حمل كتاب "الاسرائيليات فى التفسير و الحديث" للشيخ محمد حسين الذهبى pdf

إنضم
20 مايو 2003
المشاركات
33
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
كتاب "الاسرائيليات فى التفسير و الحديث" للشيخ محمد حسين الذهبى
الحجم 14 ميجا
pdf
عدد الصفحات : 176
http://www.ahlalhdeeth.com/twealib/Zahabi.pdf

هذا الكتاب جزء من "المشروع الجديد فى عالم نشر كتب العلم الشرعى على الانترنت" على الرابط
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=23249

---------------------------------------

للفائده:

كتاب التفسير و المفسرون - د. محمد حسين الذهبى pdf

د. محمد حسين الذهبى - التفسير و المفسرون - الجزء الاول
348 صفحه - 26 ميجا
http://www.ahlalhdeeth.com/twealib/mofaseroon1.rar

د. محمد حسين الذهبى - التفسير و المفسرون - الجزء الثانى
465 صفحه - 36 ميجا
http://www.ahlalhdeeth.com/twealib/mofaseroon2.rar

د. محمد حسين الذهبى - التفسير و المفسرون - الجزء الثالث
240 صفحه - 21 ميجا
http://www.ahlalhdeeth.com/twealib/mofaseroon3.rar
 
الإِسْرَائِلِيَّاتُ فِي التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ_للأستاذ الدكتور مُحمد السيد حسين الذهبي،،

الإِسْرَائِلِيَّاتُ فِي التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ_للأستاذ الدكتور مُحمد السيد حسين الذهبي،،

السلام عليكم

بارك الله فيك وجزاك الله خيرًا.​


____________

بسم1
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

كتاب "الإسرائيليّات في التفسير والحديث" الجزء الأخير - من ملاحق مجلة الأزهر المجانية لشهر جمادي الأولى سنة 1429هـ، للأستاذ الدكتور محمد السيد حسين الذهبي -رحمه الله- (وزير الأوقاف سابقًا "أمين عام مجمع البحوث الإسلامية الأسبق آنذاك").

___

الفصل الثالث
الإسرائيليات في كتتب التفسير والحديث

أولًا_الإسرائيليات في كتب التفسير:
إذا نحنُ تتبّعنا كُتب التفسير على اختلاف مناهجها، وتباين مشاربها؛ وجدنا الكثير منها يذكر أصحابها في مقدمتها مناهجهم التي نهجوها في تفاسيرهم، ووجدنا طائفة منهم غير قليلة تذكر فيما تذكر من منهجها: أنها سوف تضرب صفحًا عن ذكر الإسرائيليَّات في تفسيرها، ومع ذلك نرى غالب هؤلاء الذي وعدوا بنبذ الإسرائيليّات وعدم إقحامها في تفاسيرهم يتورطون في ذكرها، لا ليُحذِّروا منها، ولا ليُنبِّهوا على كذبها، وإنما يذكرونها -وكأنها وقائق صادقة وحقائق مُسلّمة- بلا نقد لها، وبغير أسانيدها التي تُيسِّر لمن ينظر فيها معرفة صدقها من كذبها.
بل لا أكون مُبالغًا، ولا متجاوزًا حد الصدق إن قلتُ: إن كتب التفسير كلها قد انزلق مؤلِّفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات، وإن كان ذلك يتفاوت قِلَّة وكثرة، وتعقيبًا عليها وسكوتًا عنها.

وإذا ما أردنا أن نُنوِّعَ كتب التفسير على حسب مناهجها، في رواية الإسرائيليات، وسكوتها عنها أو نقدها لها، لوجدناها أنواعًا مُختلفة:
1- فمنها كتب تعرض للإسرائيليات فيذكر فيها مؤلفوها كل ما عندهم منها مقبولًا كان أم غير مقبول، ولكنهم يسندون ما يُروى من ذلك إلى رواته إسنادًا تامًّا، تاركين لقارئيها والناظرين فيها -غالبًا- مُهمِّة نقدها، عملًا بالقاعدة المُقررة لدى علماء الحديث ’’من أسند لك فقد أحالك‘‘.
2- ومنها كتب تعرض للإسرائيليات فترويها بأسانيدها، ولكن لا يكتفي أصحاب هذه الكتب بذكر الأسانيد خروجًا من العُهدة؛ بل إنهم يتعقَّبون ما يرونه منها بالنقد الذي يكشف عن حقيقتها وقيمتها؛ لأنهم يرون من تمام الخروج من العهدة أن ينقدوها بأنفسهم نقدًا صريحًا؛ لأن في الناس من لا يعرف أساليب نقد الرواية فلا ينفعه ذكر الإسناد وحده ولا يُفيده، وإنما ينفعه ويُفيده النقد الصريح ممن لهم القدرة على النقد.
3- ومنها كتب تذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة، ولا تستند شيئًا من ذلك مطلقًا، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل، كأنَّما كل ما يذكر فيها من ذلك مُسلَّمٌ لدى أصحابها رُغم ما في بعضها من سُخف ظاهر، يصل أحيانًا إلى درجة الهذيان! وأحيانًا أخرى يصل إلى خطل الرأي وفساد العقيدة!
4- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تسندها، ولكنها -أحيانًا- تُشير إلى ضعف ما ترويه بذكره بصيغة التمريذ (قيل) -(رُوي)، (حُكي)..-، وأحيانًا تُصرِّح بعدم صحِّته، وأحيانًا تروي ما تروي من ذلك ثم تمرُّ عليه دون أن تنقده بكلمة واحدة على ما في بعض ذلك من باطل يصل أحيانًا إلى حد القدح في الأنبياء ونفي العِصمة عنهم.
5- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تُسندها، وهي حين تذكرها لا تقصد -في الأعم الأغلب- إلا بيان ما فيها من زيفٍ وباطل وكأنها نظر أصحاب هذه الكُتب في تفاسير من سبقهم فنقلوا عنها بعض ما فيها ليُنبِّهُوا على خطئِهِ وفسادهِ، حتى لا يغترّ به من ينظرون في هذه الكتب ويرون لأصحابها من المكانة العلميَّة ما يجعلهم يصدقون كل ما جاء فيها.
6- ومنها كتب وجدنا أصحابها يحملون حملة شعواء على من سبقهم من المفسرين الذين تطرقوا في تفاسيرهم إلى الإسرائيليات، ويأخذهم الحماس -أحيانًا- إلى حدِّ النيل منهم وممن نسبوا إليه هذه الإسرائيليات، ولو كان من خيار الصحابة أو التابعين، ومع ذلك نجده -أحيانًا كثيرة- ينزلق هو أيضًا إلى رواية الإسرائيليات كما انزلق إليها غيره، وبدون تعليق عليها كأنما يرى مصدره الذي أخذ عنه واستمد منه، صادقًا لا يكذب، وصحيحًا لم تصل إليه يد التحريف والتبديل.

ولا نُريد أن نعرض لكل كُتب التفسير في كل نوع من هذه الأنواع، فذلك أمر يطول بنا، وإنما يكفينا أن نذكر كتابًا أو كتابين في كل منها كمثال يعطينها فكرة واضحة عن الكتاب وعن مؤلِّفه، حتى نكون على بيّنة من أمرهما.​

___

تفسير مُحمد بن جرير الطبري(*) - المُسمَّى "جامع البيان في تفسير القرآن"
(*)هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام الجليل صاحب التفسير والتاريخ، وُلِدَ سنة 224هـ، وتُوفِّيَ سنة 310هـ - انظر ترجمته في وفيَّات الأعيان، ومعجم الأدباء (المترجم)، وطبقات الشافعيّة الكبرى.​
وهو من أشهر الكُتب التي تذكر الإسرائيليات بأسانيدها ولا تنقد ما ترويه إلا قليلًا.
وهو تفسير بالمأثور، وفيه نجد ابن جرير يروي كثيرًا من الأخبار والقصص الإسرائيليَّة مُسنِدًا إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جُريج وغيرهم من مسلمة أهل الكتاب.
وإذا رجعنا إلى أسانيد ابن جرير في تفسيره؛ نَجِدُ بعضها يلفت النظر ويسترعى الانتباه؛ فمن ذلك هذا الإسناد الذي يسوقه فيقول:
"حدثني ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي عتاب: رجل من تغلب، كان نصرانيًّا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن، وفقه في الدين، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيًّا أربعين سنة، ثم عمَّر في الإسلام أربعين سنة..." ثم يروي عن هذا الرجل النصراني الأصل خبرًا عن بني إسرائيل عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(7) من سورة الإسراء:
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}
فيقول:
"كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيًّا بعثه الله إليهم، فقال لهم: يا بَني إسرائيل، إن الله يقول لكم إني قد سلبت أصواتكم وأبغضتكم بكثرة أحداثكم، فهموا به ليقتلوه؛ فقال الله تبارك وتعالى له: ائتهم واضرب لي ولهم مثلًا، فقل لهم: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: اقضوا بيني وبين كرمي. ألم اختر له البلاد، وطيبت له المدرة، وحظرته بالسياج، وعرشته السويق، والشوك والسياج، والعوسج وأحطته بردائي، ومنعته من العالم، وفضلته، فلقيني بالشوك والجزوع وكل جشرة لا تؤكل؟ ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيبت المدرة، ولا حظرته بالسياج، ولا عرشته بالسويق، ولا حطته بردائي، ولا منعته من العالم. فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي، ثم استقبلتموني بكل ما أكره من معصيتي وخلاف أمري، لمه؟ إن الحمار ليعرف مدوده، لمه؟ إن البقرة لتعرف سيدها، وقد حلفت بعزتي العزيزة، وبذراعي الشديد، لآخذن ردائي ولأمرجن الحائط، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم. قال: فوثبوا على نبيهم فقتلوه. فضرب الله عليهم الذلّ، ونزع منهم المُلك، فليسوا في أمة من الأُمم إلا وعليهم ذل وصغار، وجزية يؤدونها، والمُلك في غيرهم من الناس، فلن يزالوا كذلك أبدًا ما كانوا على ما هم عليه" تفسير ابن جرير جـ15 ص33_ 34، ط الأميرية.
ومن الأسانيد التي تلفت النظر أيضًا هذا الإسناد الذي يسوقه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(94) من سورة الكهف:
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية.
"حدثنا ابن حُميد، قال حدَّثنا سَلَمَة، قال: حدثنا مُحمد بن إسحق، قال: حدثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين: أن ذا القرنين كان رجلًا من أهل مصر، اسمه: مرزبا بن مردبة اليوناني من ولد بوتن بن يافث بن نوح" تفسير ابن جرير جـ16 ص14.
مثل هذا الإسناد والذي قبله يعطينا فكرة عن ابن جرير وهو أنه كات يهتمّ بأن يكون مصدره في رواية الإسرائيليات من بين من لهم علم بها ومعرفة. فهو لهذا يُنبِّه على أن مصدره الذي ينسب إليه ما يروي، رجل من أهل الكتاب الذين يسوقون أحاديث الأعاجم، أو فلان الذي كان نصرانيًّا عمرًا من دهره ثم أسلم. أما من هو الرجل؛ فذلك ما يسكت عنه في الرواية الثانية، وأما ما وزنه في باب الرواية؟ وهل هو ثقة أو غير ثقة؟ فذلك ما يُمسك عنه في الروايتين تبعًا لابن إسحق وكلاهما مؤرِّخ، والمؤرخ ينقل الأخبار على ما حُكيت له، وقلَّما يعنيه أن يحققها أو يُبيِّن قيمتها، وإذا كان هذا سائغًا في التاريخ فلا أعتقد أنه سائغ في التفسير الذي يجب أن تتحرى فيه الحقائق والوقائع الصادقة.
وابن جرير يروي في تفسيره غرائب كثيرة ثم لا يتعقبها بنقد، اكتفاءً بذكر أسانيدها، ومن هذه الغرائب التي لا يتعقبها بنقد، ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(38) من سورة هود:
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
فقد قال:
"حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحُسين، قال: حدثني حجَّاج، عن مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلًا يشهد السفينة فحدثنا عنها قال: فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفِّه قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كعب حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه، قال: قُم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت! قال: لا، ولكن مت وأنا شاب، ولكني ظننتُ أنها الساعة، ثمن ثم شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح: أن اغمز ذَنَب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر بحبل السفينة يقرضه، أوحى الله إلى نوح: أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر. فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها، فعلم أن البلاد قد غرقت. قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أُنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت، قال: فقلنا: يا رسول الله، ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، قال: فعاد تُرابًا" تفسير ابن جرير جـ12 ص22.
وابن جرير يروي في تفسيره أباطيل كثيرة، يردها الشرع ولا يقبلها العقل ثم هو لا يُعقِّبُ عليها بما يُفيد بطلانها اكتفاءً بذكر أسانيدها كما قلنا، ومن هذه الأباطيل التي يرويها ولا ينقدها؛ قصة صخر المارد التي لو صحَّت لكان معناها حطم مقام نبوة سلمان عليه السلام، وقد ذكر ابن جرير هذه القصة عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(34) من سورة ص~:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى? كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}
فقال: "حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى? كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قال: حدثنا قتادة: أن سليمان أمر ببناء بيت المقدس، فقيل له: ابنِهِ ولا يسمع فيه صوت حديد، قال: فطلب ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطانًا في البحر يُقال له صخر المارد، قال: فطلبه، وكانت عين في البحر يردها في كل سبعة أيام مرة، فنزح ماؤها، وجعل فيها خمر، فجاء يوم وروده، فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك صبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلًا، قال: ثم رجل حتى عطش عطشًا شديدًا ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلًا، قال: ثم شربها حتى غلبت على عقله، قال: فأرى الخاتم، أو ختم به بين كتفيه فذل، قال: فكان ملكه في خاتمه، فأتى به سليمان فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت، وقيل لنا: لا يسمعن فيه صوت حديد قال: فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد فدار حولها، يرى بيضه ولا يقدر عليه، فجاء بالماس فوضعه عليه، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه، فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخله بخاتمه، فانطلق يومًا إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه، قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه في البحر فاتقمته سمكة، ونزع ملك سليمان منه، فألقى على الشيطان شبه سليمان، قال: فجاء فقعد على كرسيه وسريره، وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه، قال: فجعل يقضي بينهم، وجعلوا يُنكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فُتن نبي الله، وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: والله لأجربنه، قال: فقال له: يا نبي الله -وهو لا يرى إلا أنه نبي الله- أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيدع الغسل عمدًا حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأسًا؟ قال: لا، فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة، فأقبل، فجعل لا يستقبله جني إلا سجد له، حتى انتهى إليهم: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى? كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قال: "هو الشيطان صخر" اهـ. تفسير الطبري جـ23 ص101 ط الأميرية.
هذه القصة واضح كل الوضوح أنها كذب وافتراء، فمُحال أن يلقى الله شبه سليمان عليه السلام على شيطان فيلبس على الناس أمر نبيهم، ومُحال أن يمكن الله شيطانًا من التسلط على مُلك سليمان فيتحكم فيه كيف شاء، وما لنا نذهب في تفسير الآية إلى هذه القصة التي لا أصل لها وقد روى البُخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُمكن أن تحمل الآية عليه من غير أن نقول زورًا أو نرتكب محظورًا؟ روى البخاري في كتاب الجهاد_باب طلب الولد للجاهد جـ4 ص22 ط الخيرية؛ بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يُجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون). انتهى.
ومن هذا القبيل الذي يزري بالأنبياء عليهم السلام ويُشكِّك في نبوتهم ما رواه ابن جرير عند تفسيره لقول الله تعالى في الآية(8) من سورة مريم:
{قَالَ رَبِّ أَنَّى? يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}
قال:
"حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: نادى جبرائيل زكريا: إن الله يُبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا، فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحى إليك غيره من الأمر، فشكّ وقال: أنى يكون لي غلام" اهـ. تفسير ابن جرير جـ16 ص39.
وليس يخفى أن ما ذكره السدي باطل لا أصل له؛ لأنه لا يجوز على نبي -مطلقًا- أن يشك فيما يوحى به إليه، وإلا لذهبت الثقة فيه وفيما يدعيه وحيًا.
ثم أنى يكون للشيطان سلطان على قلب زكريا عليه السلام، والله تعالى يقول:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}
(الحجر: 42)​
ألم يكن زكريا من عباد الله؟ أم كان منهم ولكنه من الغاوين؟ معاذ الله أن يكون إلا عبدًا نبيًا معصومًا من الشيطان وخداعه.
أما قول زكريا: {أَنَّى? يَكُونُ لِي غُلَامٌ} فقول يُراد به التعجّب لا الشكّ.. التعجب من أن يُولد له، وامرأته عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيًّا، وتلك حالة لا يكون معها ولادة في العادة، ومن أجل ذلك تعجب فقال هذه المقالة، ومن أجله أيضًا تعجبت زوجه سارة فقالت كما حكى القرآن عنها:
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى? أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَ?ذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَ?ذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (هود: 72).
ولذلك كان رد الملائكة عليها:
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود: 73).
وكان رد الله على زكريا:
{قَالَ كَذَ?لِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (مريم: 9).
وواضحٌ كل الوضوح أن هذا رد على ما كان منه من تعجّب واستغراب ولو كان زكريا عليه السلام شاكًّا كما تقول الرواية الإسرائيلية لجاء الرد على نُسق آخر.
ومن الأباطيل التي يرويها ابن جرير في تفسيره وهي كما نبَّهنا عليه سابقًا في دسيسة دسَّها على الإسلام يُوحنَّا الدمشقي في عصر بني أميّة _ ما ذكره في تفسيره لقوله تعالى في الآية(37) من سورة الأحزاب:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
حيث يقول ما نصّه:
"يقول الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عِتابًا من الله له: واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالهداية، وأنعمت عليه بالعتق -يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمسك عليك زوجك واتق الله، وذلك أن زينب بنت جحش -فيما ذكر- رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته وهي في حبال مولاه؛ فألقى في نفس زيد كراهتها، لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}. وهو صلى الله عليه وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها. {وَاتَّقِ اللَّهَ} وخف الله في الواجب عليك في زوجته: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمر رجلًا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس" اهـ. تفسير ابن جرير جـ22 ص10.
وهكذا يروي ابن جرير هذه القصة التي عزاها لغير مُعيّن حيث يقول: "فيما ذكر"، ويبدو أنه ارتضاها تفسيرًا للآية حيث لم يعقب عليها. وحيث يقول بعد فراغه منها: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ثم ساق روايات: منها هذه الرواية: "حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وهو زيد؛ أنعم الله عليه بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} قال: وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها" المرجع السابق.
وشبيهٌ بما ذكر ابن جرير من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زينب بنت جحش، قصة داود عليه السلام مع زوجة أوريا، وقد ذكرها ابن جرير بروايات متعددة وبأسانيد مختلفة عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات من(21) إلى(24) من سورة (ص~):
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}
إلى قوله:
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
وينتهي ابن جرير من رواية القصة بأسانيدها واختلاف متونها، ولا يُنبّه على ما فيها من كذب وافتراء كما لم يُنبّه على ما في قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزينب من كذب وافتراء، وما كان يكفي في مثل هذا المقام الدحض أن يقتصر ابن جرير على ذكر السند؛ لأن في الناس -كما قلنا- كثيرين لا يعرفون من أمر الأسانيد شيئًا، ومن الناس من إذا رأى ابن جرير -على مبلغ علمه وجلالة قدره- يروي في تفسيره مثل هذا، أخذه على أنه حقٌّ وصدق، واستباح لنفسه أن يفعل مثل ما نسب لدود ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
ولقد رأينا من يفعل الخطيئة فإذا ما ليم على خطيئته قال -في رضا واطمئنان- إن الأنبياء يُخطِئُون ويُذنبون، فقد كان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع زينب كذا وكذا، وكان من أمر داود عليه السلام مع امرأة أوريا كذا وكذا، فلم تلومنب على خطيئتي ولست نبيًّا؟!!!
وقد لاحظنا على ابن جرير أنه يتعقب -أحيانًا- بعض ما يرويه بنقد إسناده، ولكن نقده لا يكون مقصودًا به أولًا وبالذات تضعيف المروي أو تكذيبه، ولكن مقصوده الأصلي إنما هو تصحيح رأي فقهي أو لغوي يراه في النص القرآني ويرى في المروي ما يُعكر عليه، فهو لهذا يرده ويُفنّده.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(94) من سورة الكهف:
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى? أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}
يقول ما نصّه:
روى عكرمة في ذلك -يعني في ضم سين سدًّا وفتحها- ما حدثنا به أحمد بن يوسف قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة، قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السد، يعني بضمها، ثم يعقب ابن جرير على هذه الرواية بأن الفتح والضم قراءتان مستفيضتان متفقتا المعنى، وأنه لا معنى للفرق الذي ذكره عكرمة وغيره، وأنه لا شاهد له في كلام العرب.
ثم ينقد سند ما روى عن عكرمة فيقول: "وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك فإن الذي نقل ذلك عن أيوب: هارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه"! تفسير ابن جرير جـ16 ص13.
وابن جرير لا يهتم بالبحث وراء بعض التفاصيل التي لا فائدة من معرفتها؛ فهو لا يتلمسها في الروايات الإسرائيلية كما هو شأن بعض المفسرين.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات(112، 113، 114) من سورة المائدة:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}
إلى قوله:
{وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
نراه يسوق الروايات الواردة في نوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ثم يُعقِّب على هذا بقوله: "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة كأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكًا وخبزًا، وجائز أن يكون ثمرًا من ثمار الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقرتا لي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل" تفسير ابن جرير جـ12 ص103.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(259) من سورة البقرة:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى? قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى? عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى? يُحْيِي هَ?ذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}
نراه يسوق الروايات التي تُعيّن اسم الشخص الذي مرّ على القرية الخاوية، وفي بعضها أنه العُزير، وفي بعض آخر منها أنه أرمياء، ثم يُعقِّبُ على ذلك بقوله: "... ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح منه البيان على اسم القائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عُزيرًا، وجائز أن يكون أرمياء، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق باسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت" تفسير ابن جرير جـ3 ص18، 19.
وخاتمة المطاف في تفسير ابن جرير، أنه من أنفع التفاسير، ومن تمام نفعه أن يجرد مما فيه من الإسرائيليات، أو يُنبّه على فساد ما فيه منها، وحبَّذا لو هيأ الله لهذا التفسير من بين علمائنا من ينقد ما فيه من الروايات نقدًا فاحصًا شاملًا حتى يتبيّن جيدها من رديئها، ولقد يسَّر الطبري هذه المهمة لمن يتصدون لها، وذلك بذكره لأسانيد مروياته في تفسيره.​

___

تفسير الحافظ ابن كثير(*) - المُسمَّى "تفسير القرآن العظيم"
(*)هو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع، البصري ثم الدمشقي المُفسِّر المُحدِّث والفقيه الشافعيّ، وُلِدَ سنة 700هـ وتُوفِّيَ سنة 774هـ - انظر ترجمته في الدُرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وفي شذرات الذهب، وفي طبقات المفسرين للداودي.​
وهو من أشهر كتب التفسير بالمأثور، ويُعتبر من هذه الناحية الكتاب الثاني بعد تفسير ابن جرير الطبري، وكثيرًا ما ينقل عنه، وهو يروي المأثورات بأسانيدها كما يفعل ابن جرير، ولكنه يتميِّز عنه بنقد ما يرويه نقدًا سليمًا، وبمهارة المحدث البارع. الخبير بعلل الحديث، ومواطن القوة أو الضعف فيه.
ومن أهل ما يمتاز به ابن كثير أنه يُنبِّه على ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات وغرائبها، ويُحذِّر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه البيان لما فيها من كذب وافتراء تارة أخرى.
وابن كثير مؤرِّخ، والمُؤرِّخون يتسامحون في نقل الأخبار، ويجمعون في كتبهم بين الغثّ والسمين، ومن كان منهم مؤرخًا ومفسرًا يغلب على تفسيره الجانب الإخباري، يرويه على أنه شرح لبعض ما أجمل القرآن، أو يذكره استطرادًا ولأدنى مناسبة، كل هذا في تسامح وتساهل، ولكن ابن كثير لم تكن فيه هذه الظاهرة، فهو بجانب كونه مؤرخًا ومفسرًا كان محدثًا بارعًا -كما قلنا- خبيرًا بعلل الحديث ومواطن القوة والضعف فيه، فكانت ملكة المحدث فيه تتحكم في نزعته مؤرخًا ومفسرًا، فجعلته حين يؤرخ يتوخى الصحة بقدر ما يمكن ويتجنب الجانب القصصي الخرافي، وما يذكره من ذلك ينبه إلى أنه من الإسرائيليات التي لا أصل لها، وكذلك حين يُفسِّر يتوخى في تفسيره الصحيح، وما يذكره من العليل ينقده ويكشف عن مواطن الضعف فيه، وما يرويه من إسرائيليات يكشف عن زيفه وفساده، ويحذر منه أبلغ التحذير.
قال ابن كثير في مقدمة تاريخه (البداية والنهاية) جـ1 ص6 ط السعادة ما نصّه: "ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يُخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه، وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما صح نقله أو حَسُنَ، وما كان فيه ضعف بينته، والله المستعان وعليه التكلان" اهـ.
ويقول في مقدمة تفسيره: "الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحّته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذا صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يُخالفه.
والثالث: ما هو مسكوتٌ عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه، ويجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. اهـ.
وعلى الجُملة فلم نرَ من المفسرين رجلًا له من قوة النقد للمأثورات وتمييز جيادها من زيوفها مثل ما كان لابن كثير رحمه الله.
وقريبٌ من ابن كثير في نقده للإسرائيليات أبو محمد بن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، وأبو حيان في تفسيره "البحر المحيط".
وإذا نحنُ تتبعنا ابن كثير في تفسيره نجده حين يروي رواية غريبة تحتمل الصدق والكذب يكتفي بأن يُنبّه إلى احتمال كونهامن الإسرائيليات التي أباح الرسول صلى الله عليه وسلم التحديث بها، ويُنبّه على أنه لا يجوز أن يعتمد على مثل هذه المرويات إلا إذا كان لها ما يُؤيِّدها في شرعنا.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(67) وما بعدها من سورة البقرة:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى? لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
إلى آخر القصة، نراه يقصّ لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة التي وصف الله لهم بعد ما سألوا عن صفتها، وأنهم وجدوها عند رجل كان من أبرّ الناس بأبيه، وأنهم ساوموه فيها حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، وأنهم ذبحوها وضربوا القتيل بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، من قتلك؟.. إلخ.
ثم يسوق ابن كثير رواية أخرى لهذه القص، ثم يعقب على كل ما رواه فيها بقوله: "وهذه السياقات عن عُبيدة، وأبي العالية، والسدي، وغيرهم، فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا نصدق ولا نكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم" تفسير ابن كثير جـ1 ص109- 110. ط: التجارية.
وحين يروي ابن كثير قصة فيها أعاجيب لا يقبلها العقل نراه يُبطلها ويكتفي بما جاء به القرآن مجملًا:
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(102) من سورة البقرة:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَ?كِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
نراه يذكر قصصًا في مُنتهى الغرابة، ثم يُنهي ما رواه منها بقوله: "وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حبان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح الإسناد إلى الصداق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن، إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نُؤمِنُ بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال" تفسير ابن كثير جـ1 ص141.
وحين يروي ابن كثير رواية لا يصدقها العقل ولا يقرها الشرع لمصادمتها لبعض نصوصه نجده ينكرها كل الإنكار ثم يُبطلها في براعة فائقة ودقة بالغة.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(22) من سورة المائدة:
{قَالُوا يَا مُوسَى? إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى? يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}
تراه يذكر بعض ما روي في شأن هؤلاء الجبارين، وما كان من طولهم وهيئة أجسامهم، فينقل عن ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال: أمر الله موسى أن يدخل مدينة الجبارين، قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة، وهي أريحا، فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم، قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا، من هيئتهم، وجسمهم، وعظمتهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجني الثماء من حائطه فجعل يجني الثمار وينظر إلى آثارهم، فتبعهم، فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، حتى التقط الاثنى عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاهكة وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك: ثد رأيتهم شأننا وأمرنا فاذهبوا فأخبروا صاحبكم قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.
ويُعقِّب ابن كثير على هذه القصة بقوله: "وفي هذا الإسناد نظر" ثم يسوق روايات أخرى في وصف العماليق، ثم ينهي كل ما روى في صفتهم بمنطقه السليم وحكمه القاطع على أنها كذب خارج عن نطاق الشرع والعقل فيقول:
"وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين. وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعًا وثلث ذراع، تحرير الحساب، وهذا شئ يستحي من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن) ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرًا، وأنه كان ولد زنيّة، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوافان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أن نوحًا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وقال الله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *** ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} وقال تعالى: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يُقال له عوج بن عنق نظر، والله أعلم" تفسير ابن كثير جـ2 ص37_ 38. ط: التجارية.
وكثيرًا ما نرى ابن كثير يعرض كل الإعراض عن بعض القصص الإسرائيلي الذي يرويه بعض المفسرين في تفاسيرهم، ويرى أن الإمساك عن ذكره خير من روايته؛ لأن الاشتغال به عبث لا فائدة فيه، وبعض ما يروى من ذلك لا يُمكن أن يكون صحيحًا لما يؤدي إليه من خلل في العقائد وفساد في الدين.
فمن ذلك مثلًا أنه عندما عرض لتفسير قوله تعالى في الآية(51) من سورة الأنبياء:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
نراه يقول:
"يخبر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره، ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى? قَوْمِهِ} وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم، فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة من ذلك ولا مخالفة؛ لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفًا، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته وكثير من ذلك مما لا فائدة ولا حاصل له مما يُنتفع به في الدين، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة. والذي نسكله في هذا التفسير، الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروّج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حرّره الأئمة الحفّاظ المتقنون من هذه الأمة" تفسير ابن كثير جـ3 ص181_ 182.
وعند تفسيره للآية(37) من سورة الأحزاب:
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
نجده يقول:
"ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحّتها فلا نوردها" اهـ. تفسير ابن كثير جـ3 ص191.
وعن تفسيره لقوله تعالى في الآيات من(21) إلى(24) من سورة (ص~):
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}
إلى آخر القصمة، فنجده يقول:
"قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتّباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أبي رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضًا" اهـ. تفسير ابن كثير جـ4 ص31.
ولقد نجد ابن كثير يذكر في تفسيره بعض الروايات الإسرائيلية الغريبة ولا يُعقِّب عليها ولا بكلمة واحدة رُغم تحذيره الشديد في مواطن كثيرة من تفسيره من رواية مثل هذه الإسرائيليات، وما كُنَّا نرضى له -وهو الإمام المُحدِّث- أن يتورَّط في رواية شئ من هذا القبيل، حتى ولو كان مما يحتمل الصدق والكذب؛ لأن الاشتغال بمثل هذا من قبيل تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه كما قرر هو ذلك أكثر من مرة في تفسيره.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(258) من سورة البقرة:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}
إلى آخر الآية، نجده بعد ما ذكر أن الذي حاج إبراهيم عليه السلام هو ملك بابل: نمرود بن كنعان، أو نمروذ بن فالخ، يقول ما نصّه:
"وروي عن عبدالرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم: أن النمروذ كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شئ من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت إليهم، فلما قدم وضح رحاله، وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا، فعملت طعامًا، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابًا من البعوض بحث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها. فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله بها" اهـ. تفسير ابن كثير جـ1 ص313_ 314.
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(20) من سورة (طه):
{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى?}
نراه يقول ما نصّه:
"وقال وهب بن منبه في قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى?} قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يدب يلتمس، كأنه يبتغي شيئًا يريد أخذه، يمر بالصخرة مثل الخلقة من الإبل فيلتقهما، ويطعن بالناس من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان نارًا، وقد عاد المحجن منها عرفًا، قيل: شعره مثل النيازك، وعاد الشعبتان فمًا مثل القليب الواسع، فيه أضراس وأنياب لها صريف، فلما عاين ذلك موسى، ولى مدبرًا ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فتوقّف استحياءً منه، ثم نودي: يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف، فقال: خذها بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف.. فلما أمره بأخذها لفّ طرف المدرعة على يده فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا؟ قال: لا، ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت، فكشف عن يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكّأ بين الشعبتين، ولهذا قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى?} أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك" أ.هـ. تفسير ابن كثير جـ3 ص145.
يروي ابن كثير -وهو الناقد البصير- هاتين القصتين الإسرائيليتين ولا يُعقِّب عليهما ولا بكلمة واحدة.. ولكن مهما يكن من شئ فابن كثير خير من رأينا من المفسرين موقفًا من الإسرائيليات، فهو يتعقبها إلا ما ندر، ويُبيّن ما فيها من زيف وفساد، وليت لنا من ينقد ما في كتب التفسير من روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية على طريقة ابن كثير ومنهجه.. إذًا لكان قد أسدى إلى المشتغلين بالتفسير فضلًا لا يُنسى، وجميلًا لا يُجحد.​

___

تفسير مقاتل بن سليمان(*)
(*)هو مقاتل بن سليمان بن بشير الخراساني المتوفى سنة 150هـ، انظر ترجمته في وفيّات الأعيان وفي تهذيب الأسماء واللغات.​
وهو من أشهر كتب التفسير التي تذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة ولا تسند شيئًا من ذلك، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل.
وقد حقَّ هذا التفسير بعض الأفاضل من زمن قريب. حقَّق تفسير مقاتل السيد الدكتور/ عبدالله شحاتة، ونال به درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم، وأنا في شكّ من كونه تفسير مقاتل؛ فالعصر الذي عاش فيه مقاتل كان عصر إسناد حتى من الوضاعين، وما وجدنا في تفسير مقاتل إسنادًا إلا نادرًا. وكثيرًا ما يرد في هذا التفسير عبارة "قال أبو محمد قال الفراء: كذا وكذا" وأحيانًا ترد عبارة "قال الفراء" في سياق التفسير وفي صُلبه وكأنما قائل هذه العبارة هو المفسر نفسه، ولا يُعقل أن يكون مقاتل بن سليمان؛ لأنه توفي سنة 150هـ، والفراء ولد سنة 144هـ وتوفى سنة 207هـ فكيف يروي عنه -أغلب الظن أن هذا التفسير من عمل بعض المتأخرين عن عصر مقاتل، جمع فيه ما روي عنه في التفسير، وضمّ إليه من رأيه، ومن أقوال غيره ما رآه مكمّلًا له أو موضحًا لبعض ما فيه. والتفسير مكتوب على الآلة الكاتبة ومنه نسخة مودعة في مكتبة دار العلوم التي رجعنا إليها، وفيها اضطراب في بعض عباراتها، وتحريف في بعض ألفاظها.
وقد قرأتُ في هذا التفسير، فرأيته قد حوى كل غريب وغريبة، ووجدتُ فيه قصصًا إسرائيلية فيه باطل كثير، ولم أجده يروي ما يذكره من ذلك ولا من غيره مُسندًا، اللهم إلا في مواضع قليلة يكون إسناده فيها -غالبًا- إلى رجال متهمين بالكذب ووضع الأحاديث، كإسناده إلى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذد ذكر السيوطي: أن الكلبي مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شئ حدثتكم عن أبي صالح كذب.
ومن أمثلة ما جاء في تفسير مقاتل بن سليمان من القصص الإسرائيلي الذي لا يعدو أن يكون من قبيل الخرافات، ما قاله في تفسيره لقوله تعالى: {ق} في أول سورتها، ونصّه: "وقاف: جبل من زمردة خضراء، محيط بالعالم، فخضرة السماء منه، ليس من الخلق شئ على خلقه، وتنبت الجبال منه، وهو وراء الجبال، وعروق الجبال كلها من قاف، فإذا أراد الله تعالى زلزلة الأرض أوحى إلى الملك الذي عنده، أن يُحرِّك عرقًا من الجبل فتتحرك الأرض الذي يُريد، وهو أول جبل خُلِق، ثم أبوقبيس بعده، وهو الجبل الذي الصفا تحته ودون قاف بمسيرة سنة جبل تغرب فيه الشمس، يقال له: الحجاب، فذلك قوله تعالى: {حَتَّى? تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني بالجبل. وهو من وراء حجاب، وله وجه كوجه الإنسان، وقلب كقلوب الملائكة في الخشية لله تعالى، وهو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه، والحجاب دون قاف بمسيرة سنة، وما بينهما ظلمة، والشمس تغرب من وراء الحجاب في أصل الجبل، فذلك قوله: {حَتَّى? تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني بالجبل، وذلك قوله في مريم: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} يعني جبلًا" أ.هـ. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1444.
وفي الكلام تكرار ظاهر، واضطراب في العبارة، وتفسير غير مقبول (تُغني حكايته عن رده).
وفي تفسيره لقوله تعالى:
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
في أول سورتها يقول ما نصّه:
"الويل" واد في جهنم، بعده مسيرة سبعين سنة، فيه تسعون ألف شعب، في كل شعب سبعون ألف شقّ، في كل شق سبعون ألف مغار في كل مغار سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف تابوت من حديد، وفي التابوت سبعون ألف شجرة، في كل شجرة سبعون ألف غصن من نار، في كل غصن سبعون ألف ثمرة في كل ثمرة دودة طولها سبعون ذراعًا، تحت كل شجرة سبعون ألف ثعان وسبعون ألف عقرب، فأما الثعابين فطولهن مسيرة شهر، في الغلظ مثل الجبل، وأنيابها مثل النخل، وعقاربها مثل البغال الدهم. لها ثلاثمائة وستون فقارًا، في كل فقار قلة سمّ" أ.هـ. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1712.
وفي تفسيره لقوله تعالى في الآية(20) من سورة الإنسان:
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}
نراه يقول ما نصّه:
"وذلك أن الرجل من أهل الجنة له قصر، في ذلك القصر سبعوه قصرًا، في كل قصر سبعون بيتًا، كل بيت من لؤلؤة مجوّفة، طولها في السماء فرسخ، وعرضها فرسخ، عليها أربعة ألف مصراع من ذهب، في ذلك البيت سرير منسوج بقضبان الدرّ والياقوت، عن يمين السرير وعن يساره أربعون ألف كرسي من ذهب، قوائمها ياقوت أحمر، على ذلك السرير سبعون فراشًا، كل فراش على لون، وهو جالس فوقها، وهو متّكئ على يساره، عليه سبعون حلة من ديباج، الذي يلي جسده حريرة بيضاء، وعلى جبهته إكليل مكلل بالزبرجد والياقوت، وألوان الجواهر كل جوهرة على لون، وعلى رأسه تا وفي أصابع يديه ورجليه خواتم من ذهب وفضة، فيه ألوان الفصوص، وبين يديه عشرة آلاف غلام، لا يكبرون ولا يشيبون أبدًا ويوضع بين يديه مائدة من ياقوتة حمراء، طولها ميل في ميل، ويوضع على المائدة سبعون ألف إناء من ذهب وفضة، في كل إناء سبعون لونًا من الطعام، يأخذ اللقمة بيديه، فما يخطر على باله حتى تتحول اللقمة عن حالها إلى الحال التي يشتهيها، وبين يديه غلمان بأيديهم أكواب من ذهب وإناء من فضة، معهم الخمر والماء، فيأكل على قدر أربعين رجلًا من الألوان كلها، كلما شبع من لون من الطعام سقوه شربة مما يشتهي من الأشربة، فيتجشى، فيفتح الله تعالى عليه ألف باب من الشهوة من الشراب، فيدخل عليه الطير من الأبواب كأمثال النجائب، فيقومون [هكذا بالأصل] بين يديه صفا، فينعت كل نفسه بصوت مطرب لذيذ، ألذّ من كل غناء في الدنيا، فيقول: يا ولي الله كلني، إني كنت أرعى في روضة كذا وكذا من رياض الجنة، فيحلون عليه أصواتها [هكذا بالأصل]، فيرفع بصره فينظهر إليهم، فينظر إلى أزهاها صوتًا، وأجودها نعتًا فيشتهيها، فيعلم الله ما وراء شهوته في قلبه من حُبّه، فيجئ الطير فيقع على المائدة، بعضه قديد، وبعضه شواء، أشد بياضًا من الثلج وأحلى من العسل فيأكل حتى إذا شبع منها واكتفى، طارت طيرًا كما كانت، فتخرج من الباب الذي كانت دخلت منه، فهو على الأرائك، وزوجته مستقبلة، يبصر وجهه في وجهها من الصفاء والبياض، كلما أراد أن يجامعها ينظر إليها فيستحي أن يدعوها، فتعلم ما يُريد منها زوجها، فتدنو إليه فتقول: بأبي وأمي، ارفع رأسك وانظر إليّ، فإنك اليوم لي وأنا لك، فيجامعها على قوة مائة رجل من الأولين، وعلى شهوة أربعين رجلًا، كلّما أتاها وجدها عذراء، لا يغفل عنها مقدار أربعين يومًا، فإذا فرغ وجد ريح المسك منها فيزداد حُبًّا لها، فيها أربعة آلاف وثمانمائة زوجة مثلها، لكل زوجة سبعون خادمًا وجارية" أ.هـ. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1661- 1663.
وهكذا يذكر مقاتل من خرافاته وترهاته بدون إسناد وبغير نقد ما يجعله تفسيرًا لكلام الله تعالى، وما كان كلام الله بحاجة إلى مثل هذا الهراء الذي لا يليق بعاقل أن يذكره مجرد ذكر، فضلًا عن أن يشرح به كتاب الله عز وجل!! ولكنه مقاتل بن سليمان الذي عرفناه -فيما سبق- كذّابًا وضّاعًا فاسد العقيدة.
وأدهى من ذلك وأمرّ أن نرى مقاتل بن سليمان يذكر في غير موضع من تفسيره بعض ما دسّ على الإسلام من أباطيل، يذكرها دون أن يُسندها وينتهي منها من غير أن يفنّدها، كأنما صحّت عنده، وكأنه لا يرى فيها عابًا ولا ذامًا!!
نقرأ تفسير مقاتل لقوله تعالى في الآية(37) من سورة الأحزاب:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}
فنجده بعدما ذكر من أمر خطبة زينب لزيد، وتمنعها أول الأمر، ثم قبولها الزواج منه نزولًا على أمر الله ورسوله يقول ما نصّه:
"زدخل بها -يعني زينب- زيد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى منها، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فوعظها، فلما كلمها أعجبه حُسنها وظرفها، وكان أمرًا قضاه الله عز وجل، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفسه منها ما شاء الله عز وجل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل زيدًا بعد ذلك: كيف هي معك؟ فيشكوها إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله، وأمسك عليك زوجك، وفي قلبه غير ذلك"..
ثم يقول: "ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيدًا فأبصر زينب قائمة، وكانت حسناء بيضاء، من أتمّ نساء قريش فهويها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان مقلب القلوب، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها فإن فيها كبرًا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، ثم إن زيدًا طلقها بعد ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ تَقُولُ} يا محمد للذي {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق، وكان زيد أعرابيًّا في الجاهلية مولى في الإسلام، سبى فأصابه النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} يعني وتسر في قلبك يا محمد: ليت أنه طلقها، {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} يعني مظهره عليك حين ينزل به قرآن، {وَتَخْشَى} قالة {النَّاسَ} في أمر زينب، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} في أمرها، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على الناس بما أظهره الله عليه من أمر زينب إذ هويها".
ثم يمضي مقاتل في تفسيره للآيات إلى أن يصل إلى قوله تعالى:
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}
فيقول: "هكذا كانت سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد يعني داود النبي عليه السلام حين هوى المرأة التي فتن بها، وهي امرأة أوريا بن حنان؛ فجمع الله بين داود وبين المرأة التي هويها، وكذلك جمع الله عز وجل بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زينب التي هويها، كما فعل بداود عليه السلام فذلك قوله عز وجل: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} فقدر الله عز وجل لداود ومحمد تزويجهما" أ.هـ. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1179- 1181.
...يا عجبًا كل العجب لمقاتل!!.. كيف طوعت له نفسه أن يقول كل هذا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف زينب قبل أن يزوجها مولاه زيدًا؛ فهي ابنة عمّته، ولو كان له فيها رغبة لخطبها لنفسه قبل أن يخطبها لزيد، وقبل أن يدخل بها، أما أن تقع في نفسه بعد ما قضى زيد منها وطرًا، وأما أن يقول لزيد أمسك عليك زوجك وكل أمنيّته أن يطلقها زيد ليتزوجها هو من بعده فذلك ما أعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحطم جانب العصمة فيه، والعصمة في الأنبياء شرط لازم.
ومما لا يكاد ينقضي منه العجب، أن مقاتلًا برّر فريته على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرية مثلها، نسبها إلى داود عليه السلام اختصرها هنا، وبسطها من غير تحرّج ولا تأثّم عند تفسيره لقوله تعالى في سورة ص:
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}
إلى قوله:
{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
(الآيات ص: 21-24)​
وعند تفسير مقاتل لقوله تعالى في سورة الحج:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى? أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}
إلى آخر الآيتين 52، 53 نجده يُفسِّر التمني باالتحدث، وألقى الشيطان في أمنيته: أي في حديثه، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}
(البقرة: 78)​
أي إلا ما يحدثون به عنها يعني التوراة، ثم يقول ما نصّه:
"...وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة عند مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم فنعس فقال: أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، عندها الشفاعة ترتجى، فلما سمع كفار مكة أن لآلهتهم شفاعة فرحوا، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى? *** وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى? *** أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى? *** تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى?} فذلك قوله سبحانه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}" المجلد الثاني: ولم نذكر رقم الصفحة وكثيرًا ما نترك ذكرها؛ لأن النسخة التي بأيدينا من تفسير مقاتل ليست كل أوراقها مرقمة، والأمر هيّن.
ونجد مقاتلًا عند تفسيره لقوله تعالى في سورة النجم:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?}
(النجم: 19 إلى22)​
يقول مثل كلامه السابق، ويُصرِّح بأن الشيطان هو الذي ألقى هذه الزيادة: "تلك الغرانيق العلا، عندها الشفاعة ترتجى" على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وفي قراءته، وهذا كلام ساقط لا أصل له، ولا أعتقد إلا أنه دسيسة دسّها على الإسلام أعداؤه من اليهود أو غيرهم، وراجت لدى مقاتل بن سليمان -كما راجت لدى نفر من المفسرين- فنق تفسيره ولم يعقب عليها ولا بكلمة واحدة تُفيد بطلانها، وما كان الله ليلقي النعاس على نبيه في صلاته، ثم يسلط عليه الشيطان فيلقي على لسانه ما ليس قرآنًا، وهو الذي تكفّل بحفظ القرآن حيث يقول:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(الحجر: 9)​
وضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم جمعه له في صدره، وقراءته على لسانه كما نزل به جبريل بقوله:
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *** فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *** ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(القيامة: 17- 19)​
فإذا قرأنا: -أي بلسان جبريل لا بلسان الشيطان-. بل والأبلغ من ذلك قوله تعالى:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}
(الإسراء: 45)
وقد سبق أن بيّنا أن قصة الغرانيق لم تثبت من طريق صحيح، وأنها من وضع الزنادقة.
وإذا كنا نرى مقاتل بن سليمان يسود صفحات تفسيره بمثل ما تقدم من خرافات وأباطيل؛ فإنا نراه يعني عناية لم نرها لغيره من المفسرين بتفسير ما لا فائدة لنا من تفسيره! ويشغل بتوافه لا يعدو أن يكون الاشتغال بها عبثًا ولهوًا.
نراه يعرض لتفسير الآيات الواردة في قصة قتيل بني إسرائيل من سورة البقرة:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
(البقرة: 67-73)​
فيذكر أن اسم المقتول "عاميل" والبعض الذي ضرب به هو فخذ البقرة اليمني! .. تفسير مقاتل -المجلد الأول ص33.
ونراه يعرض لتفسير الآيات الواردة في شأن أصحاب الكهف:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
(الكهف: 10)​
وما بعدها إلى آخر القصة في سورة الكهف، فيعني بشكل ملحوظ ببيان ما فيها من المبهمات التي لا حاجة بنا إلى معرفتها، والتي لم يرد تعيينها من طريق صحيح، فيذكر أن اسم الملك الذي فر منه الفتية "دقيوس" واسم الكهف الذي أووا إليه "بانجلوس" واسم الكلب الذي تبعهم "قطمير"!!
ويعرض لقصة الخضر مع موسى عليه السلام فيذكر عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(74) من سورة الكهف:
{حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ}
أن اسم الغلام "حسين بن كازري" واسم أمه "سهرى" وأن الخضر قتل الغلام بحجر! وكأنه لم يكفّ مقاتلًا أن عين آلة القتل فأضاف: أن لون الحجر كان أسود! .. تفسير مقاتل -المجلد الأول ص827.
ويعرض مقاتل لتفسير قوله تعالى في الآية (18) من سورة النمل:
{النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}
فيذكر أن النملة التي خاطبت جماعة النمل اسمها "الجرمى" ولا أدري، لم لم يعين لنا مقاتل أذكرًا كانت النملة أم أنثى؟!!
ويمضى مقاتل في هذا العبث في مواضع كثيرة من تفسيره، فيذكر أن الذي صنع التابوت لأُمّ موسى لتضعه فيه عندما تلقيه في اليمّ، كان رجلًا مؤمنًا، واسم اسمه "حزبيل بن صابوث"! .. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص869.
ويذكر أن عصا موسى كانت من الآس وأن اسمها "نفعة" وأن الحية التي انقلبت عن العصا كانت ذكرًا أشعر له عرف! .. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص868.
ويذكر أن الكبش الذي فدى الله به الذبيح -وهو على ما في تفسيره إسحاق لا إسماعيل- اسمه "رزين" وأنه كان من الوعل، وأنه رعى في الجنة أربعين سنة قبل أن يذبح!! .. تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1252.
وكأنّي بمقاتل لم يرضه أن يستأثر هو بهذا الهراء والعبث فذهب يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسب إليه شيئًا من ذلك، فعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(10) من سورة التحريم:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ}
يقول ما نصّه:
"قالت عائشة رضي الله عنها: كيف لم يسمهما الله تعالى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لبغضهما -يعني امرأة نوح وامرأة لوط- قالت عائشة: فما اسمهما؟ فأتاه جبريل فقال: أخبر عائشة رضي الله عنها أن اسم امرأة نوح "والغة" واسم امرأة لوط "والهة". تفسير مقاتل -المجلد الثاني ص1590.
ولستُ أدري هل تحوّل بغض الله لهما إلى حب حتى ذكر اسمها؟ أم أن الله سارع لعائشة في هواها فسماهما لها وهو كاره؟!!
وبعد، فإذا كان ما تقدّم بعض ما في تفسيره مقاتل من أباطيل فكيف يعقل أن يقول الشافعي رحمه الله: الناس عيال في التفسير على مقاتل؟ لا أعتقد -كما قلت سابقًا- أن الشافعي رحمه الله يقول هذه المقالة، اللهم إلا إذا كان يقصد بها ما شرحناها به سابقًا، أو لعله كان يقصد مقاتل ابن حبان، وهو معروف بالتفسير وقال عنه النووي: "اتّفقوا على توثيقه والثناء عليه" -تهذيب الأسماء واللغات للنوي جـ2 ص110 ط: المنيرية.​

___
تفسير الثعلبي(*) - المُسمَّى "الكشف والبيان عن تفسير القرآن"
(*) هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المتوفى سنة 427هـ وقيل -كما في وفيّات الأعيان- سنة 437هـ. انظر ترجمته في معجم الأدباء، وفي وفيّات الأعيان وفي شذرات الذهب.​
وهذا التفسير لا يزال مخطوطًا إلى اليوم، ومنه نسخة غير كاملة بمكتبة الأزهر الشريف في أربع مجلدات كبار، تبدأ بتفسير سورة الفاتحة وتنتهي بتفسير آخر سورة الفرقان، وهو يجري على طريقة التفسير بالمأثور دون ذكر الأسانيد، اكتفاءً بذكر المؤلّف في مقدمة تفسيره أسانيده لمن يروي عنهم من علماء السلف والخلف، وأسانيده إلى المصنفات التي يستمدّ منها في تفسيره.
وقد ذكر الثعلبي في مقدمة تفسيره أن الصمنّفين في التفسير فرق على طرق مختلفة، عد هذه الفرق وذكر طرقها ومناهجها، وانتهى إلى القول بأنه لم يعثر في كتب من تقدمه على كتاب جامع مهذب يعتمد عليه.
ولكننا -وللأسف- نتصفّح تفسير الثعلبي الذي عاب كل من تقدّمه من المفسرين، وأشار في مقدمة تفسيره إلى أنه كتاب شامل مهذّب، فنجده شاملًا للخرافات والأباطيل، مشحونًا بالأكاذيب والأضاليل، دون أن يتعقّب الثعلبي شيئًا منها ببيان ما فيها من كذب واختلاق، ولو كان فيما يرويه ما لا يصدقه عقل ولا يقبله شرع.
وإذا كان أبرز الجوانب في تفسير الثعلبي هو الجانب القصصي الإسرائيلي، فذلك راجع -فيما أعتقد- إلى أن الثعلبي كان واعظًا، وشأن الواعظ -في الغالب- أن يكون مولعًا بالأخبار والقصص يلقيها على الناس حين يعظهم، ويضمنها مؤلفاته حين يكتب لهم، وكتابه الذي ألفه في قصص الأنبياء وسمّاه "العرائس" أكبر دليل على مبلغ شغفه بالخرافات وولعه برواية الغرائب والأعاجيب!!
وإذا ساغ للثعلبي أن يضمن كتابه "العرائس" كثيرًا من القصص الذي لا أصل له، والذي لا يمكن أن نسلم بصحته لمنافاته لقواعد الدين وبداهة العقل، إذا ساغ له ذلك في العرائس؛ فما كان يسوغ له ولا يليق به أن يتّخذ من هذه الخرافات شرحًا لكتاب الله الذي يجب أن ننزهه عنها ونحميه منها.
على أني لا أرى مسلك الثعلبي في العرائس سائغًا ولا لائقًا أبدًا؛ لأنه -في الأعم الأغلب- يعرض لبعض الآيات القرآنية فيشرحها على ضوء خرافاته وترهاته، ولو كان كتاب العرائس كتاب قصص وأخبار لا صلة لها بالقرآن الكريم لربما هان الأمر وتجرعناه على كُره ومضض.
ويظهر لنا أن الثعلبي كان رجلًا قليل البضاعة في الحديث وليس له بعلله معرفة ولا دراية، وإلا ما كان ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض مايرويه من الإسرائيليات وما شاكلها من الموضوعات التي صرّح العلماء بوضعها والتي لو عُرضت على قواعد القوم في نقد الرواية لظهر زيفها وفسادها.
وفي تفسير الثعلبي مثل كثيرة على إسرافه وتساهله في رواية الإسرائيليات التي يحيلها العقل ويُكذّبها الشرع، وإذا أردنا أن نسوق أمثلة من الجانب القصصي الإسرائيلي في تفسير الثعلبي لوجدنا أنفسنا أمام قصص كثير، وأخبار طوال يملّ القارئ من قراءتها، ويسأم السامع من سماعها، ونرى أن نكتفي بذكر بعض الأمثلة ونُشير إلى بعض آخر منها بذكر مواضعه في الهامش ليرجع إليها من يُريد.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(248) من سورة البقرة:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
نجده يقول: "وكانت قصة التابوت وصفته على ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار: أن الله تعالى أنزل تابوتًا على آدم عليه السلام فيه صورة الأنبياء من أولاده، فيه بيوت بعدد الأنبياء كلهم عليهم السلام وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوته حمراء، وإذا هو قائم يصلي عن يمينه الكهل المطيع، كتوب على جبينه: هذا أول من يتبعه من أمته: أبو بكر رضي الله عنه وعن يساره الفاروق، مكتوب على جبينه: قرن من حديد، لا تأخذه في الله لومة لائم. ومن ورائه ذو النور بحجرته، مكتوب على جبينه بار: من البررة. ومن بين يديه علي بن أبي طالب شاهر سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بالنصر من عند الله" تفسير الثعلبي -جـ1 ص215.
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (17، 18) من سورة يوسف:
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ *** وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}
يقول ما نصه: "فقالوا -يعني أخوه يوسف- ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا فتعالوا نصطد ذئبًا، قال: فاصطادوا ذئبًا ولطخوه بالدم وأوثقوه بالحبال، ثم جاءوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا، إن هذا الذئب يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي فجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: أطلقوه، فأطلقوه، فبصبص له الذئب، وأقبل يدنو منه، ويقول له يعقوب: أيها الذئب، لم فجعتني في ولدي وأورثتني بعده حزنًا طويلًا؟ ثم قال: اللهم أنطقه، فأنطقه فقال: والذي اصطفاك نبيًا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعره، والله مالي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب، أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فقدته، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني ولدك وأوثقني، إن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وبالله لا قمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش، فأطلقه يعقول وقال لبنيه، والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا ذئب بهيمة، خرج يتبع زمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وعلمت أن الذئب برئ مما جئتم به {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}" تفسير الثعلبي -جـ4 ص21.
وعندما عرض الثعلبي لتفسير قوله تعالى في الآية(10) من سورة الكهف:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
نجده يروي عن السدي ووهب بن منبه وغيرهما رواية طويلة وغريبة، فيها ذكر هؤلاء الفتية واسم كلبهم، وفيها حوار غريب بين الكلب والفتية حين تبعهم الكلب فحاولوا رده، وأعجب ما فيها: أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم طلب من ربه أن يريه أصحاب الكهف فأجابه بأنه لن يراهم في دار الدنيا، وأمره أن يرسل إليهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته!!
يروي الثعلبي هذه الرواية فيقول فيما يرويه عن السدي ووهب وغيرهما ما نصّه: "..وأسماؤهم -يريد الفتية- مكشليثا، وهو كبيرهم ورئيسهم، وأمليخا، وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم، ومكشيشا، ومرطوش، ونواش، ولونواش، وكيد سططنوس، وكلبهم قطمير، ولما دخلوا الكهف قالوا: يا حيوم، يا قيوم، أيوم طاسوم.." ثم قال: "قال كعب: مروا بكلب فنبح فطردوه مرارًا، فقام الكلب على رجله رافعًا يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا مني: "أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم.." ثم ذكر من قصتهم ما ذكر إلى أن قال: "وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم فقال: إنك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك، ويدعوهم إلى الإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: كيف أبعثهم؟ فقال: ابسط كساءك وأجلس على طرف من أطرافه أبا بكر، وعلى الآخر عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع علي بن أبي طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان، فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك، ففعل، فحملتهم الريح إلى باب الكهف فقلعوا منه حجرًا، فحمل الكلب عليهم، فلما رآهم حرك رأسه، وبصبص بعينيه، وأومأ برأسه أن ادخلوا، فدخلوا الكهف فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله على الفتية أرواحهم، فقاموا بأجمعهم، وقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فقالوا: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبدالله يقرأ عليكم السلام، فقالوا: وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم ما أبلغتم، وقبلوا دينه وأسلموا، ثم قالوا أقرِئوا محمدًا رسول الله منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم.." تفسير الثعلبي المجلد الرابع ص121- 125 -وانظر ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(94) من سورة الكهف: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية. جـ4 ص140 - 143 وما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(27) من سورة مريم {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} الآية. فسوف تجد أنه يروي من الغرائب ما لا يتصوّره العقل ولا يقره الشرع.
والعجب أن الثعلبي ينتهي من ذكر هذه القصة الغريبة والتي فيها كذب بيّن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يتعقّبها بكلمة تكذيب لها أو شك فيها، ولست أرى إلا أنها رواية تحمل في طيّاتها دليل كذبها، فما النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالشخص الذي يبعث فيسأل ربه أن يريه أصحاب الكهف، ولو وقع منه سؤال لربه -كما في الرواية- فلم يحجب هو عن رؤيتهم ويؤمر بإرسال أربعة من أصحابه إليهم فيرونهم رأي العين! .. هل معنى هذا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هان على الله فحرمه من شئ تاقت نفسه إليه ولم يحرم منه بعض أصحابه؟ ولم كان الأربعة الذين أرسلهم خصوص أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعم الخلفاء الأربعة؟ أليس في ذلك روائح الكذب وأمارات الاختلاق؟ ثم أليس في تسخير الريح لمحمد عليه الصلام والسلام ما يتنافى مع ما جاء في القرآن الكريم من قول نبي الله سليمان عليه السلام:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *** فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}
(ص: 35، 36)​
وما ثبت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرددته خاسئًا).
أليس في كل ما ذكرت ما يكفي لرد هذه القصة العجيبة، ويقوم شاهدًا على أنها لا أساس لها من الصحة؟
ثم أليس في وضع الثعلبي لهذه القصة وأمثالها في تفسيره ما يُبرّر حملات بعض العلماء عليه وعلى تفسيره؟
أليس ابن تيمية على حق في حكمه على الثعلبي وعلى تفسيره بقوله: "والثعلبي في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع" وقوله -وقد سُئل عن بعض كتب التفسير-: "...وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط، والوسيط، والجيز، فيها فوائد جليلة، وفيها غثّ كثير من المنقولات الباطلة وغيرها". مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص19.
والكتاني في الرسالة المستطرفة ص19 لم يكن متجنيًّا على الثعلبي إذ يقول عند الكلام عن الواحدي المفسر: "ولم يكن له ولشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما -وخصوصًا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة".
...وبعد فليت تفسير الثعلبي لا يطبع، وليت تفسير مقاتل لا يطبع أيضًا، لأنهما لو طبعا على ما هما عليه بدون تنقيتهما مما فيهما من خرافات وأباطيل، أو بدون تنبيه إليها وتحذير منها، لكان كل منهما منشور بدع وخرافات يخشى منه على عقول العامة وعقائدها، ونحن في حاجة إلى أن نطهر المكتبة الإسلامية من مثل هذه الكتب لا أن نزيد الطيب بِلة، ونضيف إلى العلل علة.​

___

تفسير الخازن(*) - المُسمَّى "لباب التأويل في معاني التنزيل"
(*)وهو علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن خليل الشيحي -نسبة إلى شيحة من أعمال حلب- البغدادي الشافعي، المعروف بالخازن، اشتهر بذلك لأنه كان خازن كتب خانقاه السميساطية بدمشق. ولد في بغداد سنة 678هـ وتوفي في حلب سنة 741هـ - انظر ترجمته في الدرر الكامنة، وفي طبقات المفسرين للداودي، وفي شذرات الذهب.​
وهو من أشهر الكتب التي تذكر الإسرائيليات ولا تسندها ولكنها أحيانًا تشير إلى ضعفها، وأحيانًا تصرح بعدم صحتها، وأحيانًا تروي ما تروي دون أن تنقده ولا بكلمة واحدة رغم فساده ومخالفته للقواعد الشرعية.
وهذا التفسير مختصر من تفسير البغوي -هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغوي نسبة إلى بلد بخراسان بين مرو وهراة يقال لها بغ وبغشور وهذه النسبة شاذة على خلاف الأصل قاله السمعاني في كتاب "الأنساب". وانظر ترجمته في طبقات المفسرين للسيوطي، وطبقات الشافعية لابن السبكي، ووفيات الأعيان- كما نصّ على ذلك الخازن في مقدمته وتفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي كما نصّ عليه ابن تيمية -مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص19-، ومن هنا نعرف سر إكثار الخازن من الإسرائيليات في تفسيره -ومما يدل على أن الخازن يعطي القصص الإسرائيلي أهمية وتقديرًا أنه في مقدمة تفسيره عد من ميزات تفسير البغوي: أنه موشي بالقصص الغريبة، وأخبار الماضيين العجيبة!-.
والخازن كان خازن كتب السميساطية بدمشق ومن يقوم على خزانة الكتب وله ولع بالتفسير لابد أن يقرأ كثيرًا فيما تحت يديه من كتب التفسير، ولابد أن يعجب ببعض منها، ويتأثر به فيما يحاول من كتابة التفسير، ولقد رأينا الخازن قد تأثّر إلى حد كبير بالتفاسير التي لها عناية بالجانب القصصي الإسرائيلي فأكثر عنها النقل في تفسيره، وكان أكثر ما تأثر به ونقل عنه تفسير الثعلبي الذي كثيرًا ما يعزو إليه مباشرة، بعض ما يرويه في تفسيره من الإسرائيليات كأنّما رأى الخازن أن البغوي -وهو أصل كتابه- أهمل بعض القصص وأعرض عن بعض الموضوعات في الحديث -ذكر ابن تيمية في ص19 من مقدمته في أصول التفسير أن البغوي اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي لكنه صانه عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة. وأقول لكنه لم يصنه عن الإسرائيليات وإن كان مُقلًّا عن الثعلبي إلى حد كبير- فهو لهذا ينقل عن الثعلبي بعض ما أهمله البغوي.
والخازن فوق هذا كله كان متصوِّفًا واعظًا، والواعظ -كما قلنا عن الثعلبي- يغلب عليه الجانب القصصي فيما يحدث به الناس وفيما يكتب لهم.
ومن أجل كل ذلك جاء تفسير الخازن مليئًا بالإسرائيليات مشحونًا بالخرافات والخازن حين يذكر في تفسيره ما يذكر من الإسرائيليات لا يلتزم منهجًا واحد في روايتها. فحين يروي قصة فيها غرابة ولكنها لا تمسّ جانب العقيدة لا نجده يعقب عليها بكلمة واحدة تفيد نكارتها:
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(10) من سورة الكهف:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}
نراه يذكر قصة أصحاب الكهف وسبب خروجهم إليه عن محمد بن إسحق ومحمد بن يسار، وهي غاية في الطول والغرابة ومع ذلك فهو ينتهي منها ولا يعقب عليها ولا بكلمة واحدة. راجع القصة بتمامها في الجزء الرابع ص190 -165 ط التقدم.
وحين يروي الخازن قصة فيها ما يمس جانب العقيدة، ولا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، نجده أحيانًا ينقد ما رواه نقدًا سليمًا يكشف به عن فساده ونكارته، وأحيانًا يمرّ على ما يرويه من ذلك -رغم نكارته وفساده- دون أن يقول فيه كلمة الحق التي وجبت عليه:
فمن أمثلة ما يرويه مما يمس جانب العقيدة ولكنه يعقب عليه ببيان فساده وعدم صحته ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى:
في الآيات من(21) إلى(24) من سورة (ص)
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
حيث ساق قصصًا أشبه ما تكون بالخرافة وفيها ما يقدح في عصمة داود عليه السلام، كقصة الشيطان الذي تمثّل لداود عليه السلام في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، وجناحها من الدر والزبرجد فطارت ثم وقعت بين رجليه، وألهته عن صلاته، وقصة امرأة أوريا التي وقع بصر داود عليها فأعجبه جمالها فاحتال على زوجها حتى قتل رجاء أن تسلم له هذه المرأة التي فُتِنَ بها وشُغِفَ بحبها. وغير ذلك من الروايات العجيبة الغريبة.
ولكنه يأتي بعد كل هذا الذي ذكره فيقول: "فصل في تنزيل داود عليه الصلاة والسلام عمّا لا يليق به وينسب إليه" ويُفنّد في هذا الفصل كل ما ذكره مما يتنافى مع عصمة نبي الله داود عليه السلام. تفسير الخازن جـ6 ص38- 42.
ومن أمثلة ما يروي الخازن في تفسيره مما يمس جانب العقيدة ولا يتّفق مع الأصول الشرعية المقررة ولا يعقب عليه بما يفيد بطلانه، ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (83 -84) من سورة الأنبياء:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *** فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}
فقد روى عن وهب بن منبه قصة فيها نكارة ومنافاة للأصول الشرعية فقال:
"قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلًا من الروم، وهو أيوب ابن أموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها: سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير، ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة، وكان له خمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له آلة كل فدان أتان، لكل أتان من الولد اثنان، أو ثلاث أو أربع أو خمس، وفوق ذلك، وكا الله تعالى قد أعطاه أهلًا وولدًا من رجل ونساء، وكان برا تقيًا، رحيمًا بالمساكين، يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكرًا لأنعم الله، مؤديًا لحق الله، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا..... وكان إبليس لا يحجب عن شئ من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد، حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع، فلم بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسد والبغض، فصعد سريعًا حتى وقف من السماء حيث كان يقف، وقال: إلهي، نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدًا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال مما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج عن طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض عدو الله حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فقد سلطت على مال أيوب وهو المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصر عليها الرجال".
ثم ذكر أقوالًا غريبة في إفناء مال أيوب عقبها بقوله: "فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينج منه بشئ، صعد سريعًا حتى وقف الموقف الذي يقف فيه، وسأل الله أن يسلطه على ولده، فقال الله له: انطلق فقد سلطتك على ولده".
وذكر ما كان من بلاء وعذاب وهلاك وقع بولده، وأن إبليس جاء إلى أيوب بعد ذلك وقال له: "لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رءوسهم، تسيل دماؤهم وأدمغتهم، ولو رأيت كيف شققت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم؟، فبكى أيوب وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني ثم لم يلبث أن تاب إلى ربه، فوقف إبليس خاسئًا ذليلًا، وسأل الله أن يسلطه على جسد أيوب فقال له عز وجل: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله. فانقض عدو الله إبليس سريعًا، فوجد أيوب ساجدًا، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخرضه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن، فأخرجه أهل القرية حتى جعلوه على كناسة لهم، وجعلوا له عريشة، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته...."
ثم ذكر كلامًا طويلًا في حوار أيوب مع بعض خلصائه، وفي تضرعه إلى الله أن يكشف عنه ما به من بلاء وضر، وما كان من كلام الله له وكشفه الضر عنه، ثم نقل عن الحسن (أظنه البصري) "أن أيوب مكث مطروحًا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهر يختلف فيه الدود، ولا يقربه أحد غير رحمة (اسم زوجته)، ثم إن صبر أيوب على بلائه أعيى إبليس، فاستشار أعوانه، فأشاروا عليه أن يأتيه من قبل زوجته، فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امرأة أيوب، فتمثّل لها في صورة رجل وقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه ويرد الديدان في جسده، فأخذ يوسوس لها ويذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدًا! فصرخت، فعلم أنها قد جزعت، فأتاها بسخلة وقال: ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ، فجاءت تصرخ: يا أيوب، حتى متى يعذبك وبك؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين لونك الحسن؟ أين جسمك الحسن؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال لها أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك، ويلك... والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتيني أن أذبح لغير الله..." وطردها إلى آخر القصة. تفسير الخازن جـ4 ص250-254.
والعجب أن الخازن ينتهي من هذه القصة ثم لا يعقب عليها بأية كلمة تشعر بتكذيبها أو الشك فيها، مع أنها -بلا شك- رواية موضوعة مكذوبة، دُسَّت على تفسير كتاب الله تعالى، وكتاب الله لا يحتاج في تفسيره إليها، ويمكن دفعها عقلًا ونقلًا، فالعقل لا يقبل بحال من الأحوال أن يكون أي داعية إلى مبدأ أو عقيدة فيه كل هذه المنفرات التي تصد الناس عنه، وتباعد بينهم وبينه، والنقل صريح في أن القادة -فضلًا عن الرسل- لابد أن تكون لهم من الصفات البدنية -بجوار مالهم من الصفات الخلقية- ما يلقي عليهم المهابة.
وإلا فما معنى قوله تعالى:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
(البقرة: 247)​
وبعد فأعرف عن تفسير الخازن، أنه سهل العبارة، واضح المعنى، ولكن شهرته القصصية وسمعته الإسرائيلية أساءت إليه كثيرًا، وصدت كثيرًا من الناس عن الرجوع إليه والتعويل عليه، ولعل الله يُهيّء لهذا الكتاب من يخرجه في ثوب جديد، ويعلق عليه تعليقات تميز غثّه من ثمينه، وتستخلص صحيحه من سقيمه، إذا لأخرج لنا -بعلمه هذا- من بين فرض ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.​

___

تفسير الآلوسي(*) - المُسمِّى "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"
(*)هو أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي -ولد في بغداد سنة 1217هـ وتوفي بها سنة 1270هـ -انظر ترجمته في الجزء الأول من تفسيره ط الأميرية وانظر التفسير والمفسرون.​
- ومن أشهر كتب التفسير التي تذكر الإسرائيليات ولا تسندها وهي حين تذكرها لا تقصد إلا بيان ما فيها من زيف وباطل، ونادر جدًّا أن تذكر شيئًا من ذلك ولا تعقّب عليه.
وهذا التفسير من أشد الكتب نقدًا للإسرائيليات، وعيبًا على من توسّعوا في أخذها وحشوا بها تفاسيرهم.
وكأني بالآلوسي وهو يكتب تفسيره الذي استمده من أكثر تفاسير من تقدمه من العلماء هاله كثرة ما في معظمها من إسرائيليات وأخبار لا أصل لها، فنقلها عن الكتب، لا عن تصديق لها، ولا عن شغف بها، وإنما نقلها ليُنبّه على خطئها، ويُحِّر من تصديقها حتى لا يُخدع بها من يرون صحة كل ما في هذه التفاسير؛ لأنها من عمل علماء أجلاء، وسادة فضلاء.
والعلامة الآلوسي رحمه الله حين ينقد الإسرائيليات، تارة ينقدها بنفسه مع سخرية منه أحيانًا بهذه المرويات ورواتها بإشارات لطيفة، وتلميحات طريفة لا تخرج به عن دائرة الأدب الذي يجب أن يتحلّى به العلماء.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(248) من سورة البقرة:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
نراه يذكر ما قاله أهل الأخبار في شأن هذا التابوت، من أنه صندوق أنزله الله على آدم عليه السلام، فيه تماثيل الأنبياء جميعهم، وأنه كان من عود الشمشاذ، وكان نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وأنه لم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب، ثم إلى بنيه من بعده، وأنه كان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا، فيحكم بينهم، ويتكلّم معهم، إلى أن فسدوا، فأخذه العمالقة.... ثم يعقب الآلوسي على هذا بقوله -في تهكّم وسخرية- "ولم أر حديثًا صحيحًا مرفوعًا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق، ولا فكرًا كذلك" تفسير الألوسي جـ2 ص168 - 169 ط: المنيرية.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(38) من سورة هود:
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}
نراه يروي عن الكلبي وغيره: أن السفينة كانت من خشب الساج، وأن نوحًا غرس شجره بنفسه وأبقاه عشرين سنة أو أربعين حتى صار طوله أربمعمائة ذراع.
ويروي عن ابن جرير وغيره: أن طول السفينة كان ألف ذراع ومائتي ذراع وأن عرضها كان ستمائة ذراع، ويذكر ما روي من أن نوحًا أتمّها في ثلاث سنين أو في أربعين سنة، أو في ستين، أو في مائة سنة، أو في أربمعمائة، وأنه صنعها في الكوفة، أو في الهند، أو في الشام.....
ثم يُعلّق الآلوسي على هذا كله بقوله: "وسفينة الأخبار في تحقيق الحال -فيما أرى- لا تصلح للركوب فيها، إذ هي غير سالمة من عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يُؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه، ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أي خشب صنعها، وبكم مدة أتمّ عملها... إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب، ولم تبينه السنة الصحيحة" تفسير الألوسي جـ12 ص45.
وتارة أخرى نجد الآلوسي رحمه الله ينقل في تفسيره ما روى غيره من الإسرائيليات، ثم ينقل ما قاله غيره من المفسرين في نقدها كابن كثير وأبي حيان رحمهما الله تعالى.فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(12) من سورة المائدة:
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}
نراه ينقل عن البغوي -صاحب التفسير المعروف- قصة غريبة عن عوج بن عنق، وأن طوله كان ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثين ذراعًا وثلثًا، وأنه كان يحتجز بالسحاب، ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس وأن ماء الطوفان طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وأنه عاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يد موسى.
ثم يذكر كيفية هلاكه فيقول: إنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخًا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم. فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله.
ثم يذكر أن أم عوج -وهي عنق إحدى بنات آدم- كان مجلسها جريبا من الأرض، وأن عوج بن عنق لقى بني إسرائيل الذين أمرهم الله أن يدخلوا الأرض المقدسة -وكان على رأسه حزمة من حطب- فأخذهم جميعًا وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال لها: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقلت له امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل!!
ولكن الآلوسي رحمه الله لا يقبل هذه الخرافة، ولا يرضى أن يسكت عنها، فنراه يقول بعد ما فرغ من نقلها عن تفسير البغوي ما نصّه:
"وأقول: شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة. وفي فتاوى العلامة ابن حجر: قال الحافظ العماد بن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قطّ على عهد نوح عليه السلا، ولم يسلم من الكفار أحد. وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعًا: أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق، وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى، إنم العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يُبيّن أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم...... ثم يمضي الآلوسي في تفنيده قصة عوج بما حكاه عن غير من تقدّم من العلماء الذين استنكروا هذه القصة وعدوها خرافة لا أصل لها ولا حقيقة. تفسير الألوسي جـ6 ص86 -87.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(18) من سورة النمل:
{حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}
نراه يذكر ما قاله القصاص في شأن هذه النملة من ضخامة حجمها، وأنها كانت عرجاء، وأن اسمها "طاخية" وقيل "جرمى"، ثم يعقب على هذا كله بما عقب به أبو حيان في تفسيره البحر المحيط فيقول: "وفي البحر: اختلف في اسمها العلم ما لفظه؟ وليت شعري من الذي وضع لها لفظًا يخصها! أبنو آدم أم النمل؟!! - تفسير الآلوسي جـ19 ص159.
وإذا كان الآلوسي يُشدّد النكير على من أدخل مثل قصة عوج بن عنق في تفسيره، فإنه ينكر كل الإنكار على من يروي من أباطيل الإسرائيليات ما يخلّ بمقام النبوّة أو يذهب بعصمة الأنبياء عليهم السلام.
فمثلًا عندما فسّر قوله تعالى في الآيا من(21) إلى(24) من سورة (ص):
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}
إلى قوله:
{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
نراه يذكر ما قيل في تفسير هذه الآيات، ومنها قصة أوريا، ثم يعقب على ذلك بقوله: "والمقبول من هذه الأقوال ما بعد عن الإخلال بمنصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح، لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام، ولذا قال عليّ -على ما في بعض الكتب- من حديث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين" ثم ذكر ما ذهب إليه أبو حيان في تفسيره فقال: "وقال أبو حيان: الذي أذهب إليه ما دلّ عليه ظاهر الآية، من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكمن، وأنه فزع منهم، ظانًّا أنهم يغتالونه إذ كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه عز وجل، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما نص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة -ابتلاء الله تعالى له- أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنّه، فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه، وخرّ ساجدًا، ورجع إلى الله تعالى، وأنه تعالى غفر له ذلك الظن، فإنه عز وجل قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} ولم يتقدّم سوى قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ونعلم قطعًا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا، لا يُمكن وقوعهم في شئ منها، ضرورة أنا لو جوّزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع، ولم يوثق بشئ مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر: ونؤثر حكم العقل في كل شبهة *** إذا آثر الأخبار جلاس قصاص" تفسير الآلوسي جـ23 ص157.
ومثلًا عند تفسير قوله تعالى في سورة ص:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}
إلى آخر القصة في الآيات(41) وبعدها، ونجده يذكر ما روي من أن أيوب مرض مرضًا منفرًا، فكان الدود يختلف في جسده، ولحمه يتساقط حتى مله العالم ونفروا منه، وأنه أقي على كناسة لبني إسرائيل، وأنه بقي على هذه الحال ثماني عشرة سنة.. ثم يعقب على هذا كله بأقوال نقلها عن بعض العلماء، ثم يقول بعد أن يفرغ منها: "ولعلك تختار القول بحفظهم -يعني الأنبياء عليهم السلام- مما تعافه النفوس، ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما نقل عن قتادة ونقله القصاص في كتبهم" تفسير الآلوسي جـ21 ص188. وانظر ما قاله في تفسيره لقوله تعالى في الآية37 من سورة الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الآية. جـ22 ص23-24.
وإذا كان الآلوسي رحمه الله يُشدد النكير على من شغفوا بالإسرائيليات من المفسرين، ويُبطل منها ما لا يقوم الدليل على صحّته، فإنَّا نراه -أحيانًا- لا يُسلّم بصحة بعض القصص الإسرائيلي على ظاهره ويجعله من باب الرمز والإشارة وليت شعري إذا كانت القصة عنده. وفي واقع الأمر غير صحيحة فما الداعي لهذا التعسّف والتكلّف وقد أراحنا الله من النظر فيها ببطلانها وفسادها؟
فمثلًا عندما فسّر قوله تعالى في الآية(102) من سورة البقرة:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية.
نجده يذكر ما روي من أن الملائكة تعجّبت من بني آدم من مخالفتهم ما أمر الله تعالى به، وقالوا له تعالى: لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال: اختاروا ملكين منكطم فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض، ومثلًا بشرين وألقى الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، وافتتنا بامرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنمًا، أو يشربا خمرًا، أو يقتلا نفسًا، ففعلا، ثم تعلمت منهما ما صعدت به السماء، فصعدت ومسخت هذا النجم، وأرادوا العروج فلم يمكنهما، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاخترا عذاب الدنيا فهما الآن يعذبان فيها.
ينكر الآلوسي هذه القصة، ويذكر من أنركها من العلماء، ومن ثم يقول: "ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات، فيُراد من الملكين: العقل النظري، والعمل العلمي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة: النفس الناطقة، ومن تعرضهما لها: تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي. تحريضًا إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء مما تعلمت منهما، عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القديسين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين: بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما من العروج إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها،...... ويمضي الآلوسي فينقل عن بعض الأكابر حلًّا آخر لهذا الرمز، ثم يقول:
"هذا، ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططًا، وقال غلطًا وفتح بابًا من السحر يُضحك الموتى ويُبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رءوس الكفرة الطغام، كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين" تفسير الآلوسي جـ1 ص341 -342.
أقول: ولعله أدخل في باب الشطط وقول الغلط، أن تكون القصة لا أصل لها، ثم نتكلّف تخريجها على ضرب من الرمز والإشارة!!
وإذا كان الذي حمل الآلوسي رحمه الله على أن يذهب هذا المذهب هو ما ذكره عن الإمام السيوطي من أن القصة رواها الإمام أحمد، وابن حبان، والبيهقي، وغيرهم، مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوفة على علي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحّتها لكثرتها وقوة مخرجّيها.
إذا كان هذا هو الذي حمله على مذهبه الرمزي في فهم القصة؛ فلا أرى ذلك حاملًا له على أن يركب مين الشطط الوتعسّف، فكا صحّح السيوطي القصة أو رجّح صحّتها، كذّبها غير السيوطي تكذيبًا قاطعًا كالقاضي عياض، وأبي حيان، والفخر الرازي، ونص الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة، فهو كافر بالله تعالى؛ لأن الملائكة معصومون:
{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(التحريم: 6)​
{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *** يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}
(الأنبيا: 19- 20)​
والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثّلت لهما فكان ما كان، وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول -انظر تفسير الآلوسي جـ2 ص341- إذا كان هؤلاء العلماء قد قد وقفوا من هذه القصة موقف المبطل لها والقرآن والعقل في جانبهم، فما الذي يحمل الآلوسي على أن يفترض صحّتها ويجعلها من قبيل الرمز والإشارة!!؟
ومن هذا القبيل أيضًا أنه لمّا عرض لتفسير قوله تعالى في الآية(60) من سورة البقرة:
{وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}
نجده يقول عن عصا موسى "والمشهور أنها من آس الجنة، طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام، لها شعبتان تتقدان في الظلمة...." ثم يمضي في تفسيره للآية ويشرحها على حسب ظاهرها ثم ينتقل إلى تفسيرها تفسيرًا إشاريًّا فيقول:
"وحظّ العارف من الآية: أن يعرف أن الروح الإنسانية وصفاتها بمثابة موسى وقومه، وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا (لا إله إلا الله) ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورًا عند استيلاء ظلمات النفس...." تفسير الآلوسي جـ1 ص273.
ويظهر أن الآلوسي رحمه الله قد ارتضى أن عصا موسى كان لها شعبتان تتقدان في الظلمة، وعلى أساس هذا الوصف المروي في الإسرائيليات أورد المعنى الإشاري الذي نقلناه عنه آنفًا!!
وما كان للآلوسي رحمه الله وهو القائل في تفسيره: ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كان أضغاث أحلام..... ما كان أن يرتضي ما قاله في وصف عصا موسى زاعمًا أنه المشهور، وما كان له أن ينزل أوصافها المذكور -وكلها أوهام وخيالات- على معانٍ إشاريّة، فالمعاني الإشارية إنما تنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين، وهي إدراكات أو إلهامات يجدها العارف في طيّات نص قرآني أو حديث نبوي يرمي إلى معان دقيقة، لا في خرافة تجردت عن الحقيقة وانطوت على بهتان.
ولقد رأينا الآلوسي -وهو النفور من الإسرائيليات، والمنكر على من يرويها في تفسيره- ينزلق أحيانًا إلى روايتها دون أن يعقّب عليها أو يحذر منها.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(80) من سورة يوسف:
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}
نراه يقول ما نصّه:
"وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا -يعني قولهم: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه- تذكروا عهدهم مع أبيهم، فاستشاط من بينهم روبيل غضبًا، وكان لا يقوم لغضبه شئ، ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فقال: أيها الملك، لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها بمصر حامل إلا وضعت، فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير: قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده -وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه- فلما فعل الولد سكن غضبه، فقال لإخوته من مسني منكم؟ فقالوا: ما مسك أحد منا، فقال: لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة، قال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة، فعند ذلك خضعوا" تفسير الآلوسي جـ13 ص31.
ويظهر أن الآلوسي قد رضي هذه القصة، وذلك لأنه قال بعد فراغه من روايتها: "ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين" يقصد ما رأوه من قوة يوسف عليه السلام التي تحول دون أخذهم أخاهم منه بالقوة "وما ذكره قبل روايته لهذه القصة من أن حصول هذه المرتبة من اليأس كان لما شاهدوه من عوذه بالله أن يأخذ إلا من وجد الصواع عنده.
والقصة ظاهر نكارتها فكيف يصدقها الآلوسي رحمه الله ويجعل بعض ما جاء فيها عاملًا من عوامل يأس إخوة يوسف من استرداد أخيهم!! .....
ومثلًا عند تفسير الآلوسي لقوله تعالى في الآية(22) من سورة النمل:
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}
نجده يقول ما نصه:
"وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره -يعني الهدهد- دعا عريف الطير وهو النسر، فسأله فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسد الطير -وهو العقاب- عليَّ به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل، فقصدته، فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بل قال: أو ليأتيني بسلطان مبين، فقال: نجوت إذًا. فلما قرب من سلمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان وعفا عنه. وعن عكرمة: أنه عفا عنه لأنه كان بارًا بأبويه، يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما" تفسير الآلوسي جـ19 ص168.
والقصة -كما ترى- ظاهر عليها أمارات الوضع، فمن الذي نقل لنا حوار الطير وترجم لنا منطقه؟ ومن الذي عرف عكرمة أن الهدهد كان بارا بأبويه ومن أجل ذلك عفا عنه سليمان؟..... القصة موشوعة ولا شك.....
ولكن الآلوسي -على غير عادته- يرويها ثم لا يعقب عليها بما يُفيد بطلانها، ولقد كنا نود أن لو وقف الآلوسي موقف المتشدد دائمًا من رواية الإسرائيليات، فلا يروي رواية ويسكت عنها، كما فعل في هذه القصة والتي قبلها، بل وكنا نود -بالنسبة للروايات التي ذكرها لينقدها- أن يكتفي بمجرد الإشارة إليها لا أن يذكرها بتفاصيلها وحذافيرها وبكل ما يعرف من رواياتها -وإذا كنت في هذا البحث قد جريت على أن أذكر بعض القصص بتمامها على ما فيها من طول ممل فعذري في ذلك أني لست في موقف المفسر لكتاب الله حتى أكفّ عنها أو اكتفي بالإشارة إليها، وإنما أنا ناقد للإسرائيليات، ومبين لأثرها وخطرها، ولا يتم النقد ويتضح بعد الأثر وعظم الخطر إلا بروايتها بكل عجرها وبجرها، حتى نعرف كل ما حوت من خرافات وترهات، وما أكثرها وأشنعها- كُنَّا نود منه ذلك، ولكنّا دهشنا حينما وجدناه يعتذر عن روايته لمثل ذلك، تارة بأنه يريد إشباع رغبات بعض الناس وميولهم لسماعها، وتارة بأنه يرويها تأسِّيًا بمن سبقه من المفسرين!! ........
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(82) من سورة النمل:
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}
نراه يذكر من أخبار الدابة وأوصافها ما شاء الله أن يذكر، ثم يقول ما نصّه:
"والأخبار في هذه الدابة كثيرة، وفي البحر: أنهم اختلفوا في ماهيتها، وشكلها، ومحل خروجها، وعدد خروجها، ومقدار ما يخرج منها وما يفعل بالناس، وما الذي تخرج به، اختلافًا مضطربًا معارضًا بعضه بعضًا فأطرحنا ذكره، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح، وتضييع لزمان نقله" ثم يعقب الآلوسي على كلام صاحب البحر بقوله: "وهو كلام حق، وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعًا لشهوة من يحب الإطلاع على شئ من أخبارها صدقًا كان أو كذبًا" تفسير الآلوسي جـ2 ص21.
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(12) من سورة لقمان:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
نراه يذكر من شأن لقمان ما يتعلق بنسبه، وأنه كان قاضيًا في بني إسرائيل أو كان نبيًا، وهل هو حرًا أو عبدًا حبشيًا غليظ الشفتين مصفح القدمين؟ أو نوبيًا مشقق الرجلين ذا مشافر؟ وأنه كان خياطًا أو راعيًا، إلى غير ذلك من الأخبار التي رواها الآلوسي عن بعض من نسبت إليه من السلف، ثم يعقب عليها بقوله:
"ولا وثوق لي بشئ من هذه الأخبار" ويعتذر عن ذكرها رغم أنه لا يثق بها بقوله: "وإنما نقلتها تأسيًا بمن نقلها من المفسرين الأخيار غير أني أختار أنه كان رجل صالحًا حكيمًا ولم يكن نبيًّا" تفسير الآلوسي جـ21 ص74.
وليت الآلوسي لم يلتفت إلى إشباع شهوة المنهومين بسماع الإسرائيليات، وليته لم يتأسّ بمن شغف من المفسرين بروايتها ولو كانوا من الأخيار، ليته استقام على هذه الطريقة إذًا لكان قد أراحنا من هراء كثير كان يكفي أن يشير إليه عندما يقصد إلى الرد عليه.
ومهما يكن من شئ فتفسير الآلوسي يعتبر -بحق- من خير التفاسير التي تصدت للإسرائيليات ببيان زيفها وفسادها، فجزى الله أبا الثناء عن القرآن والسنة والإسلام خيرًا.​

___

تفسير السيد محمد رشيد رضا(*) - المُسمَّى "تفسير القرآن الحكيم"، وشهرته "تفسير المنار"
(*)ولد في سنة 1282هـ وتوفي في سنة 1354هـ، وقد وصل الشيخ رشيد في تفسيره إلى قوله تعالى في الآية(101) من سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وقد طُبِعَ تفسير المنار في اثنى غشر جزءًا، تنتهي عند مبدأ قوله تعالى في الآية(53) من سورة يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد أتمّ تفسير سورة يوسف الأستاذ بهجت البيطار وطبع تفسير السورة بتمامها في كتاب مستقل.​
وهو من كتب التفسير التي حملت على المفسرين الذين أغرموا بالإسرائيليات حملة شعواء وتطرف أصحابها فتناولوا من تنسب إليهم -ولو ادعاءً- من الصحابة أو التابعين بما لا يتّفق وكرامتهم على الله وعلى الناس، ثم هم على رغم ذلك يقعون فيما عابوه على غيرهم فيتورطون في رواية الإسرائيليات تورّطًا بليغًا.
وصاحب هذا التفسير أشد المفسرين إنكارًا للإسرائيليات وأعنفهم على من خدعوا بها وروّجوا لها، ولكنه -كما أشرنا إليه سابقًا- يأخذه الحماس أحيانًا إلى حد النيل من بعض من تنسب لهم هذه الإسرائيليات إن صدقًا وإن كذبًا، وربما كان من تنسب إليه صاحبيًّا جليلًا، أو تابعيًّا مأمونًا، ومع ذلك فلا صحبة الصحابي تحميه من عمرات الشيخ سامحه الله، ولا عدالة التابعي تحول دون نيله منه وطعنه عليه!! ...
وإذا نحن رجعنا إلى تفسير المنار، وجدناه يضرب صفحًا عن ذكر الإسرائيليات ويكتفي بالإشارة إليها وبيان بطلانها فمن ذلك -مثلًا- أنه عندما عرض لتفسير قوله تعالى في الآية(69) من سورة الأعراف:
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
نجده يفسر قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} بأنه زادهم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة، أو بسطة في خلق أبدانهم، إذ كانوا طوال الأجسام، أقوياء الأبدان... ثم يقول "وفي التفسير المأثور روايات إسرائيلية الأصل، في المبالغة في طولهم وقوّتهم، لا يعتمد عليها، ولا يُحتجّ منها" تفسير المنار جـ8 ص498.
ومن ذك أيضًا أنه لما عرض لقصة نوح في سورة هود وقال: "وأما ما حشا المفسرون به تفاسيرهم من الروايات في هذه القصة وغيرها عن الصحابة والتابعين وغيرهم، فلا يعتقد بشئ منه، ولم يرفع شئ منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن، وأمثل ما روي فيه حديث عائشة في صنع السفينة، وأم الولد الكافر الذي رفعته لينجو فغرق معها، وهو ضعيف، وأنكر منه ما رواه ابن جرير عن ابن عباس عن إحياء عيسى عليه السلام بطلب الحواريين لحام بن نوح وتحديثه إياهم عن السفينة في طولها، وعرضها، وارتفاعها، وطبقاتها وما في كل منها، ودخول الشيطان فيها بحيلة احتال بها على نوح، ومن ولادة خنزير وخنزيرة من ذنب فيل، وسنور وسنورة (قط وقطة) من منخر الأسد وكل ذلك منا لأباطيل الإسرائيلية المنفرة عن الإسلام، وقد رواه من طريق علي بن زيد بن جدعان، وقد ضعفه الأئمة، كأحمد ويحيى وغيرهم، وقال ابن عدي: كان يغلو في التشيع ومع ذلك يكتب حديثه. أقول: وحسبهم هذه الرواية حجة عليه" تفسير المنار جـ12 ص104_105.
وأحيانًا نجد صاحب تفسير المنار يذكر الروايات الإسرائيلية التي تناقلها المفسرون ثم يقارنها بما في التوراة متّخذًا من ذلك دليلًا على كذبها، كأنّما التوراة عنده هي الأصل المعتمد، أو المقياس الذي تقاس عليه روايات المفسرين المسلمين، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فهو باطل!!
فمن ذلك مثلًا أنه عندما فسر قوله تعالى في الآية(22) من سورة المائدة:
{قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}
نراه يقول: "أما ما روي في التفسير المأثور من وصف هؤلاء الجبارين فأكثره من الإسرائيليات الخرافية التي كان يبثّها اليهود في المسلمين فرَوَوْها من غير عزو إليهم كقولهم: إن العيون الاثنى عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم في كسائه أو في حجزته، وفي رواية: كان أحدهم يجني الفاكهة، فكان كلما أصاب واحدًا من هؤلاء العيون وضعه في كمه مع الفاكهة، وفي رواية: أن سبعين رجلًا من قوم موسى استظلّوا في خفّ رجل من هؤلاء العماليق" وأمثل ما روي في ذلك وأصدقه: قول قتادة عند عبدالرزاق وعبد بن حميد في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} قال: هم أطول منّا أجسامًا وأشد قوّة، وأفرطوا في وصف فاكهتهم كما أفرطوا في وصفهم، فروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} الذي نفسره أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منكم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، ثم يقول: " وهذه القصة المبسوطة في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد الذي هو السفر الرابع من أسفار التوراة. وفي أولهما: أن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أُمِرُوا، وأنهم قطعوا في عودتهم زوجونة -الزرجون بالتحريك: الكرم، ويطلق أيضًا على الخمر والأول هو المراد- فيها عنقود عنب واحد، حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شئ من الرمان والتين، وقالوا لموسى وهو في ملأ بني إسرائل: قد صرنا إلى الأرض التي بعثنا إليها فإذا هي بالحقيقة تدر لبنًا وعسلًا، وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء، والمدن حصينة عظيمة جدًّا، ورأينا ثم أيضًا بني عناق... -إلى أن قال الكاتب- وكان كالب يسكت الشعب عن موسى قائلًا: نصعد ونرث الأرض فإِنَّا قادرون عليها. وأما القوم الذين صعدوا معه (أي للتجسس) فقالوا: لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا، وشنّعوا عند بني إسرائيل على الأرض التي تجسسوها وقالوا: هي أرض تأكل أهلها وجميع الشعب الذين رأيناهم فيها طوال القامات، وقد رأينا ثم من الجبابرة جبابرة بني عناق، فصرنا في عيوننا كالجراد، وكذلك كنا في عيونهم". ومضى صاحب المنار في نقل بعض أخبارهم من التوراة ثم قال:
"فأنت ترى أنه ليس في الرواية المعتمدة عند بني إسرائيل تلك الخرافات التي بثّوها بين المسلمين في العصر الأول، وإنما فيها من المبالغة: أنهم لخوفهم ورعبهم من الجبارين احتقروا أنفسهم حتى رأوها كالجراد، واعتقدوا أن الجبارين رأوهم كذلك، وأما حمل زرجون العنب والفاكهة بين رجلين فلا يدل على مبالغة كبيرة في عظمها، وقد يكون سبب ذلك حفظها لطول المسافة" أ.هـ. تفسير المنار جـ9 ص331_ 332.
ولست أرى وجهًا للمقارنة بين ما ذكره المفسرون وما نقله عن التوراة، فالتوراة دخلها التحريف والتبديل، فالاحتكام إليها غير صحيح، ثم لم يهون الشيخ من مبالغات التوراة وما فيها قريب مما كتب في التفسير؟ الحق أن هذا مسلك ما كان للشيخ رحمه الله أن يسكله.
وعند تفسيره للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة الأعراق يقول ما نصّه:
"ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم، وهو في الفصل الثالث منه"... ثم يسوق الشيخ ملخّص ما في سفر التكوين، ثم يقول: "إذا علمت هذا فلا يغرّنك شئ مما يُروى في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة، فأكثره لا يصح، وهو أيضًا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذلك الذين لم يدخلوا فيه" تفسير المنار جـ8 ص355_356.
وواضح كل الوضوح أنه يريد أن يقول: إن ما في كتب التفسير من الإسرائيليات كذبٌ لمُخالفته لسفر التكوين وهو الأصل المعتمد عند اليهود، أما ما في كتب التفسير فإنه يرجع إلى مصادر أخرى لا يعرف لها أصل عندهم، وإنما هي من وضع الزنادقة.
وما لنا ولكون التوراة معتمدة عند أهل الكتاب؟ المهم أن يكون معتمدة عندنا حتى تكون حجة على ما سواها من المذكور في التفسير، وذلك لا يقول به مسلم، فكيف إذًا تصح المقارنة؟
وعجيب كل العجب أن الشيخ رحمه الله يُقرّر في أكثر من موضع في تفسيره مثل هذا، ثم يناقض نفسه فيقول عن سفر التكوين تحت عنوان "سفر التكوين ليس من التوراة" ما نصّه:
"وسفر التكوين هذا ليس حجة قطعيّة فيما ذكر فيه، فضلًا عن سكت عنه فإن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها بجانب تابوت العهد _كما ذكر في سفر التثنية_ قد فقدت هي والتابوت بحريق الهيكل، وهذه الأسفار المعتمدة عند اليهود قد كُتِبَت كلها بعد الرجوع من سبي بابل في سنة 536 قبل ميلاد المسيح عليه السلام ويقولون: إن عزرا هو الذي كتبها وجمعها، وليس لها سند متصل إليه -دع اتصالها بما قبله-، وقد اشتهر أن الأستاذ جبر ضومط مدرس البلاغة في الجامعة الأمريكانية ببيروت ألّف رسالة رجع فيها أن سفر التكوين مأثور عن يوسف عليه السلام، ولما نطلع عليه. وجُملة القول: أنه ليس له سند إلى من كتبه، ولا يقوم دليل على أنه وحي من الله تعالى، ولكنه على كل حال أثر تاريخي له قيمته" تفسير المنار جـ12 ص104.
وأعجب العجب أن نرى صاحب المنار -وهذا رأيه في سفر التكوين وفي التوراة- يقرر أن بعض ما في التوراة يصلح تفسيرًا لبعض النصوص القرآنية، وذلك في أكثر من موضع:
فمثلًا عندما فسّر قوله تعالى في الآية(133) من سورة الأعراف:
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}
نراه يذكر الروايات التي أوردها بعض المفسرين في شأن الطوفان ثم يُعَقِّب عليها ببيان بطلانها، ثم يقول:
"وأَوْلَى الآثار بالقبول قول ابن عباس الأوال الموافق للمتبادر من اللغة: أي طوفان المطر، وما عدا ذلك من الإسرائيليات، وأولاها بالقبول ما لا يُخالف القرآن من أسفار التوراة نفسها وهو ما ننقله عنها"... ثم ساق الشيخ رشيد ما جاء في شأن الطوفان في الفصل التاسع من سفر الخروج -تفسير المنار جـ9 ص90-، وفيه من الأخبار الإسرائيلية ما لا يقوم دليل على صحّته مما بأيدينا من القرآن والسنة.
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآيتي (88_89) من سورة يونس:
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ *** قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
نراه يفسر قوله تعالى:
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ}
فيقول: "المعنى هنا: ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب حرثهم وأنعامهم وتنقص مكاسبهم وثمراتهم وغلاتهم فيذوقوا ذل الحاجة. {وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} أي اطبع عليها وزدها قساوة وإصرارًا وعنادًا حتى يستحقوا تعجيل عقابك فتعاقبهم"... ويمضي صاحب المنار في تفسير الآيتين ثم يُنهي تفسيره لهما بقوله:" هذا، وإن في قصة موسى وفرعون في سفر الخروج ما يُفسِّرُ استجابة هذا الدعاء بما يوافق ما قلناه هنا من إرسال النوازل على مصر وأهلها، ولجوء فرعون وآله إلى موسى عند كل نازلة منها ليدعو ربه فيكشفها عنهم فيُؤمنوا به، حتى إذا ما كشفها قسى الرب قلب فرعون فأصر على كفره، وقد فصلنا هذا في تفسير الآيات: 133_135 من سورة الأعراف، ومنه تعلم أن كل ما خالفها من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار وأمثاله منها _كما نرى_ صد اليهود عن الإسلام بما يرونه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفًا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين في وقائع عملية وأمور حسيَّة" تفسير المنار جـ11 ص473_ 474.
وعند تفسيره لأول قصة يوسف عليه السلام في الآيات من أول السورة إلى قوله:
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}
(يوسف: 18)​
نجده ينهي تفسيره للآيات بقوله:
"هذا هو الفصل الأول من قصة يوسف، وهو صفوة الحق بما فيه من الدقة والعبرة، وقد شوّهه رواة الأساطير والمفتريات الإسرائيلية بما ظنّوا أنه من أخبار التوراة وما هو منها، ومن شاء فليقرأ هذا الفصل من قصة يوسف في سفر التكوين ليرى الفرق البعيد بين كلام الله _يعني ما في سفر التكوين الذي قال عنه إنه لا يوثق به_ وكلام البشر وليعلم المغرور بما نقله المفسرون من الإسرائيليات منها الكسدي الكبير الذي هو أقلّ كذبًا وأكثر إتقانًا لأساطيره من السدي الصغير، أن كل ما فيها من الزيادة لا أصل لها عند أهل الكتاب، ولا هو مرويّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو كذب صراح"... ثم يقول بعد ذلك مباشرة "الفصل أو الإصحاح 37 من سفر التكوين" ويسوف ما جاء فيه بطوله وبكل ما فيه من غرائب كشاهد على كذب ما في كتب التفسير من أخبار هذه القصة. تفسير المنار جـ12 ص267_ 269.
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(20) من سورة يوسف:
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}
يقول ما نصّه:
"وأما الثمن البخس الذي بيع به، ففي سفر التكوين أنه كان عشرين شاقلًا من الفضة، وقدر علماء التاريخ القديم الشافل بخمسة عشر جرامًا من الوزن العشري اللاتيني المعروف في عصرنا، فيكون ثمنة 300 جرام من الفضة، وهي تقرب من 94 درهمًا من دراهمنا اليوم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه عشرون درهما، ولعله سمعه من اليهود فظن أن العشرين عندهم هي الدراهم عند العرب. تفسير المنار جـ12 ص271.
هكذا يفسر الشيخ من غير تحرج الثمن البخس بما جاء في سفر التكوين الذي قال عنه إنه ليس حجة، وعلى ما جاء في سفر التكوين يصحح ما نقل عن ابن مسعود، وهذا مسلك ما كان يحسن بالشيخ أن يسلكه في تفسيره لكتاب الله وهو الذي عاب غيره من رواة الإسرائيليات وسلقهم بلسانه الحاد، وفيهم من كان أسلم منه مأخذًا وأقل نقلًا!!
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(99) من سورة يوسف:
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}
نراه يفسر الآية ثم ينهي تفسيرها بقوله:
"وفي سفر التكوين: أن يوسف عليه السلام عرف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه، وأرسلهم لاستحضار أبيهم وأهلهم، فجاءوا فأقطعهم أرض جاسان -وهي معروفة الآن بالشرقية الممتدة من جوار أبي زعبل إلى البحر الأحمر- وأرسل إليهم العربات لتحملهم، وأحمال الغذاء والثياب على الحمير. فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته، وصعد ليلاقي إسرائيل أباه في جاسان فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى على عنقه طويلًا، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرهم عليه، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل، ثم أخذ وفدًا منهم لمقابلة فرعون، وأدخل أباه عليه فبارك فرعون، فيظهر أن هذا اللقاء كان الأول لهم، ثم إنه بعد لقاء فرعون قال لهم: ادخلوا مصر... إلخ، ثم عاد بهم إلى قصره الخاص" تفسير سورة يوسف للشيخ رشيد ص127_128. ط: المنار.
هكذا بكل بساطة وتساهل ينقل الشيخ من سفر التكوين ما ينقل، وفي تسليم ظاهر لما نقل يقول: "ويظهر أن هذا اللقاء كان الأول لهم، ثم إنه بعد لقاء فرعون قال لهم: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" أرجوا أن لا يكون الشيخ أراد بالأمن في الآية تأمين فرعون لهم حينما وفدوا عليه فأقرهم على أرض جاسان كما جاء في سفر التكوين!
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(138) من سورة الأعراف:
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
نراه يفسر قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} فيقول ما نصّه:
"إنهم تجاوزوه بعنيته سبحانه وتأييده إياهم بفلق البحر وتيسير الأمر حتى كأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبًا لهم. أو المعنى: أننا أيدناهم ببعض ملائكتنا فجاوز بهم البحر بأمرنا، فمن المعهود في اللغة أن يُنسب إلى الملوك ورؤساء القواد ما ينفذه بعض أتباعهم بأمرهم، وما يقع بجاههم وقوة سلطانهم، ويجوز الجمع بين المعنيين"... ثم ذهب الشيخ يستشهد على صحّة إرادة كلا المعنيين بما جاء في سفر الخروج، فقال مستدلًا على إرادة المعنى الأول:
"وفي آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج ذكر خبر ارتحال بني إسرائيل وقال: "وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من الغمام ليهديهم الطريق، وليلًا في عمود من نار ليضئ لهم ليسيروا نهارًا وليلًا، لم يبرح عمود الغمام نهارًا، وعمود النار ليلًا من أمام الشعب".
ثم قال مستدلًا على إراده المعنى الثاني:
"ثم جاء في الفصل الرابع عشر منه _يعني من سفر الخروج_ بعد ذكر أتباع فرعون ومن معه من بني إسرائيل:
"فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بني إسرائيل فصار وراءهم، وانتقل عمود الغمام من أمامهم فوقف وراءهم ودخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل فكان من هنا غمامًا مظلمًا، وكان من هناك يُنير الليل، فلم يقترب أحد من الفريقين طول الليل".
ثم بعد ما ساق هذين النقلين عن سفر الخروج قال:
"وهذا بعض ما جاء في التوراة مما يصح أن يكون تفسيرًا لقوله تعالى في القرآن: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}"!!
وغريب من صاحب المنار بعدما انزلق في تفسيره إلى رواية ما في أسفار التوراة -وهي لا يوثق بها- وجعلها تفسيرًا لبعض آيات القرآن الكريم، أن نراه يرد بعض الأحاديث الصحيحة، ويزعم أنها من قبيل الإسرائيليات رغم أنها لا تصادم عقلًا ولا نقلًا!!..
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(162) من سورة الأعراف:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}
نجده يقول:
"ولا ثقة لنا في شئ مما روي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية فكله من الإسرائيليات الوضعيّة -كما قال الأستاذ الإمام هنالك [يقصد ما ذكره في الجزء الأول من تفسير المنار ص324_325 عند تفسيره للآية 59 من سورة البقرة]- وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا، كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما: قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سُجَّدًا وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حنطة، حبة شعرة، وفي رواية: في شعيرة -رواه البخاري في تفسير السورتين [يقصد سورة البقرة الآية 59 وسورة الأعراف الآية 162] من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يُصرّح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه" تفسير المنار جـ9 ص373.
وسلتُ أدري كيف ساغ للشيخ رشيد أن يرد حديثًا صحيحًا ورد في موضعين من صحيح البخاري، وورد في غير البخاري من الكتب المعتمدة؟ ألا يبلغ تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية مبلغ أسفار التوراة التي يفسر بها الشيخ كلام الله؟!!..
والعجب بعد هذا أن يقول: إن أبا هريرة لم يصرح بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار لأنه كان يروي عنه!!.. لقد جاء الحديث في تفسير سورة البقرة عند البخاري بلفظ "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وجاء في تفسير سورة الأعراف عند البخاري أيضًا بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا صريح في رفعه الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة لم يكن مدلّسًا حتى نقول عنه إن عنعنته أو ما في معناها قادحة في صحة الحديث!
ثم لم يستبيح الشيخ لنفسه أن يحشو تفسيره بإسرائيليات أسفار التوراة، ويُنكر في عُنف وغِلظة على المفسرين الذي حشو تفاسيرهم بالإسرائيليات! ألأن إسرائيلياته من التوراة وإسرائيلياتهم من وضع زنادقة اليهود كما يقول؟!!.. هذه وتلك إسرائيليات لا نثق بها ولا نطمئن إليها، وكان أولى بالشيخ رحمه الله أن يُمسك عنها بالكلية ولا يسود بها صفحات كتابه.
وكان أولى به -وقد أدلى بدلوه في الدلاء- أن يكف لسانه عن الطعن في رجال لهم مكانتهم في الدي من أجل ما نسب إليهم من روايات إسرائيلية قد تكون نسبتها إليهم في واقع الأمر كذبًا وزورًا!
كان الأولى بالشيخ سامحه الله ألا يرمي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغفلة حيث يقول عن الإسرائيليات إنها سرت إلى المسلمين من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب وأنها خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم! تفسير المنار جـ1 ص8.
وكان الأولى به أن يقول قولة سوء في كعب الأحبار ووهب بن منبه وقد عرفنا عنهما سلامة الدين وحسن الطوية!
كنا نود من الشيخ -وقد وثق الجمهور كعبًا ووهبًا- أن يظن بهما خيرًا فيرى -كما رأى غيره- أن ما نُسِبَ إليهما من أباطيل الإسرائيليات كان كذبًا وغِشًّا ممن أرادوا أن يُروّجوا هذه الإسرائيليات والشيخ نفسه يقول في تعقيبه على رواية إسرائيلية نُسِبت إلى كعب: "وأنا أظن أن هذا القول موضوع على كعب وإن كنت أخالف الجمهور (!!!!!) في مسألة تعديله" تفسير المنار جـ9 ص190. فإذا كان هذا الظن قائمًا عنده رغم تجريحه له فلم لا يكون هذا هو الظن به دائمًا وبأمثاله ممن شهد لهم الجمهور بالعدالة؟!
رأينا الشيخ رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى في الآية(187) من سورة الأعراف:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}
يتكلّم عن أشراط الساعة وأماراتها وما يتّصل بها من مشكلات -على حد تعبيره- ومن هذه المشكلات التي تناولها مشكلة الروايات الواردة في شأن الدجال وقد ذكر منها رواية عن كعب الأحبار وناقشها وانتهى منها بحكمه القاسي على كعب الأحبار فقال: "إن يد بطل الإسرائيليات الأكبر كعب الأحبار قد لعبت لعبها في مسألة الدجال في كل واد أثر من ثعلة"! تفسير المنار جـ9 ص498.
ثم ساق الشيخ رواية أخرى عن كعب في شأن الدجال، أنهاها بحكم أقصى على كعب من حكمه السابق فقال: "بمثل هذه الخرافات كان كعب الأحبار يغش المسلمين ليفسد عليهم دينهم وسنّتهم، وخدع به الناس لإظهاره التقو ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" المرجع السابق. يالله لكعب المظلوم!!
[أقول: وفي المقابل تجد محمد رشيد رضا غفر الله له يرد حديث فاطمة بنت قيس في الدجال في صحيح مسلم بنفس المنطق العقلاني الفاسد وبشكل لا يمت للعلم والمنهجيّة بصلة!]​
وعند تفسيره لقوله تعالى في الآية(107) من سورة الأعراف:
{فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}
رأيناه يقول:
"وفي التفسير المأثور روايات في صفة الثعبان الذي تحوّل إليه عصا موسى عليه السلام وفي تأثيره لدى فرعون، ما هي إلا من الإسرائيليات التي لا يصح لها سند ولا يوثق بشئ منها" ثم يسوق رواية عن وهب بن منبه.
"أن العصا لما صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها، فمان منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا" ثم يذكر تضعيف ابن كثير لهذه القصة ثم يقول:
"وقد اقتصرت على هذه الرواية لأقول: إنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق الجمهور له، أنا أسوأ فيه ظنًا على ما روى من كثرة عبادته، ويغلب على ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفُرص الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب، ويدسون لهم من باب الرواية ومن طريق التشيع، فقد ذكر الإمام أحمد: أن والده منبهًا فارسي، أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ابنه وهبًا كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها وههنا موضع الشبهة في الغرائب المرويّة عنه وهي كثيرة، ومثله عندي كعب الأحبار الإسرائيلي، كلاهما كان تابعيًا كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية التي فتحت بلاد الفرس وأجلت اليهود من الحجاز، فقاتل الخليفة الثاني فارسي مرسل من جمعية سرية لقومه، وقتله الخليفة الثالث، كانوا مفتونين بدسائس عبدالله بن سبأ اليهودي، وإلى جمعية السبئيين وجميعات الفرس ترجع جميع الفتن السياسية وأكاذيب الرواة في صدر الإسلام"تفسير المنار جـ9 ص44. أقول: وإذا كان هذا رأي الشيخ في كعب فلم حسن الظن به وقال عنه حينما علّق على رواية منسوبة إليه بقوله: "وأنا أظن أن هذا القول موضوع على كعب"؟! وإذا كان كعب مدسوسًا على الإسلام والمسلمين حقًا [كما يزعم] فليكن الظن به دائمًا ظن سوء.

... وبعد فهذه هي أهم كتب التفسير التي كان لها في رواية الإسرائيليات منهج متميز، وكلها -كما رأيت- لا تخلو من إسرائيليات أُقحِمَت على تفسير كتاب الله تعالى من غير حاجة إليها.​

___

اعتذار بعض العلماء عن المفسرين الذين أدخلوا الإسرائيليات في تفاسيرهم:
ولقد حاول بعض العلماء أن يعتذر عن المفسرين الذين أدخلوا الإسرائيليات في تفاسيرهم:
فمن قائل: إن مثل المفسر فيما ينقله من الإسرائيليات كمثل رجل أمين أراد أن يطلعك على كتاب مؤلف بغير لسانك فترجمه إلى لغة تفهمها لتعرف ما فيه إن صدقًا وإن كذبًا، والصدق والكذب يُضاف إلى الكتاب لا إلى الناقل. الحديث والمحدثون.
وقريب من هذا القول من قال: إن مثل المفسر فيما يجمع من الإسرائيليات كمثل رجل النيابة، يجمع كل ما يمكن أن يصل إليه من الأدلة، قويها وضعيفها، ليضعها أمام القضاء، فيختار القاضي القوي منها ويترك الضعيف. في مقال للأستاذ محب الدين الخطيب.
وقائل آخر يقول معتذرًا عنهم: "إنهم دوّنوا ما يظنون به أن له نفعًا ليتبين بعض النواحي في أنباء القرآن الحكيم من معارفة عصرهم المتوارثة من اليهود وغيرهم، تاركين أمر غربلتها لمن بعدهم من النقّاد، حرصًا على إيصال تلك المعارف لمن بعدهم، لاحتمال أن يكون فيها بعض فائدة في إيضاح بعض ما أجمل من الأنباء في الكتاب الكريم، لا لتكون تلك الروايات حقائق في نظر المسلمين يُراد اعتقاد صحّتها والأخذ بها على علاتها وبدون تمحيص، فلا تثريب على من دون الإسرائيليات ما دام قصده هكذا" مقالات الكوثري ص34 ط: الأنوار.
ولقد اعتذر من قبل هؤلاء سليمان بن عبدالقوي الطوفي عن المفسرين الذي حشوا تفاسيرهم بالإسرائيليات بحمل قصدهم على ذلك الذي ذكرناه أخيرًا وضرب لذلك مثلًا بصنيع رواة الحديث، حيث عنوا بادئ ذي بدء بجمع الروايات كلها تاركين أمر التمييز بين صحاحها وضعافها لمن بعدهم من النقاد. المرجع السابق.

الاعتذارات غير مقبولة:
وظاهر أن كل هذه الاعتذارات إنما تنفع لو كان كل المفسرين قد التزموا رواية الإسرائيليات بأسانيدها، وكان كل من ينظر فيها صالحًا للنقد والتمحيص أما وأن أكثر من رووا الإسرائيليات قد حذفوا أسانيدها، وأكثر من ينظرون في هذه التفاسير ليسوا ناقدين ولا قدرة لهم على التمحيص.
أما والأمر كذلك فلستُ أرى إلا أن هؤلاء الذين حشوا تفاسيرهم بالإسرائيليات قد وضعوا الشوك في طريق المشتغلين بتفسير القرآن الكريم والراغبين في الوقوف على معانيه.
وإذا كان سائغًا من ابن جرير الطبري أن يعتذر عما أورده في تاريخه من الإسرائيليات بقوله: "فما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض نقاليه إلينا، وإنا إنما أديناه على نحوما أُدِيَ إلينا" تاريخ الطبري جـ1 ص8 ط: المعارف.
إذا كان سائغًا أن يعتذر الطبري بذلك عمّا أورده في تاريخه من إسرائيليات مستنكرة مستشنعة، فلا أراه سائغًا أن يعتذر بمثل هذا عمّا أورده من ذلك في تفسيره وإن أسنده؛ لأن تفسير كتاب الله تعالى يجب أن يُجنب كل مستنكر مستشنع [بخلاف المرويات التأريخية].
وإذا كان التاريخ يتحمّل مثل هذه الإسرائيليا فكتاب الله لا يتحمّلها، ولا يجوز لأحد أن يحمله إيّاها.
وإذا كان ابن كثير قد استباح أن يروي الإسرائيليات في تاريخه ما يحتمل الصدق والكذب مما فيه بسط لمختصر عندنا أو تسمية لمبهم ورد في شرعان مما لا فائدة في تعيينه لنا، فيذكره -كما يقول- على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتجاج إليه والاعتماد عليه -البداية والنهاية لان كثير جـ1 ص6 ط: السعادة... إذا كان ابن كثير قد استباح رواية مثل ذلك في تاريخه، فما كان له أن يستبيح روايته في تفسيره غافلًا عن نقده أحيانًا وهو الناقد البصير وصاحب الحملات العنيفة على رواة المناكير والأساطير، وهو القائل في تفسيره: "وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس لهم احتياج إلى أخبارهم ولله الحمد والمنة" تفسير ابن كثير جـ4 ص221.
كان أولى بابن كثير أن يعزف كل العزوف عن رواية الإسرائيليات فلا يذكر شيئًا منها في تفسيره إلا مُنبّهًا على ما فيه من زيف وفساد، كما هو شأنه في الأعم الأغلب، ولكنه الكمال الذي لا يُدرَك.​

___​

ثانيًا: الإسرائيليات في كتب الحديث:
بقي أن نقول: إن كتب الحديث على اختلاف عصورها قد حوى بعضها من أباطيل الإسرائيليات كثيرًا، وكذلك بعض كتب المواعظ التي تقوم على أحاديث الرقاق، ومن ذلك مسند الفردوس للديلمي، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي، وكتاب العظمة لأبي الشيخ.. وغالب ما في هذه الكتب مبثوث في كتب التفسير المولع أصحابها برواية الإسرائيليات، ولا حاجة بنا إلى أن نعرض لهذه الكتب؛ لأن قيمتها العلمية معروفة، وقد كفانا سلفنا من المحدثين مهمة ذلك ببيان درجة كل كتاب من كتب الحديث ما التزم الصحيح منها، وما جمع بين الصحيح والضعيف، وما ضمّ إلى الصحيح والضعيف رواية الموضوعات والمناكير وكان حملهم هذا رحمة للأمة وهداية إلى مصادر الحق والصدق من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.​

___

الخاتمة

(1) في بيان ما يجب أن يلتزم به من يُفسّر كتاب الله تعالى بالنسبة للروايات الإسرائيلية.
(2) وما يجب أن يقوم به العلماء من تنقية كتب التفسير.
أما ما يجب أن يلتزم به من يُفسّر كتاب الله تعالى بالنسبة للروايات الإسرائيلية فأمور نُجملها في ما يلي:
1- على المفسر أن يكون يقِظًا إلى أبعد حدود اليقظة، وناقدًا إلى غاية ما يصل إليه النُقّاد من دقّة ورويّة حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن الكريم ويتّفق مع النقل الصحيح والعقل السليم.
2- لا يجوز للمفسّر بحال من الأحوال أن يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، أو تعيين لمُبهمه، فمثلًا حيث وجد لقوله في الآية(34) من سورة (ص): {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} محمل في السنة النبوية وهي قصة ترك (إن شاء الله)والمؤاخذة عليه، فلا يُلتفت إلى قصة صخر المارد ولا يقحمها على كتاب الله عز وجل، ومثلًا حيث وجد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّن أن الذبيح هو إسماعيل فلا يجوز الذهاب إلى ما روي عن مصادر يهودية أو إسلامية دسّها اليهود من أنه إسحق عليه السلام.
3- يجب على المفسر أن يُراعي أن الضرور يتقدّر بقدر الحاجة، فلا يذكر في تفسيره شيئًا من الإسرائيليات الموثوق بها إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال، وما يكفي أن يكون حجة على من خالف وعاند من أهل الكتاب.
4- إذا اختلف المتقدمون في شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم، فلا مانع من نقل المفسر لهذه الأقوال كلها على أن ينبه على الصحيح منها ويُبطل الباطل، وليس له أن يحكي الخلاف ويطلقه دون تنبيه على الصحيح من الأقوال وغير الصحيح منها؛ لأن مثل هذا العمال يُعَدُّ ناقصًا لا فائدة فيه ما دام قد خلط الصحيح بالعليل، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يُسبّب له الحيرة والاضطراب.
وخير للمفسر أن يُمسك عم لا طائل تحته مما يعد صارفًا عن القرآن الكريم، وشاغلًا عن التدبّر في حكمه وأحكامه، وهذا -ولا شك- أحكم وأسلم.
وقد يشير إلى ما قلناه من جواز الخلاف عن المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف وتصحيح الصحيح، وأن من الخير أن يُمسك المفسر عن الخوض فيما لا طائل تحته كما جاء في الآية(22) من سورة الكهف من قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فقد اشتملت هذه الآية الكريمة -كما يقول ابن تيمية- على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث فدلّ على صحّته، إذ لو كان باطلًا لرده كما ردهما، ثم أشرد إلى أن الإطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيُقال في مثل هذا: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي لا تُجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص27، وانظر التفسير والمفسرون جـ1 ص181 -183.
ولقد وجدنا من بين العلماء المتأخرين من يرى أن من الخير للمفسر أن يعرض كل الإعراض عن رواية ما لا يجزم بصحّته من الإسرائيليات، وأن نجنّب كتاب الله تعالى هذا الذي لا نعرف إن كان صدقًا أو كذبًا، ومن أبرز من عرفناه يرى هذا الرأي، المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد شاكر، فقد علّق في كتابه عمدة التفسير على ما ذهب إليه ابن كثير في تفسيره تبعًا لشيخه ابن تيمية، من جواز حكاية ما سكت عنه شرعنا وكان محتملًا للصدق والكذب مستندًا لقوله عليه السلام والسلام: (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) بقوله: "إن إباحة التحدّث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه شئ، وذكر ذلك في تفسير القرآن وجعله قولًا أو رواية في معنى الآيا أو في تعيين ما لم يُعين فيها أو في تفصيل ما أجمل منها شئ آخر؛ لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يُوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لمعنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك" عمدة التفسير جـ1 ص15.
وأنا أميل إلى هذا الرأي، حماية لكتاب الله عز وجل عن لغو الحديث، وصونًا عن الفضول والتزيد بما لا طائل تحته ولا خير فيه.
وأما ما يجب أن يقوم به العلماء من تنقية كتب التفسير من الإسرائيليات، فنقول فيه:
ليس من شكّ -كما بيّنا- أن تراثنا في التفسير على اختلاف مناهجه لا يسلم شئ منه من أباطيل الإسرائيليات وخرافاتها، وتراثنا في الحديث ليس أحسن حظًّا من تراثنا في التفسير، وهذا أمر له أثره وخطره، وعلى علماء المسلمين عامّة، وعلماء الأزهر خاصة نحو كتاب ربهم وسنة نبيّهم واجب عظيم وجسيم، فما هو هذا الواجب؟
الواقع أن كتب الحديث قد تميّز صحاحها من ضعافها، وعرف الناس قيمة كل منها، ويرجع الفضل في ذلك -كما قلنا- إلى علماء الحديث الذين عملوا على تنقية الحديث وتجريده من الدخيل والعليل من وقت مبكر، والذي قيموا لنا كل هذه الكتب، وحكموا عليها، فكان من نتيجة ذلك أن تلقى الناس الصالح منها بالقبول، وغير الصالح منها رفضوه رفضًا باتًّا، وبجوار ذلك صنّفوا في الموضوعات مصنّفات كثيرة قيمة فتحت عيون الناس على ما دسّ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكاذيب وأباطيل.
إذًا فالواجب الأهم على علماء المسلمين اليوم نحو كتب الحديث، قد تحمله وأداه عنهم أسلافهم من المحدثين، ولم يبق عليهم إلا واجب آخر له أهميّته، وهو إعادة طبع كتب الصحاح من الأحاديث طبعًا جيّدًا منسقًا، مع حل مشكلات الأحاديث التي فيها غرابة، والتي يظن بعض الناس أنها لا أصل لها، كحديث مجئ ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، ولطم موسى عليه السلام له لطمة فقأت عينه، ورد الله على الملك عينه سليمة كما كانت - الحديث مروي في البخاري ومسلم موقوفًا على أبي هريرة من رواية طاووس عنه، ومرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من رواية همام عن أبي هريرة، ولفظه عند مسلم من رواية همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك، قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمتنى من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر) أخرجه مسلم في باب فضائل موسى عليه السلام جـ13 ص128 ط: حجازي "نسخة عليها شرح النووي"، وأخرجه البخاري بلفظ آخر في كتاب الأنبياء باب وفاة موسى عليه السلام جـ4 ص157 ط: الخيرية.
وقد بدأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالجمهورية العربية المتحدة في طبع المصادر المعتبرة من أمهات كتب السنة طبعًا منسقًا مهذبًا، ومعلقًا عليه بتعليقات قيّمة لبعض علماء الأزهر الشريف.
أما كتب التفسير فقد حوت من الإسرائيليات كل عجيب وعجيبة، واستوى في ذلك تفسير المتقدمين والمتأخرين والمتشددين والمتساهلين، على تفاوت بينها في ذلك قلة وكثرة كما أوضحناه سابقًا.
إذًا فكل التفسير فيها جانب الخطورة على عقول المسلمين وعقائدهم، ولقد ضاعف من هذه الخطورة عوامل مختلفة منها:
1- أن بعض هذه الكتب قد نالت ونال مؤلفوها شهرة علمية واسعة، كابن جرير، وابن كثير، فكان بعض ما فيها مادة خصبة يستمد منها أعداء الإسلام -ومن مشى في ركابهم- طعونهم على الإسلام بوجه عام، وعلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بوجه خاص، وحجتهم: أن هذه رواية ابن جرير العالم الفذّ، ورواية ابن كثير المحدث الحجة!!
2- أن أكثر كتب التفسير قد حسن المسلمون ظنهم بها، فتلقّوا بالقبول كل ما فيها، وبعضه مما يفسد عقائدهم، ويُشوّش أفكارهم، وأن أحدًا من المسلمين لم ينبه على أنها حَوَت: أباطيل وأضاليل، وكل ما نبّه العلماء عليه وحذّروا منه تفاسير معدودة، كتفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير أبي إسحق الثعلبي، وتفسير البغوي، وتفسير الخازن.
ومادام المسلمون -إلا نفرًا قليلًا من أهل المعرفة والدراية- مخدوعين بكتب التفسير أو بالكثير منها، فواجب علماء المسلمين عامة، وعلماء الأزهر خاصة، بل أقول: واجب مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف، وقد حوى من كل قطر إسلامي أفضل علمائه.. واجبه أن يتجرّد لهذه المهمّة البالغة الأهمية، مهمة تجريد كتب التفسير من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات، وأرى أن هذه المهمة يمكن القيام بها على وجه من الوجوه الآتية:
1- أن يوكل إلى كل قطر إسلامي مجموعة من كتب التفسير ليجردها علماؤه من الإسرائيليات وما حَوَت من الموضوعات، كالأحاديث التي أوردها بعض المفسرين في فضائل القرآن سورة سورة، ثم تطبع هذه التفاسير بعد تجريدها على نفقته الخاصة "حكومة أو شعبًا"، وقد يكون هذا أصب الوجوه:
أولًا: لأن ذلك يحتاج إلى انقطاع المسئولين أو المعنيين بالشئون الإسلامية في كل قطر بهذه الفكرة، وبالمساهمة فيها ماديًّا وعلميًّا.
ثانيًا: لأنه يحتاج إلى وقت طويل، وجهد ليس بالقليل.
ثالثًا: لأنه سوف يُقال حتمًا: إن هذه التفاسير تراث إسلامي، فلا يجوز التصرّف فيها بحذف بعض ما تحويه، وإذا تمّ تجريدها من الإسرائيليات وأُعِيدَ طبعها مجردة منها فليس ذلك بقاضٍ على ما هو موجود منها اليوم في المكتبات العامّة والخاصّة، وبهذا تبقى العلة قائمة.
2- أن يوكل إلى علماء كل قطر إسلامي مهمة التعليق على مجموعة من كتب التفسير ببيان ما فيها من إسرائيليات وموضوعات، وإبطال كل هذا ذلك، ثم تُطبع هذه التفاسير وما عليها من تعليقات على نفقة كل قطر "حكومة أو شعبًا" وهذا الوجه -وإن أبقى تراثنا في التفسير على ما هو عليه- تقوم في سبيل تنفيذه نفس الصعوبات السابقة.
3- أن يعهد مجمع البحوث الإسلامية إلى لجان يكوّنها من علمائه الأكفاء ومن غير علمائه بدراسة كل ما لدينا من كتب التفسير دراسة وافية شاملة تكشف عمّا في كل كتاب من أباطيل الإسرائيليا وخرافاتها، ومن كل دخيل على كتاب الله تعالى، وتحذر من تصديق ذلك وقبوله ثم تجمع ذلك كله في كتاب مستقل يُنشر في الأوساط العلميّة والأوساط العامّة، وربما كان هذا الوجه أيسر الوجوه وأجداها وأكثرها احتمالًا للتنفيذ.
وقد يكون لدى غيري رأي آخر أيسر وأجدى، ولو أن الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية عرضت فكرة تنقية كتب التفسير من الإسرائيليات وسائر الموضوعات على الهيئات العلمية الإسلامية في كل الأقطار لتبدي كل منها رأيها في أيسر الطرق وأجداها، لخرجنا من وراء ذلك برأي سديد ورشيد.
وعلى مجمع البحوث الإسلام بعد ذلك أن يجنّد من يختار من أعضائه وغير أعضائه من يوكل إليهم التنفيذ، وإذا تم ذلك -ونرجوا أن يتم بإذن الله تعالى- يكون الأزهر الشريف -قبلة العالم ومنارة الإسلام- قد أدّى أقدس واجب، وقام بأجلّ عمل.

والله أرجوا أن يوفّقنا جميعًا للخير، ويهدينا إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإسحان إلى يوم الدين.​

___

الفهرس
الفصل الثالث
الإسرائيليات في كتب التفسير والحديث​

أولًا: الإسرائيليات في كتب التفسير...............................................................5
-تفسير محمد بن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن..................................9
-تفسير الحافظ ابن كثير المسمى تفسير القرآن العظيم...............................................28
-تفسير مقاتل بن سليمان.........................................................................43
-تفسير الثعلبي المسمى الكشف والبيان عن تفسير القرآن............................................60
تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل...................................................71
-تفسير الآلوسي المسمى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.............................82
تفسير السيد محمد رشيد رضا المسمى تفسير القرآن العظيم وشهرته.. تفسير المنار......................104
اعتذار بعض العلماء عن المفسرين الذين أدخلوا الإسرائيليات في تفاسيرهم.............................128
ثانيًا: الإسرائيليات في كتب الحديث................................................................132
الخاتمة...........................................................................................133: 144​

___

انتهي.​

والله الموفق.​
 
عودة
أعلى