عمر البيانوني
New member
حوارٌ بين العِلْم والمال
عمر بن عبد المجيد البيانوني
تبختر المال في مشيته أمام العِلْم واختال بمظهره البرَّاق ووميضه المشرق، فنظر إليه العلم نظرة المشفق المعلِّم وقال له: أَكُلَّ هذا الفرحِ بمظهرك وجمالك؟ وماذا يكون ممَّا ظاهره فيه الرحمة وباطنه مِنْ قِبَله العذاب؟
إنَّ الأفاعي وإنْ لانتْ ملامسها ... عند التقلُّبِ في أنيابها العَطَبُ
وما أكثرَ ما تُخفي الحلاوة الظاهرة من المرارة الباطنة! وما أكثرَ ما يخفي جمال المنظر من قبح المخبر، بل ومن فقدان طيب الأصل والجَوْهر.
أم أنك تأخذ بالظاهر على مذهب الظاهرية كالإمام ابن حزم حين قال:
وَذِي عَذلٍ فِيمَنْ سَبَانِي حُسْنُهُ ... يُطِيلُ مَلاَمِي فِي الهَوَى وَيَقُولُ
أَمِنْ حُسْنِ وَجْهٍ لاحَ لَمْ تَرَ غَيرَهُ ... وَلَمْ تَدرِ كَيْفَ الجِسْمُ، أَنْتَ قَتِيْلُ؟
فَقُلتُ لَهُ: أَسْرَفْتَ فِي اللَّوْمِ فَاتَّئِدْ ... فَعِندِيَ رَدٌّ لَوْ أَشَاءُ طَوِيلُ
أَلَمْ تَرَ أَنِّي ظَاهِرِيٌّ وَأَنَّنِي ... عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقومَ دَلِيلُ
وماذا يفيد المال بدون العلم ألم ترَ كيف أصابك التيه والعجب بما لا يعجب منه العاقل الحكيم؟!
قال المال: ولماذا لا أفرح وكل الناس يعتزُّون ويفتخرون بوجودي عندهم، ويتكاثر الناس بما عندهم من مال، ولا يملون ولا يسأمون من الازدياد مني مهما ملكوا..
قال العلم: أيُّ عزٍّ هذا وأيُّ فخر؟ ألم تعلم أنَّ كلَّ عزٍّ لم يُوطَّد بعلم فإلى ذلٍّ مصيرُه، وإلى زوالٍ عبيرُه، أما علمتَ ما حصل بقارون كان مالُه وبالاً عليه، حتى الذين تمنَّوا أنْ يكونوا مكانَه فرحوا أنْ لم يكونوا مثلَه، وشعروا بمنَّة الله عليهم في ذلك، وصدق القائل:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كَثُرَتْ لديه
تُهين المُكرِمينَ لها بصُغرٍ ... وتُكرِمُ كلَّ مَنْ هانت عليه
إذا استغنيت عن شيءٍ فدعهُ ... وخذ ما أنت محتاجٌ إليه
وبيَّن أبو الفتح البستي ذلك أجلى بيان فقال:
وَيَا حَرِيصاً عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا ... أنسِيتَ أَنَّ سُرُورَ المَالِ أَحْزَانُ
زَعِ الفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... فَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَالْوَصْلُ هِجْرَانُ
وكان سقراط فقيراً فقال له بعض الملوك: ما أفقرَك! فقال: «لو عرفتَ راحةَ الفقر لشغلك التوجُّع لنفسك عن التوجُّع لي»، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة.
وقيل له: لِمَ لا يُرى أثر الحزن عليك؟ فقال: «لأني لم أتخذ ما إنْ فقدتُه أحزنني».
وقال بعض الحكماء: «من أحبَّ أن تقل مصائبه فليقل قُنيته للخارجات من يده»، لأنَّ أسبابَ الهم فوتُ المطلوب وفقدُ المحبوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأنَّ الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد، وأدرك ابن الرومي هذا فقال:
ومَنْ سرَّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
وقال بعضهم:
(النار) آخر دينار نطقت به ... و(الهمُّ) آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما ما لم يكن ورعاً ... معذَّب القلب بين الهمِّ والنارِ
وحكي أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون، فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعة وعصا، وقال: نجا المخفون.
وتأمل في سعادة هذا الزاهد الذي لا همَّ له إلا العلم والتعليم للناس الذي وصفه أحدهم بقوله:
قليلُ الهمِّ لا ولدٌ يموتُ ... ولا أمرٌ يحاذره يفوتُ
قضى وطر الصبا وأفاد علماً ... فغايته التفرُّدُ والسكوتُ
قال المال: لكن لا يمكن لأحد أن ينكر فضلي وقيمتي، ومهما تكلَّموا وزهَّدوا الناسَ بي تبقى مكانتي عالية في نفوسهم، فهذا أبو سليمان الداراني يقول: «قد وجدتُ لكلِّ شيء حيلة إلا هذا الذهب والفضة، فإني لم أجد لإخراجه من القلب حيلة».
وقال بعض السلف: «من ادَّعى بغض الدنيا، فهو عندي كذاب، إلا أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون».
وقال ابن الجوزي رحمه الله: «للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية».
قال العلم: حسبُكَ أنْ تنظر في القرآن متى رفعَ اللهُ من شأنك وأعلى من مكانتك؟ وانظر إلى العلم كم مدحه الله عزَّ وجل ورفع أهلَه إلى أعلى المراتب، حتى عطفهم على الملائكة وعلى ذاته المقدَّسة جلَّ وعلا حيث قال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}، فبدأ الله عز وجل بنفسه ثم بملائكته ثم بأهل العلم، وقد جعلهم الله شهداء على أعظم أمر وهو توحيده وألوهيته، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وهذا يدل على عدالة أهل العلم وتزكيتهم فإنه لا يُستَشهد إلا العدول، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ) رواه البزار والبيهقي.
وجعل اللهُ تعالى العلمَ سببَ خشيته فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وسببَ الإيمانِ بالقرآن والانتفاع به، فقال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدَاً. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعَاً}، وقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}. وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ووصف الله تعالى الذي لا يؤمن بالقرآن ـ زيادة على عدم علمه ـ بأنه أعمى فقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، فجعل العالِم المؤمن بالقرآن كالبصير، والجاهل الجاحد به كالأعمى.
العلمُ يجلو العَمَى عن قَلْبِ صاحبِهِ ... كما يجلِّي سوادَ الظُّلمةِ القمرُ
والعلمُ يُحيِي قلوبَ الحاملينَ لَهُ ... كالأرض تُحيَا إذا ما مسَّها المطَرُ
قال أحد الحكماء: (العلم سراجٌ يجلي الظلمة، وضياءٌ يكشف العمى. التذلل مكروهٌ إلا في استفادته، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه، والحسد منهيٌ عنه إلا عليه).
قال أفلاطون: (العلم مصباح النفس، ينفي عنها ظلمة الجهل، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل).
وذكر تعالى أن الأمثال لا يفقهها إلا أهل العلم فقال سبحانه:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ}.
وإنَّ أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ}، فكان حضاً على العلم إذ قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}، ثم قال عن المال: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} أرأيتَ كيف قابل هنا بين العلم فرفع منزلتَه، وبين المال فحذَّر الناسَ فتنتَه.
قال المال: لكن ألم ترَ أنَّ الله تعالى قد سمَّاني في القرآن (خيراً) حين قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، فلماذا تتغافل عن هذا؟
قال العلم: لم أتغافل عن هذا، ولكن الشيء قد يكون خيراً بحدِّ ذاته ولكن يغلب على الناس استعماله في الشر فيكون شراً على صاحبه ولهذا حذَّر الله من فتنته فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }، وهذا الذي جعل يحيى بن معاذ يقول: «الدرهم عقرب فإنْ لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إنْ لدغك قتلك سمه»، قيل: وما رقيته؟ قال: «أخذه من حلِّه ووضعه في حقِّه».
وقال الإمام الغزالي: «المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده: ترياقه، وغوائله: سمومه، فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره، ويستدر من خيره».
وكان بعض السلف يقول: «احذروا دار الدنيا، فإنَّها أسحر من هاروت وماروت، فإنَّهما يفرِّقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرِّق بين العبد وربِّه».
قال المال: ألم تر أن الله عز وجل قد جعلني زينة الحياة إذ قال: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
قال العلم: لكن ألم تقرأ بقية الآية: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً}، ثم إنه قال عن المال: {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهو زينة وليس (قيمة).
وقد رغَّب الله عز وجل في الازدياد من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} أما عن المال فقد قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، وقال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}.
قال المال: إذا كان الأمر كما تقول، فلماذا إذن امتنَّ الله تعالى على نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}، وامتنَّ على قومه بتوفيقهم للتجارة الواسعة برحلة الشتاء والصيف، وامتنَّ الله به على عباده إذ قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}، وقال ممتناً على بني إسرائيل: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}، فلو لم تكن الأموالُ خيراً ونعمة عظيمة لما امتنَّ الله بها على عباده.
وجعلَ اللهُ تعالى استخراجَ الكنز للغلامين رحمةً منه سبحانه فقال: { وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وقال نوح لقومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله والرجوع إليه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً}، وبيَّن عاقبةَ ذلك في الدنيا قبل الآخرة فقال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
ونبيُّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام دعا ربَّه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، ولم يلمه ربه على ذلك بل استجاب له وكان له ما أراد، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ. وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ. هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
فليس الزُّهد فَقْد المال وإنما الزُّهد: فراغ القلب منه، فقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزاهدين.
ومن هنا قال الإمام ابن القيم: «فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر، ومتى كان في قلبك ضرَّك ولو لم يكن في يدك منه شيء».
وقد وَعَدَ الله سبحانه بالرِّزق الوفير لمن آمن واتقى فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وقال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) متفق عليه.
وفي مقابل ذلك جعلَ اللهُ تعالى المنع والحرمانَ عاقبة لمن ظلم نفسَه، فقال: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهوَ غَضْبَانُ) متفق عليه، وقد قاس عليها الفقهاء: لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها انفعالاتٌ تؤثِّر على حُكْمه.
قال أحدهم:
إذا قلَّ مالُ المرءِ قلَّ صفاؤُهُ ... وضاقتْ عليه أرضُهُ وسماؤُهُ
وأصبحَ لا يدري وإنْ كانَ حَازماً ... أقُدَّامه خيرٌ له أمْ وَرَاؤُهُ
وقال آخر: إنَّ النفس إذا أحرزت قوتها ورزقها اطمأنت.
وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها ولا جائعاً.
قال العلم: نعم إنَّ حبِّ المالِ أمرٌ فطري جبلي، وهو مِنْ نِعَم الله العظيمة لا يلام المرء في حبِّه له، ولكنْ أنْ يُجعلَ هو الميزان لفضل الإنسان، ويُقَاسُ فضل الناس بما يملكون، ويكون هو الغاية التي يسعى الناس إليها وليس وسيلةً لفعل الخير، فهنا يكون الخلل ويأتي الزيغ والزلل..
فالمال نعمة عظيمة ولكن مَنْ يعرف حقَّ هذه النعمة ويؤدي شكرها؟ لا ريب أنهم قليلٌ جداً، فأين الأغنياء من قول القائل:
ملأتُ يدي من الدُّنيا مراراً ... فما طَمِعَ العَواذِلُ في اقتصادي
ولا وجبَتْ عليّ زكاةُ مالٍ ... وهل تجبُ الزكاةُ على جوادِ
بذرتُ المالَ في أرض العطايا ... فأصبحَتِ المكارمُ من حصادي
ولو نلتُ الذي يهواه قلبي ... لوسَّعتُ المعاشَ على العبادِ
فإننا لا نرى أصحابَ الأموال إلا مشغولين بمتعهم ولذائذهم وترفهم، وينسون إخوانهم المحتاجين، بل قد يتكبرون ويطغون عليهم، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والمصيبة الأعظم من ذلك أن لا يطغى على إخوانه فقط بل على ربِّه وخالقه جلَّ وعلا، فينسى أنَّ الله هو الذي أعطاه هذا المال ويقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، وينسى أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً، وانظر إلى صاحب الجنتين كيف أصابه الغرور فدخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} لقد أنساه الغرورُ بماله أنَّ كلَّ نعيم في الدنيا فهو إلى زوال، واستبعد أنْ تقوم القيامة، وعلى فرض أنها قامت فإنَّ له خيراً من جنته.. أرأيتَ ماذا يصنع المال بصاحبه؟
فأما صاحبه الفقير الذي لا مال له ولا نفر، ولا جنة عنده ولا ثمر، فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى، معتز بعقيدته وإيمانه: {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا؟ لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}، فهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تُستعبد للمال ولا يطغيها الغنى، وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيزٌ أمام الجاه والمال، وأنَّ ما عند الله خيرٌ من أعراض الدنيا، وأنَّ فضل الله عظيم وهو يطمع في فضله وثوابه، وأن نقمة الله يوشك أن تصيب الغافلين المتبطرين.
فذُو المال يكون ممدوحاً إذا استعمله فيما يرضي الله عز وجل، وصان به دينَهُ وعِرْضَهُ، وليس في التباهي والتكاثر والتفاخر، قال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرمَيْن: الدِّين والعِرْض. وقيل في منثور الحكم: من استغنى كَرُمَ على أهله. وقيلَ لأبِي الزِّنَادِ : لِمَ تُحِبُّ الدَّرَاهِمَ وَهِيَ تُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا؟ قَالَ : «إِنَّها وَإِنْ أَدْنَتْنِي منها صَانَتْنِي عَنْهَا».
وقال سعيد بن المسيب: «لا خَيرَ فِيمَنْ لا يُحِبُّ المالَ لِيَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ، ويُؤَدِّي به أمانتَهُ، ويَستَغني به عن خَلْقِ رَبِّهِ»، ولما حضره الموت ترك دنانيراً وقال: «اللهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أنِّي لَمْ أَجمعها إلَّا لأصُونَ بها حَسَبِي ودِينِي».
وقال سفيان الثوري مرةً لمن عاتبه في تقليب الدنانير: دعنا عنك فإنه لولا هذه لتمندلَ الناس بنا تمندلاً. وقال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن.
وقال سفيان بن عيينةَ: من كان له مال فليُصْلحه، فإنكم في زمانٍ من احتاج فيه إلى الناس، فإن أول ما يبذله دِينه.
وفي وصية لقمان لابنه: «يا بني استعن بالكسب على الفقر، فما افتقر رجل إلا أصابته ثلاث خصال: رقَّة في دينه، و ضعف في عقله، و ذهاب في مروءته، وأعظم من هذا استخفاف الناس به».
وقال يحيى المسيحي:
نعمَ المعينُ على المروءةِ للفتى ... مالٌ يصونُ عن التبذلِ نفسَهُ
لا شيءَ أنفعُ للفتى من مالهِ ... يقضي حوائجَه ويجلبُ أنسَهُ
وإِذا رمتهُ يد الزمانِ بسهمهِ ... غدتِ الدراهمُ دون ذلكَ تِرْسَهُ
قال المال: وأخيراً وافقتني في كلامي، إنَّ إنصافَك في موافقتك لي أحبُّ لي من كلِّ حُجَجك وأدلتك، فما أجملَ الإنصاف وما أقلَّه!
قال العلم: إذا لم يجعلني العلم منصفاً عادلاً فلا خير فيّ، فالإنصافُ دليلٌ على العقل والفضل، وقد أغلظ رجل على المهلب فحلم عنه، فقيل له: جهل عليك وتحلم عنه؟ فقال: (لم أعرف مساوئه، فكرهتُ أن أبهته بما ليس فيه)! فأين من ينصف مثل هذا؟
ودعني أهمس في أذنك ما ينفعك في خطابك:
إنَّ الحماسةَ الزائدَةَ للفكرة وإعطاءَها أكبر من حجمها يسيء إليها، وقد يؤدي هذا إلى عدم قبول الناس لها وتحفظهم منها، قال أحدهم: (حين تصرخ في أذني لا أسمعك جيداً). ثم إن من يرد على فكرة متطرِّفة لا تخلو من ردة الفعل، عليه: أن يحفظ توازنه ويبتعد عن المبالغة والتهويل، حتى لا يكون رده أيضاً عبارة عن ردة فعل ولكنها في الاتجاه الآخر.
وعوداً على حوارنا أقول: إنَّ العلم يستفاد منه لغذاء الروح، والمال لغذاء الجسد، وأيهما أشرف الروح أم الجسد؟
يَا خَادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ؟
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
قال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا مُنع الطعام والشراب والدواء يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت.
فإنَّ غذاءَ القلب: العلمُ والحكمةُ وبهما حياته، كما أنَّ غذاء الجسد الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريضٌ وموته لازم ولكنه لا يشعر به.
وفي وصايا لقمان لابنه قال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء.
قال المال: لا شك بأنَّ الرُّوح أشرف من الجسد، لكن الجسد هو المجال والطريق لتحقيق مطالب الروح وأشواقها.
أم أنك تريد أن تكون كذلك المعذَّب الذي يقول:
جسمي معي غير أنَّ الروحَ عندكمُ ... فالجسمُ في غربةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
فليعجبِ الناسَ مني أنَّ لي بدناً ... لا روحَ فيه، ولي روحٌ بلا بَدَنِ
ألم يجعل الله العبادات مزيجاً من الرُّوح والعقل والجسد، فالذي يصلي مثلاً: يتوجه بروحه إلى خالقه الذي يناجيه، وبعقله فيتدبَّر ما يقرأه من القرآن والذِّكْر، وبجسمه فيقف ويركع ويسجد؛ وهكذا تعلِّمنا الصلاة أن لا نفصل بين الروح والجسد.
قال العلم: ألم تسمع إلى من قال: (حبيب المال لا حبيبَ له , وعدو ماله لا عدوَّ له)، ومن قال: (مَنْ أذلَّ ماله فقد أعزَّ نفسه، ومَنْ أعزَّ ماله فقد أذلَّ نفسه)؟
وقال الحسن البصري: (بئس الرفيقان: الدرهم والدينار، لا ينفعانك حتى يفارقانك).
فما فضيلةُ شيءٍ مَنْ أحبَّه لم يحبه الناس؟ ومَنْ أعزه أذل نفسه؟ ولا سبيل إلا بمعاداته وإذلاله حتى يعز نفسه ويحبه الناس! ولا سبيل إلى نفعه إلا بمفارقته؟
وقد لام أحدهم أفلاطون على الزهد في المال فقال: كيف أرغب فيما ينال بالبخت لا بالاستحقاق، ويأمر البخل والشره بحفظه، والجود والزهد بإتلافه.
فأي فضيلة في هذا؟
قال المال: دعك من هذه الفلسفة وانظر في واقع الناس، فواقعهم يجيبك ويرد على هذا الكلام.
قال العلم: ما أراك إلا قد عجزتَ عن الجواب فأحلتني على واقع الناس.
قال المال: كلا، فإنَّ الواقع يثبت ما قاله الشاعر:
يُغَطَّى بالسَّمَاحَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
ألم تر أن كثيراً من الحكَّام يدركون هذه الحكمة ويطبقونها، فهم يعلمون أنَّ عيوبهم كثيرة ولا يمكن أن تُغَطَّى هذه العيوب بشيء كما تُغَطَّى بالسخاء فهم يجودون على أتباعهم ابتداءً، وعلى مَنْ يمكن له أن يكون بالسخاء من أتباعهم، فيصير المعارض لهم موافقاً لهم بل ومدافعاً عنهم، أما سمعتَ بسياسة العصا والجزرة؟
قال العلم: من يُشترى بالمال قد يتظاهر أمام من اشتراه بمحبته وولائه له، فإذا ذهب عن سيِّده المال أو المنصب فقد يكون أول مَنْ ينقلب عليه، أمَّا مَنْ أحبه الناس لفضله وشرفه وصدقه وسلامة قلبه فيجتمع الناس عليه ولو لم يكن ذا منصب، ألا ترى الناسَ يحبون العلماء الصادقين أكثر من حبِّهم للسلاطين.
قال المال: لكن الناس يجلون ويحترمون من يملك الأموال الكثيرة، ويبررون أخطاءه ويجعلون سيئاته حسنات، إن سكت فهو العاقل الحكيم، وإن تكلم فهو البليغ ذو الحجة والبرهان مما جعل أبو الفتح البستي يقول:
(سَحْبَانُ) مِنْ غَيْرِ مَالٍ (بَاقِلٌ) حَصِرٌ ... وَ(بَاقِلٌ) فِي ثَرَاءِ المَالِ (سَحْبَانُ)
ويقول الآخر:
وكان بنو عمي يقولون مرحباً ... فلما رأوني مُعدماً مات مرحبُ
وقال قيس بن عاصم:
وأوَّلُ مَنْ يجفو الفقيرَ لفقرِهِ ... بنوه، ولم يرضوه في فَقْرِهِ أبَا
كأنَّ فقيرَ القومِ في الناسِ مُذنِبٌ ... و إنْ لم يكنْ مِنْ قبل ذلك أذنَبَا
ويُنسَب للإمام الشافعي:
أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي مُقِيمٌ بِبَلْدَةٍ ... مَرَاتِبُ أَهْلِ الْفَضْلِ فِيهَا مَجَاهِلُ
فَكَامِلُهُمْ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ: نَاقِصٌ ... وَنَاقِصُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ المَالِ: كَامِلُ
وقال أبو العيناء:
من كانَ يملكُ درهمينِ تعلمتْ ... شفتاه أنواعَ الكلامِ فقالا
وَتقَدَّمَ الفصحاءَ فاستمعوا له ... ورأيتَه بين الورى مُخْتالا
لولا دراهمُهُ التي في كيسِهِ ... لرأيته شَرَّ البريةِ حالا
إِن الغنيَّ إِذا تكلمَ كاذباً ... قالوا: صدقْتَ وما نطقْتَ مُحالا
وإِذا الفقيرُ أصابَ قالوا: لم يُصِبْ ... وكذبْتَ يا هذا وقُلْتَ ضلالا
إِن الدراهمَ في المواطنِ كُلِّها ... تكسو الرجالَ مَهابةً وجلالا
فهي اللسانُ لمن أرادَ فصاحةً ... وهي السلاحُ لمن أرادَ قِتالا
وقال الآخر عن الفقير:
يمشي الفقيرُ وكل شيء ضده ... والناسُ تُغلِقُ دونه أبوابَها
وتراه مبغوضاً وليسَ بمذنبٍ ... ويرى العَدَاوةَ لا يَرَى أسبابَها
حتَّى الكلاب إذا رأتْ ذا ثروةٍ ... خضعتْ لديه وحرَّكت أذنابها
وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً ... نبحتْ عليه وكشَّرَتْ أنيابها
وكان يقال : الدراهم مراهم؛ لأنها تداوي كلَّ جرح، ويطيب بها كل صلح.
وقال البستي:
مَنْ جَادَ بِالمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً ... إِلَيْهِ وَالمَالُ للإِنْسَانِ فَتَّانُ
وقال أحمد شوقي:
المالُ حَلَّلَ كُلَّ غَيرِ مُحَلَّلِ ... حَتَّى زَواجَ الشيبِ بِالأبكارِ
سَحَرَ القُلوبَ فَرُبَّ أُمٍّ قَلبُها ... مِن سِحرِهِ: حَجَرٌ مِنَ الأحجارِ
دَفَعَت بُنَيَّتَها لِأَشأَمَ مَضجَعٍ ... وَرَمَت بِها في غُربَةٍ وَإسارِ
وَتَعَلَّلَت بِالشَرعِ قُلتُ: كَذِبتِهِ ... ما كانَ شَرعُ اللَهِ بِالجَزَّارِ
ما زُوِّجَت تِلكَ الفَتاةُ وَإِنَّما ... بيعَ الصِّبا وَالحُسنُ بِالدينارِ
وقيل لابن سيابة: قد كرهت امرأتك شيبك فمالت عنك، فقال: إنما مالت إلى الأنذال لقلة المال، والله لو كنت في سن نوح، وشيبة إبليس، وخلقة منكر ونكير، ومعي مال لكنت أحب إليها من مقترٍ في جمال يوسف، وخلق داود، وجود حاتم، وحلم أحنف بن قيس.
وقال بعضهم: (إذا أثريتَ فكلُّ رجلٍ رجلك، وإذا افتقرتَ أنكرك أهلك).
وقال آخر: (الدنيا إذا أقبلتْ على أحد أعارته محاسنَ غيرِه، وإذا أدبرتْ عن أحد سلبته محاسنَ نفسِه).
وقال الشاعر:
أجَلَّكَ قومٌ حين صرتَ إلى الغِنَى ... وكلُّ غنيٍّ في العيونِ جليلُ
وليسَ الغِنَى إلَّا غنىً زيَّنَ الفَتَى ... عشيَّة يقري أو غداة يُنيلُ
قال العلم: إنَّ موازين الناس لا قيمة لها إذا لم تكن مبنية على أساس صحيح، فمجرد جمع المال لا يقرب من الله عز وجل قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}، وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}، وقال عن أبي لهب: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، والوليد بن المغيرة الذي قال عن القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، قال الله عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودَاً. وَبَنِينَ شُهُودَاً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدَاً}، ثم كان جزاؤه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}. فهل أغنى عنه ماله وولده؟
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ}، فمالُه جَعَلَه يستحقر الناسَ ويزدريهم فيهمز هذا ويلمز ذاك، وما تخفي صدورهم أكبر، يحسب أنه بماله قد اشترى البلاد والعباد فلم يعد لأحد قَدْر عنده، ويحسب أنَّ ماله سينجيه من كلِّ الشرور والآفات وسيخلِّده في نعيمه البائس الزائف الزائل، وهذه الآفات المدمِّرة للقوة المادية كما تكون في الأفراد تكون في الحكومات، ثم قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ. نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ}، فهؤلاء الذين أضلَّهم المال وأغواهم كما قال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً}.
وهذا الذي يحسب أنَّ ماله أخلده، ويحه أما يقرأ القرآن وهو يبيِّن بطلانَ هذه الأوهام، قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، أي: لم يقيموا ولم ينزلوا فيها، من قولهم: غنيت بالمكان إذا أقمت به، والمغاني المنازل واحدها مغنى، وغني معناه: أقام إقامة مقترنة بتنعيم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء، فكأنهم لم تسبق لهم حياة يتنعمون فيها، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، ومن أصدق من الله قيلاً، فإخبار الله لنا عن شيء ليس كرؤيتنا له، فإن الرؤية قد تخطئ وتزيغ أما إخبار الله فلا يمكن أن يتخلف أو يختلف.
هذا المغرور بماله، ألا يعلم ذلك (علمَ اليقين)؟ أم أنه ينتظر أن يرى ذلك (عينَ اليقين) ثم يعرفه (حقَّ اليقين)؟
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا}، (أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء مني وامتحان له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره، وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له، أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة، فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته؛ إنما يكرم مَنْ يكرمه: بمعرفته ومحبَّته وطاعته، ويهين من يهينه: بالإعراض عنه ومعصيته) مدارج السالكين.
قال بعضهم: نعمة الله علينا فيما طواه عنا أعظم من نعمته علينا في ما بسطه لنا.
وفي بعض المناجاة: يا مَنْ مَنْعُهُ عطاء.
قال الشاعر:
يَا لائِمَ الدَّهْرِ عَلَى مَا بِنَا ... لا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ
فَالدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ ... يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ
كَمْ كَافِرٍ بِاللهِ أَمْوَالُهُ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ
ومُؤْمِنٌ لَيْسَ لَهُ دِرهَمٌ ... يَزْدَادُ إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ
لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً ... يَبْسُطُ رِجْلَيْهِ عَلَى قَدْرِهِ
فالمال ظِلٌّ زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة، ولو كانت فيه فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته.
قال الشاعر عبد الرحمن العشماوي:
قد يعشق المرءُ مَنْ لا مالَ في يده ... ويكره القلبُ مَنْ في كفِّه الذهبُ
حقيقةٌ لو وعاها الجاهلون لما ... تنافسوا في معانيها ولا احتربوا
ما قيمة الناس إلا في مبادئهم ... لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرُّتَبُ
وقال الشاعر مصطفى قاسم عباس:
فالمالُ لن يُعلِيَ الإنسانَ منزلةً ... إنْ لم يكنْ بالمزايا يرتقي السُّحُبا
ومن مأثور الحِكَم: (ولا تحزن لقلة المال، فإنَّ الرجلَ ذا المروءة قد يُكرم على غير مال، كالأسد الذي يُهاب وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يُهان وإن كان كثيرَ المال، كالكلب لا يُحفَلُ به وإن طُوِّق وخُلخِل بالذهب، فلا تَكبُرَنَّ عليك غربتك، فإنَّ العاقلَ لا غربةَ له، كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوَّته.
وقد قيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير، فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنَّما مالُ العاقل: عقلُه، وما قدَّم من صالح، فهو واثق بأنه لا يُسْلَب ما عمل).
وقال الزبير بن أبي بكر كتب إلي أبي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالا، وإن استغنيت كان لك جمالا.
وخطب اثنان إلى حكيم ابنته، وكان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، فاختار الفقير، وسأله الاسكندر عن ذلك فقال: لأنَّ الغني كان جاهلاً فكنت أخاف عليه الفقر، والفقير كان عاقلاً فرجوت له الغنى.
وكم رفعَ الناسُ مِنْ قيمة مَنْ لا يزن عند الله شيئاً، واستهانوا ولم يبالوا بمَنْ هو خير من ملء الأرض ممن رفعوه، حتى قال ابن الرومي:
رأيتُ الدَّهرَ يرفع كلَّ وغدٍ ... ويخفض كلَّ ذي شيمٍ شريفهْ
كمثلِ البحر يغرق فيهِ حيٌّ ... ولا ينفكُّ تطفو فيهِ جيفهْ
وكالميزانِ يخفضُ كلَّ وافٍ ... ويرفعُ كلَّ ذي زنَةٍ خفيفهْ
وقال الآخر:
يا ذا الذي بصروف الدهر عيَّرنا ... هل عاند الدهر إلا مَنْ له خَطَرُ
أما ترى البحرَ يطفو فوقه جِيَفٌ ... ويستقرُّ بأقصى قاعه دُرَرَ
إنَّا وإنْ عبثتْ أيدي الزمان بنا ... ومسَّنا مِنْ تمادي بؤسه ضَرَرُ
ففي السماء نجومٌ ما لها عَدَدٌ ... وليسَ يُكسَفُ إلا الشمسُ والقمرُ
فكثرة المال والبنين لا تدل على رفعة صاحبه عند الله عز وجل فقد قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}، وقال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وقال: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وجعل اللهُ قيمةَ الرجل بما في قلبه من التقوى إذ قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، وقد بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله عز وجل يعطي المال والدنيا لمن يحبه الله ولمن لا يحبه، أما الدِّين فلا يعطيه الله إلا لمن أحبَّه، فقد قال: (إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ) رواه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك.
إنَّ رفعةَ العلمِ وشرفَه هي التي جعلت الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله يرفض أن يزوج ابنته لابن الخليفة عبد الملك ويزوجها إلى الطالب النجيب في حلقة درسه ابن أبي وداعة، الذي كان فقيراً في دنياه ولكنه غني بمولاه، لم يستجب ابن المسيب إلى كل المغريات التي عرضها عليه الخليفة بل رفضها رفضاً باتاً، لأنه يعلم أن ابنته أمانة عنده، فلن يزوجها إلا لمن يرتضي دينه وخلقه ولو كان لا يملك من الدنيا شيئاً..
وقد قال ابن المسيب لرسول الخليفة بعد أن رغَّبه بثواب الخليفة من مال ومتاع ورهَّبه من بطشه إن لم يستجب إلى طلبه: (قد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقِسْه إلى هذه الدنيا كلِّها، فكم -رحمك الله- تكون قد قسمتَ لي من جناح البعوضة؟!)
هذه هي عزة المؤمن التي لا تلقي بالاً للدنيا كلِّها، وهكذا يفلح مَنْ وزن الأمورَ بميزان الله وليس بميزان الناس.
ولقد صدق الأديب مصطفى الرافعي إذ قال:
إنَّ المعارفَ للمعالي سُلَّمُ ... وأولو المعارفِ يجهدون لينعموا
والعلمُ زينةُ أهلِهِ بينَ الوَرَى ... سِيَّان فيه أخو الغِنى والمعدمُ
فالشمسُ تطلعُ في نهارٍ مُشرقٍ ... والبدرُ لا يخفيه ليلٌ مظلمُ
لا فخرَ في نسبٍ لمن لم يفتخرْ ... بالعلم، لولا النابُ ذَلَّ الضيغمُ
وقال إبراهيم الألبيري الأندلسي:
وَما يُغنيكَ تَشيِيدُ المَباني ... إِذا بِالجَهلِ نَفسَكَ قَد هَدَمتا
جَعَلتَ المالَ فَوقَ العِلمِ جَهلاً ... لَعَمرُكَ في القَضيَّةِ ماعَدَلتا
لَئِن رَفَعَ الغَنيُّ لِواءَ مالٍ ... لَأَنتَ لِواءَ عِلمِكَ قَد رَفَعتا
وَإِن جَلَسَ الغَنيُّ عَلى الحَشايا ... لَأَنتَ عَلى الكَواكِبِ قَد جَلَستا
وَمَهما افتَضَّ أَبكارَ الغَواني ... فَكَم بِكرٍ مِنَ الحِكَمِ افتَضَضتا
وقال أبو الأسود الدؤلي:
العِلمُ زَينٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ ... فاطلُبْ هُدِيتَ فُنُونَ العِلمِْ وَالأَدَبا
كَمْ سَيِّدٍ بَطَلٍ آبَاؤُهُ نُجُبٌ ... كَانوا الرُؤوسَ فَأَمْسَى بَعدَهُم ذَنَبَا
وَمُقرِفٍ خامِلِ الآبَاءِ ذِي أَدَبٍ ... نَال المَعَاليَ بِالآدابِ وَالرُتبَا
الْعِلْم زَيْنٌ وَذُخْرٌ لا فَنَاءَ لَهُ ... نِعْمَ القَرينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا
قَدْ يَجْمَعُ المَرْءُ مَالاً ثُمَّ يُحْرَمُهُ ... عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلَّ وَالْحَربَا
وَجَامِعُ الْعِلْمِ مَغْبُوطٌ بِهِ أَبَداً ... فَلا يُحَاذِرُ مِنْهُ الْفَوْتَ وَالسَّلبَا
يَا جَامِعَ العِلْمِ نِعْمَ الذُّخْرُ تَجمَعُهُ ... لا تَعْدِلَنَّ بِهِ دُرَّاً وَلا ذَهَبَا
وكان العلم متكئاً فجلس وقال: خلاصة الأمر أنَّ العلم هو أساس الفضائل، ومنبع الكمالات، وبالحض عليه جاءت الرسالات، والمال وسيلة من الوسائل فإن استُعمِلَ في الخير فهو خير على صاحبه، وإن استعمل في الشر فهو وبال وخسران عليه.
وعلينا أن نجعل من العلم والمال مجتمعَيْن أداةً لبناء الحضارات، وتشييد المنارات، وفعل الخيرات وإزالة المنكرات.. فيكون كلٌّ من العلم والمال يصبُّ في مصلحة الآخر ويكمِّله، ولا يعارضه أو يعطِّله.
قال حافظ إبراهيم:
وَالمالُ إِن لَم تَدَّخِرهُ مُحَصَّناً ... بِالعِلمِ كانَ نِهايَةَ الإِملاقِ
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ ... تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ... ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ
وعدم وجود المال قد يكون مانعاً للإنسان من بعض الفضائل، كما قال عبد الله بن معاوية:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغهنَّ مالي
فلا نفسي تطاوعني ببخلٍ ...ولا مالي يبلِّغني فِعَالي
وقال آخر:
إنَّ الكريمَ الذي لا مالَ في يدهِ ... مثل الشجاعِ الذي في كفِّه شللُ
والمالُ مثل الحصا ما دام في يدنا ... فليس ينفع إلَّا حين ينتقلُ
والمُلْك يقوم على العلم والمال، وكلٌّ منهما يحتاج الآخر، قال أحمد شوقي:
يا طالباً لمعالي الملك مجتهداً ... خذها من العلمِ أو خذها من المالِ
بالعلمِ والمالِ يبني الناس ملكهم ... لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ
وشتَّان بين العلم ميراث الأنبياء، وبين المال ميراث الملوك والأغنياء.
وشتان بين العلم الذي يحرس صاحبه، وبين صاحب المال الذي يحرس ماله.
وشتان بين العلم الذي يزداد بالبذل والعطاء، وبين المال الذي تذهبه النفقات.
وشتان بين العلم الذي يرافق صاحبه حتى في قبره، وبين المال الذي يفارقه بعد موته، إلا ما كان من صدقة جارية.
وشتان بين المال الذي يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، وبين العلم النافع فلا يحصل إلا للمؤمن.
والعالِم يحتاج إليه الملوك ومَنْ دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة والحاجة.
والمال يعبِّد صاحبه للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.
والعالم قَدْرُه وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله، قال بعضهم: (الولاية الوحيدة التي لا يملك أحدٌ أن يعزل صاحبها عنها هي: ولاية العلم).
والغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.
فلم يكن من المال بعد أن سمع ما سمع إلا أن يقبِّل رأسَ العلم وينصرف وهو يقول: حفظك الله وأدامَك أيُّها العِلْم، فقد كنتَ لي شُعَاعاً ينير دربي، ونَجْماً هادياً في ظُلَمات نفسي، وعقلاً يقيِّدني عن الرذائل ويحفظني من المهالك، ورُوحاً يبعث فيّ مِنَ الفضل والجمال والخير ما أرتقي به مِنْ أرض الجَهَالة إلى سماء المعرفة، ومن قُبْح الأثَرة إلى جمال الإيثار، ومن بُؤس الطين إلى السَّعادة في صراط ربِّ العالمين.
ومدحي هذا لن يرفعك شيئاً، فما أنتَ إلا كما قال المتنبي:
مَنْ كانَ فوقَ محلِّ الشمسِ موضعُهُ *** فليس يرفعه شيءٌ و لا يضعُ
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين .
عمر بن عبد المجيد البيانوني
تبختر المال في مشيته أمام العِلْم واختال بمظهره البرَّاق ووميضه المشرق، فنظر إليه العلم نظرة المشفق المعلِّم وقال له: أَكُلَّ هذا الفرحِ بمظهرك وجمالك؟ وماذا يكون ممَّا ظاهره فيه الرحمة وباطنه مِنْ قِبَله العذاب؟
إنَّ الأفاعي وإنْ لانتْ ملامسها ... عند التقلُّبِ في أنيابها العَطَبُ
وما أكثرَ ما تُخفي الحلاوة الظاهرة من المرارة الباطنة! وما أكثرَ ما يخفي جمال المنظر من قبح المخبر، بل ومن فقدان طيب الأصل والجَوْهر.
أم أنك تأخذ بالظاهر على مذهب الظاهرية كالإمام ابن حزم حين قال:
وَذِي عَذلٍ فِيمَنْ سَبَانِي حُسْنُهُ ... يُطِيلُ مَلاَمِي فِي الهَوَى وَيَقُولُ
أَمِنْ حُسْنِ وَجْهٍ لاحَ لَمْ تَرَ غَيرَهُ ... وَلَمْ تَدرِ كَيْفَ الجِسْمُ، أَنْتَ قَتِيْلُ؟
فَقُلتُ لَهُ: أَسْرَفْتَ فِي اللَّوْمِ فَاتَّئِدْ ... فَعِندِيَ رَدٌّ لَوْ أَشَاءُ طَوِيلُ
أَلَمْ تَرَ أَنِّي ظَاهِرِيٌّ وَأَنَّنِي ... عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقومَ دَلِيلُ
وماذا يفيد المال بدون العلم ألم ترَ كيف أصابك التيه والعجب بما لا يعجب منه العاقل الحكيم؟!
قال المال: ولماذا لا أفرح وكل الناس يعتزُّون ويفتخرون بوجودي عندهم، ويتكاثر الناس بما عندهم من مال، ولا يملون ولا يسأمون من الازدياد مني مهما ملكوا..
قال العلم: أيُّ عزٍّ هذا وأيُّ فخر؟ ألم تعلم أنَّ كلَّ عزٍّ لم يُوطَّد بعلم فإلى ذلٍّ مصيرُه، وإلى زوالٍ عبيرُه، أما علمتَ ما حصل بقارون كان مالُه وبالاً عليه، حتى الذين تمنَّوا أنْ يكونوا مكانَه فرحوا أنْ لم يكونوا مثلَه، وشعروا بمنَّة الله عليهم في ذلك، وصدق القائل:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كَثُرَتْ لديه
تُهين المُكرِمينَ لها بصُغرٍ ... وتُكرِمُ كلَّ مَنْ هانت عليه
إذا استغنيت عن شيءٍ فدعهُ ... وخذ ما أنت محتاجٌ إليه
وبيَّن أبو الفتح البستي ذلك أجلى بيان فقال:
وَيَا حَرِيصاً عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا ... أنسِيتَ أَنَّ سُرُورَ المَالِ أَحْزَانُ
زَعِ الفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... فَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَالْوَصْلُ هِجْرَانُ
وكان سقراط فقيراً فقال له بعض الملوك: ما أفقرَك! فقال: «لو عرفتَ راحةَ الفقر لشغلك التوجُّع لنفسك عن التوجُّع لي»، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة.
وقيل له: لِمَ لا يُرى أثر الحزن عليك؟ فقال: «لأني لم أتخذ ما إنْ فقدتُه أحزنني».
وقال بعض الحكماء: «من أحبَّ أن تقل مصائبه فليقل قُنيته للخارجات من يده»، لأنَّ أسبابَ الهم فوتُ المطلوب وفقدُ المحبوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأنَّ الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد، وأدرك ابن الرومي هذا فقال:
ومَنْ سرَّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
وقال بعضهم:
(النار) آخر دينار نطقت به ... و(الهمُّ) آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما ما لم يكن ورعاً ... معذَّب القلب بين الهمِّ والنارِ
وحكي أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون، فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعة وعصا، وقال: نجا المخفون.
وتأمل في سعادة هذا الزاهد الذي لا همَّ له إلا العلم والتعليم للناس الذي وصفه أحدهم بقوله:
قليلُ الهمِّ لا ولدٌ يموتُ ... ولا أمرٌ يحاذره يفوتُ
قضى وطر الصبا وأفاد علماً ... فغايته التفرُّدُ والسكوتُ
قال المال: لكن لا يمكن لأحد أن ينكر فضلي وقيمتي، ومهما تكلَّموا وزهَّدوا الناسَ بي تبقى مكانتي عالية في نفوسهم، فهذا أبو سليمان الداراني يقول: «قد وجدتُ لكلِّ شيء حيلة إلا هذا الذهب والفضة، فإني لم أجد لإخراجه من القلب حيلة».
وقال بعض السلف: «من ادَّعى بغض الدنيا، فهو عندي كذاب، إلا أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون».
وقال ابن الجوزي رحمه الله: «للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية».
قال العلم: حسبُكَ أنْ تنظر في القرآن متى رفعَ اللهُ من شأنك وأعلى من مكانتك؟ وانظر إلى العلم كم مدحه الله عزَّ وجل ورفع أهلَه إلى أعلى المراتب، حتى عطفهم على الملائكة وعلى ذاته المقدَّسة جلَّ وعلا حيث قال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}، فبدأ الله عز وجل بنفسه ثم بملائكته ثم بأهل العلم، وقد جعلهم الله شهداء على أعظم أمر وهو توحيده وألوهيته، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وهذا يدل على عدالة أهل العلم وتزكيتهم فإنه لا يُستَشهد إلا العدول، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ) رواه البزار والبيهقي.
وجعل اللهُ تعالى العلمَ سببَ خشيته فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وسببَ الإيمانِ بالقرآن والانتفاع به، فقال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدَاً. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعَاً}، وقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}. وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ووصف الله تعالى الذي لا يؤمن بالقرآن ـ زيادة على عدم علمه ـ بأنه أعمى فقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، فجعل العالِم المؤمن بالقرآن كالبصير، والجاهل الجاحد به كالأعمى.
العلمُ يجلو العَمَى عن قَلْبِ صاحبِهِ ... كما يجلِّي سوادَ الظُّلمةِ القمرُ
والعلمُ يُحيِي قلوبَ الحاملينَ لَهُ ... كالأرض تُحيَا إذا ما مسَّها المطَرُ
قال أحد الحكماء: (العلم سراجٌ يجلي الظلمة، وضياءٌ يكشف العمى. التذلل مكروهٌ إلا في استفادته، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه، والحسد منهيٌ عنه إلا عليه).
قال أفلاطون: (العلم مصباح النفس، ينفي عنها ظلمة الجهل، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل).
وذكر تعالى أن الأمثال لا يفقهها إلا أهل العلم فقال سبحانه:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ}.
وإنَّ أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ}، فكان حضاً على العلم إذ قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}، ثم قال عن المال: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} أرأيتَ كيف قابل هنا بين العلم فرفع منزلتَه، وبين المال فحذَّر الناسَ فتنتَه.
قال المال: لكن ألم ترَ أنَّ الله تعالى قد سمَّاني في القرآن (خيراً) حين قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، فلماذا تتغافل عن هذا؟
قال العلم: لم أتغافل عن هذا، ولكن الشيء قد يكون خيراً بحدِّ ذاته ولكن يغلب على الناس استعماله في الشر فيكون شراً على صاحبه ولهذا حذَّر الله من فتنته فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }، وهذا الذي جعل يحيى بن معاذ يقول: «الدرهم عقرب فإنْ لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إنْ لدغك قتلك سمه»، قيل: وما رقيته؟ قال: «أخذه من حلِّه ووضعه في حقِّه».
وقال الإمام الغزالي: «المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده: ترياقه، وغوائله: سمومه، فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره، ويستدر من خيره».
وكان بعض السلف يقول: «احذروا دار الدنيا، فإنَّها أسحر من هاروت وماروت، فإنَّهما يفرِّقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرِّق بين العبد وربِّه».
قال المال: ألم تر أن الله عز وجل قد جعلني زينة الحياة إذ قال: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
قال العلم: لكن ألم تقرأ بقية الآية: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً}، ثم إنه قال عن المال: {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهو زينة وليس (قيمة).
وقد رغَّب الله عز وجل في الازدياد من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} أما عن المال فقد قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، وقال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}.
قال المال: إذا كان الأمر كما تقول، فلماذا إذن امتنَّ الله تعالى على نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}، وامتنَّ على قومه بتوفيقهم للتجارة الواسعة برحلة الشتاء والصيف، وامتنَّ الله به على عباده إذ قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}، وقال ممتناً على بني إسرائيل: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}، فلو لم تكن الأموالُ خيراً ونعمة عظيمة لما امتنَّ الله بها على عباده.
وجعلَ اللهُ تعالى استخراجَ الكنز للغلامين رحمةً منه سبحانه فقال: { وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وقال نوح لقومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله والرجوع إليه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً}، وبيَّن عاقبةَ ذلك في الدنيا قبل الآخرة فقال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
ونبيُّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام دعا ربَّه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، ولم يلمه ربه على ذلك بل استجاب له وكان له ما أراد، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ. وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ. هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
فليس الزُّهد فَقْد المال وإنما الزُّهد: فراغ القلب منه، فقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزاهدين.
ومن هنا قال الإمام ابن القيم: «فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر، ومتى كان في قلبك ضرَّك ولو لم يكن في يدك منه شيء».
وقد وَعَدَ الله سبحانه بالرِّزق الوفير لمن آمن واتقى فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وقال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) متفق عليه.
وفي مقابل ذلك جعلَ اللهُ تعالى المنع والحرمانَ عاقبة لمن ظلم نفسَه، فقال: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهوَ غَضْبَانُ) متفق عليه، وقد قاس عليها الفقهاء: لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها انفعالاتٌ تؤثِّر على حُكْمه.
قال أحدهم:
إذا قلَّ مالُ المرءِ قلَّ صفاؤُهُ ... وضاقتْ عليه أرضُهُ وسماؤُهُ
وأصبحَ لا يدري وإنْ كانَ حَازماً ... أقُدَّامه خيرٌ له أمْ وَرَاؤُهُ
وقال آخر: إنَّ النفس إذا أحرزت قوتها ورزقها اطمأنت.
وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها ولا جائعاً.
قال العلم: نعم إنَّ حبِّ المالِ أمرٌ فطري جبلي، وهو مِنْ نِعَم الله العظيمة لا يلام المرء في حبِّه له، ولكنْ أنْ يُجعلَ هو الميزان لفضل الإنسان، ويُقَاسُ فضل الناس بما يملكون، ويكون هو الغاية التي يسعى الناس إليها وليس وسيلةً لفعل الخير، فهنا يكون الخلل ويأتي الزيغ والزلل..
فالمال نعمة عظيمة ولكن مَنْ يعرف حقَّ هذه النعمة ويؤدي شكرها؟ لا ريب أنهم قليلٌ جداً، فأين الأغنياء من قول القائل:
ملأتُ يدي من الدُّنيا مراراً ... فما طَمِعَ العَواذِلُ في اقتصادي
ولا وجبَتْ عليّ زكاةُ مالٍ ... وهل تجبُ الزكاةُ على جوادِ
بذرتُ المالَ في أرض العطايا ... فأصبحَتِ المكارمُ من حصادي
ولو نلتُ الذي يهواه قلبي ... لوسَّعتُ المعاشَ على العبادِ
فإننا لا نرى أصحابَ الأموال إلا مشغولين بمتعهم ولذائذهم وترفهم، وينسون إخوانهم المحتاجين، بل قد يتكبرون ويطغون عليهم، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والمصيبة الأعظم من ذلك أن لا يطغى على إخوانه فقط بل على ربِّه وخالقه جلَّ وعلا، فينسى أنَّ الله هو الذي أعطاه هذا المال ويقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، وينسى أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً، وانظر إلى صاحب الجنتين كيف أصابه الغرور فدخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} لقد أنساه الغرورُ بماله أنَّ كلَّ نعيم في الدنيا فهو إلى زوال، واستبعد أنْ تقوم القيامة، وعلى فرض أنها قامت فإنَّ له خيراً من جنته.. أرأيتَ ماذا يصنع المال بصاحبه؟
فأما صاحبه الفقير الذي لا مال له ولا نفر، ولا جنة عنده ولا ثمر، فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى، معتز بعقيدته وإيمانه: {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا؟ لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}، فهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تُستعبد للمال ولا يطغيها الغنى، وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيزٌ أمام الجاه والمال، وأنَّ ما عند الله خيرٌ من أعراض الدنيا، وأنَّ فضل الله عظيم وهو يطمع في فضله وثوابه، وأن نقمة الله يوشك أن تصيب الغافلين المتبطرين.
فذُو المال يكون ممدوحاً إذا استعمله فيما يرضي الله عز وجل، وصان به دينَهُ وعِرْضَهُ، وليس في التباهي والتكاثر والتفاخر، قال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرمَيْن: الدِّين والعِرْض. وقيل في منثور الحكم: من استغنى كَرُمَ على أهله. وقيلَ لأبِي الزِّنَادِ : لِمَ تُحِبُّ الدَّرَاهِمَ وَهِيَ تُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا؟ قَالَ : «إِنَّها وَإِنْ أَدْنَتْنِي منها صَانَتْنِي عَنْهَا».
وقال سعيد بن المسيب: «لا خَيرَ فِيمَنْ لا يُحِبُّ المالَ لِيَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ، ويُؤَدِّي به أمانتَهُ، ويَستَغني به عن خَلْقِ رَبِّهِ»، ولما حضره الموت ترك دنانيراً وقال: «اللهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أنِّي لَمْ أَجمعها إلَّا لأصُونَ بها حَسَبِي ودِينِي».
وقال سفيان الثوري مرةً لمن عاتبه في تقليب الدنانير: دعنا عنك فإنه لولا هذه لتمندلَ الناس بنا تمندلاً. وقال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن.
وقال سفيان بن عيينةَ: من كان له مال فليُصْلحه، فإنكم في زمانٍ من احتاج فيه إلى الناس، فإن أول ما يبذله دِينه.
وفي وصية لقمان لابنه: «يا بني استعن بالكسب على الفقر، فما افتقر رجل إلا أصابته ثلاث خصال: رقَّة في دينه، و ضعف في عقله، و ذهاب في مروءته، وأعظم من هذا استخفاف الناس به».
وقال يحيى المسيحي:
نعمَ المعينُ على المروءةِ للفتى ... مالٌ يصونُ عن التبذلِ نفسَهُ
لا شيءَ أنفعُ للفتى من مالهِ ... يقضي حوائجَه ويجلبُ أنسَهُ
وإِذا رمتهُ يد الزمانِ بسهمهِ ... غدتِ الدراهمُ دون ذلكَ تِرْسَهُ
قال المال: وأخيراً وافقتني في كلامي، إنَّ إنصافَك في موافقتك لي أحبُّ لي من كلِّ حُجَجك وأدلتك، فما أجملَ الإنصاف وما أقلَّه!
قال العلم: إذا لم يجعلني العلم منصفاً عادلاً فلا خير فيّ، فالإنصافُ دليلٌ على العقل والفضل، وقد أغلظ رجل على المهلب فحلم عنه، فقيل له: جهل عليك وتحلم عنه؟ فقال: (لم أعرف مساوئه، فكرهتُ أن أبهته بما ليس فيه)! فأين من ينصف مثل هذا؟
ودعني أهمس في أذنك ما ينفعك في خطابك:
إنَّ الحماسةَ الزائدَةَ للفكرة وإعطاءَها أكبر من حجمها يسيء إليها، وقد يؤدي هذا إلى عدم قبول الناس لها وتحفظهم منها، قال أحدهم: (حين تصرخ في أذني لا أسمعك جيداً). ثم إن من يرد على فكرة متطرِّفة لا تخلو من ردة الفعل، عليه: أن يحفظ توازنه ويبتعد عن المبالغة والتهويل، حتى لا يكون رده أيضاً عبارة عن ردة فعل ولكنها في الاتجاه الآخر.
وعوداً على حوارنا أقول: إنَّ العلم يستفاد منه لغذاء الروح، والمال لغذاء الجسد، وأيهما أشرف الروح أم الجسد؟
يَا خَادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ؟
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
قال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا مُنع الطعام والشراب والدواء يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت.
فإنَّ غذاءَ القلب: العلمُ والحكمةُ وبهما حياته، كما أنَّ غذاء الجسد الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريضٌ وموته لازم ولكنه لا يشعر به.
وفي وصايا لقمان لابنه قال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء.
قال المال: لا شك بأنَّ الرُّوح أشرف من الجسد، لكن الجسد هو المجال والطريق لتحقيق مطالب الروح وأشواقها.
أم أنك تريد أن تكون كذلك المعذَّب الذي يقول:
جسمي معي غير أنَّ الروحَ عندكمُ ... فالجسمُ في غربةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
فليعجبِ الناسَ مني أنَّ لي بدناً ... لا روحَ فيه، ولي روحٌ بلا بَدَنِ
ألم يجعل الله العبادات مزيجاً من الرُّوح والعقل والجسد، فالذي يصلي مثلاً: يتوجه بروحه إلى خالقه الذي يناجيه، وبعقله فيتدبَّر ما يقرأه من القرآن والذِّكْر، وبجسمه فيقف ويركع ويسجد؛ وهكذا تعلِّمنا الصلاة أن لا نفصل بين الروح والجسد.
قال العلم: ألم تسمع إلى من قال: (حبيب المال لا حبيبَ له , وعدو ماله لا عدوَّ له)، ومن قال: (مَنْ أذلَّ ماله فقد أعزَّ نفسه، ومَنْ أعزَّ ماله فقد أذلَّ نفسه)؟
وقال الحسن البصري: (بئس الرفيقان: الدرهم والدينار، لا ينفعانك حتى يفارقانك).
فما فضيلةُ شيءٍ مَنْ أحبَّه لم يحبه الناس؟ ومَنْ أعزه أذل نفسه؟ ولا سبيل إلا بمعاداته وإذلاله حتى يعز نفسه ويحبه الناس! ولا سبيل إلى نفعه إلا بمفارقته؟
وقد لام أحدهم أفلاطون على الزهد في المال فقال: كيف أرغب فيما ينال بالبخت لا بالاستحقاق، ويأمر البخل والشره بحفظه، والجود والزهد بإتلافه.
فأي فضيلة في هذا؟
قال المال: دعك من هذه الفلسفة وانظر في واقع الناس، فواقعهم يجيبك ويرد على هذا الكلام.
قال العلم: ما أراك إلا قد عجزتَ عن الجواب فأحلتني على واقع الناس.
قال المال: كلا، فإنَّ الواقع يثبت ما قاله الشاعر:
يُغَطَّى بالسَّمَاحَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
ألم تر أن كثيراً من الحكَّام يدركون هذه الحكمة ويطبقونها، فهم يعلمون أنَّ عيوبهم كثيرة ولا يمكن أن تُغَطَّى هذه العيوب بشيء كما تُغَطَّى بالسخاء فهم يجودون على أتباعهم ابتداءً، وعلى مَنْ يمكن له أن يكون بالسخاء من أتباعهم، فيصير المعارض لهم موافقاً لهم بل ومدافعاً عنهم، أما سمعتَ بسياسة العصا والجزرة؟
قال العلم: من يُشترى بالمال قد يتظاهر أمام من اشتراه بمحبته وولائه له، فإذا ذهب عن سيِّده المال أو المنصب فقد يكون أول مَنْ ينقلب عليه، أمَّا مَنْ أحبه الناس لفضله وشرفه وصدقه وسلامة قلبه فيجتمع الناس عليه ولو لم يكن ذا منصب، ألا ترى الناسَ يحبون العلماء الصادقين أكثر من حبِّهم للسلاطين.
قال المال: لكن الناس يجلون ويحترمون من يملك الأموال الكثيرة، ويبررون أخطاءه ويجعلون سيئاته حسنات، إن سكت فهو العاقل الحكيم، وإن تكلم فهو البليغ ذو الحجة والبرهان مما جعل أبو الفتح البستي يقول:
(سَحْبَانُ) مِنْ غَيْرِ مَالٍ (بَاقِلٌ) حَصِرٌ ... وَ(بَاقِلٌ) فِي ثَرَاءِ المَالِ (سَحْبَانُ)
ويقول الآخر:
وكان بنو عمي يقولون مرحباً ... فلما رأوني مُعدماً مات مرحبُ
وقال قيس بن عاصم:
وأوَّلُ مَنْ يجفو الفقيرَ لفقرِهِ ... بنوه، ولم يرضوه في فَقْرِهِ أبَا
كأنَّ فقيرَ القومِ في الناسِ مُذنِبٌ ... و إنْ لم يكنْ مِنْ قبل ذلك أذنَبَا
ويُنسَب للإمام الشافعي:
أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي مُقِيمٌ بِبَلْدَةٍ ... مَرَاتِبُ أَهْلِ الْفَضْلِ فِيهَا مَجَاهِلُ
فَكَامِلُهُمْ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ: نَاقِصٌ ... وَنَاقِصُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ المَالِ: كَامِلُ
وقال أبو العيناء:
من كانَ يملكُ درهمينِ تعلمتْ ... شفتاه أنواعَ الكلامِ فقالا
وَتقَدَّمَ الفصحاءَ فاستمعوا له ... ورأيتَه بين الورى مُخْتالا
لولا دراهمُهُ التي في كيسِهِ ... لرأيته شَرَّ البريةِ حالا
إِن الغنيَّ إِذا تكلمَ كاذباً ... قالوا: صدقْتَ وما نطقْتَ مُحالا
وإِذا الفقيرُ أصابَ قالوا: لم يُصِبْ ... وكذبْتَ يا هذا وقُلْتَ ضلالا
إِن الدراهمَ في المواطنِ كُلِّها ... تكسو الرجالَ مَهابةً وجلالا
فهي اللسانُ لمن أرادَ فصاحةً ... وهي السلاحُ لمن أرادَ قِتالا
وقال الآخر عن الفقير:
يمشي الفقيرُ وكل شيء ضده ... والناسُ تُغلِقُ دونه أبوابَها
وتراه مبغوضاً وليسَ بمذنبٍ ... ويرى العَدَاوةَ لا يَرَى أسبابَها
حتَّى الكلاب إذا رأتْ ذا ثروةٍ ... خضعتْ لديه وحرَّكت أذنابها
وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً ... نبحتْ عليه وكشَّرَتْ أنيابها
وكان يقال : الدراهم مراهم؛ لأنها تداوي كلَّ جرح، ويطيب بها كل صلح.
وقال البستي:
مَنْ جَادَ بِالمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً ... إِلَيْهِ وَالمَالُ للإِنْسَانِ فَتَّانُ
وقال أحمد شوقي:
المالُ حَلَّلَ كُلَّ غَيرِ مُحَلَّلِ ... حَتَّى زَواجَ الشيبِ بِالأبكارِ
سَحَرَ القُلوبَ فَرُبَّ أُمٍّ قَلبُها ... مِن سِحرِهِ: حَجَرٌ مِنَ الأحجارِ
دَفَعَت بُنَيَّتَها لِأَشأَمَ مَضجَعٍ ... وَرَمَت بِها في غُربَةٍ وَإسارِ
وَتَعَلَّلَت بِالشَرعِ قُلتُ: كَذِبتِهِ ... ما كانَ شَرعُ اللَهِ بِالجَزَّارِ
ما زُوِّجَت تِلكَ الفَتاةُ وَإِنَّما ... بيعَ الصِّبا وَالحُسنُ بِالدينارِ
وقيل لابن سيابة: قد كرهت امرأتك شيبك فمالت عنك، فقال: إنما مالت إلى الأنذال لقلة المال، والله لو كنت في سن نوح، وشيبة إبليس، وخلقة منكر ونكير، ومعي مال لكنت أحب إليها من مقترٍ في جمال يوسف، وخلق داود، وجود حاتم، وحلم أحنف بن قيس.
وقال بعضهم: (إذا أثريتَ فكلُّ رجلٍ رجلك، وإذا افتقرتَ أنكرك أهلك).
وقال آخر: (الدنيا إذا أقبلتْ على أحد أعارته محاسنَ غيرِه، وإذا أدبرتْ عن أحد سلبته محاسنَ نفسِه).
وقال الشاعر:
أجَلَّكَ قومٌ حين صرتَ إلى الغِنَى ... وكلُّ غنيٍّ في العيونِ جليلُ
وليسَ الغِنَى إلَّا غنىً زيَّنَ الفَتَى ... عشيَّة يقري أو غداة يُنيلُ
قال العلم: إنَّ موازين الناس لا قيمة لها إذا لم تكن مبنية على أساس صحيح، فمجرد جمع المال لا يقرب من الله عز وجل قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}، وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}، وقال عن أبي لهب: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، والوليد بن المغيرة الذي قال عن القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، قال الله عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودَاً. وَبَنِينَ شُهُودَاً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدَاً}، ثم كان جزاؤه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}. فهل أغنى عنه ماله وولده؟
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ}، فمالُه جَعَلَه يستحقر الناسَ ويزدريهم فيهمز هذا ويلمز ذاك، وما تخفي صدورهم أكبر، يحسب أنه بماله قد اشترى البلاد والعباد فلم يعد لأحد قَدْر عنده، ويحسب أنَّ ماله سينجيه من كلِّ الشرور والآفات وسيخلِّده في نعيمه البائس الزائف الزائل، وهذه الآفات المدمِّرة للقوة المادية كما تكون في الأفراد تكون في الحكومات، ثم قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ. نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ}، فهؤلاء الذين أضلَّهم المال وأغواهم كما قال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً}.
وهذا الذي يحسب أنَّ ماله أخلده، ويحه أما يقرأ القرآن وهو يبيِّن بطلانَ هذه الأوهام، قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، أي: لم يقيموا ولم ينزلوا فيها، من قولهم: غنيت بالمكان إذا أقمت به، والمغاني المنازل واحدها مغنى، وغني معناه: أقام إقامة مقترنة بتنعيم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء، فكأنهم لم تسبق لهم حياة يتنعمون فيها، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، ومن أصدق من الله قيلاً، فإخبار الله لنا عن شيء ليس كرؤيتنا له، فإن الرؤية قد تخطئ وتزيغ أما إخبار الله فلا يمكن أن يتخلف أو يختلف.
هذا المغرور بماله، ألا يعلم ذلك (علمَ اليقين)؟ أم أنه ينتظر أن يرى ذلك (عينَ اليقين) ثم يعرفه (حقَّ اليقين)؟
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا}، (أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء مني وامتحان له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره، وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له، أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة، فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته؛ إنما يكرم مَنْ يكرمه: بمعرفته ومحبَّته وطاعته، ويهين من يهينه: بالإعراض عنه ومعصيته) مدارج السالكين.
قال بعضهم: نعمة الله علينا فيما طواه عنا أعظم من نعمته علينا في ما بسطه لنا.
وفي بعض المناجاة: يا مَنْ مَنْعُهُ عطاء.
قال الشاعر:
يَا لائِمَ الدَّهْرِ عَلَى مَا بِنَا ... لا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ
فَالدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ ... يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ
كَمْ كَافِرٍ بِاللهِ أَمْوَالُهُ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ
ومُؤْمِنٌ لَيْسَ لَهُ دِرهَمٌ ... يَزْدَادُ إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ
لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً ... يَبْسُطُ رِجْلَيْهِ عَلَى قَدْرِهِ
فالمال ظِلٌّ زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة، ولو كانت فيه فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته.
قال الشاعر عبد الرحمن العشماوي:
قد يعشق المرءُ مَنْ لا مالَ في يده ... ويكره القلبُ مَنْ في كفِّه الذهبُ
حقيقةٌ لو وعاها الجاهلون لما ... تنافسوا في معانيها ولا احتربوا
ما قيمة الناس إلا في مبادئهم ... لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرُّتَبُ
وقال الشاعر مصطفى قاسم عباس:
فالمالُ لن يُعلِيَ الإنسانَ منزلةً ... إنْ لم يكنْ بالمزايا يرتقي السُّحُبا
ومن مأثور الحِكَم: (ولا تحزن لقلة المال، فإنَّ الرجلَ ذا المروءة قد يُكرم على غير مال، كالأسد الذي يُهاب وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يُهان وإن كان كثيرَ المال، كالكلب لا يُحفَلُ به وإن طُوِّق وخُلخِل بالذهب، فلا تَكبُرَنَّ عليك غربتك، فإنَّ العاقلَ لا غربةَ له، كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوَّته.
وقد قيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير، فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنَّما مالُ العاقل: عقلُه، وما قدَّم من صالح، فهو واثق بأنه لا يُسْلَب ما عمل).
وقال الزبير بن أبي بكر كتب إلي أبي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالا، وإن استغنيت كان لك جمالا.
وخطب اثنان إلى حكيم ابنته، وكان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، فاختار الفقير، وسأله الاسكندر عن ذلك فقال: لأنَّ الغني كان جاهلاً فكنت أخاف عليه الفقر، والفقير كان عاقلاً فرجوت له الغنى.
وكم رفعَ الناسُ مِنْ قيمة مَنْ لا يزن عند الله شيئاً، واستهانوا ولم يبالوا بمَنْ هو خير من ملء الأرض ممن رفعوه، حتى قال ابن الرومي:
رأيتُ الدَّهرَ يرفع كلَّ وغدٍ ... ويخفض كلَّ ذي شيمٍ شريفهْ
كمثلِ البحر يغرق فيهِ حيٌّ ... ولا ينفكُّ تطفو فيهِ جيفهْ
وكالميزانِ يخفضُ كلَّ وافٍ ... ويرفعُ كلَّ ذي زنَةٍ خفيفهْ
وقال الآخر:
يا ذا الذي بصروف الدهر عيَّرنا ... هل عاند الدهر إلا مَنْ له خَطَرُ
أما ترى البحرَ يطفو فوقه جِيَفٌ ... ويستقرُّ بأقصى قاعه دُرَرَ
إنَّا وإنْ عبثتْ أيدي الزمان بنا ... ومسَّنا مِنْ تمادي بؤسه ضَرَرُ
ففي السماء نجومٌ ما لها عَدَدٌ ... وليسَ يُكسَفُ إلا الشمسُ والقمرُ
فكثرة المال والبنين لا تدل على رفعة صاحبه عند الله عز وجل فقد قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}، وقال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وقال: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وجعل اللهُ قيمةَ الرجل بما في قلبه من التقوى إذ قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، وقد بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله عز وجل يعطي المال والدنيا لمن يحبه الله ولمن لا يحبه، أما الدِّين فلا يعطيه الله إلا لمن أحبَّه، فقد قال: (إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ) رواه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك.
إنَّ رفعةَ العلمِ وشرفَه هي التي جعلت الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله يرفض أن يزوج ابنته لابن الخليفة عبد الملك ويزوجها إلى الطالب النجيب في حلقة درسه ابن أبي وداعة، الذي كان فقيراً في دنياه ولكنه غني بمولاه، لم يستجب ابن المسيب إلى كل المغريات التي عرضها عليه الخليفة بل رفضها رفضاً باتاً، لأنه يعلم أن ابنته أمانة عنده، فلن يزوجها إلا لمن يرتضي دينه وخلقه ولو كان لا يملك من الدنيا شيئاً..
وقد قال ابن المسيب لرسول الخليفة بعد أن رغَّبه بثواب الخليفة من مال ومتاع ورهَّبه من بطشه إن لم يستجب إلى طلبه: (قد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقِسْه إلى هذه الدنيا كلِّها، فكم -رحمك الله- تكون قد قسمتَ لي من جناح البعوضة؟!)
هذه هي عزة المؤمن التي لا تلقي بالاً للدنيا كلِّها، وهكذا يفلح مَنْ وزن الأمورَ بميزان الله وليس بميزان الناس.
ولقد صدق الأديب مصطفى الرافعي إذ قال:
إنَّ المعارفَ للمعالي سُلَّمُ ... وأولو المعارفِ يجهدون لينعموا
والعلمُ زينةُ أهلِهِ بينَ الوَرَى ... سِيَّان فيه أخو الغِنى والمعدمُ
فالشمسُ تطلعُ في نهارٍ مُشرقٍ ... والبدرُ لا يخفيه ليلٌ مظلمُ
لا فخرَ في نسبٍ لمن لم يفتخرْ ... بالعلم، لولا النابُ ذَلَّ الضيغمُ
وقال إبراهيم الألبيري الأندلسي:
وَما يُغنيكَ تَشيِيدُ المَباني ... إِذا بِالجَهلِ نَفسَكَ قَد هَدَمتا
جَعَلتَ المالَ فَوقَ العِلمِ جَهلاً ... لَعَمرُكَ في القَضيَّةِ ماعَدَلتا
لَئِن رَفَعَ الغَنيُّ لِواءَ مالٍ ... لَأَنتَ لِواءَ عِلمِكَ قَد رَفَعتا
وَإِن جَلَسَ الغَنيُّ عَلى الحَشايا ... لَأَنتَ عَلى الكَواكِبِ قَد جَلَستا
وَمَهما افتَضَّ أَبكارَ الغَواني ... فَكَم بِكرٍ مِنَ الحِكَمِ افتَضَضتا
وقال أبو الأسود الدؤلي:
العِلمُ زَينٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ ... فاطلُبْ هُدِيتَ فُنُونَ العِلمِْ وَالأَدَبا
كَمْ سَيِّدٍ بَطَلٍ آبَاؤُهُ نُجُبٌ ... كَانوا الرُؤوسَ فَأَمْسَى بَعدَهُم ذَنَبَا
وَمُقرِفٍ خامِلِ الآبَاءِ ذِي أَدَبٍ ... نَال المَعَاليَ بِالآدابِ وَالرُتبَا
الْعِلْم زَيْنٌ وَذُخْرٌ لا فَنَاءَ لَهُ ... نِعْمَ القَرينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا
قَدْ يَجْمَعُ المَرْءُ مَالاً ثُمَّ يُحْرَمُهُ ... عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلَّ وَالْحَربَا
وَجَامِعُ الْعِلْمِ مَغْبُوطٌ بِهِ أَبَداً ... فَلا يُحَاذِرُ مِنْهُ الْفَوْتَ وَالسَّلبَا
يَا جَامِعَ العِلْمِ نِعْمَ الذُّخْرُ تَجمَعُهُ ... لا تَعْدِلَنَّ بِهِ دُرَّاً وَلا ذَهَبَا
وكان العلم متكئاً فجلس وقال: خلاصة الأمر أنَّ العلم هو أساس الفضائل، ومنبع الكمالات، وبالحض عليه جاءت الرسالات، والمال وسيلة من الوسائل فإن استُعمِلَ في الخير فهو خير على صاحبه، وإن استعمل في الشر فهو وبال وخسران عليه.
وعلينا أن نجعل من العلم والمال مجتمعَيْن أداةً لبناء الحضارات، وتشييد المنارات، وفعل الخيرات وإزالة المنكرات.. فيكون كلٌّ من العلم والمال يصبُّ في مصلحة الآخر ويكمِّله، ولا يعارضه أو يعطِّله.
قال حافظ إبراهيم:
وَالمالُ إِن لَم تَدَّخِرهُ مُحَصَّناً ... بِالعِلمِ كانَ نِهايَةَ الإِملاقِ
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ ... تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ... ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ
وعدم وجود المال قد يكون مانعاً للإنسان من بعض الفضائل، كما قال عبد الله بن معاوية:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغهنَّ مالي
فلا نفسي تطاوعني ببخلٍ ...ولا مالي يبلِّغني فِعَالي
وقال آخر:
إنَّ الكريمَ الذي لا مالَ في يدهِ ... مثل الشجاعِ الذي في كفِّه شللُ
والمالُ مثل الحصا ما دام في يدنا ... فليس ينفع إلَّا حين ينتقلُ
والمُلْك يقوم على العلم والمال، وكلٌّ منهما يحتاج الآخر، قال أحمد شوقي:
يا طالباً لمعالي الملك مجتهداً ... خذها من العلمِ أو خذها من المالِ
بالعلمِ والمالِ يبني الناس ملكهم ... لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ
وشتَّان بين العلم ميراث الأنبياء، وبين المال ميراث الملوك والأغنياء.
وشتان بين العلم الذي يحرس صاحبه، وبين صاحب المال الذي يحرس ماله.
وشتان بين العلم الذي يزداد بالبذل والعطاء، وبين المال الذي تذهبه النفقات.
وشتان بين العلم الذي يرافق صاحبه حتى في قبره، وبين المال الذي يفارقه بعد موته، إلا ما كان من صدقة جارية.
وشتان بين المال الذي يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، وبين العلم النافع فلا يحصل إلا للمؤمن.
والعالِم يحتاج إليه الملوك ومَنْ دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة والحاجة.
والمال يعبِّد صاحبه للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.
والعالم قَدْرُه وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله، قال بعضهم: (الولاية الوحيدة التي لا يملك أحدٌ أن يعزل صاحبها عنها هي: ولاية العلم).
والغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.
فلم يكن من المال بعد أن سمع ما سمع إلا أن يقبِّل رأسَ العلم وينصرف وهو يقول: حفظك الله وأدامَك أيُّها العِلْم، فقد كنتَ لي شُعَاعاً ينير دربي، ونَجْماً هادياً في ظُلَمات نفسي، وعقلاً يقيِّدني عن الرذائل ويحفظني من المهالك، ورُوحاً يبعث فيّ مِنَ الفضل والجمال والخير ما أرتقي به مِنْ أرض الجَهَالة إلى سماء المعرفة، ومن قُبْح الأثَرة إلى جمال الإيثار، ومن بُؤس الطين إلى السَّعادة في صراط ربِّ العالمين.
ومدحي هذا لن يرفعك شيئاً، فما أنتَ إلا كما قال المتنبي:
مَنْ كانَ فوقَ محلِّ الشمسِ موضعُهُ *** فليس يرفعه شيءٌ و لا يضعُ
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين .