تحرج العلماء من بعض الإطلاقات التي تختص بالشعر والغناء أن يطلقوها على القرآن الكريم ، حماية لجنابه ، وإجلالاً له ، فمنعوا من إطلاق لفظة السجع على خواتم آياته ، لا رتباط السجع بغير القرآن من ألوان النثر. قال الخفاجي :(وأظن أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض في التسمية قريب).
ومثله لفظة الجرس والموسيقى ، فقد تركها العلماء مع دقتها ولا سيما لفظة الجرس لارتباطها بالغناء ، وذهاب جمهور العلماء إلى تحريمه ، ونفور فضلاء الناس ونبلائهم منه ، فلم يستخدمها العلماء في وصف ألفاظ القرآن ، واستخدموا بدلاً منها في البلاغة لفظة الفصاحة ، وهي مشتملة على معنى جرس اللفظة .
وقد كان للنصارى وغيرهم عناية بالبحث في موسيقى الألفاظ لدخول الموسيقى في شعائرهم ، وأماكن عبادتهم ، فلا تكاد تجد لهم عبادة إلا على أنغام الموسيقى ، ومن هنا عنوا بدراسة موسيقى الألفاظ وجرسها ، وكتبوا في ذلك كتباً ، وأما المسلمون فقد تناولوا هذه المسألة تحت مصطلحات أخرى كالفصاحة والانسجام.
غير أن بعض الباحثين المتأخرين لم يروا بأساً من استخدام هذه العبارات في وصف ألفاظ وتراكيب القرآن الكريم ، لشيوع هذه الألفاظ ومعرفة دلالاتها عند المعاصرين . وقد استخدمها سيد قطب في كتاباته ، وانتقدت عليه ، والأمر في التسمية قريب - كما قال ابن سنان الخفاجي ، والعبرة بالمعاني التي يقصدها الكُتَّابُ من هذه العبارات ، وغالبُ مَن استعمل هذه الأوصاف من أهل النقد الأدبي والدراسات البلاغية.
ولا بد من ملاحظة التطور الدلالي للمفردات ، فقد تكون المفردة تحمل من ضمن معانيها معنى سيئاً ، فينهى عن استعمالها في بعض المواقف حتى لا يذهب ذهن السامع إلى ذلك المعنى دون غيره. كما في قوله تعالى :(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا..) .
وربما يتجوز في بعض الألفاظ لفهم السامع للمقصود ، كما في تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صور إتيان الوحي بصلصلة الجرس .
فالذي يظهر أن الأمر في استخدام مثل هذه العبارات إذا فهمت على وجهها لا حرج فيه إن شاء الله ، طالما أن الأمر يحمل على وجهه الحسن في التعبير والفهم معاً ، ولو تتبعت مطاعن العبارات والألفاظ التي يتكلم بها الناس لما سلم لك إلا القليل ، وإنني لأعجب ممن يؤاخذ المؤلفين بلوازم ألفاظهم وعباراتهم ، وهم بشر يكتبون ما يكتبون في أحيان كثيرة ، وهم غافلون عما يلزمهم من بعض العبارات مع حسن النية ، وطيب السيرة ، ولم يقصدوا بهذه العبارة أو تلك ما حملها عليه منتقدوهم ، فيطول الحديث حول هذا الأمر ، والأمر فيه سعة ويسر لمن أراد الوصول للحق ، والتماس الأعذار للمؤمنين من صفات المؤمنين. وفي ظني أن المصنفين في (المناهي اللفظية) قد توسعوا في النهي عن ألفاظ كثيرة في استخدامها سعة ، ولم يستدلوا على منعها بدليل يمنع منها ، وفي هذا تضييق على الناس في حديثهم وكلامهم.