاف لكي نوجد بجانب مساحة الاختلاف مساحة أكبر منها وأهم منها وأكبر قيمة منها، وهي الاتفاق الذي لا يمكن فيه إلاّ الإذعان والتسليم، فإذن الاختلاف يبقى وراداً، ولكن يجب أن يكون اختلافاً عقلانياً لا اختلافاً عبثياً بحيث يأتي كل واحد يقول: الناس مختلفون، من حقي أن أقول ما أشاء!! هنا ندخل دائرة العبث والسفه.
س:هناك مسألة مهمة في هذا السياق ودوماً ما تتكرر في أدبيات التيار السلفي، وهي الرجوع إلى منهج السلف، فما مدى حجية فهم السلف للنصوص الشرعية؟
ج: أولاً: يجب أن نستحضر ما يقوله العلماء من أن إجماع العلماء حجة ومعصوم، إذا أجمع العلماء على شيء فهو الصواب الذي لا شك فيه. ما دون إجماع العلماء فإنه يتطرق إليه الخلل بنسبة أو بأخرى، ليس هذا فقط في آراء الأفراد بل حتى ما قاله جمهور العلماء قد يكون فيه خلل أو قد يكون فيه قدر من الخطأ.
لا شك أن للسلف إمامتهم في سلامة التدين من جهة، وفي سلامة الفهم من جهة أخرى دون أن يعني ذلك العصمة إلاّ فيما انعقد عليه الإجماع، لكن أولوية السلف هذه وأسبقيتهم إنما هي في المنهج العام وفي القواعد اللغوية، وما هو ثابت من الدين لا يتغير، أما الأمور التي تغيرت فلكل عصر علماؤه، ومجتهدوه أولى من مجتهدي غيره من العصور بما في ذلك السلف، وإذا اجتهدنا في قضية جديدة وفي مشاكل جديدة أو في قضايا ليست جديدة ولكن دخلت عليها تطورات كبيرة جوهرية، إذا نظرنا في مثل هذه الأمور فاجتهاد أهل العصر أولى من اجتهاد كل عصر بما في ذلك الصحابة؛ لأن الصحابة لم يجتهدوا لهذه الحالة لو جاؤوا وبعثوا في زماننا، واجتهدوا لظروفنا لقلنا اجتهادهم على رؤوسنا وهم أهل تقوى واستقامة وصفاء في العقول، لكنهم لم يجتهدوا لزماننا، فحينما نجتهد لزماننا فاجتهاد زماننا هو المقدم وهو الأولى بالاعتبار، فإذن اجتهاد الصحابة واجتهاد السلف ومنهج السلف له مكانته وأولويته في الحدود التي ذكرتها.
س:لكن هناك من يقول: إذا اختلف السلف على قولين فلا يصح إحداث قول ثالث، ما رأيك؟
ج:الإجماع لا يكون على قولين هذا الكلام عند الأصوليين، لكن تحقيق أن الإجماع لا يكون بهذا الشكل. دعنا نسمِّ الأمور بأسمائها، هذا يُسمّى اختلافاً، فصار اختلافاً وليس إجماعاً الذي وُصف بالعصمة ووُصف بأنه حجة لا، لا أبداً ليس هو هذا.
س:كن هناك من يشكك في وقوع الإجماع أصلاً، والإمام أحمد يقول: من ادّعى الإجماع فهو كاذب!!
ج:الإمام أحمد لم يشكك في أصل الإجماع وحجية الإجماع، إنما شكك في صعوبة وقوعه أولاً، وفي صعوبة روايته، وإثباته ثانياً.
ففي زمن الإمام أحمد كانت الدولة الإسلامية مترامية الأطراف ممتدة على القارات الثلاث، وظروف الزمان مختلفة نظراً لصعوبة التواصل السريع، فنحن نعرف أن كتباً أُلّفت في القرون الخالية، ولم تُعرف في ذلك الزمان حتى عُرفت في هذا الزمان، وحتى مشاهير الكتب كانت تنتشر بعد عشرين سنة وخمسين سنة ومائة سنة، حتى يُعرف الكتاب، ويُعرف رأي صاحبه بخلاف اليوم، الإنسان قد يتكلم فيُسمع كلامه في اللحظة نفسها عبر وسائل عديدة، فاليوم نحن أمام واقع جديد، فكرة الإجماع فيه أصبحت متيسرة ربما لا أقول الآن، لكن أصبحت متيسرة من حيث انعقاد وتبادل الرأي ومعرفة الآراء، فما قصده الإمام أحمد هو: من ادعى الإجماع. أما لو ثبت الإجماع فهو لا يناقش من هذه الجهة.
س: لكن معنى هذا الكلام أن الإجماعات قليلة؟
ج:بدون شك أن الإجماعات الحقيقية المحققة ليست بالكثرة التي تتردد في كثير من كتب الفقه عادة، فالأمر يحتاج إلى تمحيص، ولكن هذا أيضاً ربما مما يسده مجال الاجتهاد، فما دام أن الإجماعات الثابتة والإجماعات المروية رواية صحيحة قليلة، فمعناه أن مساحة الاجتهاد لعلماء كل زمن وفقهاء كل زمن تبقى متسعة.
س: لكن برأيك ألم يؤثر إغلاق باب الاجتهاد في وقت استقرار المذاهب الفقهية على الاجتهاد الفقهي المعاصر؟
ج:أولاً: ليس هناك بمعنى الكلمة شيء اسمه إغلاق باب الاجتهاد فلم يحدث إغلاق للباب، ولكن الذي يمكن أن نتحدث عنه هو فتور الاجتهاد وخموده وقلة من يتصدى للاجتهاد.
نحن نعرف أن تاريخ الأمة الإسلامية عرف خطًّا متصاعداً في جميع المجالات تقريباً أو على الأقل في معظم المجالات العلمية والثقافية والإدارية والفكرية والتنظيمية والعسكرية، ثم وصل إلى مرحلة ربما تمتد قروناً بدأ يتأرجح هذا التاريخ ما بين صعود، ونزول، وجمود، ثم بعد ذلك دخل في مرحلة لا تتأرجح إلاّ بين الجمود والتراجع و التقهقر، فحين عبرت الأمة مرحلة الصعود إلى منتهاها- وهذه سنن ودورات التاريخ والحضارات- كان علماء الأمة الذين تراكمت أسماؤهم وأعمالهم و إبداعاتهم على مر القرون في قمة النضج والاكتمال والإجادة والإتقان، فبدأ الناس يحسون بكاملها وبذلك مالوا نحو الجمود والتأرجح والانحطاط. وهنا أيضا دخل عنصر التمذهب بصفته يميل إلى تقديس وتمجيد المتقدمين من الأئمة والجمود عند آرائهم، وهذه العوامل كلها جعلت كثيراً من الفقهاء يحجمون عن التفكير في الاجتهاد، بل أكثر من هذا تجدهم يجتهدون ويدعون أنهم لا يجتهدون خشية أن يُتّهم بأنه يتعالى ويقدم نفسه، ويتقدم بين يدي الأئمة الكبار الذين سبقوه.
باب الاجتهاد لم يقف في تلك المرحلة، هناك من ادعوا الاجتهاد، وهناك من أنكروا أنهم يجتهدون تواضعاً وتحرجاً؛ فباب الاجتهاد لم يُغلق، وخاصة إذا قصدنا أن توقفه كان بقرار يحظر الاجتهاد، فهذا القرار لا وجود له أبداً في أي مذهب، وفي أي بلد، وفي أي حقبة من الحقبات. كل ما هنالك أنه طموح انخفض عند العلماء وعند الفقهاء، إلاّ استثناءات لامعة، وظلت واضحة أنها تجتهد، ولذلك لم يخلُ عصر من أن يوصف عدد من فقهائه في مختلف المذاهب بأن فلان بلغ رتبة الاجتهاد في هذا المذهب أو ذاك في هذا البلد أو ذاك.
س:ما تأثير هذا التراجع على عملية الاجتهاد في العصر الحديث؟
ج:هذا الفتور وهذا التراجع أثّر على قرون خلت، من القرن السابع إلى العاشر إلى الثاني عشر، لكن في القرن الذي مضى والذي انسلخ من تاريخنا الحديث إلى الآن لم تعد هناك مشكلة، ولم يعد لهذه الفكرة أي أثر، فالعلماء المعاصرون استنكروا هذا الوضع وعملوا على تجاوزه، وفعلاً الآن ربما نجد الشكوى من فوضى الاجتهاد والإسراف في دعاوى الاجتهاد، والتجرؤ على الاجتهاد أكثر مما نجد الشكوى من عدم الاجتهاد.
س:من يملك حق الاجتهاد؟ هل هم العلماء فقط؟ وهل يعني هذا أنه كهنوت في الإسلام؟
ج:طبعا قد يُقال بأنه لا كهنوت في الإسلام ولا بابوية في الإسلام ولا كنسية في الإسلام، هذا كله صحيح، ولكنه قد يكون من باب الحق الذي يُراد به باطل أحياناً؛ لأن الاجتهاد ليس كهانوتياً ولا بابوياً، ولا يستطيع أحداً أن يزعم لنفسه قدسية لكلامه أنه يُستمد من الله، أو من الوحي. الاجتهاد هو قضية تخصص وتمكن وخبرة، ففي كل مجال هناك متخصصون، وهناك مراجع في كل مجال، وهناك أئمة في كل فن؛ أئمة في الرياضيات، وأئمة في الطب، ومجتهدون في الاقتصاد. فالتخصص العلمي الإسلامي وبلوغ مرحلة الاجتهاد إنما كما يقع في سائر العلوم. فالآن حينما يأتي بعض الصحفيين مثلاً فيكتب ويتطاول على نظريات طبية أو كيميائية أو فيزيائية يعرض نفسه أن يكون أضحوكة، وربما يُوصف بأنه مرتزق يملأ الصفحات، ويأخذ أجره لا أقل ولا أكثر. فتطاول أي واحد على أي علم لا يجعل منه عالماً، فضلاً عن أن يجعل منه مجتهداً في ذلك العلم، فهكذا الدين خبرة دراسية، وميراث طويل، وعكوف على الرصيد العلمي السابق لكي يبني الإنسان عليه؛ لكي يجتهد في إطاره كما يقع تقريباً في سائر العلوم، ولذلك شيء طبيعي أن تكون هنالك شروط للاجتهاد الحقيقي والاجتهاد المشروع والاجتهاد المقبول. واليوم هنالك فوضى، وكل يوم يتجرأ من شاء على الاجتهاد وربما واقعنا لم يعد يسمح لنا بأن نمنع أحداً، لكن سيظل كل كلام في مستوى صاحبه، وفي مستوى مضمونه، وستظل الأمة ولا تزال -والحمد لله- تتطلع إلى من لهم المكانة الحقيقية ومن لهم الأهلية الحقيقية، وغيرهم يتكلمون ويمضي كلامهم، ولربما يشغل كلامهم بعض المواقع الإلكترونية، أو بعض البرامج التلفزيونية، أو صفحات بعض الجرائد فأما الزبد فيذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض. إذن مسألة الشروط في الاجتهاد لا بد منها وتفاصيل هذه الشروط هي مسألة تبحث في أصول الفقه، لكن على العموم لا ينبغي أن يختلف اثنان في أنه لا بد من أهلية معينة وخبرة معينة وتمرّس معين لكي يُقبل كلام الشخص فيما يحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد.
س:هل تتفق مع القول: إن شروط الاجتهاد التي وضعها بعض الأصوليين كانت معقدة من الصعب توفرها في أي شخص؟
ج:طبعاً إذا قرأنا شروط المجتهد في كتب الأصول فسنجد تفاوتاً، فصحيح هناك من شدد وبالغ، وهناك من ليس كذلك، فالتعميم غير صحيح، ولكن على العموم بمرور الوقت -كما وقع في جوانب أخرى من الدين- تراكمت الخطوات التشديدية شيئاً فشيئاً، فإذا أخذنا آخر ما استقر عليه غالب الأصوليين فنجد أنه يميل إلى التشديد، وإلى وضع شروط ليست ضرورية، ولذلك لما جاء الإمام الشاطبي متأخراً في القرن الثامن، والإمام الشاطبي -كما هو معروف- كان ذا نزعة تصحيحية وتجديدية، تعامل مع شروط المجتهد بطريقة مختلفة تماماً. وكأنه تعمّد إسقاط لائحة طويلة من شروط المجتهد وشروط الاجتهاد، وحصر هذه الشروط في أمرين اثنين، أمرين لا ثالث لهما؛ لأنهما يجمعان غيرهما من الأمور، وهما العلم باللغة العربية، والعلم بمقاصد الشريعة فقط، ولكن هذين الشرطين يختصران شروطاً أخرى ضمنية؛ لأنه لن يعرف مقاصد الشريعة من لم يكن مطلعاً على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية وعلى فهم المتقدمين.
فهذا الدين هو كله عبارة عن نصوص باللغة العربية، وهي مفتاح كل كلمة في الدين وكل نص وكل حديث وكل آية. كما أن التراث العلمي للمسلمين يكاد يكون كله أيضاً مكتوباً باللغة العربية، من فقه وشروح حديث وتفاسير وغير ذلك من المؤلفات. إذن تبقى اللغة العربية تمثل شرطاً كبيراً، فبحسب مستوى الإنسان في اللغة العربية تكون أهليته ويكون مستواه في الاجتهاد. الأمر الآخر وهو مقاصد الشريعة فالإنسان لكي يعرف مقاصد الشريعة يجب أن يدمن معرفة النصوص الشرعية من القرآن والسنة، ويستعين في ذلك؛ لأنه لا أحد يبلغ به الغرور أن يستغني عمّن سبقوه في أي علم شرعي كان أو غير شرعي.
فإذن ضمنياً يحتاج الإنسان إلى عدة أمور لكي ينتهي إلى هذه النتيجة التي اسمها معرفة مقاصد الشريعة.
س: الاجتهاد معناه إعمال العقل البشري في المسائل الشرعية، وهذا سيؤدي إلى الخطأ في بعض الحالات.. كيف تعامل ج:الشارع مع من خطأ المجتهد المستوفي للشروط؟
الخطأ في الاجتهاد وارد ومن حيث المبدأ مقبول ومسموح به ومأذون به. نحن نعرف أن الصحابة أنفسهم اجتهدوا فأصابوا وأخطؤوا في زمن رسول الله، وبعد زمن رسول الله، ودائماً بالنسبة للمسلم الصحابة هم قدوة ومعيار ومقياس، وما جاز على الصحابة جاز علينا، فإذا جاز عليهم الخطأ جاز علينا من باب أولى، بل إن هناك رأياً أصولياً يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو نفسه في الأمور الاجتهادية يصيب ويخطئ، وقد يخطئ في حالات نادرة عند من يقول بهذا القول وهو قول موجود .. إلى هذا الحد قد يصل الأمر، وقد يُستدل بهذا على الاختلاف الذي وقع بين داود وسليمان؛ فكلاهما نبي وحكم حكمين مختلفين معناهما أن أحدهما صواب والآخر خطأ، أو على الأقل هو أقل صوابية من الآخر، كذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فله أجر، إذن الخطأ وارد ولم يقل الرسول عليه السلام: لا يجتهدن أحد فإنه إذا أخطأ ذهب إلى النار أو عليه لعنة الله أبداً، لم يقل شيئاً من هذا، بل أكثر من هذا فله أجر.
طبعاً الخطأ الوارد من العلماء المتمكنين حين يكونون أصحاب أمانة في دينهم وفي علمهم، وحينما يُحاطون بالقواعد، وحينما يُحاطون بالنقد من العلماء الآخرين، كل هذه ضمانات تجعل احتمالات الخطأ قليلة، وإن كان التراجع عن هذا الخطأ أيضاً وارداً.
إذن ليس هذا معناه أن الباب مفتوح للخطأ بنسب كبيرة، أو بجميع النسب الممكنة في الدين، لا، هذا غير وارد، لكن الخطأ من حين لآخر وارد، وإذا وقع هذا الخطأ فقد يخالفه ويصححه غيره، وقد يصححه في جيل آخر، وقد يصححه العالم نفسه في حياته. فإذن العمل الاجتهادي كما العمل العقلي يرد عليه الخطأ، ولكن هذا في الدين لا يشكل أي مشكلة، وفي بعض المناسبات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وجعل على رأسها أحد الصحابة وأوصاه وقال له: (فيما قال إذا طلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، بل أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله، أم لا تصيبه) فهذا صحابي والرسول عليه السلام ينبهه أنه إذا اجتهد يقول هذا رأيي إذا طلب منه الخصوم أن يحكم فيهم، ويقدم لهم حكم الله، في الحل الذي ينتهي إليه الأمر يقول لهم لا إذا لم يكن عنده اعتماد على نص صريح من القرآن أو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم كما قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو، وهذا رأيي بمعنى يمكن أن يصادف الشرع ويتوافق معه، وهذا هو الغالب ويمكن أن يكون خطأ.
س: كيف يمكن التوفيق بين كلامك وكلام ابن القيم بأن المفتين موقّعين عن رب العالمين؟
ج:المفتي إذا لم يكن استمداده بشكل صريح من نص شرعي طبعاً يبقى هذا رأيه واجتهاده، وهو يوقع عن رب العالمين سواء أصاب أو أخطأ، يوقع لأنه يتحمل المسؤولية، وطبعاً حينما نتحدث عن خطأ العالم لا نتحدث عن قلب للحقائق وعن مضادة لهذه الحقائق، وإنما عن خطأ نسبي في المسألة، فالمجتهد لا يمكن أن يجعل من الحرام واجباً مثلاً، لكنه قد يجعل من المندوب واجباً، وقد يجعل من الواجب مندوباً، وقد يسقط شرطاً، والشرط لازم، وقد يشترط شيئاً، وهو غير لازم، هي في حدود من الصعب أن تصفها في أي حالة بأنها خطأ محض وشر وفساد، لا نتصور أخطاء العلماء من هذا القبيل، وإنما هي من قبيل ما هو صواب وأصوب، وأقل صواباً وأقرب إلى الصواب، وفيه قدر من الخطأ.
س:أنت تقول إن هناك فوضى في الاجتهاد في العصر الحالي، فهل أنت مع تشديد شروط المجتهد أم مع تيسيرها الآن؟
ج:أولاً: هذه مسألة نظرية خاصة في عصرنا هذا؛ لأنه ما وضعنا من الشروط وسواء أطلنا فيها أم اختصرنا فلن يلتزم بها أحد كل واحد الآن يتصرف بحسب دينه وتقواه وأمانته وتقديره للمسؤوليات العلمية، أو عكس ذلك، إذاً هذا يكون كلاماً نظرياً لا يُلتفت إليه، لكن أفضل من العلماء الذي اطمأنوا إلى علمهم أن يقدموا ولا يحجموا، فنحن قد عانينا من الإحجام أكثر مما نعاني اليوم من الإقدام، ثم اليوم في هذا الزمن بالخصوص ظهرت بادرة حسنة جداً من حسنات هذا الزمان، ولو أن أصل الفكرة ليس بجديد، لكن تفعيل هذه الفكرة والعمل بها جديد في هذا العصر وهو الاجتهاد الجماعي واجتهاد المجامع الفقهية. هذه ظاهرة صحية وظاهرة إيجابية جداً فهي عملياً تضع حداً لكثير من التساؤلات والإشكالات، طبعاً الاجتهاد الجماعي لا يلغي الاجتهاد الفردي ولا يسقط حقه في العمل، ولكن هذه هي الصيغة المثلى لكثير من الإشكالات، وأيضاً لما سميناه بفوضى الاجتهاد.
س: ما رأيك في أداء هذه المجامع الفقهية؟ وهل أدّت دورها فعلاً، وشكلت حضوراً لافتاً؟
ج: أولاً: أنا أردت أن أشيد بالفكرة وبالتوجه، لأن هذه الفكرة والتوجه أخذا طريقهما الآن. هناك مجامع كثيرة دولية على صعيد العالم، وعلى صعيد العالم الإسلامي، وهناك مجامع قطرية، فالظاهرة مازالت تمضي بالشكل الذي يبعث على السعادة و الارتياح، كما أن لهذه المجامع وجوداً في غير البلدان الإسلامية، فهناك مجمع فقهي لأمريكا الشمالية، وهناك مجمع فقهي للإفتاء والبحوث على صعيد أوروبا، فالظاهرة ما زالت تمتد وإذا كانت تمتد فمعناه أنه بقدر ما كثرت هذه المجامع ستسد في مجموعها على الأقل حاجة الأمة، وإذا أخذنا على الأقل واحداً منها وهو أشهرها وأكبرها وأوسعها وهو مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، هذا هو نفسه على الرغم من أنه بمفرده، وعانى هو نفسه كثيراً من الإهمال، مع ذلك أنا شخصياً حينما أنظر إلى إنتاجه وقراراته أجد كنوزاً ثمينة وإنتاجاً كبيراً، فالمشكلة في تسويق هذا الإنتاج وترويجه وإضفاء صفة اللزوم عليه هذا الذي لم يقع، ولعل هذا الذي انتبه إليه أو نبه إليه الرؤساء المسلمون الذين اجتمعوا سابقاً بمكة المكرمة في مؤتمر القمة الاستثنائي، فلأول مرة -فيما أذكر- في جدول أعمالهم دعوة لقضية تفعيل هذا المجمع والسير به نحو اعتباره مرجعية موحدة عليا في الفقه الإسلامي لعموم المسلمين. فهذه خطوة جديدة على طريق تفعيل هذه المؤسسات، مؤسسات الاجتهاد الجماعي؛ فمجمع الفقه الإسلامي وغيره من المجامع إذا بدأت الدول والحكومات والوزارات المعنية والمؤسسات الدعوية تتلقف فتاوى هذه المجامع، وتعتمدها، وتعطيها الأولوية، فإن هذه المجامع فعلاً ستؤدي دورها.
س: ما هو تأثير الواقع الاجتماعي والسياسي على مسيرة الاجتهاد الفقهي؟
ج:طبعاً جميع الأوضاع والظروف والملابسات التي يقع فيها الاجتهاد يُفترض أن يكون لها تفسير طبيعي بل ضروري؛ لأننا حينما نتحدث عن الاجتهاد نتحدث عن الاجتهاد الفقهي، والاجتهاد الفقهي ليس عقائد ثابتة منذ الأزل وإلى الأبد، الاجتهاد الفقهي إنما هو اجتهاد لحالة بعينها، وكلما تغيرت الظروف في ظاهرها وباطنها اجتماعياً وسياسياً وفكرياً ونفسياً فالمفترض أن الاجتهاد يتغير؛ لأن المجتهد عمله كعمل الطبيب تماماً. الطبيب لا يمكن أن توصف له حالة وقعت في وقت من الأوقات، ويعطيك وصفة الدواء. لابد أن يعرف الحالة في لحظتها، ولابد أن يفحص و يعاين، وأن ينظر إلى الشخص من جميع نواحيه، مثل الناحية النفسية والناحية المعيشية قبل أن يعطي وصفة الدواء، وكذلك الفقه والاجتهاد الفقهي والإفتاء الفقهي يجب أن يكون دائم التشخيص ودائم إعادة التشخيص للأوضاع؛ لأن الأوضاع التي نفتي لها هي نصف عمل المجتهد؛ لأن عمل المجتهد نصفه نظر في الأدلة الشرعية، ونصفه نظر في مطابقة هذه الأدلة الشرعية للواقع الذي أُنتجت له ووُصفت لأجله، بالعكس هناك فقهاء اليوم آفتهم ومشكلتهم عدم تفاعلهم مع ظروف زمانهم، وعدم فهمهم وعدم اعتبارهم لمتغيرات زمانهم، فيصدرون الفتاوى وكأن الإنسان الذي يخاطبونه هو الإنسان الذي كان قبل عشرة قرون أو أربعة عشر قرناً.
س:لكن وفق هذا الكلام هناك من يسقط اجتهادات الفقهاء في القرون الماضية ولا يعتدّ بها؟
ج:التراث الفقهي القديم في نظري يُستفاد منه أولاً استفادة منهجية نطلع عليها جملة، ونطلع عليه تفصيلاً لنرى كيف عالج الفقهاء هذه القضية، وبصفة عامة كيف كانوا يعالجون، ويستفيدوا من منهجية الاستنباط، ومنهجية التنزيل، ومنهجية التفاعل مع الواقع.
ثانياً: ننظر فيما اجتهدوا فيه لعل بعض الأمور ما زالت متطابقة؛ لأن الحياة دائماً فيها متغيرات، وفيها ثوابت فقد يكون اجتهاد أبي حنيفة في قضية من القضايا ما زال بحذافيره صالحاً لزماننا؛ لأنه يتعلق بمسألة لم يمسّها تغيير يُذكر، إذن هذان هما وجها الاستفادة من التراث الفقهي، وما عدا هذين الوجهين فلا لزوم لأي اجتهاد فقهي في زمن معين للزمن الآخر، بل العلماء في الزمن الواحد كانوا يتواصون ويحذرون طلابهم وزملاءهم: إياك أن ترحل من المشرق إلى المغرب فتفتيهم في المغرب بظروفك المشرقية التي كنت عليها في بغداد، وهنا يأتي المثل الشهير الذي يضربه عادة الباحثون في هذا المجال، فالإمام الشافعي صاحب مذهبين: قديم وجديد، في العراق كان له مذهب، وفي مصر راجع كثيراً من فتاويه؛ لأن متغيرات المجتمع اقتضت أشياء جديدة، فإذاً الفقه القديم بكامله وبرمته لا يلزمنا أبداً.
س:هناك معادلة مشكلة، وهي قدسية النص الشرعي وعصمته، وبشرية فهمنا له القابل للخطأ والزلل. كيف يمكن التعامل مع هذه القضية؟
ج: بشرية الفهم ونسبيته وقابليته للصواب والخطأ هذا أمر لا شك فيه، إذا تجاوزنا صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم - فجميع الناس، وجميع الصحابة، وجميع العلماء، الأئمة بأفرادهم هم عرضة للصواب والخطأ، في تفسيرهم إلى أي نص وفي استنباطهم منه، وهذا ما قاله الإمام مالك في عبارته الذهبية الشهيرة (كل واحد يُؤخذ من كلامه ويُردّ؛ إلاّ صاحب هذا القبر، مشيراً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) هذا من جهة، .
ولكن من جهة أخرى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة لإسقاط أي فهم وإسقاط أي اجتهاد وإسقاط أي تفسير، ولذلك بعض أصحاب أو أدعياء القراءات الجديدة للقرآن الكريم، يقولون ليس هناك معنى محدد أصلاً للقرآن الكريم لأي آية أو لأي نص قرآني، فضلاً عن النص الحديثي ليس له معنًى محدد لابد أن نعرفه أو أن نصل إليه وهو المقصود، وإنما إلى هذا الحد وصلوا، وإنما الأمر أن معنى النص هو كل ما فهمه أي واحد، كذلك هو المعنى في حق من فهمه، ولا يلزمه إلاّ من فهمه، وهنا بصراحة نصل أو نرجع إلى السفسطة، فلا معنى لأي شيء طبعاً، هذا اتجاه واضح أنه يرمي إلى العبثية بالنصوص وبالمقدسات بل بثوابت العلم؛ لأنه إذا كان هذا الكلام يُقال في حق القرآن الكريم، فلأن يُقال في غيره من باب أولى، فلا معنى لأي نص قانوني تلزموننا به، ولا معنى لأي نص تاريخي يحتمل جميع التفسيرات وجميع الأفهام لا معنى لأي نص أدبي أو فلسفي، وهذا يفضي إلى العبث فإذاً لابد أن تكون المسألة واضحة وحازمة؛ لأنها مسألة علمية وليست مسألة شرعية فقط، فهناك للكلام وللنصوص معاني واضحة ومحددة في أغلب الأحيان ولابد من الرضوخ إلى تلك المعاني الواضحة، وهذه المعاني تتأكد ويتأكد وضوحها ومصداقيتها بقدر ما يقول بها علماء ذوو تمكن وذوو اختصاص وذوو أمانة علمية، وبقدر ما يتزايد عددهم، وبقدر ما تكون هناك قواعد ومسالك واضحة لفهم النصوص وفي مقدمتها دلالة اللغة التي ما فتئ الناس يتفاهمون بها عبر العصور وعبر الأجيال، فإذن تبقى أن هناك نسبة كبيرة من المعاني لا يمكن أن يجادل أحد فيها، من المعاني ومن المضامين ومن الأحكام ومن الاستنباطات على الرغم من بشريتها فإنها تبلغ مبلغ اليقين بسبب وضوحها، وبسبب القواعد التي اعتمدت فيها بسبب القائلين بها.
إذاً قضية نسبية وبشرية الفهم ليست أبداً معبراً ولا ذريعة للتشكيك في جميع الأفهام والاستنباطات، بل هناك ما لا يُحصى من المعاني القطعية الواضحة التي لا يشك فيها إلاّ مكابر وجاحد وعابث.
س:ما هي المعايير العلمية التي يمكن من خلالها محاسبة الأفهام البشرية للنص؟
ج: هذا السؤال تقريباً تكفّلت بالجواب عنه علوم متعددة في مقدمتها علم أصول الفقه، وعلم مناهج التفسير أو قواعد التفسير، وأهم ما يمكن الإحالة عليه؛ لأننا لا يمكن أن نفصل الآن في هذه القضايا، بل إن هناك علوماً تتناولها أهم ما يمكن الإحالة عليه هو كما ذكرت قبل قليل اللغة؛ لأن التشكيك في جميع التفسيرات وجميع الأفهام إنما هو تشكيك في اللغة نفسها، فنحن نتفاهم باللغة، ونفهم تراث العصر العباسي وعصر السلف بل نفهم نصوصاً من العصر الجاهلي، ونفهم نصوصاً أدبية وتاريخية وفلسفية ولا نختلف فيها أو لا نختلف في فهمها إلاّ قليلاً، فإذاً قواعد اللغة كلها تعتبر حاكمة في هذا المجال، اللغة ليست عبثاً، والنصوص التي نزلت بها منزهة عن العبث، فإذن وفق ما يقتضيه اللسان العربي وقواعده اللغوية والنحوية والبلاغية والقواعد الأصولية في هذا المجال كثيرة؛ دلالة الأمر دلالة النهي، دلالة العام ودلالة الخاص، مفهوم المخالفة، حروف المعاني هذه كلها أمور موجودة، بالإضافة إلى أن فهم النص في أي لغة في معظمه لا يحتاج إلى القواعد، وإنما يحتاج إلى القواعد فيما قد يحتمل ويحتمل، وإلاّ فالآن حينما تعطي أي نص لأي عربي يقرؤه، من العسير أن تقول له كيف فهمت منه، كيف فهمت منه أنه يلزمك أن تفعل كذا، هذا مفهوم عند الناس بالبداهة وبالسليقة المتوارثة، وهناك أمر آخر وهو المحكمات الشرعية نفسها؛ لأنه إذا كانت نسبية التفسير ونسبية الفهم والاستنباط ترد في بعض الأمور فإن هناك أموراً تتجاوز ذلك، وتوصف بالقطع واليقين هي أمور بديهيات في الدين، فإذن الاحتكام إليها يقطع كل تلاعب باللغة،
بالإضافة إلى هذه المحكمات هناك بديهيات العقول التي تستحضر السياق، وتستحضر المعاني المشتركة بين البشر، وتستحضر منطقية التفسير، كما أن هناك في أصول الفقه قواعد كثيرة تسمى قواعد العقلية.
فإذن بصفة عامة تفسير النصوص ليس بدعاً في العمل العلمي كله والعمل العقلي، فكل ما كان قاعدة وحجة عند العقلاء وعند أهل العلم والبحث والنظر فهو يعتمد لكنه لا يزيل الخلاف بصفة نهائية، ولكن يجعل الخلاف قليلاً أو يجعله هامشياً.
س:لكن الاستنباط العقلي يتفاوت بتفاوت عقول الناس هذا يوجد مساحة أكبر للاختلاف؟
ج:أولاً: لم يقل أحد من العلماء وربما لم يقل أحد من المسلمين أن هناك شيئاً يمكن أن يلغي الخلاف أو يزيله بين الناس بصفة كاملة، هذا غير ممكن، بل الأدلة العقلية والنقلية تدل على أن الخلاف يبقى وارداً، والصحابة اختلفوا، والملائكة اختلفوا، والأنبياء اختلفوا، لكننا نحن نتحدث عن تقليص دائرة الاختلاف لكي نوجد بجانب مساحة الاختلاف مساحة أكبر منها وأهم منها وأكبر قيمة منها، وهي الاتفاق الذي لا يمكن فيه إلاّ الإذعان والتسليم، فإذن الاختلاف يبقى وراداً، ولكن يجب أن يكون اختلافاً عقلانياً لا اختلافاً عبثياً بحيث يأتي كل واحد يقول: الناس مختلفون، من حقي أن أقول ما أشاء!! هنا ندخل دائرة العبث والسفه.
س:هناك مسألة مهمة في هذا السياق ودوماً ما تتكرر في أدبيات التيار السلفي، وهي الرجوع إلى منهج السلف، فما مدى حجية فهم السلف للنصوص الشرعية؟
ج: أولاً: يجب أن نستحضر ما يقوله العلماء من أن إجماع العلماء حجة ومعصوم، إذا أجمع العلماء على شيء فهو الصواب الذي لا شك فيه. ما دون إجماع العلماء فإنه يتطرق إليه الخلل بنسبة أو بأخرى، ليس هذا فقط في آراء الأفراد بل حتى ما قاله جمهور العلماء قد يكون فيه خلل أو قد يكون فيه قدر من الخطأ.
لا شك أن للسلف إمامتهم في سلامة التدين من جهة، وفي سلامة الفهم من جهة أخرى دون أن يعني ذلك العصمة إلاّ فيما انعقد عليه الإجماع، لكن أولوية السلف هذه وأسبقيتهم إنما هي في المنهج العام وفي القواعد اللغوية، وما هو ثابت من الدين لا يتغير، أما الأمور التي تغيرت فلكل عصر علماؤه، ومجتهدوه أولى من مجتهدي غيره من العصور بما في ذلك السلف، وإذا اجتهدنا في قضية جديدة وفي مشاكل جديدة أو في قضايا ليست جديدة ولكن دخلت عليها تطورات كبيرة جوهرية، إذا نظرنا في مثل هذه الأمور فاجتهاد أهل العصر أولى من اجتهاد كل عصر بما في ذلك الصحابة؛ لأن الصحابة لم يجتهدوا لهذه الحالة لو جاؤوا وبعثوا في زماننا، واجتهدوا لظروفنا لقلنا اجتهادهم على رؤوسنا وهم أهل تقوى واستقامة وصفاء في العقول، لكنهم لم يجتهدوا لزماننا، فحينما نجتهد لزماننا فاجتهاد زماننا هو المقدم وهو الأولى بالاعتبار، فإذن اجتهاد الصحابة واجتهاد السلف ومنهج السلف له مكانته وأولويته في الحدود التي ذكرتها.
س:لكن هناك من يقول: إذا اختلف السلف على قولين فلا يصح إحداث قول ثالث، ما رأيك؟
ج:الإجماع لا يكون على قولين هذا الكلام عند الأصوليين، لكن تحقيق أن الإجماع لا يكون بهذا الشكل. دعنا نسمِّ الأمور بأسمائها، هذا يُسمّى اختلافاً، فصار اختلافاً وليس إجماعاً الذي وُصف بالعصمة ووُصف بأنه حجة لا، لا أبداً ليس هو هذا.
س:كن هناك من يشكك في وقوع الإجماع أصلاً، والإمام أحمد يقول: من ادّعى الإجماع فهو كاذب!!
ج:الإمام أحمد لم يشكك في أصل الإجماع وحجية الإجماع، إنما شكك في صعوبة وقوعه أولاً، وفي صعوبة روايته، وإثباته ثانياً.
ففي زمن الإمام أحمد كانت الدولة الإسلامية مترامية الأطراف ممتدة على القارات الثلاث، وظروف الزمان مختلفة نظراً لصعوبة التواصل السريع، فنحن نعرف أن كتباً أُلّفت في القرون الخالية، ولم تُعرف في ذلك الزمان حتى عُرفت في هذا الزمان، وحتى مشاهير الكتب كانت تنتشر بعد عشرين سنة وخمسين سنة ومائة سنة، حتى يُعرف الكتاب، ويُعرف رأي صاحبه بخلاف اليوم، الإنسان قد يتكلم فيُسمع كلامه في اللحظة نفسها عبر وسائل عديدة، فاليوم نحن أمام واقع جديد، فكرة الإجماع فيه أصبحت متيسرة ربما لا أقول الآن، لكن أصبحت متيسرة من حيث انعقاد وتبادل الرأي ومعرفة الآراء، فما قصده الإمام أحمد هو: من ادعى الإجماع. أما لو ثبت الإجماع فهو لا يناقش من هذه الجهة.
س: لكن معنى هذا الكلام أن الإجماعات قليلة؟
ج:بدون شك أن الإجماعات الحقيقية المحققة ليست بالكثرة التي تتردد في كثير من كتب الفقه عادة، فالأمر يحتاج إلى تمحيص، ولكن هذا أيضاً ربما مما يسده مجال الاجتهاد، فما دام أن الإجماعات الثابتة والإجماعات المروية رواية صحيحة قليلة، فمعناه أن مساحة الاجتهاد لعلماء كل زمن وفقهاء كل زمن تبقى متسعة.
س: لكن برأيك ألم يؤثر إغلاق باب الاجتهاد في وقت استقرار المذاهب الفقهية على الاجتهاد الفقهي المعاصر؟
ج:أولاً: ليس هناك بمعنى الكلمة شيء اسمه إغلاق باب الاجتهاد فلم يحدث إغلاق للباب، ولكن الذي يمكن أن نتحدث عنه هو فتور الاجتهاد وخموده وقلة من يتصدى للاجتهاد.
نحن نعرف أن تاريخ الأمة الإسلامية عرف خطًّا متصاعداً في جميع المجالات تقريباً أو على الأقل في معظم المجالات العلمية والثقافية والإدارية والفكرية والتنظيمية والعسكرية، ثم وصل إلى مرحلة ربما تمتد قروناً بدأ يتأرجح هذا التاريخ ما بين صعود، ونزول، وجمود، ثم بعد ذلك دخل في مرحلة لا تتأرجح إلاّ بين الجمود والتراجع و التقهقر، فحين عبرت الأمة مرحلة الصعود إلى منتهاها- وهذه سنن ودورات التاريخ والحضارات- كان علماء الأمة الذين تراكمت أسماؤهم وأعمالهم و إبداعاتهم على مر القرون في قمة النضج والاكتمال والإجادة والإتقان، فبدأ الناس يحسون بكاملها وبذلك مالوا نحو الجمود والتأرجح والانحطاط. وهنا أيضا دخل عنصر التمذهب بصفته يميل إلى تقديس وتمجيد المتقدمين من الأئمة والجمود عند آرائهم، وهذه العوامل كلها جعلت كثيراً من الفقهاء يحجمون عن التفكير في الاجتهاد، بل أكثر من هذا تجدهم يجتهدون ويدعون أنهم لا يجتهدون خشية أن يُتّهم بأنه يتعالى ويقدم نفسه، ويتقدم بين يدي الأئمة الكبار الذين سبقوه.
باب الاجتهاد لم يقف في تلك المرحلة، هناك من ادعوا الاجتهاد، وهناك من أنكروا أنهم يجتهدون تواضعاً وتحرجاً؛ فباب الاجتهاد لم يُغلق، وخاصة إذا قصدنا أن توقفه كان بقرار يحظر الاجتهاد، فهذا القرار لا وجود له أبداً في أي مذهب، وفي أي بلد، وفي أي حقبة من الحقبات. كل ما هنالك أنه طموح انخفض عند العلماء وعند الفقهاء، إلاّ استثناءات لامعة، وظلت واضحة أنها تجتهد، ولذلك لم يخلُ عصر من أن يوصف عدد من فقهائه في مختلف المذاهب بأن فلان بلغ رتبة الاجتهاد في هذا المذهب أو ذاك في هذا البلد أو ذاك.
س:ما تأثير هذا التراجع على عملية الاجتهاد في العصر الحديث؟
ج:هذا الفتور وهذا التراجع أثّر على قرون خلت، من القرن السابع إلى العاشر إلى الثاني عشر، لكن في القرن الذي مضى والذي انسلخ من تاريخنا الحديث إلى الآن لم تعد هناك مشكلة، ولم يعد لهذه الفكرة أي أثر، فالعلماء المعاصرون استنكروا هذا الوضع وعملوا على تجاوزه، وفعلاً الآن ربما نجد الشكوى من فوضى الاجتهاد والإسراف في دعاوى الاجتهاد، والتجرؤ على الاجتهاد أكثر مما نجد الشكوى من عدم الاجتهاد.
س:من يملك حق الاجتهاد؟ هل هم العلماء فقط؟ وهل يعني هذا أنه كهنوت في الإسلام؟
ج:طبعا قد يُقال بأنه لا كهنوت في الإسلام ولا بابوية في الإسلام ولا كنسية في الإسلام، هذا كله صحيح، ولكنه قد يكون من باب الحق الذي يُراد به باطل أحياناً؛ لأن الاجتهاد ليس كهانوتياً ولا بابوياً، ولا يستطيع أحداً أن يزعم لنفسه قدسية لكلامه أنه يُستمد من الله، أو من الوحي. الاجتهاد هو قضية تخصص وتمكن وخبرة، ففي كل مجال هناك متخصصون، وهناك مراجع في كل مجال، وهناك أئمة في كل فن؛ أئمة في الرياضيات، وأئمة في الطب، ومجتهدون في الاقتصاد. فالتخصص العلمي الإسلامي وبلوغ مرحلة الاجتهاد إنما كما يقع في سائر العلوم. فالآن حينما يأتي بعض الصحفيين مثلاً فيكتب ويتطاول على نظريات طبية أو كيميائية أو فيزيائية يعرض نفسه أن يكون أضحوكة، وربما يُوصف بأنه مرتزق يملأ الصفحات، ويأخذ أجره لا أقل ولا أكثر. فتطاول أي واحد على أي علم لا يجعل منه عالماً، فضلاً عن أن يجعل منه مجتهداً في ذلك العلم، فهكذا الدين خبرة دراسية، وميراث طويل، وعكوف على الرصيد العلمي السابق لكي يبني الإنسان عليه؛ لكي يجتهد في إطاره كما يقع تقريباً في سائر العلوم، ولذلك شيء طبيعي أن تكون هنالك شروط للاجتهاد الحقيقي والاجتهاد المشروع والاجتهاد المقبول. واليوم هنالك فوضى، وكل يوم يتجرأ من شاء على الاجتهاد وربما واقعنا لم يعد يسمح لنا بأن نمنع أحداً، لكن سيظل كل كلام في مستوى صاحبه، وفي مستوى مضمونه، وستظل الأمة ولا تزال -والحمد لله- تتطلع إلى من لهم المكانة الحقيقية ومن لهم الأهلية الحقيقية، وغيرهم يتكلمون ويمضي كلامهم، ولربما يشغل كلامهم بعض المواقع الإلكترونية، أو بعض البرامج التلفزيونية، أو صفحات بعض الجرائد فأما الزبد فيذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض. إذن مسألة الشروط في الاجتهاد لا بد منها وتفاصيل هذه الشروط هي مسألة تبحث في أصول الفقه، لكن على العموم لا ينبغي أن يختلف اثنان في أنه لا بد من أهلية معينة وخبرة معينة وتمرّس معين لكي يُقبل كلام الشخص فيما يحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد.
س:هل تتفق مع القول: إن شروط الاجتهاد التي وضعها بعض الأصوليين كانت معقدة من الصعب توفرها في أي شخص؟
ج:طبعاً إذا قرأنا شروط المجتهد في كتب الأصول فسنجد تفاوتاً، فصحيح هناك من شدد وبالغ، وهناك من ليس كذلك، فالتعميم غير صحيح، ولكن على العموم بمرور الوقت -كما وقع في جوانب أخرى من الدين- تراكمت الخطوات التشديدية شيئاً فشيئاً، فإذا أخذنا آخر ما استقر عليه غالب الأصوليين فنجد أنه يميل إلى التشديد، وإلى وضع شروط ليست ضرورية، ولذلك لما جاء الإمام الشاطبي متأخراً في القرن الثامن، والإمام الشاطبي -كما هو معروف- كان ذا نزعة تصحيحية وتجديدية، تعامل مع شروط المجتهد بطريقة مختلفة تماماً. وكأنه تعمّد إسقاط لائحة طويلة من شروط المجتهد وشروط الاجتهاد، وحصر هذه الشروط في أمرين اثنين، أمرين لا ثالث لهما؛ لأنهما يجمعان غيرهما من الأمور، وهما العلم باللغة العربية، والعلم بمقاصد الشريعة فقط، ولكن هذين الشرطين يختصران شروطاً أخرى ضمنية؛ لأنه لن يعرف مقاصد الشريعة من لم يكن مطلعاً على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية وعلى فهم المتقدمين.
فهذا الدين هو كله عبارة عن نصوص باللغة العربية، وهي مفتاح كل كلمة في الدين وكل نص وكل حديث وكل آية. كما أن التراث العلمي للمسلمين يكاد يكون كله أيضاً مكتوباً باللغة العربية، من فقه وشروح حديث وتفاسير وغير ذلك من المؤلفات. إذن تبقى اللغة العربية تمثل شرطاً كبيراً، فبحسب مستوى الإنسان في اللغة العربية تكون أهليته ويكون مستواه في الاجتهاد. الأمر الآخر وهو مقاصد الشريعة فالإنسان لكي يعرف مقاصد الشريعة يجب أن يدمن معرفة النصوص الشرعية من القرآن والسنة، ويستعين في ذلك؛ لأنه لا أحد يبلغ به الغرور أن يستغني عمّن سبقوه في أي علم شرعي كان أو غير شرعي.
فإذن ضمنياً يحتاج الإنسان إلى عدة أمور لكي ينتهي إلى هذه النتيجة التي اسمها معرفة مقاصد الشريعة.
س: الاجتهاد معناه إعمال العقل البشري في المسائل الشرعية، وهذا سيؤدي إلى الخطأ في بعض الحالات.. كيف تعامل ج:الشارع مع من خطأ المجتهد المستوفي للشروط؟
الخطأ في الاجتهاد وارد ومن حيث المبدأ مقبول ومسموح به ومأذون به. نحن نعرف أن الصحابة أنفسهم اجتهدوا فأصابوا وأخطؤوا في زمن رسول الله، وبعد زمن رسول الله، ودائماً بالنسبة للمسلم الصحابة هم قدوة ومعيار ومقياس، وما جاز على الصحابة جاز علينا، فإذا جاز عليهم الخطأ جاز علينا من باب أولى، بل إن هناك رأياً أصولياً يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو نفسه في الأمور الاجتهادية يصيب ويخطئ، وقد يخطئ في حالات نادرة عند من يقول بهذا القول وهو قول موجود .. إلى هذا الحد قد يصل الأمر، وقد يُستدل بهذا على الاختلاف الذي وقع بين داود وسليمان؛ فكلاهما نبي وحكم حكمين مختلفين معناهما أن أحدهما صواب والآخر خطأ، أو على الأقل هو أقل صوابية من الآخر، كذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فله أجر، إذن الخطأ وارد ولم يقل الرسول عليه السلام: لا يجتهدن أحد فإنه إذا أخطأ ذهب إلى النار أو عليه لعنة الله أبداً، لم يقل شيئاً من هذا، بل أكثر من هذا فله أجر.
طبعاً الخطأ الوارد من العلماء المتمكنين حين يكونون أصحاب أمانة في دينهم وفي علمهم، وحينما يُحاطون بالقواعد، وحينما يُحاطون بالنقد من العلماء الآخرين، كل هذه ضمانات تجعل احتمالات الخطأ قليلة، وإن كان التراجع عن هذا الخطأ أيضاً وارداً.
إذن ليس هذا معناه أن الباب مفتوح للخطأ بنسب كبيرة، أو بجميع النسب الممكنة في الدين، لا، هذا غير وارد، لكن الخطأ من حين لآخر وارد، وإذا وقع هذا الخطأ فقد يخالفه ويصححه غيره، وقد يصححه في جيل آخر، وقد يصححه العالم نفسه في حياته. فإذن العمل الاجتهادي كما العمل العقلي يرد عليه الخطأ، ولكن هذا في الدين لا يشكل أي مشكلة، وفي بعض المناسبات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وجعل على رأسها أحد الصحابة وأوصاه وقال له: (فيما قال إذا طلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، بل أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله، أم لا تصيبه) فهذا صحابي والرسول عليه السلام ينبهه أنه إذا اجتهد يقول هذا رأيي إذا طلب منه الخصوم أن يحكم فيهم، ويقدم لهم حكم الله، في الحل الذي ينتهي إليه الأمر يقول لهم لا إذا لم يكن عنده اعتماد على نص صريح من القرآن أو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم كما قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو، وهذا رأيي بمعنى يمكن أن يصادف الشرع ويتوافق معه، وهذا هو الغالب ويمكن أن يكون خطأ.
س: كيف يمكن التوفيق بين كلامك وكلام ابن القيم بأن المفتين موقّعين عن رب العالمين؟
ج:المفتي إذا لم يكن استمداده بشكل صريح من نص شرعي طبعاً يبقى هذا رأيه واجتهاده، وهو يوقع عن رب العالمين سواء أصاب أو أخطأ، يوقع لأنه يتحمل المسؤولية، وطبعاً حينما نتحدث عن خطأ العالم لا نتحدث عن قلب للحقائق وعن مضادة لهذه الحقائق، وإنما عن خطأ نسبي في المسألة، فالمجتهد لا يمكن أن يجعل من الحرام واجباً مثلاً، لكنه قد يجعل من المندوب واجباً، وقد يجعل من الواجب مندوباً، وقد يسقط شرطاً، والشرط لازم، وقد يشترط شيئاً، وهو غير لازم، هي في حدود من الصعب أن تصفها في أي حالة بأنها خطأ محض وشر وفساد، لا نتصور أخطاء العلماء من هذا القبيل، وإنما هي من قبيل ما هو صواب وأصوب، وأقل صواباً وأقرب إلى الصواب، وفيه قدر من الخطأ.
س:أنت تقول إن هناك فوضى في الاجتهاد في العصر الحالي، فهل أنت مع تشديد شروط المجتهد أم مع تيسيرها الآن؟
ج:أولاً: هذه مسألة نظرية خاصة في عصرنا هذا؛ لأنه ما وضعنا من الشروط وسواء أطلنا فيها أم اختصرنا فلن يلتزم بها أحد كل واحد الآن يتصرف بحسب دينه وتقواه وأمانته وتقديره للمسؤوليات العلمية، أو عكس ذلك، إذاً هذا يكون كلاماً نظرياً لا يُلتفت إليه، لكن أفضل من العلماء الذي اطمأنوا إلى علمهم أن يقدموا ولا يحجموا، فنحن قد عانينا من الإحجام أكثر مما نعاني اليوم من الإقدام، ثم اليوم في هذا الزمن بالخصوص ظهرت بادرة حسنة جداً من حسنات هذا الزمان، ولو أن أصل الفكرة ليس بجديد، لكن تفعيل هذه الفكرة والعمل بها جديد في هذا العصر وهو الاجتهاد الجماعي واجتهاد المجامع الفقهية. هذه ظاهرة صحية وظاهرة إيجابية جداً فهي عملياً تضع حداً لكثير من التساؤلات والإشكالات، طبعاً الاجتهاد الجماعي لا يلغي الاجتهاد الفردي ولا يسقط حقه في العمل، ولكن هذه هي الصيغة المثلى لكثير من الإشكالات، وأيضاً لما سميناه بفوضى الاجتهاد.
س: ما رأيك في أداء هذه المجامع الفقهية؟ وهل أدّت دورها فعلاً، وشكلت حضوراً لافتاً؟
ج: أولاً: أنا أردت أن أشيد بالفكرة وبالتوجه، لأن هذه الفكرة والتوجه أخذا طريقهما الآن. هناك مجامع كثيرة دولية على صعيد العالم، وعلى صعيد العالم الإسلامي، وهناك مجامع قطرية، فالظاهرة مازالت تمضي بالشكل الذي يبعث على السعادة و الارتياح، كما أن لهذه المجامع وجوداً في غير البلدان الإسلامية، فهناك مجمع فقهي لأمريكا الشمالية، وهناك مجمع فقهي للإفتاء والبحوث على صعيد أوروبا، فالظاهرة ما زالت تمتد وإذا كانت تمتد فمعناه أنه بقدر ما كثرت هذه المجامع ستسد في مجموعها على الأقل حاجة الأمة، وإذا أخذنا على الأقل واحداً منها وهو أشهرها وأكبرها وأوسعها وهو مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، هذا هو نفسه على الرغم من أنه بمفرده، وعانى هو نفسه كثيراً من الإهمال، مع ذلك أنا شخصياً حينما أنظر إلى إنتاجه وقراراته أجد كنوزاً ثمينة وإنتاجاً كبيراً، فالمشكلة في تسويق هذا الإنتاج وترويجه وإضفاء صفة اللزوم عليه هذا الذي لم يقع، ولعل هذا الذي انتبه إليه أو نبه إليه الرؤساء المسلمون الذين اجتمعوا سابقاً بمكة المكرمة في مؤتمر القمة الاستثنائي، فلأول مرة -فيما أذكر- في جدول أعمالهم دعوة لقضية تفعيل هذا المجمع والسير به نحو اعتباره مرجعية موحدة عليا في الفقه الإسلامي لعموم المسلمين. فهذه خطوة جديدة على طريق تفعيل هذه المؤسسات، مؤسسات الاجتهاد الجماعي؛ فمجمع الفقه الإسلامي وغيره من المجامع إذا بدأت الدول والحكومات والوزارات المعنية والمؤسسات الدعوية تتلقف فتاوى هذه المجامع، وتعتمدها، وتعطيها الأولوية، فإن هذه المجامع فعلاً ستؤدي دورها.
س: ما هو تأثير الواقع الاجتماعي والسياسي على مسيرة الاجتهاد الفقهي؟
ج:طبعاً جميع الأوضاع والظروف والملابسات التي يقع فيها الاجتهاد يُفترض أن يكون لها تفسير طبيعي بل ضروري؛ لأننا حينما نتحدث عن الاجتهاد نتحدث عن الاجتهاد الفقهي، والاجتهاد الفقهي ليس عقائد ثابتة منذ الأزل وإلى الأبد، الاجتهاد الفقهي إنما هو اجتهاد لحالة بعينها، وكلما تغيرت الظروف في ظاهرها وباطنها اجتماعياً وسياسياً وفكرياً ونفسياً فالمفترض أن الاجتهاد يتغير؛ لأن المجتهد عمله كعمل الطبيب تماماً. الطبيب لا يمكن أن توصف له حالة وقعت في وقت من الأوقات، ويعطيك وصفة الدواء. لابد أن يعرف الحالة في لحظتها، ولابد أن يفحص و يعاين، وأن ينظر إلى الشخص من جميع نواحيه، مثل الناحية النفسية والناحية المعيشية قبل أن يعطي وصفة الدواء، وكذلك الفقه والاجتهاد الفقهي والإفتاء الفقهي يجب أن يكون دائم التشخيص ودائم إعادة التشخيص للأوضاع؛ لأن الأوضاع التي نفتي لها هي نصف عمل المجتهد؛ لأن عمل المجتهد نصفه نظر في الأدلة الشرعية، ونصفه نظر في مطابقة هذه الأدلة الشرعية للواقع الذي أُنتجت له ووُصفت لأجله، بالعكس هناك فقهاء اليوم آفتهم ومشكلتهم عدم تفاعلهم مع ظروف زمانهم، وعدم فهمهم وعدم اعتبارهم لمتغيرات زمانهم، فيصدرون الفتاوى وكأن الإنسان الذي يخاطبونه هو الإنسان الذي كان قبل عشرة قرون أو أربعة عشر قرناً.
س:لكن وفق هذا الكلام هناك من يسقط اجتهادات الفقهاء في القرون الماضية ولا يعتدّ بها؟
ج:التراث الفقهي القديم في نظري يُستفاد منه أولاً استفادة منهجية نطلع عليها جملة، ونطلع عليه تفصيلاً لنرى كيف عالج الفقهاء هذه القضية، وبصفة عامة كيف كانوا يعالجون، ويستفيدوا من منهجية الاستنباط، ومنهجية التنزيل، ومنهجية التفاعل مع الواقع.
ثانياً: ننظر فيما اجتهدوا فيه لعل بعض الأمور ما زالت متطابقة؛ لأن الحياة دائماً فيها متغيرات، وفيها ثوابت فقد يكون اجتهاد أبي حنيفة في قضية من القضايا ما زال بحذافيره صالحاً لزماننا؛ لأنه يتعلق بمسألة لم يمسّها تغيير يُذكر، إذن هذان هما وجها الاستفادة من التراث الفقهي، وما عدا هذين الوجهين فلا لزوم لأي اجتهاد فقهي في زمن معين للزمن الآخر، بل العلماء في الزمن الواحد كانوا يتواصون ويحذرون طلابهم وزملاءهم: إياك أن ترحل من المشرق إلى المغرب فتفتيهم في المغرب بظروفك المشرقية التي كنت عليها في بغداد، وهنا يأتي المثل الشهير الذي يضربه عادة الباحثون في هذا المجال، فالإمام الشافعي صاحب مذهبين: قديم وجديد، في العراق كان له مذهب، وفي مصر راجع كثيراً من فتاويه؛ لأن متغيرات المجتمع اقتضت أشياء جديدة، فإذاً الفقه القديم بكامله وبرمته لا يلزمنا أبداً.