محمد بن إبراهيم الحمد
New member
[align=center]حمَّالة الورد[/align]
[align=justify]اطلعت على كتاب بعنوان: "الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الألوسي" جمع وتحقيق أخينا المحقق الكبير الشيخ محمد بن ناصر العجمي _حفظه الله_.
وهذه الرسائل تحتوي على فوائد، وغرر، وتتضمن أموراً أشار إليها جامعها ومحققها في مقدمته، ومنها:
1_ التواصي بالحق والدعوة إليه، ونصرة دين الله _عز وجل_ والتشاور في مسائل العلم.
2_ اشتمال ديباجةِ كلِّ رسالة من رسائلهما على معرفة قدر كل واحد منهما للآخر، ومدحه والثناء عليه بما هو أهله، مع كمال الأدب والاحترام، وذلك في أسلوب جزل، وبيان حسن، مطرز بالسجع والمحسنات البديعية، وهي تصور ما كانوا عليه من صفاء الود، واتحاد الآراء، ولو نأت الديار.
3_ السؤال بإلحاح عن كتب ورسائل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية-رحمه الله- وتتبع مخطوطاتها، والسعي الحثيث في محاولة نشرها ونسخها والاعتناء بها.
بل إن بداية المراسلات بينهما كانت مبنية على ذلك.
وقد كشفت هذه الرسائل أن القاسمي والألوسي كان لهما دور كبير في نشر عدد ليس بالقليل من كتب شيخ الإسلام، يقول القاسمي في إحدى رسائله مخاطباً الألوسي: "ولا أحد ينسى لمولانا حرسه الله من المقام المحمود في هذا المجال _يعني نشر كتب ابن تيمية_ وسعيه الليل والنهار محتسباً وجه المتعال، وسيخلد له التاريخ لسان صدق يرتاح له أنصار الفضل، ورجال الحق".
ويقول _أيضاً_ في إحدى رسائله: "لا أقدر أن أعبر عن السرور الذي داخلني من اهتمامكم بنشر آثار شيخ الإسلام، فجزاكم الله عن هذا السعي خير الجزاء".
ويقول _أيضاً_ في رسالة أخرى له: "وإنما المهم نسخ آثار شيخ الإسلام التي في الخزانة، وتتبع المهم منها....".
4_ المذاكرة في الكتب عموماً، ونوادرها، وما نشر منها، وما لم ينشر، والحث على طباعة الكتب التي تنفع الأمة، وتنور أفكارها، وتنبهها إلى طريق الحق والصراط المستقيم، وأنه من الواجب الإصلاح العلمي إذا كان قد فات الإصلاح السياسي.
5_ كشفت هذه المراسلات عن صفحة مشرقة لمن يقوم بتمويل وطباعة هذه الكتب والإنفاق عليها من محبي كتب السلف، كالشيخ الوجيه محمد نصيف من جدَّة ثغر مكة المحروسة، والوجيه فخر التُّجار مقبل بن عبدالرحمن الذكير النجدي، والشيخ قاسم آل ثاني أحد أمراء قطر، وغيرهم من كرام أهل الفضل والشهامة.
وكشفت _أيضاً_ أن طباعة هذه الكتب كانت غالباً في مصر والشام والهند.
6_ ذِكْرُ ما لقي كلُّ واحدٍ منهما من أعداء الإصلاح والوشاة، وسؤال كل منهما عن الآخر، والاطمئنان على صحته وأحواله، ومواساته فيما أصابه من حوادث الزمان، مما يدل على حسن الصلة الأخوية والرابطة العقدية، يقول القاسمي في إحدى رسائله معزياً الألوسي في أحد أعمامه: "كدَّرنا وأيم الحق نبأ انتقال سيادة العم المعظم، فعوضه الله الجنة، وسلم آله وأنجاله، وسلَّم سيادة مولانا لهم ولنا وللمحبين".
ويقول الألوسي ردّاً على تعزية القاسمي: "تلقيت اليوم كتابكم الكريم، وقد اشتمل على ما جُبِلْتُم عليه من المودة الحقيقية، ولا شك أن المودة في الله بين الإخوان تشاركهم في المسرات والاحزان، وتساهمهم في حالتي الرجاء واللأواء".
7_ السؤال عن الإخوان والأصحاب كالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبدالرزاق البيطار، والشيخ علي بن نعمان الألوسي، وغيرهم من تلك الصحبة الناصرة للإصلاح والدين.
8_ التوجع لأحوال المسلمين وبلادهم، وتقهقرهم، وانتصار الأعداء عليهم، يقول الألوسي في إحدى رسائله إلى القاسمي: "هذا، والمُخْلِصُ مضطرب البال، ضيق الصدر جداً جداً مما حل ببلاد المسلمين من البلاء، واستيلاء الكفار عليها؛ فما ندري ماذا نعمل وقد أحاط الكفر بجميع بلاد المسلمين؟ وأصبحت على خطر عظيم".
ويقول القاسمي مجيباً بمثل كلام صاحبه الألوسي: "همومنا لِما نزل بالمسلمين أجمَدَ _والله_ منا الأفكار والأقلام، وأراني في تفرقٍ وتلاشٍ، وحالة لا توصف، فرَّج المولى عنا بفضله وكرمه".
9_ ثناء الألوسي على مؤلفات القاسمي التي تصله منه كقوله عن كتابه "الفتوى في الإسلام": "رأيته مشحوناً بالفوائد، مملوءاً من غُرر العوائد، كأنه سبيكة عَسْجَدٍ، أو درٌ مُنَضَّدٌ".
وثناء القاسمي على جهود الألوسي كقوله عن كتابه "غاية الأماني": "فالحمد لله على نعمة هذا الكتاب، وجزى الله سيدنا عنه خير ما جزى أولياءه وأحباءه؛ إنه الكريم الوهاب، ولا زالت مآثره تتلى وتنشر".
10_ الحرص الأكيد على ردِّ الجواب من كل منهما مع الاحتفاء بهذه الرسائل والعناية بها؛ فإن رسائل الألوسي التي كانت تصل إلى القاسمي يطلع عليها أصحابه وتلاميذه.
يقول الأديب الكبير عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي بدمشق، وأمين سره، وأحد تلامذة القاسمي النُّبغاء: "كان الشيخ محمود شكري الألوسي صديق شيخنا الجمال القاسمي الحميم، وكان شيخنا الإمام _يعني القاسمي_ يقرأ لنا الرسائل الألوسية؛ لنستفيد من أسلوب كتابتها، ومما تشتمل عليه من طرائف العلم والأدب، فعلقت محبة الألوسي بقلوبنا...".
ومما يدل على حرص القاسمي على رسائل صاحبه الألوسي أنه كان قد قسمها إلى مجموعتين، كل مجموعة أفردها بالتجليد في مجلد صغير يحمل عنوان رسائل الألوسي.
أما اهتمام الألوسي برسائل القاسمي فإنه لا يقل عن اهتمام القاسمي برسائله؛ فقد ألَّف الألوسي كتاباً بعنوان: "رياض النَّاظرين في مراسلات المعاصرين" ذكر فيه من راسله من علماء وأدباء عصره، وقد أودع فيه جميع رسائل القاسمي إليه، ولولا هذا الصنيع لما وقفنا على رسائل القاسمي هذه؛ فما أجمل ما عمل كل منهما، ولو أن كل عالم كان يصنع مثل هذا الصنيع لما فاتنا كثير من هذه الفوائد الغالية.
هذه إلماعة سريعة، وعجالة لطيفة حول محتوى هذه الرسائل، وما فيها من طرائف علمية.
وليس المقصود ههنا إعطاء القارئ صورة لهذا الكتاب، وما يتضمن من فوائد، وإنما هو ما نحن بصدده من عنوان هذه الكلمة.
فأنت حين تقرأ هذه المكاتبات، وترى ما فيها من الحفاوة البالغة، والتواصل المستمر، والود الذي هو أحلى من الفرات، وأصفى من بَرَدَى يصفِّق بالرحيق السلسل _ تظن أن القاسمي والألوسي رضيعا لبان، وأنهما دوماً يلتقيان ولا يفترقان؛ فإذا بك تفاجأ بأنهما فارقا الدنيا، ولم يحصل بينهما لقاء، وإنما هي مراسلات، ومحبة في الغيب فحسب!
ولك أن تسأل: كيف نشأت تلك المحبة الخالصة؟ وكيف حصل ذلك التعاون بين اثنين لم ير أحدهما صاحبه؟ وما الذي جعل تلك العلاقة تزداد مع الأيام قوة ووثاقة؟
والجواب: أن السبب في ذلك حَمَّالةُ وردٍ، ورسول ودٍّ، وواسطةُ عِقْدٍ حرص كل الحرص على ربط ذلك العلامة بِتِرْبِه وأخيه في العلم.
ذلكم هو تلميذ لهما اسمه الشيخ عبدالعزيز السناني النجدي من أهالي عنيزة في منطقة القصيم المقيم في بغداد؛ فإنه كان يراسل العلامة القاسمي، ويخبره عن قرينه في العلم والأدب العلامة الألوسي، ويبلغه تحياته، وأشواقه، وأخباره العلمية؛ حتى عَلِقَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه بسبب ذلك التلميذ البار النجيب ذي النفس الكريمة، والأفق الواسع.
ولما توفي التلميذ السناني سنة 1326هـ بدأت المكاتبات بين القاسمي والألوسي مباشرة بعد أن كان ذلك التلميذ هو الواسطة.
يقول القاسمي -رحمه الله- في أول رسالة: "أما وقد مضى الشيخ _يعني السناني_ إلى رحمة الله فلم يبق إلا التواصل مع السيد أطال المولى بقاءه".
وقد كانت هذه الرسالة في السابع عشر من شوال سنة 1326هـ مع هدية من القاسمي وهي كتابه "دلائل التوحيد".
وقد أجابه الألوسي عن رسالته في السنة نفسها في غرة ذي الحجة، فأثنى عليه، وعلى كتابه "دلائل التوحيد" ثناءً عاطراً، مما كان له أطيب الأثر في نفس القاسمي الذي كتب في مذكراته الخاصة لسنة 1326هـ في 27 ذي الحجة ما يلي: "اليوم ورد من بغداد كتاب من العلامة شكري أفندي الألوسي أَشَفَّ عن فضل، وكمال، وصدق محبة، وروحانية، وقد أسهب في تقريظ كتاب دلائل التوحيد، فجزاه المولى خير الجزاء".
فهذه بداية المراسلة بينهما، وقد استمرت إلى أن فارق القاسمي الحياة سنة 1332هـ ولم يبلغ الخمسين من عمره حيث ولد عام 1283هـ.
أما الألوسي فقد توفي في الرابع من شوال عام 1342هـ.
ثم استمرت تلك العلاقة بين تلامذتهما إلى يومنا هذا.
ولعل أبرز تلك العلاقات ما كان بين العلامتين: الشيخ محمد بهجة البيطار تلميذ القاسمي، والشيخ محمد بهجة الأثري تلميذ الألوسي _رحمهم الله جميعاً_.
والشاهد من هذا كله بيان بركة ذلك الطالب النجيب الشيخ عبدالعزيز السناني الذي جمع الله به قلبي الألوسي والقاسمي، فكان من ثمرة ذلك خيرٌ عظيم ساقه الله للعلامتين، وللأمة.
فما أحوجنا إلى ذلك الطراز من طلبة العلم ممن يجمعون القلوب، ويؤلفون بين الناس، ويقربون العلماء إلى بعض، وينفون عن قلوبهم ما قد يشوبها من الوحشة والقطيعة، وينقلون إليهم ومنهم الأخبارَ الطيبةَ التي تجمع وتؤلف، ويحملون منهم وإليهم السلام، والكلمات التي تَحْمِل ثناءَ بعضهم على بعض، ويغضون الطَّرْفَ عن الكلمات أو الآراء التي قَدْ تُحْدِثُ نُفْرَةً أو شرخاً في المودة.
وإنك إذا تأملتَ في حال الأمة، وما يكون من القطيعة بين بعض أهل العلم _ وجَدْتَ أنه يرجع إلى أسباب كثيرة، وقد يكون من أبرزها التفريط بهذا الأصل، وقلة المبالاة بتلك المبادرات التي نحسبها يسيرة، وهي عظيمة الوقع، عميمة النفع.
فأجدر بطلاب العلم، أن يتحلوا بهذا الوصف، وأن يبذلوا قصارى جهدهم للتمثل به، حتى يؤدوا ثمرة العلم، ويكونوا حمالة ورد لا حمالة حطب.
وأخلق بهم أن ينأوا عن كل ما يسبب الفتنة والفرقة، وإيغار الصدور، وتأليب بعض الناس على بعض.
فإذا هدأت النفوس، وانطوت القلوب على المحبة والوئام _ كان من آثار ذلك زيادة العلم والإيمان، والارتقاء بالأخلاق، والأعمال.
وهكذا يكون طلاب العلم مصابيحَ دجىً، وأعلامَ هدىً تؤتي علومُهم، وأخلاقُهم أُكُلَها أضعافاً مضاعفة.[/align]
[align=justify]اطلعت على كتاب بعنوان: "الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الألوسي" جمع وتحقيق أخينا المحقق الكبير الشيخ محمد بن ناصر العجمي _حفظه الله_.
وهذه الرسائل تحتوي على فوائد، وغرر، وتتضمن أموراً أشار إليها جامعها ومحققها في مقدمته، ومنها:
1_ التواصي بالحق والدعوة إليه، ونصرة دين الله _عز وجل_ والتشاور في مسائل العلم.
2_ اشتمال ديباجةِ كلِّ رسالة من رسائلهما على معرفة قدر كل واحد منهما للآخر، ومدحه والثناء عليه بما هو أهله، مع كمال الأدب والاحترام، وذلك في أسلوب جزل، وبيان حسن، مطرز بالسجع والمحسنات البديعية، وهي تصور ما كانوا عليه من صفاء الود، واتحاد الآراء، ولو نأت الديار.
3_ السؤال بإلحاح عن كتب ورسائل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية-رحمه الله- وتتبع مخطوطاتها، والسعي الحثيث في محاولة نشرها ونسخها والاعتناء بها.
بل إن بداية المراسلات بينهما كانت مبنية على ذلك.
وقد كشفت هذه الرسائل أن القاسمي والألوسي كان لهما دور كبير في نشر عدد ليس بالقليل من كتب شيخ الإسلام، يقول القاسمي في إحدى رسائله مخاطباً الألوسي: "ولا أحد ينسى لمولانا حرسه الله من المقام المحمود في هذا المجال _يعني نشر كتب ابن تيمية_ وسعيه الليل والنهار محتسباً وجه المتعال، وسيخلد له التاريخ لسان صدق يرتاح له أنصار الفضل، ورجال الحق".
ويقول _أيضاً_ في إحدى رسائله: "لا أقدر أن أعبر عن السرور الذي داخلني من اهتمامكم بنشر آثار شيخ الإسلام، فجزاكم الله عن هذا السعي خير الجزاء".
ويقول _أيضاً_ في رسالة أخرى له: "وإنما المهم نسخ آثار شيخ الإسلام التي في الخزانة، وتتبع المهم منها....".
4_ المذاكرة في الكتب عموماً، ونوادرها، وما نشر منها، وما لم ينشر، والحث على طباعة الكتب التي تنفع الأمة، وتنور أفكارها، وتنبهها إلى طريق الحق والصراط المستقيم، وأنه من الواجب الإصلاح العلمي إذا كان قد فات الإصلاح السياسي.
5_ كشفت هذه المراسلات عن صفحة مشرقة لمن يقوم بتمويل وطباعة هذه الكتب والإنفاق عليها من محبي كتب السلف، كالشيخ الوجيه محمد نصيف من جدَّة ثغر مكة المحروسة، والوجيه فخر التُّجار مقبل بن عبدالرحمن الذكير النجدي، والشيخ قاسم آل ثاني أحد أمراء قطر، وغيرهم من كرام أهل الفضل والشهامة.
وكشفت _أيضاً_ أن طباعة هذه الكتب كانت غالباً في مصر والشام والهند.
6_ ذِكْرُ ما لقي كلُّ واحدٍ منهما من أعداء الإصلاح والوشاة، وسؤال كل منهما عن الآخر، والاطمئنان على صحته وأحواله، ومواساته فيما أصابه من حوادث الزمان، مما يدل على حسن الصلة الأخوية والرابطة العقدية، يقول القاسمي في إحدى رسائله معزياً الألوسي في أحد أعمامه: "كدَّرنا وأيم الحق نبأ انتقال سيادة العم المعظم، فعوضه الله الجنة، وسلم آله وأنجاله، وسلَّم سيادة مولانا لهم ولنا وللمحبين".
ويقول الألوسي ردّاً على تعزية القاسمي: "تلقيت اليوم كتابكم الكريم، وقد اشتمل على ما جُبِلْتُم عليه من المودة الحقيقية، ولا شك أن المودة في الله بين الإخوان تشاركهم في المسرات والاحزان، وتساهمهم في حالتي الرجاء واللأواء".
7_ السؤال عن الإخوان والأصحاب كالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبدالرزاق البيطار، والشيخ علي بن نعمان الألوسي، وغيرهم من تلك الصحبة الناصرة للإصلاح والدين.
8_ التوجع لأحوال المسلمين وبلادهم، وتقهقرهم، وانتصار الأعداء عليهم، يقول الألوسي في إحدى رسائله إلى القاسمي: "هذا، والمُخْلِصُ مضطرب البال، ضيق الصدر جداً جداً مما حل ببلاد المسلمين من البلاء، واستيلاء الكفار عليها؛ فما ندري ماذا نعمل وقد أحاط الكفر بجميع بلاد المسلمين؟ وأصبحت على خطر عظيم".
ويقول القاسمي مجيباً بمثل كلام صاحبه الألوسي: "همومنا لِما نزل بالمسلمين أجمَدَ _والله_ منا الأفكار والأقلام، وأراني في تفرقٍ وتلاشٍ، وحالة لا توصف، فرَّج المولى عنا بفضله وكرمه".
9_ ثناء الألوسي على مؤلفات القاسمي التي تصله منه كقوله عن كتابه "الفتوى في الإسلام": "رأيته مشحوناً بالفوائد، مملوءاً من غُرر العوائد، كأنه سبيكة عَسْجَدٍ، أو درٌ مُنَضَّدٌ".
وثناء القاسمي على جهود الألوسي كقوله عن كتابه "غاية الأماني": "فالحمد لله على نعمة هذا الكتاب، وجزى الله سيدنا عنه خير ما جزى أولياءه وأحباءه؛ إنه الكريم الوهاب، ولا زالت مآثره تتلى وتنشر".
10_ الحرص الأكيد على ردِّ الجواب من كل منهما مع الاحتفاء بهذه الرسائل والعناية بها؛ فإن رسائل الألوسي التي كانت تصل إلى القاسمي يطلع عليها أصحابه وتلاميذه.
يقول الأديب الكبير عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي بدمشق، وأمين سره، وأحد تلامذة القاسمي النُّبغاء: "كان الشيخ محمود شكري الألوسي صديق شيخنا الجمال القاسمي الحميم، وكان شيخنا الإمام _يعني القاسمي_ يقرأ لنا الرسائل الألوسية؛ لنستفيد من أسلوب كتابتها، ومما تشتمل عليه من طرائف العلم والأدب، فعلقت محبة الألوسي بقلوبنا...".
ومما يدل على حرص القاسمي على رسائل صاحبه الألوسي أنه كان قد قسمها إلى مجموعتين، كل مجموعة أفردها بالتجليد في مجلد صغير يحمل عنوان رسائل الألوسي.
أما اهتمام الألوسي برسائل القاسمي فإنه لا يقل عن اهتمام القاسمي برسائله؛ فقد ألَّف الألوسي كتاباً بعنوان: "رياض النَّاظرين في مراسلات المعاصرين" ذكر فيه من راسله من علماء وأدباء عصره، وقد أودع فيه جميع رسائل القاسمي إليه، ولولا هذا الصنيع لما وقفنا على رسائل القاسمي هذه؛ فما أجمل ما عمل كل منهما، ولو أن كل عالم كان يصنع مثل هذا الصنيع لما فاتنا كثير من هذه الفوائد الغالية.
هذه إلماعة سريعة، وعجالة لطيفة حول محتوى هذه الرسائل، وما فيها من طرائف علمية.
وليس المقصود ههنا إعطاء القارئ صورة لهذا الكتاب، وما يتضمن من فوائد، وإنما هو ما نحن بصدده من عنوان هذه الكلمة.
فأنت حين تقرأ هذه المكاتبات، وترى ما فيها من الحفاوة البالغة، والتواصل المستمر، والود الذي هو أحلى من الفرات، وأصفى من بَرَدَى يصفِّق بالرحيق السلسل _ تظن أن القاسمي والألوسي رضيعا لبان، وأنهما دوماً يلتقيان ولا يفترقان؛ فإذا بك تفاجأ بأنهما فارقا الدنيا، ولم يحصل بينهما لقاء، وإنما هي مراسلات، ومحبة في الغيب فحسب!
ولك أن تسأل: كيف نشأت تلك المحبة الخالصة؟ وكيف حصل ذلك التعاون بين اثنين لم ير أحدهما صاحبه؟ وما الذي جعل تلك العلاقة تزداد مع الأيام قوة ووثاقة؟
والجواب: أن السبب في ذلك حَمَّالةُ وردٍ، ورسول ودٍّ، وواسطةُ عِقْدٍ حرص كل الحرص على ربط ذلك العلامة بِتِرْبِه وأخيه في العلم.
ذلكم هو تلميذ لهما اسمه الشيخ عبدالعزيز السناني النجدي من أهالي عنيزة في منطقة القصيم المقيم في بغداد؛ فإنه كان يراسل العلامة القاسمي، ويخبره عن قرينه في العلم والأدب العلامة الألوسي، ويبلغه تحياته، وأشواقه، وأخباره العلمية؛ حتى عَلِقَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه بسبب ذلك التلميذ البار النجيب ذي النفس الكريمة، والأفق الواسع.
ولما توفي التلميذ السناني سنة 1326هـ بدأت المكاتبات بين القاسمي والألوسي مباشرة بعد أن كان ذلك التلميذ هو الواسطة.
يقول القاسمي -رحمه الله- في أول رسالة: "أما وقد مضى الشيخ _يعني السناني_ إلى رحمة الله فلم يبق إلا التواصل مع السيد أطال المولى بقاءه".
وقد كانت هذه الرسالة في السابع عشر من شوال سنة 1326هـ مع هدية من القاسمي وهي كتابه "دلائل التوحيد".
وقد أجابه الألوسي عن رسالته في السنة نفسها في غرة ذي الحجة، فأثنى عليه، وعلى كتابه "دلائل التوحيد" ثناءً عاطراً، مما كان له أطيب الأثر في نفس القاسمي الذي كتب في مذكراته الخاصة لسنة 1326هـ في 27 ذي الحجة ما يلي: "اليوم ورد من بغداد كتاب من العلامة شكري أفندي الألوسي أَشَفَّ عن فضل، وكمال، وصدق محبة، وروحانية، وقد أسهب في تقريظ كتاب دلائل التوحيد، فجزاه المولى خير الجزاء".
فهذه بداية المراسلة بينهما، وقد استمرت إلى أن فارق القاسمي الحياة سنة 1332هـ ولم يبلغ الخمسين من عمره حيث ولد عام 1283هـ.
أما الألوسي فقد توفي في الرابع من شوال عام 1342هـ.
ثم استمرت تلك العلاقة بين تلامذتهما إلى يومنا هذا.
ولعل أبرز تلك العلاقات ما كان بين العلامتين: الشيخ محمد بهجة البيطار تلميذ القاسمي، والشيخ محمد بهجة الأثري تلميذ الألوسي _رحمهم الله جميعاً_.
والشاهد من هذا كله بيان بركة ذلك الطالب النجيب الشيخ عبدالعزيز السناني الذي جمع الله به قلبي الألوسي والقاسمي، فكان من ثمرة ذلك خيرٌ عظيم ساقه الله للعلامتين، وللأمة.
فما أحوجنا إلى ذلك الطراز من طلبة العلم ممن يجمعون القلوب، ويؤلفون بين الناس، ويقربون العلماء إلى بعض، وينفون عن قلوبهم ما قد يشوبها من الوحشة والقطيعة، وينقلون إليهم ومنهم الأخبارَ الطيبةَ التي تجمع وتؤلف، ويحملون منهم وإليهم السلام، والكلمات التي تَحْمِل ثناءَ بعضهم على بعض، ويغضون الطَّرْفَ عن الكلمات أو الآراء التي قَدْ تُحْدِثُ نُفْرَةً أو شرخاً في المودة.
وإنك إذا تأملتَ في حال الأمة، وما يكون من القطيعة بين بعض أهل العلم _ وجَدْتَ أنه يرجع إلى أسباب كثيرة، وقد يكون من أبرزها التفريط بهذا الأصل، وقلة المبالاة بتلك المبادرات التي نحسبها يسيرة، وهي عظيمة الوقع، عميمة النفع.
فأجدر بطلاب العلم، أن يتحلوا بهذا الوصف، وأن يبذلوا قصارى جهدهم للتمثل به، حتى يؤدوا ثمرة العلم، ويكونوا حمالة ورد لا حمالة حطب.
وأخلق بهم أن ينأوا عن كل ما يسبب الفتنة والفرقة، وإيغار الصدور، وتأليب بعض الناس على بعض.
فإذا هدأت النفوس، وانطوت القلوب على المحبة والوئام _ كان من آثار ذلك زيادة العلم والإيمان، والارتقاء بالأخلاق، والأعمال.
وهكذا يكون طلاب العلم مصابيحَ دجىً، وأعلامَ هدىً تؤتي علومُهم، وأخلاقُهم أُكُلَها أضعافاً مضاعفة.[/align]