سالم سرور عالي
New member
- إنضم
- 15/04/2006
- المشاركات
- 161
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
حكم نقل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
هناك مسائل عقدية – على أهميتها -لا يلتفت لها الناس إلا في النوازل والحوادث التي تظهر من حينٍ لآخر بحسب قضايا العصر .
ونقل المواضع الشريفة من محِّلها ليس بالأمر الحادث الغريب ، فقد كانت هناك اجتهادات من السلف الصالح وغيرهم لنقل المواضع الشريفة من أماكنها لمصلحة راجحة لا يخالفها النص ولا يصادمها .
فمقام إبراهيم – عليه السلام – كان ملاصقاً للكعبة الشريفة ونَقله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الحالي ، تيسيراً للطائفين والحجاج ودفعاً لمشقة الزحام .
لكن هذا لا يصح قياسه على قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، لأنه قياس طرد ، ومسألة نقل قبر الحبيب قياس عكس ، لأن العلة منتفية في أصله وفرعه ، بعكس الأول .
وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً من الله تعالى ومحروساً من أقرب الناس إليه .
فقد روى القاسم بن محمد، قال: دخلتُ على عائشة فقلت: يا أُمَّاه اكشفي لي عن قبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحة العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن .
وزاد: ورأيتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدَّمًا ، وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعمر رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح، قال: رأيتُ قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبرًا أو نحو شبر” .
ويعارضه ما أخرجه البخاري من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسنماً ، أي: مرتفعًا كهيئة السنام.
وجمع بينهما البيهقي بأنه كان أولًا مسطحًا ، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك ، أُصلح فجعل مسنماً .
فهذه النصوص تدلُّ على حفظ السلف لمرقد الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم العبث فيه .
وهناك أفكار وحوارات حول نقل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من حجرة عائشة رضي الله عنها ودفنه وصاحبيه رضي الله عنهما في البقيع ، حماية لجناب التوحيد .
فمظاهر الشرك التي تحدث أحياناً أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي من ضِعاف الإيمان وبعض أتباع المذاهب الباطلة الذين يجيزون التوسل والتبرك بحجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، هي من الأسباب التي يستدلُّ بها بعض أهل الزيغ والباطل على جواز دفن الموتى في المساجد واتخاذها ذريعةً إلى التبرك والغلو في الصالحين . وقد تكون سبباً من أسباب إثارة هذا الموضوع في الصحف ومواقع التواصل الإجتماعي ليكثر اللغط حوله.
فيجب بيان الحكم الشرعي لإقامة الحجة على من لا يقف على الفقه الصحيح لهذه المسألة ، بدلالات الإقتضاء والتضمُّن والإلتزام .
ومسألة نقل القبر النبوي أو الحجرة النبوية إلى مقبرة البقيع بحجة المصلحة الراجحة وحماية لجناب التوحيد لا تجوز شرعاً لعشرة أسباب :
1- مخالفته لسنن الله القدرية :
فلا يمكن بحالٍ من الأحوال ولو اجتمعت الإنس والجن على إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم ،فلن يستطيعوا نقل مرقده صلى الله عليه وسلم ، لأنه سبق في علم الله أن مكانه هذا محلُّ قبض روحه صلى الله عليه وسلم ومكان مدفنه إلى قيام الساعة ، للشواهد المثبتة لهذا الأمر .
وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله المؤرخون أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي (ت: 411هـ )صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر ، وزُّين له ذلك .
وقال : متى تمَّ لك ذلك شدَّ الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر ، وكانت منقبة لسكانها .
فاجتهد الحاكم في ذلك ، وأعدَّ مكاناً ، أنفق عليه مالاً جزيلاً . قال : وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف ، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة من المدنيين وقد علموا ما جاء فيه ، وحضر معهم قارئ يعرف بـ ” الزلباني ” ، فقرأ في المجلس : “وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ” (التوبة: 12- 13 ) .
فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحاً كادت الأرض تزلزل من قوتها ، حتى دحرجت الإبل بأقتابها ، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض ، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس ، فانشرح صدر أبي الفتوح ، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه ” .
وقد وقعت بعد هذه الحادثة ثلاث محاولات لإخراج جسده صلى الله عليه وسلم من مرقده ، لكن الله تعالى غالبٌ على أمره وحافظ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً حيا وميتا ً .
2- مخالفته لسنن الله الشرعية :
فقد سنَّ الله تعالى بناء المسجد النبوي والمواضع الفاضلة فيه كحجرته الشريفة والروضة المباركة ومقام صلاته وخطبته صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز لأحدٍ كائنا من كات تغييِّر ملامحها ، لأنها جزء من سنن الله الشرعية في هذه البقعة الطاهرة . وحصول الأجر والثواب متعلِّق ببقاء هذه المواضع الفاضلة ، ويستحيل شرعاً وعقلاً إرتفاعها أو إنعدامها إلا بمشيئة الله تعالى على سننه سبحانه .
3- مخالفته للنص :
فقد ثبت في الخطاب النبوي الشرعي أنَّ كل نبيِّ يُدفن حيث يُقبض .ففي الترمذي وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ما قُبض نبيُّ إلا دُفن حيث يُقبض ” .وإسناده حسن .
وفي مستدرك الحاكم قالت عائشة رضي الله عنها لأبي بكر رضي الله عنه : إني رأيتُ في المنام كأن ثلاثة أقمار سقطن في حِجري فقال أبو بكر: خيراً . قال يحيى : فسمعت رسول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قُبض فدفن في بيتها ، فقال لها أبو بكرٍ: ” هذا أحد أقماركي وهو خيرها ” إسناده حسن .
وفي سنن ابن ماجة : قيل لأبي بكر أيُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال نعم ، فقالوا : أين ؟ ” فقال في المكان الذي قبض فيه روحه ، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيِّب”. وإسناده حسن .
وفي جامع الترمذي : ” لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر : سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته ، ” ما قَبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يُحب أن يدفن فيه ” . فدفنوه في موضع فراشه . وإسناده حسن .
وأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال : لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، قال قائل : ندفنه حيث كان يُصلِّي في مقامه ، وقال أبو بكر : معاذ اللهأن نجعله وثناً يُعبد ، وقال آخرون : ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه منالمهاجرين، قال أبو بكر : إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالبقيع فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسوله صلى الله عليهوسلم، فإن أخرجناه ضيَّعنا حق الله ، وإن أخفرناه ، أخفرنا قبر رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، قالوا : فما ترى أنت يا أبا بكر ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول” : ما قبض الله نبياً قط إلا دُفن حيث قبض روحه …قالوا : فأنت والله رضيّ مُقنِع ، ثم خطَّوا حول الفراش خطاً ، ثم احتمله عليُّوالعباس والفضل وأهله ، ووقع القوم في الحفر، يحفرون حيث كان الفراش .وإسناده صحيح .
4- فيه انتقاص لمقام النبوة :
فنقل قبره صلى الله عليه وسلم علامة على سقوط هذا الدِّين وزلزلته في قلوب الناس . ولازمه انتقاص الأنبياء وهضم قدرهم .قال الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى : ” إن قيام المِدحةِ والثناء عليه – صلى الله عليه وسلم – والتعظيم والتوقير له قيام الدِّين كِّله، وسقوط ذلك سقوط الدِّين كله” .
5- فيه امتهان لجاهه صلى الله عليه وسلم :
لأن نبش قبره عكس تعظيمه ، وتعظيمه حق على المسلمين؛ لأن الله تعالى رفع ذكره وأعلى مكانته: إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَـٰهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ(الفتح:8- 9) .
وقد كان السلف يُعظِّمون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعظِّمون كلامه وحديثه .
فقد روى عبد الله بن المبارك عن الإمام مالك بن أنس: ” كنتُ عند مالك وهو يحدِّثنا حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغيَّر لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرَّق الناس، قلت: يا أبا عبدالله، لقد رأيتُ منك عجباً! فقال : نعم إنما صبرتُ إجلالاً لحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم .وإسناده صحيح .
6- فيه تهييِّج للفتن :
في هذه السنين المتأخرة ظهرت وستظهر للناس غرائب وعجائب لا حصر لها من ألوان الفتن والبلايا .
وقد ورد في الحديث : ” لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه , حتى تلقوا ربَّكم ” .أخرجه البخاري .
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه :” ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة ” . أخرجه مسلم .
ومن حكمة الله تعالى أن يبقى مكان دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته محاطاً بجدران أربعة ، ليأمن المؤمنون من إنتقاصه والتبرك بقبره أو نبشه . وهذه حكمة عظيمة قلَّ من يتنبَّه لها .
ولهذا عائشة رضي الله عنها لما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في مرضه الذي مات فيه” : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجد” ..قالت : ” ولولا ذلك لأُبرز قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً“ أخرجه البخاري .
7- فيه تقدُّم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :
فقد كان السلف يهابون الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، فقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “وما كان أحدٌ أحبَّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عيني منه” . أخرجه مسلم .
ولا تظهر الفتن بين الناس إلا بالتقدُّم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر، أو نهي، أو إذن، أو تصرف، وقد قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله “( الحجرات:1) . وهذا نهي يفيد التحريم وحكمه باقٍ إلى قيام الساعة ، ومن زعم أنها منسوخة فقد أهلك نفسه وأشغلها بغير الحق .
فالتقدُّم بين يدي سنته بعد وفاته برأيٍ أو فكر ، كالتقدُّم بين يديه في حياته، ولا فرق .
فلا يصح تغيير أمرٍ أثبته الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا بأمره وإشارته أو إقراره .
8- ليس كل مصلحة يراها الناس تكون صحيحة ويجب تعميمها في الأرض :
فبعض المصالح الظاهرة فيها فساد باطن . وقد بوَّب البخاري رحمه الله تعالى قاعدة نفيسة : من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشدَّ منه . وهذا حكمٌ عام يُنزَّل بحسب مقتضاه .
9- إثارة بعض المسائل العقدية بلا علم وتحقيق وإجماع قد يكون سبباً للقول على الله بغير علم ، وقد قال ابن القيّم (ت: 751هـ ) رحمه الله تعالى حول هذه الحادثة وأشباهها : ” كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه ؛ لأن أحكام الربِّ سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ” .
10 – أن هذه المسألة لا يمكن إجازتها وإمضاؤها إلا بإجماع علماء الأمة في الأرض كُّلهم ، لأنهم موقِّعون عن الله تعالى في أرضه لإقامة شرعه . ويستحيل إجماع الأمة على أمر يفسد دينها وشريعة ربِّها . وقد تقرَّر عند الأصوليين أن الحكم إذا تقدَّم على سببه يبطله . فيكون نقل القبر الشريف باطلاً شرعاً وديانةً . والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية
( منقول )
هناك مسائل عقدية – على أهميتها -لا يلتفت لها الناس إلا في النوازل والحوادث التي تظهر من حينٍ لآخر بحسب قضايا العصر .
ونقل المواضع الشريفة من محِّلها ليس بالأمر الحادث الغريب ، فقد كانت هناك اجتهادات من السلف الصالح وغيرهم لنقل المواضع الشريفة من أماكنها لمصلحة راجحة لا يخالفها النص ولا يصادمها .
فمقام إبراهيم – عليه السلام – كان ملاصقاً للكعبة الشريفة ونَقله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الحالي ، تيسيراً للطائفين والحجاج ودفعاً لمشقة الزحام .
لكن هذا لا يصح قياسه على قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، لأنه قياس طرد ، ومسألة نقل قبر الحبيب قياس عكس ، لأن العلة منتفية في أصله وفرعه ، بعكس الأول .
وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً من الله تعالى ومحروساً من أقرب الناس إليه .
فقد روى القاسم بن محمد، قال: دخلتُ على عائشة فقلت: يا أُمَّاه اكشفي لي عن قبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحة العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن .
وزاد: ورأيتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدَّمًا ، وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعمر رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح، قال: رأيتُ قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبرًا أو نحو شبر” .
ويعارضه ما أخرجه البخاري من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسنماً ، أي: مرتفعًا كهيئة السنام.
وجمع بينهما البيهقي بأنه كان أولًا مسطحًا ، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك ، أُصلح فجعل مسنماً .
فهذه النصوص تدلُّ على حفظ السلف لمرقد الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم العبث فيه .
وهناك أفكار وحوارات حول نقل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من حجرة عائشة رضي الله عنها ودفنه وصاحبيه رضي الله عنهما في البقيع ، حماية لجناب التوحيد .
فمظاهر الشرك التي تحدث أحياناً أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي من ضِعاف الإيمان وبعض أتباع المذاهب الباطلة الذين يجيزون التوسل والتبرك بحجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، هي من الأسباب التي يستدلُّ بها بعض أهل الزيغ والباطل على جواز دفن الموتى في المساجد واتخاذها ذريعةً إلى التبرك والغلو في الصالحين . وقد تكون سبباً من أسباب إثارة هذا الموضوع في الصحف ومواقع التواصل الإجتماعي ليكثر اللغط حوله.
فيجب بيان الحكم الشرعي لإقامة الحجة على من لا يقف على الفقه الصحيح لهذه المسألة ، بدلالات الإقتضاء والتضمُّن والإلتزام .
ومسألة نقل القبر النبوي أو الحجرة النبوية إلى مقبرة البقيع بحجة المصلحة الراجحة وحماية لجناب التوحيد لا تجوز شرعاً لعشرة أسباب :
1- مخالفته لسنن الله القدرية :
فلا يمكن بحالٍ من الأحوال ولو اجتمعت الإنس والجن على إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم ،فلن يستطيعوا نقل مرقده صلى الله عليه وسلم ، لأنه سبق في علم الله أن مكانه هذا محلُّ قبض روحه صلى الله عليه وسلم ومكان مدفنه إلى قيام الساعة ، للشواهد المثبتة لهذا الأمر .
وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله المؤرخون أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي (ت: 411هـ )صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر ، وزُّين له ذلك .
وقال : متى تمَّ لك ذلك شدَّ الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر ، وكانت منقبة لسكانها .
فاجتهد الحاكم في ذلك ، وأعدَّ مكاناً ، أنفق عليه مالاً جزيلاً . قال : وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف ، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة من المدنيين وقد علموا ما جاء فيه ، وحضر معهم قارئ يعرف بـ ” الزلباني ” ، فقرأ في المجلس : “وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ” (التوبة: 12- 13 ) .
فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحاً كادت الأرض تزلزل من قوتها ، حتى دحرجت الإبل بأقتابها ، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض ، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس ، فانشرح صدر أبي الفتوح ، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه ” .
وقد وقعت بعد هذه الحادثة ثلاث محاولات لإخراج جسده صلى الله عليه وسلم من مرقده ، لكن الله تعالى غالبٌ على أمره وحافظ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً حيا وميتا ً .
2- مخالفته لسنن الله الشرعية :
فقد سنَّ الله تعالى بناء المسجد النبوي والمواضع الفاضلة فيه كحجرته الشريفة والروضة المباركة ومقام صلاته وخطبته صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز لأحدٍ كائنا من كات تغييِّر ملامحها ، لأنها جزء من سنن الله الشرعية في هذه البقعة الطاهرة . وحصول الأجر والثواب متعلِّق ببقاء هذه المواضع الفاضلة ، ويستحيل شرعاً وعقلاً إرتفاعها أو إنعدامها إلا بمشيئة الله تعالى على سننه سبحانه .
3- مخالفته للنص :
فقد ثبت في الخطاب النبوي الشرعي أنَّ كل نبيِّ يُدفن حيث يُقبض .ففي الترمذي وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ما قُبض نبيُّ إلا دُفن حيث يُقبض ” .وإسناده حسن .
وفي مستدرك الحاكم قالت عائشة رضي الله عنها لأبي بكر رضي الله عنه : إني رأيتُ في المنام كأن ثلاثة أقمار سقطن في حِجري فقال أبو بكر: خيراً . قال يحيى : فسمعت رسول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قُبض فدفن في بيتها ، فقال لها أبو بكرٍ: ” هذا أحد أقماركي وهو خيرها ” إسناده حسن .
وفي سنن ابن ماجة : قيل لأبي بكر أيُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال نعم ، فقالوا : أين ؟ ” فقال في المكان الذي قبض فيه روحه ، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيِّب”. وإسناده حسن .
وفي جامع الترمذي : ” لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر : سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته ، ” ما قَبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يُحب أن يدفن فيه ” . فدفنوه في موضع فراشه . وإسناده حسن .
وأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال : لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، قال قائل : ندفنه حيث كان يُصلِّي في مقامه ، وقال أبو بكر : معاذ اللهأن نجعله وثناً يُعبد ، وقال آخرون : ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه منالمهاجرين، قال أبو بكر : إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالبقيع فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسوله صلى الله عليهوسلم، فإن أخرجناه ضيَّعنا حق الله ، وإن أخفرناه ، أخفرنا قبر رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، قالوا : فما ترى أنت يا أبا بكر ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول” : ما قبض الله نبياً قط إلا دُفن حيث قبض روحه …قالوا : فأنت والله رضيّ مُقنِع ، ثم خطَّوا حول الفراش خطاً ، ثم احتمله عليُّوالعباس والفضل وأهله ، ووقع القوم في الحفر، يحفرون حيث كان الفراش .وإسناده صحيح .
4- فيه انتقاص لمقام النبوة :
فنقل قبره صلى الله عليه وسلم علامة على سقوط هذا الدِّين وزلزلته في قلوب الناس . ولازمه انتقاص الأنبياء وهضم قدرهم .قال الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى : ” إن قيام المِدحةِ والثناء عليه – صلى الله عليه وسلم – والتعظيم والتوقير له قيام الدِّين كِّله، وسقوط ذلك سقوط الدِّين كله” .
5- فيه امتهان لجاهه صلى الله عليه وسلم :
لأن نبش قبره عكس تعظيمه ، وتعظيمه حق على المسلمين؛ لأن الله تعالى رفع ذكره وأعلى مكانته: إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَـٰهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ(الفتح:8- 9) .
وقد كان السلف يُعظِّمون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعظِّمون كلامه وحديثه .
فقد روى عبد الله بن المبارك عن الإمام مالك بن أنس: ” كنتُ عند مالك وهو يحدِّثنا حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغيَّر لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرَّق الناس، قلت: يا أبا عبدالله، لقد رأيتُ منك عجباً! فقال : نعم إنما صبرتُ إجلالاً لحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم .وإسناده صحيح .
6- فيه تهييِّج للفتن :
في هذه السنين المتأخرة ظهرت وستظهر للناس غرائب وعجائب لا حصر لها من ألوان الفتن والبلايا .
وقد ورد في الحديث : ” لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه , حتى تلقوا ربَّكم ” .أخرجه البخاري .
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه :” ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة ” . أخرجه مسلم .
ومن حكمة الله تعالى أن يبقى مكان دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته محاطاً بجدران أربعة ، ليأمن المؤمنون من إنتقاصه والتبرك بقبره أو نبشه . وهذه حكمة عظيمة قلَّ من يتنبَّه لها .
ولهذا عائشة رضي الله عنها لما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في مرضه الذي مات فيه” : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجد” ..قالت : ” ولولا ذلك لأُبرز قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً“ أخرجه البخاري .
7- فيه تقدُّم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :
فقد كان السلف يهابون الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، فقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “وما كان أحدٌ أحبَّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عيني منه” . أخرجه مسلم .
ولا تظهر الفتن بين الناس إلا بالتقدُّم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر، أو نهي، أو إذن، أو تصرف، وقد قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله “( الحجرات:1) . وهذا نهي يفيد التحريم وحكمه باقٍ إلى قيام الساعة ، ومن زعم أنها منسوخة فقد أهلك نفسه وأشغلها بغير الحق .
فالتقدُّم بين يدي سنته بعد وفاته برأيٍ أو فكر ، كالتقدُّم بين يديه في حياته، ولا فرق .
فلا يصح تغيير أمرٍ أثبته الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا بأمره وإشارته أو إقراره .
8- ليس كل مصلحة يراها الناس تكون صحيحة ويجب تعميمها في الأرض :
فبعض المصالح الظاهرة فيها فساد باطن . وقد بوَّب البخاري رحمه الله تعالى قاعدة نفيسة : من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشدَّ منه . وهذا حكمٌ عام يُنزَّل بحسب مقتضاه .
9- إثارة بعض المسائل العقدية بلا علم وتحقيق وإجماع قد يكون سبباً للقول على الله بغير علم ، وقد قال ابن القيّم (ت: 751هـ ) رحمه الله تعالى حول هذه الحادثة وأشباهها : ” كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه ؛ لأن أحكام الربِّ سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ” .
10 – أن هذه المسألة لا يمكن إجازتها وإمضاؤها إلا بإجماع علماء الأمة في الأرض كُّلهم ، لأنهم موقِّعون عن الله تعالى في أرضه لإقامة شرعه . ويستحيل إجماع الأمة على أمر يفسد دينها وشريعة ربِّها . وقد تقرَّر عند الأصوليين أن الحكم إذا تقدَّم على سببه يبطله . فيكون نقل القبر الشريف باطلاً شرعاً وديانةً . والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية
( منقول )