حكم قتل المدنيين ( دراسة فقهية )

إنضم
20/12/2006
المشاركات
49
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
حكم قتل المدنيين ( دراسة فقهية )
عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد :
فهذا بحث موجز في حكم قتل المدنيين, وقد كثر الكلام حول هذه المسألة, وما أكثر ما وقع فيها من خلط وخبط وإفراط وتفريط, والسبب في ذلك هو عدم الرجوع إلى ما قرره الفقهاء والعلماء السابقون رضي الله عنهم, وإهمال التراث الفقهي الإسلامي, والنظر السطحي غير الشمولي في الأدلة الشرعية والفهم السقيم لها
وقد جعلت الموضوع في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : حكم قتل المدنيين من المسلمين
والمبحث الثاني : حكم قتل المدنيين من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين
والمبحث الثالث : حكم قتل المدنيين من أهل دار الحرب
تمهيد: في من هم المدنيون ؟ :
قبل الحديث عن حكم قتل المدنيين لا بد من معرفة ماذا تعني كلمة المدنيين لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.. فالمدنيون : مصطلح معاصر يراد به من عدى العسكريين, فكل من ليس بعسكري فهو مدني, وهنا يأتي سؤال مهم جدا وهو: هل العسكري والحربي بمعني واحد؟. هذا ما سيأتي الحديث عنه مفصلا إن شاء الله
المبحث الأول :
حكم قتل المدنيين من المسلمين
لا يخفى على أحد أن دم المسلم من أعظم المحرمات سواء كان مدنيا أم عسكريا ولو لم يكن في ذلك إلا قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) لكفى في بيان عظيم هذا الجرم, والآيات والأحاديث في حرمة دم المسلم كثيرة جدا ولا داعي لإيرادها؛ لأنها أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
ولكن هناك حالات تبيح دم المسلم, -على خلافٍ في بعضها بين أهل العلم- ومن تلك الحالات:
- حالة القصاص, والزنا مع الإحصان, والارتداد عن الدين (وسمي مسلما مجازا باعتبار ما كان) وهذه الثلاث الحالات ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة)اه رواه البخاري ومسلم
- ومن تلك الحالات: البغي على الإمام, وترك الصلاة, والحرابة, والسحر...إلخ, والأدلة الشرعية على جواز القتل في تلك الحالات وأقوال أهل العلم فيها مبسوطة في مظانها.
وهذه الحالات السابقة كلها ليس القتل فيها لآحاد الناس بل هي إلى الإمام أو نائبه ولا يجوز الافتئات عليه, لأنها أمور تحتاج إلى البينات والشهادة وغير ذلك مما يحتاج إليه القضاء, وخصوصا قضية الارتداد فإن الجهل والهوى يدخلان فيها بكثرة, وما أكثر ما أهدرت دماء تحت دعوى الارتداد وخصوصا في مسائل العقائد, وهذه بعض أقوال أهل العلم في ذلك:
- قال ابن الهمام الحنفي في فتح القدير 6/98: (وقتل المرتد مطلقا إلى الإمام عند عامة أهل العلم إلا عند الشافعي في وجه! في العبد إلى سيده)اه
- وقال زكريا الأنصاري الشافعي في أسنى المطالب 4/122 في المرتد: (ويتولاه) أي قتله (الحاكم), ولو بنائبه (بضرب الرقبة لا الإحراق) بالنار أو غيره لما فيه من المثلة, فلو تولاه غير الحاكم أو الحاكم بغير ضرب الرقبة عزر)اه
- وقال الرحيباني الحنبلي في مطالب أولى النهى 6/289: (ولا يقتل المرتد إلا الإمام أو نائبه) حرا كان أو عبدا; لأنه قتل لحق الله تعالى; فكان إلى الإمام كرجم الزاني المحصن, ولا يعارضه حديث: " { أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } لأن قتل المرتد لكفره لا حدا (فإن قتله); أي: المرتد (غيرهما); أي الإمام أو نائبه ( بلا إذن ) من أحدهما (أساء وعزر) لافتئاته على ولي الأمر)اه
*ومن الحالات التي تبيح دم المسلم: الدفاع عن النفس أو العرض أو المال لحديث: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد) رواه أبو داود, وللحديث عدة ألفاظ
*ومن الحالات التي تبيح دم المسلم: تترس الكفار به لكن ذلك في حالة الضرورة فقط, في مذهب الجمهور, ومن أهل العلم من منع من ذلك مطلقا, على تفاصيل لأهل العلم في ذلك, وهذه بعض أقوال أهل العلم في المسألة:
- في بدائع الصنائع للكاساني 7/100: (ولا بأس برميهم بالنبال, وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى والتجار لما فيه من الضرورة, إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير, أو تاجر فاعتباره يؤدي إلى انسداد باب الجهاد, ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين; لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق. وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم; لضرورة إقامة الفرض, لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال)اه
- وفي شرح الخرشي على خليل 3/114: (وإن تترسوا بمسلمين فإنهم يقاتلون ولا يُقصُدُ الترسُ بالرمي وإن خفنا على أنفسنا; لأن دم المسلم لا يباح بالخوف على النفس إلا أن يخاف منهم على أكثر المسلمين فيسقط حينئذ حرمة الترس, إلا أنه ذكر في الجواهر قيودا زائدة حيث قال: إذا تترسوا بهم في الصف, ولو تركناهم لانهزم المسلمون وعظم الشر وخيف استئصال قاعدة الإسلام وجمهورهم وأهل القوة منهم وجب الدفع وسقط مراعاة الترس انتهى)اه
- وفي أسنى المطالب لزكريا الأنصاري 4/191: (أو) تترسوا (بمسلم أو ذمي فلا) نرميهم إن لم تدع ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الإعراض عنهم صيانة للمسلمين وأهل الذمة, وفارق النساء والصبيان [من أهل الحرب] بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد فلم يجز رميهم بلا ضرورة, والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين فجاز رميهم بلا ضرورة)اه
- وقال ابن قدامة في المغني10/495: (وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فان رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وان دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار. وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي: فقال الأوزاعي والليث: لا يجوز رميهم لقول الله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون.. } الآية, وقال الليث: ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق, وقال الأوزاعي: كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين, وقال القاضي والشافعي: يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد)اه
- واستدل من منع مطلقا بالآية السابقة: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات...) الآية, وبما هو مشهورة في السيرة من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل من أخرج يوم بدر من المسلمين كرها في جيش المشركين كما في سيرة ابن هشام 3/177, ونقله عن سيرة ابن إسحاق
المبحث الثاني:
حكم قتل المدنيين من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين
أهل الذمة: هم الكفار الذين أُقروا في دار الإسلام على كفرهم بالتزام الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيهم
والمعاهدون: هم الذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدة معلومة لمصلحة يراها, من العهد وهو الصلح المؤقت, ويسمى الهدنة والمهادنة والمعاهدة والمسالمة والموادعة.
والمستأمن في الأصل: الطالب للأمان, وهو الكافر يدخل دار الإسلام بأمان, أو المسلم إذا دخل دار الكفار بأمان, قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة 2/ 873-874: ( الكفار: إما أهل حرب وإما أهل عهد, وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة وأهل هدنة وأهل أمان.
وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابا فقالوا: باب الهدنة, باب الأمان, باب عقد الذمة, ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل... ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء:
أهل الذمة: عبارة عمن يؤدي الجزية وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله
بخلاف أهل الهدنة: فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة.
وأما المستأمن: فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها, وهؤلاء أربعة أقسام: رسل وتجار ومستجيرون -حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم- وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها
وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربيا كما كان)اه
وهذه الثلاثة الأصناف لا يجوز أيضا قتلهم سواء كانوا مدنيين أم عسكريين, وقد وردت الآيات والأحاديث والآثار الكثيرة في الدلالة على ذلك ومنها:
- قال تعالى في أهل الذمة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
- وقال تعالى في أهل العهد: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين)
- وقال تعالى في أهل الأمان: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
- وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما) اه وأخرجه أحمد والنسائي بلفظ: (من قتل قتيلا من أهل الذمة...)
- والحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده عن أبي بكرة, ورواه ابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة, ورواه النسائي وأحمد عن القاسم بن مخيمرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
- وروى أبو داود والترمذي عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس -أو برذون- وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء»، فرجع معاوية)اه
- وروى أبو داود عن صفوان بن سليم: عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آبائهم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نف، فأنا حجيجه يوم القيامة)اه
- وروى البخاري ومسلم عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، قالت:... فلما انصرف فلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليّ: أنه قاتل رجلا قد أجرته -فلان بن هبيرة- فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)اه
- وفي موطأ مالك: (أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل جيش، كان بعثه: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج، حتى إذا أسند في الجبل وامتنع، قال رجل: «مترس» يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني-والذي نفسي بيده - لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه!)اه
- وفي صحيح البخاري ومسلم: (عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)اه ورواه مسلم عن أبي هريرة
- وروى الحاكم وصحح إسناده: (عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذمة المسلمين واحدة، فإن جازت عليهم جائزة، فلا تخفروها، فإن لكل غادر لواء، يعرف به يوم القيامة)اه
- وروى ابن أبي شيبة أيضا: (قال أبو فرقد: كنا مع أبي موسى الأشعري يوم فتحنا سوق الأهواز، فسعى رجل من المشركين وسعى رجلان من المسلمين خلفه، فبينما هو يسعى ويسعيان إذ قال له أحدهما: مترس، فأخذاه فجاءا به وأبو موسى يضرب أعناق الأسارى حتى انتهى الأمر إلى الرجل فقال أحدهما: إن هذا قد جعل له الأمان، فقال أبو موسى: وكيف جعل له الأمان، قال: إنه كان يسعى ذاهبا في الأرض فقلت له: مترس، فقام : فقال أبو موسى: وما مترس؟ قال: لا تخف، قال: هذا أمان، خليا سبيله، فخليا سبيل الرجل)اه
- وروى ابن أبي شيبة: (عن مجاهد قال: قال عمر: أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو لان نزلت لأقتلنك، فنزل وهو يرى أنه أمان فقد أمنه. وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد: أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو: لئن نزلت لأقتلنك فنزل، وهو يرى أنه أمان فقد أمنه)اه
- فإذا كان قول المسلم للكافر الحربي العجمي كلمة (لأقتلنك) بطريقة يرى الكافر أن المسلم يقصد بها الأمان يصير به الكافر آمنا؛ فكيف إذا كان المسلم يقول له بصريح العبارة: أنت آمن, وقد قرأت في بعض المواقع أن بعض المسلمين في بلد مسلم محتل قالوا لبعض المحتلين الكفار بعدما حاصروهم: سلموا أنفسكم وأنتم آمنون, فلما سلم المحتلون أنفسهم قتلهم المسلمون, وهذا حرام كما لا يخفى
مسائل مهمة تتعلق بالثلاثة الأصناف:
أولا: مسائل تتعلق بالذمي:
1- إذا لم يأخذ وليُ الأمر الجزيةَ من أهل الذمة فلا يجوز أبدا أن تستحل دماؤهم لأجل ذلك, لأن الجزية قد تسقط عن أهل الذمة في بعض الحالات, ومنها عند استعدادهم للاشتراك في واجب الدفاع عن دار الإسلام, فقد:
- أعفى عتبةُ بن فرقد -عاملُ عمر على أذربيحان- من الجزية من اشترك من أهلها في الدفاع مع المسلمين, كما في تاريخ الطبري 5/250
- وأعفى سراقةٌ بن عمرو من الجزية أهلَ أرمينيا مقابل أن يقوموا معه ضد عدو المسلمين وأجازه بذلك عمر كما في تاريخ الطبري 5/256
- وأعفى سويدُ بن مقرن -القائد من قبل عمر- من استعان به من أهل جورجان من الجزية كما في تاريخ الطبري 5/ 254
- وأعفى حبيبُ بن مسلم الفهري -القائد من قبل أبي عبيدة- أهلَ أنطاكية من الجزية مقابل أن يكونوا أعوانا للمسلمين في نواحيهم كما في تاريخ الطبري 5/ 217, قال الشيخ عبد الكريم زيدان في كتابه أحكام أهل الذمة ص131: (في البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر ذميون لا تؤخذ منهم الجزية في معظم الدول الإسلامية, ويمكن توجيه ذلك شرعا بأن يقال: الذميون في هذه الدول يشتركون مع المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام, والمساهمة في هذا الواجب تسقط الجزية بعد وجوبها أو تمنع وجوبها أصلا كما رأينا في بعض النماذج التاريخية السابقة, فهم يؤدون الخدمة العسكرية ويساهمون في الدفاع عن الوطن) اه
2- ولو فرض أن ولي الأمر قصر في أخذ الجزية من أهل الذمة مع قعودهم عن الدفاع فإن هذا لا يبيح دمائهم بلا شك, لأنهم لا يؤخذون بتقصير غيرهم (ولا تزر وازرة وزر أخرى), نعم لأهل الحل والعقد حينئذ أن يوجهوا السؤال لولي الأمر ويقولوا له : لماذا لا تأخذ الجزية من أهل الذمة؟ فإن أبدا عذرا فذاك وإلا نصحوه بأن لا يقصر في ذلك, فإن استجاب فالحمد لله وإلا فيتحمل هو وزر ذلك ولا دخل لأهل الذمة في تقصيره, وتتصور المسألة في زماننا هذا في الكفار الذين يعيشون في بلاد الإسلام وقد كان آباؤهم يعيشون فيها مع دفع الجزية
3- إذا امتنع الذمي عن أداء الجزية فإن ذلك لا يبيح دمه ولا ينتقض بذلك عهده في مذهب الحنفية وغيرهم خلافا للجمهور, قالوا: ويحمل امتناعه على العجز ولا ينتقض العهد بالاحتمال, كما في بدائع الصنائع 7/113 وفتح القدير4/380
4- إذا حصل من الذمي تجسس فلا يستباح بذلك دمه في مذهب الجماهير من أهل العلم, ففي شرح النووي على مسلم 12/67: (وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضا للعهد, فإن رأى استرقاقه أرقه ويجوز قتله, وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك)اه
5- قتل الذمي للمسلم وزناه بالمسلمة كرها وتعرضه للدين بالإساءة كل ذلك لا ينتقض به عهده في مذهب الحنفية وغيرهم خلافا للجمهور, وإنما يعامل بحسب ما يقتضيه عمله من غير أن ينتقض بذلك عهده, وانظر بدائع الصنائع 7/113 وفتح القدير4/380, وإذا حصل العكس فقَتلَ المسلمُ ذميا فإنه يقتل به في مذهب الحنفية أيضا خلافا للجمهور
6- حكم الحاكم واختيار ولي الأمر يرفع الخلاف فيما يتعلق بالمسائل المختلف فيها بن أهل العلم في التعامل مع أهل العهد وأهل الذمة والمستأمنين, وفي غيرها من المسائل, كما هو مقرر عند أهل العلم, قال القرافي في الفروق2/103: (اعلم أن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء) اه
ثانيا: مسائل تتعلق بالمستأمن:
1- المستأمن لا يمكِن أن يعيش بصفة الأمان في بلاد الإسلام إلى الأبد, وإلا لبطلت عقود الذمة والجزية, وقد اختلف أهل العلم في الفترة التي يجوز لولي الأمر أن يعطيها للمستأمن:
- ففي مذهب الحنفية كما في شرح كنز الدقائق 3/268 -وهو قول في مذهب الشافعية-: لا بد ألا تصل إلى سنةٍ
- وفي مذهب الشافعية : لا تزيد عن أربعة أشهر في الرجل ولا حد لها في المرأة كما في مغني المحتاج للشربيني 4/238
- وفي مذهب الحنابلة: لا تزيد عن عشر سنين كما في كشاف القناع للبهوتي 1/695
2- إذا تأخر المستأمن فزاد على المدة المسموح له بها فلا يجوز أن يستباح دمه لأجل ذلك, بل ينذره الإمام بالخروج فإن خرج فذاك وإلا فينقلب ذميا وتلزمه الجزية, كما في المبسوط10/84 , وبدائع الصنائع 7/110, وإذا لم ينذره الإمام بالخروج فمن أهل العلم من قال: يصير ذميا بانتهاء المدة, ومنهم من قال: لا يصير ذميا ولو طالت المدة إلا بالإنذار كما في فتح القدير 4/351
3- يدخل في المستأمنين: العاملون في السفارات والسائحون والعاملون في الشركات...ألخ ولو كانت بلادهم من بلاد أهل الحرب لأنهم دخلوا بلاد الإسلام بالأمان, والأمان إنما يكون للمستأمنين من أهل دار الحرب أما الذمي والمعاهد فهو آمن بالذمة والعهد, وعليه فلو دخل أمريكي أو إسرائيلي بلاد الإسلام بالأمان فلا يجوز أن يتعرض له بسوء لأنه محرم الدم والمال والعرض, والأمر في ذلك ظاهر ولا خلاف فيه, وإنما نبهنا عليه لما يحصل فيه من تجاوزات ممن لا علم له بالأدلة الشرعية وكلام أهل العلم
4- الأمان: منه ما هو نصي ومنه ما هو عرفي, ومن العرفي: أن الرسل لا تقتل كما في قصة رسل مسيلمة الكذاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, ومن ذلك أن من دخل دار الإسلام ليفادي أسيرا فإنه لا يقتل كما في قصة عمير بن وهب الجمحي, ومن ذلك أن من أتى للتفاوض لا يقتل كما في قصة أبي سفيان بعد نقض صلح الحديبية, ومنه أن التجار لا يقتلون كما سيأتي... إلخ, ومن الأمان العرفي في زماننا: أن الإعلاميين في مواقع القتال لا يقتلون وأن الأطباء والمسعفين في مواضع القتال لا يقتلون... إلخ
5- لو فرض أن أهل الحل والعقد في دولة معينة حكموا على ولي الأمر فيها بالكفر وبأن ولايته صارت غير شرعية فإن ذلك لا يبيح دماء من أعطاهم ذلك الوليُ الأمانَ من أهل الحرب, لأنهم وإن فرضنا عدم اعتبار الأمان النصي في حقهم فقد بقي لهم الأمان العرفي
6- من دخل دار الحرب بأمان من أهلها فهم آمنون منه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم, تماما كما يأمن من دخل منهم دار الإسلام بالأمان, وعليه فمن أُعطي تأشيرة للدخول إلى بلد ما فإنه بذلك قد أعطاهم الأمان من نفسه فلا يجوز أبدا أن يخفر ذمتهم, ففي كتاب الأم [4/355] قال الإمام الشافعي: (إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم)اه, وقال الإمام ابن قدامة في المغنى 10/515: (من دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم.. وأما خيانتهم فمحرمة لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم في المعنى, ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده . فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :(المسلمون عند شروطهم ) فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئاً وجب عليه رد ما أخذ)اه

ثالثا:مسائل تتعلق بالمعاهد:
1- أغلب الدول الآن قد دخلت مع بعضها البعض في عهود صلح وهدنة, وقد تعارفوا على ذلك بوجود التمثيل الدبلوماسي, بل مجرد الانتساب إلى هيئة الأمم المتحدة يعني الدخول في عهد وصلح وهدنة مع كل الدول الأعضاء, كما ينص على ذلك نظامها الداخلي, وقد أجاز الحنفية كما في بدائع الصنائع للكاساني (15/319) وهو وجه عند الحنابلة اختار ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة كما في الإنصاف للمرداوي (7/157) وهو قول للإمام الشافعي كما في أحكام أهل الذمة (ص 158): الدخولَ في هدنة مطلقة من غير تحديد المدة, قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (ص 158): (والقول الثاني -وهو الصواب- أنه يِجوز عقدها مطلقة ومؤقته، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة. ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء جاز ذلك، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء. ويجوز عقدها مطلقة. وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد، بل متى شاء نقضها. وعامةُ عهود النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة، جائزة غير لازمة منها عهده مع أهل خيبر )اه, صحيح أن الفقهاء قد منعوا من التنصيص على تأبيد الهدنة, لأن في ذلك إلغاءا للجهاد, ولكن العرف الدولي الآن على أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين بلدين يعني إلغاء الهدنة بين البلدين, فلا تأبيد إذن, هذا كله بغض النظر عن أنظمة الأمم المتحدة المخالفة للشريعة الإسلامية, لأن الذي يعنينا هنا هو العهد والهدنة والصلح وليس فيه مخالفة للشريعة الإسلامية ما لم يكن في بنود الصلح ما يعارض الشريعة, على أن الضرورة لها أحكام والضرورات تبيح المحظورات كما هو مقرر في قواعد الفقه وفروعه
2- ليس لآحاد الناس الحكم على ذمي أو مستأمن أو معاهد بنقض العهد بل ذلك لولي الأمر فقط, ومن باب أولى ليس لآحاد الناس أن يستبيحوا دم أحد ممن سبق لأجل ذلك الحكم, لأن ذلك كله يحتاج إلى البينات والشهود ...إلخ ما يتعلق بالقضاء
3- من دخل من أهل دار العهد دار الإسلام بغير أمان جديد سوى العهد لم يتعرض له؛ لأنه آمن بالعهد، فكما أنه لا يحل للمسلمين أن يتعرضوا له في داره فكذلك إذا دخل دار الإسلام... وكذلك لو دخل رجلٌ من أهل العهد دارَ الحرب فظهر المسلمون عليهم لم يتعرضوا له؛ لأنه في أمان المسلمين حيث كان بمنزلة ذمي يدخل دار الحرب. وانظر المبسوط للسرخسي (12/ 188)
4- تقدم معنا أن المعاهد إذا تجسس في دار الإسلام لصالح دولته الكافرة فإن ذلك لا يبيح دمه في مذهب جماهير أهل العلم
المبحث الثالث :
حكم قتل المدنيين من أهل الحرب
تمهيد:
في مقصد الرسالة وهدف الدعوة
لم يكن هدف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الأنبياء والمرسلين هو قتل الكفار وإهلاكهم وإبادتهم وتدميرهم, وإلا لما كان مع الأنبياء حواريون وأصحاب لأن الحواريين والأصحاب كانوا قبل الدعوة كفارا, بل كان هدفه صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الأنبياء والمرسلين, بل وهدف كل داعية عرف حقيقة الدعوة هو إدخال الناس في دين الله.. إدخال الناس في الهداية.. إدخال الناس في الرحمة.. إدخال الناس في جنة الدنيا وجنة الآخرة, وهذا الأمر من الوضوح والجلاء بمكان, ولكن البعض قد يعمى عنه بسبب الفتن وردود الأفعال والغيرة والحماسة والاندفاع.
وهذه بعض الأدلة الشرعية والنماذج النبوية في مقصد الرسالة والدعوة:
- قال تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) أي: ستهلك نفسك يا محمد أسفا وحزنا عليهم لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولم يدخلوا في الدين
- وقال تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) أي: ستهلك نفسك يا محمد من أجل أن الكفار لم يؤمنوا ويسلموا لله
- وفي قصة الطائف خير شاهد على ذلك فقد قال ملك الجبال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت, ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هدفه هو تدمير الكفار بل هدفه هداية الكفار, ولذا كان جوابه: لا, إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا, فقد تفكر صلى الله عليه وآله وسلم لمن في أصلاب المشركين وكأنه يريد أن يقول: إذا كان هؤلاء لا أمل في إسلامهم فإن الأمل في أن يسلم من في أصلابهم!! والقصة بطولها في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
- وفي غزوة أحد بعد كل ما صنعوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه
- وفي غزوة الفتح لما قال لهم صلى الله عليه وسلم: ما تظنون أني فاعل بكم, قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم, قال صلى الله عليه وسلم: إذهبوا فأنتم الطلقاء, كما في سنن البيهقي, فعفى عنهم بعدما فعلوا به ما فعلوا منذ البعثة وحتى الفتح
- ولما قال بعض الأنصار يوم الفتح: اليوم يوم الملحمة؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم : (اليوم يوم المرحمة) كما في مغازي الأموي, حكاه عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري
- ولما قال الطفيل بن عمرو الدوسي: يا رسول الله ادع الله على دوس فقد عصت وأبيت؛ رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال: (اللهم أهد دوسا وآت بهم) كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه
- ولما اخترط الأعرابي السيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأراد قتله ثم سقط السيف من يده وأخذه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتله بل دعاه للهداية وقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, ولما لم يقبل الأعرابي الهداية لم يقتله صلى الله عليه وآله وسلم بل تركه يذهب لقومه حتى ينقل لهم الأخلاق المحمدية التي رآها, والقصة في الصحيحين
- ولما كان أبو جهل وعمر بن الخطاب -قبْل إسلامه- لا يألوان جهدا في محاربة الإسلام والمسلمين, كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه ويدعو: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين)اه رواه الترمذي وصححه
- ولما أسر المسلمون ثمامة بن أثال الحنفي -وقد ذكر بعض أهل السير أنه كان ذاهبا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم- لم يقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل تركه في المسجد ثلاثة ليال حتى يرى حقيقة الإسلام وصفات المسلمين لتدخل الهداية في قلبه وقد حصل ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم, والقصة بطولها في الصحيحين
- وعندما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضور الموت عمَه أبا طالب سارع في زيارته لعرض الإسلام عليه وحزن عليه لما لم يقبل الإسلام كما في صحيح البخاري
- ولما سمع بحضور الموت الغلامَ اليهودي سارع في زيارته لعرض الإسلام عليه, ولما أسلم الغلام فرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) كما في صحيح البخاري
- وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيوشه أو سراياه قال لهم: تألفوا الناس ولا تغيروا على حي حتى تدعوهم إلى الإسلام, فوالذي نفس محمد بيده ما من أهل بيت من وبر ولا مدر تأتوني بهم مسلمين إلا أحب إلي من أن تأتوني بنسائهم وأبنائهم وتقتلون رجالهم) اه رواه الحارث في مسنده 2/661
- ولما مات ابن سلول تمنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم له الرحمة والمغفرة مع ما كان يكيد به للإسلام والمسلمين ورسول المسلمين فكفنه بثوبه الشعار وصلى عليه ودفنه واستغفر له حتى آيسه ربه بقوله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم... ) والقصة في صحيح البخاري
- ولما بعث صلى الله عليه وآله وسلم سيدنا عليا رضي الله عنه لأهل خيبر قال له: (لئن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) رواه البخاري, وكأنه يقول له: لا يكن همك الغنائم من الإبل وغيرها بل ليكن همك هداية الناس, هذا مع كون أهل خيبر من اليهود المعاندين الحاقدين الحاسدين..
- ولو ذهبنا نعدد النماذج والأمثلة على ذلك من السيرة النبوية وسيرة الصحابة رضي الله عنهم لطال بنا المقام و فيما ذكرناه الكفاية وزيادة, (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
والآن بعد هذا التمهيد نعود للمراد فنقول:
أهل الحرب أو الحربيون: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة, ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم, وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية: 7/105, فكل من ليس بذمي ولا معاهد ولا مستأمن فهو من أهل الحرب سواء كان مدنيا أو عسكريا, وعليه فليست كلمة حربي ترادف كلمة عسكري بل المدنيون من أهل الحرب هم أيضا أهل حرب, ولكن المدنيين من أهل الحرب؛ فيهم أصناف لا يجوز قتلهم باتفاق العلماء, وفيهم أصناف لا يجوز قتلهم على خلاف بين العلماء, وفيهم أصناف يجوز قتلهم باتفاق العلماء, وقد تقدم أن حكم الحاكم واختيار ولي الأمر يرفع الخلاف
وسنذكر أصناف من لا يقتل من أهل الحرب وما ورد فيهم من أحاديث وآثار
ثم نعقب بذكر حكم هذه الأصناف عند الفقهاء :
أولا: النساء والصبيان :
في صحيح البخاري 423/1, ومسلم 84/2: (عن ابن عمر أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقتولة فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان)اه. وفي لفظ للشيخين: (فأنكر قتل النساء والصبيان)اه
وأخرج مالك في الموطأ 3/166بشرح الزرقاني: (عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك قال: حسبت أنه قال عن عبد الرحمن بن كعب أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قتلوا ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان, قال: فكان رجل منهم يقول: برحت بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح فأرفع السيف عليها ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكف ولولا ذلك استرحنا منها)اه ورواه الشافعي في الأم 4/ 152
ثانيا: العسفاء (الأجراء):
في مسند أحمد 3/448 وسنن أبي داود 2/60: (عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال: "انظر علام اجتمع هؤلاء" فجاء فقال: على امرأة قتيل, فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال: "قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفا")اه
ورواه ابن ماجه 2/948, وصححه ابن حبان 11/112, وقال الحاكم 2/133: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ولكن فيه عندهم: (ذرية) بدل: (امرأة)
والعسيف هو الأجير للخدمة وقيل هو العبد ففي شرح سنن ابن ماجه 1/204: (والعسيف الأجير والتابع للخدمة)اه وفي المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (6/156): (ومنه العسيف وهو الأجير لأنه يعسف الطرقات مترددا في الأشغال والجمع عسفاء مثل أجير وأجراء)اه وفي المغني لابن قدامة 10/530: (ولا عسيفا) وهم العبيد)اه
ثالثا: الشيخ الهرم :
في سنن ابي داود 2/44 : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين})اه
وفيه خالد بن الفزر قال الزيلعي في نصب الراية 3/395 : (وخالد بن الفزر قال ابن معين : ليس بذاك)اه وللحديث شواهد أوردها البيهقي في السنن 9/90 ثم قال: (وهو بشواهده مع ما فيه من الآثار يقوى والله أعلم)اه
وفي موطأ مالك 2/447: (عن يحيى بن سعيد :ان أبا بكر الصديق قال ليزيد بن أبي سفيان: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه ولا تغلل ولا تجبن)اه
وهو معارض بحديث سمرة عند أبي داود 2/60 وأحمد 5/20: (عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم")اه وفيه ضعف قال البيهقي: (والحجاج بن أرطاة غير محتج به والحسن عن سمرة منقطع في غير حديث العقيقة على ما ذكره بعض أهل العلم بالحديث انتهى)اه
وعلى فرض صحته فقد أجاب عنه ابن قدامة في المغني 10/530 بقوله: (وأما حديثهم فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير جمعا بين الأحاديث, ولأن أحاديثنا خاصة في الهرم وحديثهم عام في الشيوخ كلهم, والخاص يقدم على العام, وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها)اه
رابعا: الفلاحون :
في سنن البيهقي 9/91: (وأخبرنا أبو سعيد ثنا أبو العباس ثنا الحسن ثنا يحيى ثنا زهير بن معاوية عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الله في الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب)اه
خامسا: الرهبان وأصحاب الصوامع :
في مسند أحمد 1/300, ومعجم الطبراني11/224: (عن بن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا بسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)اه
ورواه أبو يعلي 5/59 مختصرا: (عن ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)اه قال محقق الكتاب: إسناده صحيح
وفي موطأ مالك 2/447: (عن يحيى بن سعيد : أن أبا بكر الصديق قال ليزيد بان أبي سفيان: انك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له)اه ورواه عبد الرزاق 5/199 والبيهقي 9/85 وفيه: (والذين حبسوا أنفسهم: الذين في الصوامع)اه
سادسا: التجار:
في مسند أبي يعلى3/427: (حدثنا زهير حدثنا عباد بن العوام أخبرنا حجاج عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا لا نقتل تجار المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ورواه ابن أبي شيبة 6/484 والبيهقي 9/91 بنحوه
قال ابن حزم في المحلى 7/298: (وأما قول جابر: لم يكونوا يقتلون تجار المشركين, فلا حجة لهم فيه, لأنه لم يقل: إن تركهم قتلهم كان في دار الحرب. وإنما أخبر عن جملة أمرهم، ثم لو صح مبينا عنه لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه نهى عن قتلهم وإنما فيه اختيارهم لتركهم فقط ) اه
حكم قتل تلك الأصناف عند الفقهاء
أما النساء والصبيان من أهل الحرب:
فلا خلاف بين أهل العلم من المذاهب الأربعة في حرمة قتلهم, بل حُكي الإجماع على ذلك, قال النووي في شرحه على مسلم 12/48: (أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا, فإن قاتلوا قال جماهير العلماء: يقتلون)اه
وهناك قول ضعيف خارج المذاهب الأربعة بجواز قتلهم قال الحافظ في فتح الباري 6/148: (واتفق الجميع كما نقل بن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان, أما النساء فلضعفهن وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر, ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم أما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به, وحكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب)اه
وأما من عدا النساء والصبيان:
- فالحنفية: لا يجيزون قتل الأصناف التالية: المرأة والصبي والشيخ الفاني والمقعد واليابس الشق والأعمى ومقطوع اليد والرجل من خلاف ومقطوع اليد اليمنى والمعتوه والراهب في صومعة والسائح في الجبال الذي لا يخالط الناس ومن في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب
- والمالكية: لا يجيزون قتل الأصناف التالية: المرأة والصبي والمعتوه والشيخ الفاني والزمن والأعمى والراهب المنعزل بدير أو صومعة بلا رأي, ولهم خلاف في الأجراء والحراثين وأرباب الصنائع لكن المشهور عندهم هو عدم جواز قتلهم
- والشافعية: لا يجيزون قتل الأصناف التالية : الصبي والمجنون ومن به رق والمرأة والخنثى المشكل
- والحنابلة: لا يجيزون قتل الأصناف التالية : الصبي والشيخ والمرأة والأعمى والراهب والعبد والزمن والأعمى
وهذه بعض أقوال العلماء من المذاهب الأربعة
في حكم قتل تلك الأصناف
من أقوال الحنفية في ذلك
قال الكاساني في بدائع الصنائع 6/63: (أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي ولا شيخ فان ولا مقعد ولا يابس الشق ولا أعمى ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ولا مقطوع اليد اليمنى ولا معتوه ولا راهب في صومعة ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب...لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا يقتلون) اه وانظر نحو ذلك في الجوهرة النيرة 2/259 من كتب الحنفية
من أقوال المالكية في ذلك
في شرح عليش على خليل (منح الجليل) 3/145-147: (وإذا قدر عليهم ( قتلوا ) أي جاز قتلهم (إلا) سبعة فلا يجوز قتلهم (المرأة) فلا تقتل في حال (إلا في مقاتلتها) فتقتل إن قتلت بسلاح أو حجارة أسرت أم لا... (و) إلا (الصبي) [غير] المطيق للقتال, فيقال: إلا أن يقاتل فكالمرأة... (و) إلا (المعتوه) أي ضعيف العقل. سحنون: والمجنون والمختل العقل وشبههم, وشبه في منع القتل فقال: (كشيخ فانٍ) أي لا بقية فيه للقتال, ولا للتدبير (وزمن) بكسر الميم أي مقعد أو أشل أو مفلوج أو مجزم أو نحوهم (وأعمى) وأعرج (وراهب منعزل) عن الكفار (بدير) بفتح الدال وسكون المثناة (أو صومعة)... (بلا رأي) قيد في منع قتل الشيخ ومن بعده, ولذا فصله بالكاف عما قبله...
(والراهب والراهبة) المنعزلان بدير أو صومعة بلا رأي (حران) فلا يؤسران ولا يسترقان عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنه, وقال سحنون: تسترق الراهبة...) اه ونحوه في شرح الخرشي على خليل 3/112 وفي شرح الدردير على خليل 2/176
من أقوال الشافعية في ذلك
قال الشربيني في مغني المجتاج 4/220: (ويحرم عليه قتل صبي ومجنون ومن به رق وامرأة وخنثى مشكل للنهي عن قتل الصبيان والنساء في الصحيحين وألحق المجنون بالصبي والخنثى بالمرأة لاحتمال أنوثته)اه
وقال أيضا: (ويحل قتل راهب وأجير ومحترف وشيخ ولو ضعيفا وأعمى وزمن ومقطوع اليد والرجل وإن لم يحضروا الصف ولا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر لعموم قوله تعالى:" اقتلوا المشركين" ولأنهم أحرار مكلفون فجاز قتلهم كغيرهم, والثاني المنع لأنهم لا يقاتلون فأشبهوا النساء والصبيان)اه
وفي الأحكام السلطانية 1/69: (ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربا وغير محارب واختلف في قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والأديرة ، فأحد القولين فيهم: أنهم لا يقتلون حتى يقاتلوا لأنهم موادعون كالذراري. والثاني: يقتلون وإن لم يقاتلوا لأنهم ربما أشاروا برأي هو أنكى للمسلمين من القتال ، وقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن )اه
من أقوال الحنابلة في ذلك
في المغني لابن قدامة 10/530: (الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبيا لم يبلغ بغير خلاف... ولا تقتل امرأة ولا شيخ فانٍ, وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولا تعتدوا} يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير...
ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم هو كالخلاف في الشيخ وحجتهم ههنا حجتهم فيه, ولنا في الزمن والأعمى أنهما ليسا من أهل القتال فأشبها المرأة وفي الراهب ما روي في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ... ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي)اه
وفي السياسة الشرعية لابن تيمية 159: (وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين, وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله, وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين, والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله ...
ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء)اه
لفت نظر
لعلك لاحظت من خلال نصوص العلماء السابقة أن من عدا تلك الأصناف التي ذكرناها من أهل دار الحرب يجوز قتلهم, ولو لم يكونوا عسكريين, لكن هل يُلحق بهم في عدم القتل من لم يُذكر ممن ليسوا عسكريين؟
الذي نجده في كلام أكثر الفقهاء السابقين هو عدم الإلحاق, بل قد نصوا على جواز قتل من عدا تلك الأصناف, قال الكاساني في بدائع الصنائع 6/63: (والأصل فيه: أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أو لم يقاتل, وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك على ما ذكرنا فيقتل القسيس والسَيَاح ( ) الذي يخالط الناس والذي يجن ويفيق والأصم والأخرس وأقطع اليد اليسرى وأقطع إحدى الرجلين وإن لم يقاتلوا لأنهم من أهل القتال)اه وقد تقدمت نصوص أخرى في ذلك ضمن كلام العلماء فلتراجع
وهناك من أهل العلم من يرى إلحاق من لم يقاتل من أهل الحرب بتلك الأصناف وهو ما قد يفهم مما في شرح عليش على خليل 3/145 ونحوه في حاشية الدسوقي على الدردير 2/147: (والاقتصار على استثناء السبعة يفيد قتل أجرائهم وزراعهم وأهل صناعاتهم وهو كذلك, هذا قول سحنون وهو خلاف المشهور. وقال ابن القاسم وابن وهب وابن الماجشون وابن حبيب: يؤسرون ولا يقتلون, وحكاه اللخمي عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه, قال: وهو أحسن; لأن هؤلاء في دينهم كالمستضعفين. وصرح القلشاني بأن هذا هو المشهور قائلا خلافا لسحنون, ولذا أدخلهم في التوضيح في قول ابن الحاجب: ويلحق بهم الزمنى والشيخ الفاني ونحوهم, قال: مراده بنحوهم الفلاحون وأهل الصناعات) اه .
وقد يفهم هذا أيضا من كلام الشوكاني حيث قال في نيل الأوطار 8/56 في شرح حديث: "ولا أصحاب الصوامع": (فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان متخليا للعبادة من الكفار الرهبان لإعراضه عن ضر المسلمين... ويقاس على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعدا أو أعمى أو نحوهما ممن كان لا يرجى نفعه ولا ضرره على الدوام) اه
وقد صرح بعض أهل العلم المتأخرين بالإلحاق, قال الشيخ أبو زهرة في كتابه (العلاقات الدولية في الإسلام) ص99: ( تكرر نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل العسفاء وهم العمال الذين يستأجرون للعمل الذي لا يحاربون وليس لهم في الحرب عمل... والعمال والزراعيون واليدويون الذين لا يقاتلون هم بناة العمران, والحرب الإسلامية ليست لإزالة العمران)اه
وقال الشيخ الزحيلي في كتابه آثار الحرب ص480: (المحاربون: هم كل من نصب نفسه للقتال بطريق مباشر أو غير مباشر وذلك كالجنود الإجباريين والمتطوعين... أما المدنيين الذين ألقوا السلاح وانصرفوا إلى أعمالهم وكل من له صفة حيادية عن معاونة العدو كالملحقين العسكريين الأجانب ومراسلي الصحف ورجال الدين التابعين للقوات الحربية فهؤلاء لا يعتبرون محاربين يهدر دمهم)اه
المخرج الشرعي حتى لا يقتل من عدا الأصناف السابقة من المدنيين؟
على القول بجواز قتل من عدى الأصناف السابقة من أهل دار الحرب فالمخرج الشرعي للمنع من قتلهم هو أن يُصدر قائد الجيش أمرا بالكف عمن يرى في الكف عن قتله مصلحة, وقد تقدم معنا قول ابن حزم في المحلى 7/298: (وأما قول جابر: لم يكونوا يقتلون تجار المشركين, فلا حجة لهم فيه, لأنه لم يقل: إن تركهم قتلهم كان في دار الحرب. وإنما أخبر عن جملة أمرهم، ثم لو صح مبينا عنه لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه نهى عن قتلهم وإنما فيه اختيارهم لتركهم فقط ) اه
وقال الإمام الشافعي في الأم 4/335: (ويترك قتل الرهبان وسواء رهبان الصوامع ورهبان الديارات والصحارى وكل من يحبس نفسه بالترهب تركنا قتله اتباعا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه, وذلك أنه إذا كان لنا أن ندع قتل الرجال المقاتلين بعد المقدرة وقتل الرجال في بعض الحالات لم نكن آثمين بترك الرهبان)اه
قال الدكتور خير هيكل في كتابه الجهاد والقتال ص1269: (ويفهم من هذا أن لولي الأمر أن يمنح الحماية من القتل لفئات من بلاد الأعداء يجوز في الأصل أن يوجه عليهم السلاح كغيرهم من أهل الحرب)اه
وقال الدكتور أيضا ص1268: (لصاحب السلطة الحق في أن يصدر أمرا للجيش أن لا يتعرضوا بالقتل لأشخاص معينين بذواتهم أو بأوصاف محددة تميزهم عن غيرهم وذلك إما بناء على مصلحة يراها في ذلك وإما بناء على اتفاقية دولية أو ثنائية ارتبطت بها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول
ومثل هذا التصرف إنما هو من باب الأمان الذي تمنحه السلطة الإسلامية المخولة بذلك لأفراد أو لجماعات من البلاد المعادية, هذا وينبغي أن يحاط هذا الأمر بشروط واحتياطات تحول دون استغلاله من قبل الأعداء في الإضرار بالمسلمين
وبناء على ذلك فإن الجيش الإسلامي أثناء اشتباك القتال مع جيش الأعداء أو حين اجتياحه لبلادهم يحرم عليه أن يتعرض بالقتل المقصود لأولئك الأشخاص من الأعداء الذين صدر الأمر بعدم قتلهم سواء أكانوا من المراسلين والمصورين الذين يتواجدون في ساحات المعارك في الحروب الحديثة أم كانوا من السياسيين أو من أهل العلم أو من العمال الصناعيين أو ممن يشتغلون بالمستشفيات من مرضى وأطباء أو من الأفراد العاديين أو غير ذلك على حسب الأوامر الصادرة في هذا الخصوص ) اه
ولكن بقي إشكال آخر :
وهو أن الأصناف السابقة جميعهم (النساء والصبيان... إلخ) وإن لم يجز قتلهم فإنهم يؤسرون ويكونون ضمن الغنائم, ومن عدا النساء والصبيان منهم فإن الإمام مخير فيهم بين الاسترقاق والفداء والمن والقتل بحسب المصلحة, أما النساء والصبيان فإنهم يسترقون قال ابن عابدين في حاشيته 4/138: (فلا تقتل النساء ولا الذراري بل يسترقون لمنفعة المسلمين)اه
وقد اختلف أهل العلم في: هل للحاكم أن يفادي بالنساء والصبيان أم لا ؟:
فمذهب الحنفية:
أنه لا يفادى بهم إلا لضرورة ففي شرح الحصكفي 4/139: (قال الشُمني: واتفقوا أنه لا يفادى بنساء وصبيان وخيل وسلاح إلا لضرورة)اه
ومذهب المالكية:
أنه يمكن أن يفادى بهم بالنفوس دون المال, قال الحطاب في مواهب الجليل (شرح مختصر خليل) 3/359: (النظر في الأسرى بقتل أو من أو فداء أو جزية أو استرقاق)... وأما الرجال فالإمام مخير فيهم بين خمسة أوجه: المن والفداء والقتل والجزية والاسترقاق, فأي ذلك رأى أحسن نظر فعله... وأما الذراري والنساء فليس إلا الاسترقاق والمفاداة بالنفوس دون المال) اه
وقال الدردير في شرحه على خليل 2/184: (وهذه الوجوه بالنسبة للرجال المقاتلة, وأما النساء والذراري فليس فيهم إلا الاسترقاق أو الفداء)اه
وقد أطبق شراح خليل وفقهاء المالكية على أنه لا منَ على النساء والصبيان, وعليه فقول ابن جُزي -في قوانينه ص166: (وأما النساء والصبيان فيخير فيهم بين المن والفداء والاسترقاق) اه- ذكرُ المنِ فيه إما من النساخ أو هو سبق قلم من ابن جزي أو هو وهمٌ كما لا يخفى, ويبعد أن يكون قولا في المذهب أو وجها لأنه لم يذكره أحد من المالكية غيره فيما وقفت عليه, كما يبعد أن يكون اختيار له لأنه في معرض حكاية المذهب
ومذهب الشافعية:
أنه لا يفادى بهم بل يصيرون أرقاء بنفس الأسر ويدخلون في الغنيمة وله أن يمن عليهم إن طابت نفوس الغانمين بمقابل أو بدون مقابل, والقيمةُ -إن طلبوا المقابل- من المصالح إن كانت المصلحة عامة, ومن مال الحاكم إن كانت المصلحة خاصة وعلى كل فلا بد من رضا الغانمين, قال الماوردي في الأحكام السلطانية 171: ( وإن أراد المن عليهم (أي النساء والصبيان) لم يجز إلا باستطابة نفوس الغانمين عنهم إما بالعفو عن حقوقهم منهم وإما بمال يعوضهم عنهم. فإن كان المن عليهم لمصلحة عامة جاز أن يعوضهم من سهم المصالح, وإن كان لأمر يخصه عاوض عنهم من مال نفسه, ومن امتنع من الغانمين عن ترك حقه لم يستنزل عنه إجبارا حتى يرضى)اه
ومذهب الحنابلة:
كالشافعية في الجملة قال ابن قدامة في المغني 10/393: (من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب:
أحدها: النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والولدان متفق عليه وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم
الثاني: الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء: القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم...)اه
وفي الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص127 عن السبي: (لا يجوز مفاداتهم بمال ولا على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم... كما لا يجوز المن عليهم) اه بواسطة الجهاد والقتال لهيكل ص1420
واختار بعض المعاصرين جواز المن على السبي وردهم إلى قومهم عند المصلحة قال المراغي في تفسيره 5/5: (الإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسهن في بعض الأحوال كما إذا استأصلت الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد, فإن رأي المسلمون أن من الخير أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) اه
وقال رشيد رضا في تفسير المنار 5/5 : ( إن رأي المسلمون أن من الخير أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك أو وجب عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) اه بواسطة الجهاد والقتال لهيكل ص1432
ويشهد لذلك أن ملك الإسكندرية عرض على عمرو بن العاص أن يرد السبي مقابل أن يدخلوا في عقد الذمة ويدفعوا الجزية فأرسل عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فأرسل إليه عمر بعدم الممانعة بشرط أن يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم كان مع المسلمين ومن لم يسلم ردوه إلى قومه ويدخل في عقد الذمة كما في تاريخ الطبري (2 / 360)

المخرج الشرعي حتى لا يكون هناك استرقاق وسبي؟
المخرج الشرعي لذلك هو أن يدخل الحاكم في اتفاقية مع الكفار الحربيين على أننا لا نأسر منهم ولا يأسرون منا قال السرخسي في شرح السير الكبير1/303: (ولو شرطوا أن لا نقتل أسراهم إذا أصبناهم، فلا بأس بأن نأسرهم ويكونوا فيئا ولا نقتلهم. لان الأسر ليس في معنى ما شرطوا من القتل. فان القتل نقص البنية. ألا ترى أنه لا بأس بأن نأسر نساءهم وذراريهم وإن كان لا يحل قتلهم شرعا ؟
وإن شرطوا أن لا نأسر منهم أحدا فليس ينبغي لنا أن نأسرهم ونقتلهم لان القتل أشد من الأسر. ومقصودهم بهذا الشرط يفوت بالقتل كما يفوت بالأسر.
إلا أن تظهر الخيانة منهم بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا ولا يأسروا منا أحدا، ثم فعلوا ذلك، فحينئذ يكون هذا منهم نقصا للعهد، فلا بأس بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم كما كان لنا ذلك قبل العهد) اه
ويشهد لجواز ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر عنوة ومع ذلك لم يسترق من فيها من اليهود, قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (وممن من عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ، وإنما افتتحت عنوة ، وقد ذكرنا حديثها وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضها ومن على رجالها ، وتركهم عمالا في الأرض ، معاملة على الشطر..)اه الأموال للقاسم بن سلام - (1 / 290)
وكذلك فتح مكة عنوة ولم يسترق أهلها بل قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء, قال أبو عبيد القاسم بن سلام : (فمن المنِ فعلُه بأهل مكة ، وقد اقتصصنا حديثها ، وكيف كان فتحه إياها ، ثم لم يعرض لأحد من أهلها في نفس ولا في مال ، ثم نادى مناديه : ألا لا يجهزن على جريح ، ولا يتبعن مدبر ، ولا يقتلن أسير ، ومن أغلق بابه فهو آمن)اه الأموال للقاسم بن سلام ص(286)
وكذلك الخليفة عمر ابن الخطاب لما فتح سواد العراق وغيرها من البلدان لم يسترق أهلهما مع أنه فتحها عنوة وعقد لهم عقد الذّمة وهذا النوع من الذّمة يسمى بذّمة الغلبة أو الفتح ويكون عندما يفتح المسلمون بلاداً غير إسلاميّةٍ، ويرى الإمام ترك أهل هذه البلاد أحراراً بالذّمّة, راجع لهذا النوع من الذمة بدائع الصنائع للكاساني 7/111،119-حاشية القليوبي على شرح المحلي 3/126 -أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/105
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (وكذلك كل بلاد أخذت عنوة ، فرأى الإمام ردها إلى أهلها، وإقرارها في أيديهم على ذمتهم ودينهم، كفعل عمر بأهل السواد وإنما أخذ عنوة على يدي سعد وكذلك بلاد الشام كلها عنوة ، ما خلا مدنها على يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وخالد بن الوليد ، وكذلك الجبل أخذ عنوة في وقعة جلولاء ونهاوند على يدي سعد بن أبي وقاص والنعمان بن مقرن ، وكذلك الأهواز ، أو أكثرها ، كذلك فارس على يدي أبي موسى الأشعري ، وعثمان بن أبي العاص ، وعتبة بن غزوان وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك المغرب على يدي عبد الله بن سعد بن أبي سرح...
قال أبو عبيد: فهذه بلاد العنوة، وقد أقر أهلها على مللهم وشرائعهم ، ولكل هذه قصص وأنباء ، نأتي بما علمنا منها إن شاء الله)اه الأموال للقاسم بن سلام - (1 / 271)

حالات استثنائية يباح فيها قتل تلك الأصناف فمنها:
الحالة الأولى: التبييت والإغارة:
في صحيح البخاري 423/1، ومسلم 84/2: (عن الصعب بن جثامة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال عليه السلام: هم منهم وفي لفظ: هم من آبائهم) اه. زاد أبو داود: قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان)اه
قال ابن حجر في فتح الباري 6/147: (قوله: هم منهم) أي في الحكم تلك الحالة وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم)اه
وفي شرح النووي12/49: ( والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة, وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا, وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بيانهم وقتل النساء والصبيان في البيات هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور, ومعنى البيات ويبيتون أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي)اه
الحالة الثانية: إذا صدر منهم مشاركة في القتال بنفس أو رأي ونحو ذلك:
من أقوال الحنفية في ذلك
قال الكاساني في بدائع الصنائع 6/63 بعد ذكر من لا يجوز قتلهم: (ولو قاتل واحد منهم قتل وكذا لو حرض على القتال أو دل على عورات المسلمين أو كان الكفرة ينتفعون برأيه أو كان مطاعا وإن كان امرأة أو صغيرا, لوجود القتال من حيث المعنى وقد روي أن ربيعة بن رفيع السلمي رضي الله عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين فقتله يوم حنين فقتله وهو شيخ كبير كالقفة لا ينتفع إلا برأيه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينكر عليه ) اه وانظر نحوه في الجوهرة النيرة 2/259
من أقوال المالكية في ذلك
في حاشية الدسوقي على شرح الدردير على خليل 2/176 : ( واعلم أن للمرأة ثمانية أحوال ; لأنها إما أن تقتل أحدا أو لا , وفي كل إما أن تقاتل بسلاح أو غيره , وفي كل إما إن تؤسر أو لا فإن قتلت أحدا بالفعل جاز قتلها سواء كانت مقاتلتها بسلاح أو بغيره كالحجارة , سواء أسرت أم لا , وإن لم تقتل أحدا فإن قاتلت بالسلاح كالرجال جاز قتلها أيضا أسرت أم لا , وإن قاتلت برمي الحجارة فلا تقتل بعد الأسر اتفاقا , ولا في حالة المقاتلة على الراجح ) اه
من أقوال الشافعية في ذلك
قال الشربيني في مغني المجتاج 4/220 :( يستثنى من ذلك مسائل :
- الأولى: إذا لم يجد المضطر سواهم فله قتلهم وأكلهم على الأصح في زيادة الروضة من كتاب الأطعمة
- الثانية: إذا قاتلوا يجوز قتلهم وقد استثناها في المحرر
- الثالثة: حال الضرورة عند تترس الكفار بهم كما سيأتي
- الرابعة: إذا كانت النساء من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان وامتنعن من الإسلام قال الماوردي: فيقتلن عند الشافعي رضي الله تعالى عنه!!!
- الخامسة: إذا سب الخنثى أو المرأة الإسلام أو المسلمين لظهور الفساد ) اه
من أقوال الحنابلة في ذلك
في المغني لابن قدامة 10/530 : ( فصل : ومن قاتل ممن ذكرنا جميعهم جاز قتله لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة, ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب) اه
الحالة الثالثة : حالة التترس بهم
إذا تترس الكفار بمن لا يجوز قتله منهم : فيجوز رميهم مطلقا عند الحنفية, وهو المذهب عند الحنابلة, ويقصد بالرمي المقاتلين, وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا يجوز رميهم, إلا إذا دعت الضرورة ويتركون عند عدم الضرورة
من أقوال الحنفية في ذلك
في شرح السير الكبير 4/1447: (لا ترى أنه لو كان معهم في السفينة نساؤهم وصبيانهم فلا بأس بأن تحرق أو تغرق , وإن كان لا يحل القصد إلى قتل نسائهم وصبيانهم , فكذلك إذا كان معهم في ذلك الموضع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة . والله أعلم بالصواب وهو الموفق .) اه
من أقوال المالكية في ذلك
في شرح الخرشي على خليل 3/114: (وإن تترسوا بذرية تركوا إلا لخوفٍ, وبمسلم لم يقصُدِ الترسَ إن لم يخف على أكثر المسلمين) يعني أن العدو إذا تترسوا بذراريهم أو بنسائهم بأن جعلوهم ترسا يتقون بهم فإنهم يتركوا لحقِ الغانمين إلا أن يخاف منهم فيقاتلوا حينئذ )اه
من أقوال الشافعية في ذلك
في مغني المحتاج 4/220: (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وخناثى " وصبيان " ومجانين منهم " جاز " حينئذ " رميهم " إذا دعت الضرورة إليه ونتوقى من ذكر, لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد وطريقا إلى الظفر بالمسلمين لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا, فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر "
وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم " وجوبا لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن قتلهم وهذا ما رجحه في المحرر, والثاني : وهو المعتمد كما صححه في زوائد الروضة جواز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم, ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم, وفي ذلك فساد عظيم )اه
من أقوال الحنابلة في ذلك
قال ابن قدامة في المغني 10/ 495: (وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب ) اه
الحالة الرابعة : حالة الشتم والتكشف من قبل المرأة :
قال ابن قدامة في المغني 10/495: (ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا لما روى سعيد : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : [ لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال : ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها ]... وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم أو تحرضهم على القتال لأنها في حكم المقاتل وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم) اه
لفت نظر :
كلام العلماء السابق صريح في حرمة قتل نساء وأطفال الكفار من أهل الحرب, وقد حُكيَ الإجماع على ذلك كما تقدم, وسواء كان الجهاد فرض عين أم فرض كفاية.. دفاعيا أم هجوميا.. في أرضهم أم في أرضنا, ولم يُستثن من ذلك إلا الحالات السابقة, وهي تعد من الضرورة التي تقدر بقدرها
وعليه فلا يجوز قتل النساء والصبيان من الإسرائيليين في أرض فلسطين إلا في الحالات السابقة الذكر, ومن العجيب قول من قال: إن النساء والصبيان من الإسرائيليين في أرض فلسطين يعدون عسكريين يجوز قصد قتلهم لمجرد وجودهم في الأرض المحتلة, وإن لم يدخلوا في الحالات السابقة
مضحكة مبكية
من المضحك المبكي: أني قرأت في الإنترنت فتوى لبعض من ينتسب للعلم يجيز فيها قتل النساء والصبيان في حالة ما إذا قتل الكفار نساء المسلمين وصبيانهم مستدلا بقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ونحو ذلك من الآيات, وهذا الاستدلال مع كونه مخالفا للإجماع غريب عجيب فإنه على هذا الاستدلال: يجوز للشخص أن يقتل امرأة المسلم الذي قتل امرأته وصبي المسلم الذي قتل صبيه وهكذا
وليت هذا الشخص وأمثاله يرجعون إلى كتب الفقهاء في هذه المسالة وإلى الضوابط الشرعية التي ذكروها فيما يتعلق بالعقوبة بالمثل والتي استنبطوها من الأدلة الشرعية وأخذوا فيها بالأدلة الشرعية جميعا ولم يجتزئوا منها ما يشتهون, والمصيبة أن بعض الشباب المتهور يجد في مثل هذه الفتاوى المستعجلة الغريبة الشاذة مستندا له ليقوم ببعض الأعمال التي لا يرضاها الله ولا رسوله ولا العقل ولا العرف... نسأل الله أن يصلح الأحوال وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي
اليمن - صنعاء
4/جمادى الآخرة/1430هـ
بريد إلكتروني : [email protected]
 
عودة
أعلى