أبو عبد الله محمد مصطفى
New member
حكم بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين خارج ديار الإسلام للدكتور: صلاح الصاوي
السؤال:
ما مدى جواز بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين خارج ديار الإسلام؟ لقد نقل عن مفتي الديار المصرية قول بجواز ذلك بناء على ما ذهب إليه الأحناف من جواز التعامل بالعقود الفاسدة خارج ديار الإسلام، فما مدى صحة هذه الفتوى؟ أفتونا مأجورين
الإجابة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد: الأصل أن دار الكفر ليست ناسخة للمحرمات، وأن الحرمة لا تتغير بتغير الأماكن، فالربا والزنى والخمر والخنزير حرام فوق كل أرض وتحت كل سماء، دار الإسلام ودار الحرب في ذلك سواء، فلا يحل للمسلم التورط في بيع شيء من ذلك سواء أكان ذلك لمسلم أم لغير مسلم، وسواء أكان ذلك داخل ديار الإسلام أم كان خارجها، فهو مطالب بتقوى الله حيثما كان، هذا هو الذي تشهد له الأدلة الصحيحة الصريحة، والذي عليه جمهور أهل العلم، خلافا للقائلين بجواز التعامل بهذه العقود مع الحربيين خارج ديار الإسلام من الأحناف ومن دار في فلكهم، وأدلة الجمهور في هذا المقام أقوم قيلاً وأهدى سبيلاً، ومن هذه الأدلة:
• إطلاقات النصوص الواردة في النهي عن هذه المحرمات والوعيد الشديد على فعلها والتي لم تقيده بمكان دون مكان، ولا بفريق من الناس دون فريق، ومن هذه النصوص في ما يتعلق بالخمر:
• قوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين). المائدة
• وما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :"إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"
• وما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"حرمت التجارة في الخمر"
• وما رواه أحمد وغيره عن تميم الداري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :"إن الخمر حرام شراؤها وثمنها"، وقد ثبت من طرق أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعن بائع الخمر ومبتاعها، فقد روى الترمذي-واللفظ له- وابن ماجه من حديث أنس ابن مالك رضى الله عنه أنه قال :"لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له" وروي هذا من حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بألفاظ أخرى مقاربة، والأحاديث في الباب كثيرة معلومة .
• وما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راوية خمر فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :هل علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، قال :فسار رجلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها"
• أن حرمة هذه المحرمات ثابتة في حق الكفار كما هي ثابتة في حق المسلمين على الصحيح من أقوال أهل العلم في مخاطبة الكفار بالحرمات، وقد قال تعالى: ((وأخذهم الربا وقد نـهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل)) [النساء: 161]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح عليه السلام عندما ينزل آخر الزمان سيقتل الخنزير كما سيكسر الصليب، الأمر الذي يدل على أن إباحتهم للخنزير ليست من دين القوم ولا تستند فيه على اصل صحيح، ومتى كانت المحرمات أمراً خاصاً بالمسلمين في ديار الإسلام، فإذا خرجوا منها استحلوا محارم الله! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اتق الله حيثما كنت"؟!.
• قياس حرمة هذه المحرمات بين المسلم والحربي في دار الحرب على حرمتها بين المسلم والمستأمن في دار الإسلام، فإن المستأمن في دار الإسلام يجري تحريم الربا بينه وبين المسلم إجماعاً، ولا يحل له أن يبيعه خمرا أو خنزيرا أو ميتة بلا نزاع [راجع: المجموع للنووي: 9/443، والمغني لابن قدامة: 4/39]، وممن نقل هذا الإجماع الأحناف أنفسهم [راجع حاشية ابن عابدين: 5/186]، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه.
• ما يفضي إليه تحريم هذه المحرمات في علاقة المسلم بالمسلم، وإباحته في علاقة المسلم بالحربي، من التشبه باليهود في تحريمهم الربا في علاقة اليهودي باليهودي، وإباحته في علاقته مع الأمميين! ((ذلك بأنـهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)) [آل عمران:75].
أما ما ذهب إليه الأحناف في هذا المقام من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة خارج ديار الإسلام فهو قول مرجوح لا ينهض أمام الأدلة الصحيحة التي قال بموجبها جمهور الفقهاء بتحريم هذه العقود، فضلا عن ما تتضمنه من المآلات الوخيمة والتي سنعرض لها بصدد مناقشتنا لهذه الأدلة بإذن الله.
قال الشافعي رحمه الله : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر)
وقال الشوكاني رحمه الله: (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية).
مناقشة أدلة الأحناف
اعتمد الأحناف في مذهبهم على أدلة نصية وعلى أدلة من النظر والاعتبار
أولا: الأدلة النصية
أما الأدلة النصية فهي جميعا موضع نظر، وليس فيها عند التأمل ما يرجح اختيار الأحناف في هذه المسألة، بل إن قول الجمهور كما سبق أقوم قيلا وأهدى سبيلا وذلك على النحو التالي:
1. حديث مكحول: "لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب" وهو يعد عمدة أدلتهم في هذا المقام:
وهذا الحديث قد رده كثير من أهل العلم بالحديث والفقه معاً:
• فقد قال فيه الشافعي رحمه الله: "وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه" [سير الأوزاعي للشافعي: 7/359]
• وذكره الحافظ إبن حجر في الدراية (2/158) وقال : لم أجده أ 0 هـ
• وقال الزيلعي: "غريب" أي لا أصل له
• وقال فيه النووي: "مرسل ضعيف فلا حجة فيه" [المجموع للنووي: 9/392]
• وقال العيني في البناية: "هذا حديث غريب ليس له أصل مسند" [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/158]
• وقال ابن قدامة في المغني: "وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك. ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الاجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به" [المغني: 4/46].
وعلى فرض ثبوته فإنه يحتمل النهي وذلك كقوله تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)) [البقرة:197].
• قال النووي رحمه الله تعالى: "والجواب عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة" [المجموع للنووي: 9/392].
والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة التي تحرم الربا، إذ لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب من كتب السنة الصحيحة المعتمدة.
• ومن أدلتهم ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع أو ليهود بني النضير عندما قالوا له إن لنا ديونًا لم تحل بعد، فقال: "تعجلوا أو ضعوا"، ومعلوم أن هذه المعاملة بين المسلمين تكون من باب الربا
والاستدلال بذلك موضع نظر لأن قاعدة ضع وتعجل من القضايا المختلف فيها بين أهل العلم، وقد أجازها بعض الصحابة نذكر منهم: عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم . والقول بحلها بين المسلمين وعدم اعتبارها من الربا المحرم هو أحد القولين لكل من الإمامين الشافعي وأحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأجازها ابن عابدين من فقهاء الحنفية كما في حاشيته على "الدر المختار" (5 / 160) . وقد أجازها المجمع الفقهي بمنظمة المؤتمر الإسلامي إذا وقعت بين الدائن والمدين ولم تكن عن اشتراط مسبق، ولا علاقة لذلك بدار الإسلام أو بدار الكفر، ولا بكون التعامل بها مع المسلمين أو مع غيرهم، وهذا هو نص قراره في هذا المجال:
الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء كانت بطلب الدائن أم المدين (ضع وتعجل)جائزة شرعا لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية
يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرا
إذا اعتبر الدين حالا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي
وقد استدلوا على جوازها بعدة أدلة :
1- منها : ما رواه الحاكم والطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم فقالوا : يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تَحِلَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا . قال في مجمع الزوائد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وُثِّق اهـ . وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة (1/396) : وإسناده حسن ليس فيه إلا مسلم بن خالد الزنجي وحديثه لا ينحط عن رتبة الحسن اهـ .
2- ومنها : قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إنما الربا أَخِّرْ لي وأنا أزيدك، وليس عَجِّلْ لي وأنا أضع عنك.
3- ومنها : أن هذه المعاملة فيها مصلحة للطرفين (الدائن والمدين) فالدائن يستفيد تعجيل الدين، والمدين يستفيد بوضع بعض الدين عنه.
وأجابوا عن دليل من حَرَّم ذلك، بأن قياس هذه المعاملة على الربا لا يصح، لأنها عكس الربا. ففي الربا يزيد الدين مقابل زيادة الأجل. وهنا نقص الدين ونقص الأجل. فكيف تقاس المسألة على عكسها؟!
• ومن أدلتهم قصة ركانة وما كان من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم له على ثلث غنمه، ثم تركه له هذا المال تكرما بعد ذلك، وما روي من أن الصديق أبا بكر خاطر مشركي قريش قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2)، فقالت له قريش: ترون أن الروم تغلب؟ قال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا؟ فقال: نعم. فخاطرهم، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليهم فزد في الخطر". ففعل، وغلبت الروم فارسا فأخذ أبو بكر خطره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم بل وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيدهم في الخطر
• والاستدلال بهاتين القصتين ليس استدلالا بمحرم مجمع على تحريمه في دار الإسلام، ولم يقع جوازه إلا في دار الحرب، بل المسألة من مواضع النظر، فإن قضية المسابقة إذا قصد بها تقوية الدين وإعلاء كلمة الله فإن القول بجوازها هو أحد القولين في مسألة اجتهادية، بل لعله القول الذي تشهد له الأدلة عند التحقيق والتأمل، سواء أكان ذلك في دار الإسلام أم كان في دار الكفر.
فقد اتفق الفقهاء على جواز بذل العوض وأخذه في سباق الخيل والإبل والسهام، إذا كان العوض من أحد المتسابقين أو من أجنبي عنهما، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" رواه الترمذي والنسائي وأبو داود.
واختلفوا فيما عدا هذه الثلاثة، مثل السباق على الأقدام، والمسابقة بالفيلة والبغال والحمير، والسباحة والمصارعة والمغالبة برفع الأثقال. كما اختلفوا في بذل العوض في المسابقات الدينية، كالمسابقة على حفظ القرآن الكريم، وحفظ مجموعة من الأحاديث النبوية، أو كتابة بحث علمي، فذهب جماعة من أهل العلم إلى الجواز، وهو الراجح إن شاء الله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه: " الفروسية" ( المسألة الحادية عشرة: المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة، والإصابة في المسائل، هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصِديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، وقد تقدم أنه لم يقم دليل شرعي على نسخه، وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار، وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح) انتهى.
وقال في موضع آخر من كتابه ( وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل، لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة التي بها تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى.
وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية).
وفي الإنصاف من كتب الحنابلة : ( والصراع، والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد بهما نصر الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق. فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما يعين على الدين، كما في مراهنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. واختار هذا كله الشيخ تقي الدين -رحمه الله- وذكر أنه أحد الوجهين عندنا، معتمداً على ما ذكره ابن البنا، قال ( ابن مفلح) في الفروع (فظاهره جواز المراهنة بعوض في باب العلم، لقيام الدين بالجهاد والعلم. وهذا ظاهر اختيار صاحب الفروع وهو حسن) انتهى. الإنصاف للمرداوي.
وفي تبيين الحقائق من كتب الحنفية (وعلى هذا: الفقهاء إذا تنازعوا في المسائل وشرط للمصيب منهم جعل جاز ذلك إذا لم يكن من الجانبين على ما ذكرنا في الخيل، لأن المعنى يجمع الكل، إذ التعليم في البابين يرجع إلى تقوية الدين وإعلاء كلمة الله.)
والحاصل أنه يدل على الجواز أمران:
رهان أبي بكر رضي الله عنه، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم.، وقياس السباق في المسائل العلمية على ما نص عليه في السباق في الخيل والإبل والسهام. والجامع في ذلك: تقوية الدين وإعلاء كلمة الله ولم يكن ذلك مخصوصا بدار الإسلام، بل تلك قضية عامة دار الإسلام ودار الكفر فيها سواء.
• وأما الاستدلال بما روي من أن العباس كان يتعامل بالربا في مكة قبل الفتح وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك، إلا بعد الفتح فدل على جواز الربا في دار الحرب، فهو موضع نظر، لأن العباس رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيحتمل انصراف الوضع إليه، هذا بالإضافة إلى أن الربا لم يكن تحريمه قد استقر يومئذ.
ثانيا: أدلة النظر والاعتبار
إن مأخذ الأحناف فيما ذهبوا إليه مبني - كما سبق - على اعتبار أموال الحربيين على أصل الحل فكيفما تيسر للمسلم أن ينال شيئا منها بأي طريق لا يتضمن غدرا بهم ولا احتيالا عليهم فهو مشروع، ويكون شأنه في ذلك كمن يأخذ الكلأ من الغابات أو الماء من المحيطات!
فإن الأموال كما تعصم بالإيمان تعصم بالأمان، ولا يلزم من جواز أخذ أموالهم بالاغتنام جواز أخذها بالعقود الفاسدة، فكما عصم الأمان أمواله في دار الإسلام عصمها في دار الكفر، أو هو التناقض الذي لا مهرب منه!
ومن ناحية أخرى هل يوافق أحد ممن يقولون بهذا المذهب اليوم على هذا التخريج بدءا من اعتبار ديار الغرب جميعا ديار حرب وانتهاء من الحكم على أموال أهلها جميعا بالحل اتباعا لما قاله السادة الأحناف؟! الظاهر خلاف ذلك، ولعل هذا يفسر حرص كل من جاهر بتبني هذا المذهب من المعاصرين على تحاشي ذكر دار الحرب في فتواهم صراحة رغم أن هذا هو منصوص الأحناف في هذه المسألة، واكتفوا بالإشارة إليها بأنها ديار غير المسلمين!
مآلات ولوازم مروعة تنقض بها عرى المحرمات عروة عروة!!
وبعد فإن في ما يتضمنه مذهب الأحناف في هذه القضية من الأحكام واللوازم الفاسدة ما تنقض به عرى المحرمات عروة عروة، والتي لا يقول بـها من تبنى مذهبهم في هذه النازلة من المعاصرين. من ذلك على سبيل المثال:
• جواز التعامل بالربا مع من أسلموا في دار الحرب ولم يهاجروا، شأنـهم في ذلك شأن غيرهم من الحربيين، فقد جاء في الدر المختار: "وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي، فللمسلم الربا معه خلافاً لهم، لأن ماله غير معصوم فلو هاجر إلينا ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقاً".
وفي بدائع الصنائع للكاساني عند حديثه عن شرائط جريان الربا "ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعاً، وهو أن يكونا مضمونين حقاً للعبد، فإن كان أحدهما غير مضمون حقاً للعبد لا يجري فيه الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب، فبايع رجلاً أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهماً بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام، أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز، لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده"، فهل يلتزم بذلك من تبنى مذهبهم في هذه النازلة، فيحل للمسلمين الوافدين أن يتعاملوا بالربا - إذا كانت الزيادة لهم - وغيره من العقود الفاسدة مع إخوانـهم من المسلمين الجدد في هذه المجتمعات؟!.
• ومن ذلك أيضاً ما يتضمنه مذهبهم من جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد بالربا أخذاً وإعطاءً ما داموا لم يهاجروا، سواء أكان ذلك مع نظرائهم من المسلمين الجدد أم مع بقية الحربيين، وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداء وقد أشار إلى ذلك ابن عابدين في الحاشية في قوله: "يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثمة ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضاً". ولا يخفى أن الهجرة لا سبيل إليها في هذه الأيام في الأعم الأغلب فيتدينون طيلة حياتـهم بدين لا أثر فيه لحرمة الربا؟!.
فهذه هي جملة أدلة الأحناف وما ذهبوا إليه، وقد رأينا ما فيها من ضعف، الأمر الذي لا يصح معه تقييد النصوص الجليلة القاطعة الواردة في تحريم هذه الفواحش بمثل هذه الاحتمالات الضعيفة، ومن أجل هذا لم تقبل بقية المذاهب المتبوعة رأي الأحناف في هذه المسألة، بل رده أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله" اهـ
كيف يتأتى القيام بواجب البلاغ في هذه المجتمعات مع تبني هذا المذهب؟
لا يخفى أن للمسلم المغترب خارج ديار الإسلام رسالة سامية تتمثل في حفظ الإسلام على أهله ودعوة غير المسلمين على الإسلام، وحفظ الإسلام على أهله يقتضي دعوتهم إلى الاستقامة على هدي الكتاب والسنة، واجتناب ما خالفهما من أهواء البشر، ولا مقابل لما أوحى الله إلى رسوله إلا الهوى كما قال تعالى: [فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله]
كما أن دعوة غير المسلمين إلى الإسلام تكون بلسان الحال كما تكون بلسان المقال، فحال واحد في ألف واحد خير من مقالة ألف واحد في واحد! ولا شيء يحمل الناس على الإصغاء لدعوة الحق في هذه المجتمعات مثل أن يكون الدعاة إليه والمتبعون له ممن يقيمونه في حياتهم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولقد مضى على إقامتنا في هذه المجتمعات أكثر من خمسة عشر عاما وكل يوم ينقضي يزيدنا إيمانا بهذه الحقيقة، فلم نمل من تكرارها على مسامع الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب: أقيموا الإسلام في نفوسكم تفتح له أسماع الآخرين وأفئدتهم، وإن من آكد وسائل البلاغ في هذا المجتمع إقامة جالية مسلمة قوية تحل الحلال وتحرم الحرام وتقف حيث أوقفها الله ورسوله، وتقدم للناس في هذه المجتمعات شهادة الواقع بعد شهادة النصوص والأدلة أن الحياة في رحاب الإسلام نعمة لا تعدلها نعمة، وأنها ممكنة وليست ضربا من الخيال أو ضغثا من الأحلام! ولا يخفى أن انتشار الإسلام في كثير من بقاع العالم كان من خلال التجار الدعاة الذين حملوا أخلاق الإسلام إلى هذه المجتمعات ففتحوا بها قلوبهم واستنارت بها بصائرهم واستجابت لدعوة الحق.
هذا وإن المحافظة على الهوية الإسلامية في هذه المجتمعات تتمثل في الاجتماع على الإسلام بإقامة الشعائر واجتناب المحرمات، مع اعتبار الضرورات على أن تقدر بقدرها ويسعى في إزالتها.
فكيف يتأتى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو حتى تعريفهم به في ظل جالية يتملك المسلمون فيها محلات لبيع الخمور والخنزير ويسهمون في إشاعتها في هذه المجتمعات، ثم يقولون للناس إننا أتباع دين يحل لأتباعه الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وإنه يحرم عليهم الاتجار في الميتة والخمر ولحم الخنزير، وينهى عن الزنى والربا وأكل أموال الناس بالباطل؟ أيا كانت المرتكزات الفقهية لهذا الترخص وأيا كان حظ القائمين عليه من النظر؟
إن حديث فقهائنا من السادة الأحناف أو من غيرهم عن دار الحرب وعن جواز التعامل فيها بالعقود الفاسدة يجب أن يؤخذ في سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم يكن أهل الإسلام فيما مضى يتوطنون دار الحرب بصورة دائمة، وينشئون فيها مراكزهم ومؤسساتهم الإسلامية، ويتاح لهم فيها من حرية الدعوة وحرية العمل وحرية الكلمة ما هو متاح لجالياتنا المسلمة المقيمة في الغرب، والتي يفوق تعداد بعضها عدد السكان الأصليين من بعض دول الخليج وإماراته! ويتحدثون فيها عن قضية توطين الدعوة وتحويلها من دعوة مهاجرة يحملها طلاب وافدون يقيمون فيها بصورة عارضة إلى متوطنين أصليين يحملون جنسية هذه المجتمعات ويوطنون لإقامتهم فيها بصورة نهائية أو شبه نهائية؟!! وفي إطار هذه النظرة تغير موقف فقهائنا من قضية التجنس فلم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالات أدت ببعض أهل الفتوى إلى القول بردة المتجنس عن الإسلام في وقت من الأوقات !
لقد كان فقهاؤنا فيما مضى يتحدثون عن حرمة السفر بالمصحف إلى ديار الكفار وكانوا مصيبين في ذلك غاية الإصابة في ظل السياقات التاريخية والسياسية السائدة يومئذ، واليوم نفس هؤلاء الفقهاء يتنافسون في حث الأمة على طباعة المصاحف وترجمة معانيها ونقلها إلى هذه البلاد، ويعتبرونها قربة من أجل القربات، وهم اليوم مصيبون في ذلك أيضا غاية الإصابة، لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال.
كيف يتأتى المحافظة على الهوية الإسلامية مع تبني هذا المذهب؟
أن فتح هذا الباب سيفتح بابا عريضا واسعا إلى خلع الربقة والتفلت من التكاليف، فسوف يمتد الأمر إلى الربا والميسر، وفي الولايات المتحدة ولاية يقوم اقتصادها كله على الميسر، ويؤمها المترفون والذين في قلوبهم مرض من بني جلدتنا وفضائحهم في هذا الشأن باتت تزكم الأنوف! وقد يتدرج الناس من استباحة العقود الفاسدة في باب الأموال إلى استباحتها في باب الأبضاع! ألم تر إلى ما يشيع في هذه المجتمعات من المراقص والأندية الليلية،وهي مشروعة من الناحية القانونية وتتم تحت سمع وبصر المسئولين في هذه المجتمعات، فهل على المسلم من حرج إن هو عمل في هذه البارات والمراقص باعتبارها من العقود الفاسدة التي أجازها السادة الأحناف ليتذرع بها إلى اخذ أموالهم التي هي بناء على تخريجهم على أصل الحل؟ وهل يجرؤ على القول بذلك عالم أو غير عالم؟
وإذا أبيح الأمر أبيحت الوسائل المفضية إليه فإذا جاز بيع الخمر ولحم الخنزير جاز السعي إلى تملكها لبيعها فلا حرج على المسلم أن يتملك مزرعة لتربية الخنزير أو مصنعا لإنتاج الخمور فإنه إن فعل كان هذا أحظى له في باب المال، فمن مزارعه أو من مصانعه إلى المستهلك مباشرة! وذلك أحظ له وأكثر استجلابا لأموالهم التي هي على أصل الحل! بل لا حرج في فتح بعض المؤسسات التعليمية لتعليم أصول الميسر رجاء أن يتخرج فيها مقامرون محترفون يجيدون فنون هذه اللعبة ويتمكنون معها من استجلاب أموال القوم، ما دامت على اصل الحل، وما دامت الذريعة إلى الحلال حلالا؟ لأن الأصول التي أجازت بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين قد يعول عليها نفسها في إجازة السعي إلى امتلاك مشروعات اقتصادية تستثمر في هذا المجال بجامع استجلاب أموال القوم التي هي ابتداء على أصل الحل!
ومن ثم فلا أحسب عالما منصفا يقر مثل هذا المسلك الفقهي في ظل كل هذه المتغيرات في واقعنا المعاصر مهما كان حظ هذا المذهب من النظر؟
تعقيب على فتوى دار الإفتاء المصرية
أما ما نسب إلى صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية من القول بالترخص في ذلك لمن سأله فقد وردت إلى أمانة المجمع أسئلة عديدة حول هذه الفتوى، ولم تحصل أمانة المجمع على أصل الفتوى الرسمية التي صدرت عن دار الإفتاء وإنما حصلت على صورة لها من خلال بعض المواقع الإسلامية على الانترنت فإن صحت نسبتها إلى فضيلته ونوجز تعقيبنا عليها فيما يلي:
أولا: أن مبنى كل من السؤال والجواب على حالة تعذر فيها على المستفتي أن يجد البديل المشروع الذي يغنيه عن اللجوء إلى الاكتساب المحرم ويسأل عن مخرج له في الوقت الراهن فجاءت الفتوى مشيرة إلى رخصة فقهية يمكن لمن وقع في ضرورة أو حاجة ماسة تنزل منزلتها أن يلجا إليها دفعا لضرورته بصورة مؤقتة إلى أن يتوفر له البديل المشروع الذي ينبغي أن يسعى إليه سعيا حثيثا، وأن لا يدخر وسعا في سبيل تحصيله، فقد كان نص السؤال الذي وجه إلى فضيلته ما يلي:
أنا شاب مسلم وأعمل في هولندا في سوبر ماركت لشخص هو الآخر مسلم ولكن يباع في هذا المكان بعض من زجاجات الخمور ولحم الخنزير، وقد بحثت عن عمل آخر ولكن للأسف لم أجد في الوقت الحالي، فماذا أفعل الآن؟
والرخص الفقهية هي ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره، والأخذ برخص الفقهاء بمعنى اتباع ما هو أخف من أقوالهم جائز شرعا – على ما ذكره أهل العلم - بالضوابط الآتية:
• أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعا ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال
• أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية
• أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك
• ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع
• أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة
• ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع
ويكون التلفيق ممنوعا في الأحوال التالية :
إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة سابقا في مسألة الأخذ بالرخص
إذا أدى إلى نقض حكم القضاء
إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدا في واقعة واحدة
إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه
إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين
ثانيا: ومن أجل ما سبق فقد كان المأمول من فضيلته وهو العالم الثبت أن ينبه المستفتي على ضوابط الترخص بقدر ما تتسع له مداركه، وأدنى ذلك أن يؤكد للمستفتي على حرمة عمله في الأصل، وأن بقاءه فيه عارض دفعا لحالة الضرورة أو الحاجة الماسة، وأن عليه أن يسعى إلى طلب البديل المشروع، وأن ينتقل إليه عند أول القدرة على ذلك، حتى لا يطير الناس هذه الفتوى كل مطير، ويتخذون منها تكأة لتحليل ما حرم الله على عباده من الربا والميسر والخمر والخنزير تحليلا مطلقا في عسرهم ويسرهم ومنشطهم ومكرههم، وما أكثر ما يقع هذا في أوساط العامة، وينسبون إلى فضيلته ما لعله لم يخطر بباله طرفة عين! ولا بد أن فضيلته خبر ذلك منهم وهو الرحالة الذي طوف بعلمه في المشارق والمغارب!
ولا يفوتنا في النهاية أن نؤكد أن فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية فقيه مبرز وعالم جليل، فلا يظن بفضيلته أنه قصد إطلاق القول بحل التعامل في الخمور مع غير المسلمين بيعا وشراء خارج ديار الإسلام، بل هذا هو الذي نفاه في بعض المقابلات التي أجريت مع فضيلته في أعقاب انتشار هذه الفتوى والتي أبدى فيها أسفه ودهشته على إساءة قراءة فتواه .
ولهذا فإن تعقيبنا علي فضيلته في بعض جزئيات هذه الفتوى لا تعني الغض من مكانته، فلم يزل المنتسبون إلى العلم يكمل بعضهم بعضا ويرد بعضهم على بعض على مدار التاريخ، ولم يغض هذه من قدرهم ولم يوهن عرى العلائق بينهم، بل هي النصيحة التي أوجبها النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليها بأنها جماع الدين وبين أنها لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى وساء السبيل
نسأل الله أن يجمعنا وإياه على الحق وأن يردنا وإياه إليه ردا جميلا اللهم آمين
د. صلاح الصاوي
الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا
السؤال:
ما مدى جواز بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين خارج ديار الإسلام؟ لقد نقل عن مفتي الديار المصرية قول بجواز ذلك بناء على ما ذهب إليه الأحناف من جواز التعامل بالعقود الفاسدة خارج ديار الإسلام، فما مدى صحة هذه الفتوى؟ أفتونا مأجورين
الإجابة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد: الأصل أن دار الكفر ليست ناسخة للمحرمات، وأن الحرمة لا تتغير بتغير الأماكن، فالربا والزنى والخمر والخنزير حرام فوق كل أرض وتحت كل سماء، دار الإسلام ودار الحرب في ذلك سواء، فلا يحل للمسلم التورط في بيع شيء من ذلك سواء أكان ذلك لمسلم أم لغير مسلم، وسواء أكان ذلك داخل ديار الإسلام أم كان خارجها، فهو مطالب بتقوى الله حيثما كان، هذا هو الذي تشهد له الأدلة الصحيحة الصريحة، والذي عليه جمهور أهل العلم، خلافا للقائلين بجواز التعامل بهذه العقود مع الحربيين خارج ديار الإسلام من الأحناف ومن دار في فلكهم، وأدلة الجمهور في هذا المقام أقوم قيلاً وأهدى سبيلاً، ومن هذه الأدلة:
• إطلاقات النصوص الواردة في النهي عن هذه المحرمات والوعيد الشديد على فعلها والتي لم تقيده بمكان دون مكان، ولا بفريق من الناس دون فريق، ومن هذه النصوص في ما يتعلق بالخمر:
• قوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين). المائدة
• وما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :"إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"
• وما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"حرمت التجارة في الخمر"
• وما رواه أحمد وغيره عن تميم الداري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :"إن الخمر حرام شراؤها وثمنها"، وقد ثبت من طرق أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعن بائع الخمر ومبتاعها، فقد روى الترمذي-واللفظ له- وابن ماجه من حديث أنس ابن مالك رضى الله عنه أنه قال :"لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له" وروي هذا من حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بألفاظ أخرى مقاربة، والأحاديث في الباب كثيرة معلومة .
• وما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راوية خمر فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :هل علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، قال :فسار رجلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها"
• أن حرمة هذه المحرمات ثابتة في حق الكفار كما هي ثابتة في حق المسلمين على الصحيح من أقوال أهل العلم في مخاطبة الكفار بالحرمات، وقد قال تعالى: ((وأخذهم الربا وقد نـهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل)) [النساء: 161]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح عليه السلام عندما ينزل آخر الزمان سيقتل الخنزير كما سيكسر الصليب، الأمر الذي يدل على أن إباحتهم للخنزير ليست من دين القوم ولا تستند فيه على اصل صحيح، ومتى كانت المحرمات أمراً خاصاً بالمسلمين في ديار الإسلام، فإذا خرجوا منها استحلوا محارم الله! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اتق الله حيثما كنت"؟!.
• قياس حرمة هذه المحرمات بين المسلم والحربي في دار الحرب على حرمتها بين المسلم والمستأمن في دار الإسلام، فإن المستأمن في دار الإسلام يجري تحريم الربا بينه وبين المسلم إجماعاً، ولا يحل له أن يبيعه خمرا أو خنزيرا أو ميتة بلا نزاع [راجع: المجموع للنووي: 9/443، والمغني لابن قدامة: 4/39]، وممن نقل هذا الإجماع الأحناف أنفسهم [راجع حاشية ابن عابدين: 5/186]، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه.
• ما يفضي إليه تحريم هذه المحرمات في علاقة المسلم بالمسلم، وإباحته في علاقة المسلم بالحربي، من التشبه باليهود في تحريمهم الربا في علاقة اليهودي باليهودي، وإباحته في علاقته مع الأمميين! ((ذلك بأنـهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)) [آل عمران:75].
أما ما ذهب إليه الأحناف في هذا المقام من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة خارج ديار الإسلام فهو قول مرجوح لا ينهض أمام الأدلة الصحيحة التي قال بموجبها جمهور الفقهاء بتحريم هذه العقود، فضلا عن ما تتضمنه من المآلات الوخيمة والتي سنعرض لها بصدد مناقشتنا لهذه الأدلة بإذن الله.
قال الشافعي رحمه الله : (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة). وقال : (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر)
وقال الشوكاني رحمه الله: (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية).
مناقشة أدلة الأحناف
اعتمد الأحناف في مذهبهم على أدلة نصية وعلى أدلة من النظر والاعتبار
أولا: الأدلة النصية
أما الأدلة النصية فهي جميعا موضع نظر، وليس فيها عند التأمل ما يرجح اختيار الأحناف في هذه المسألة، بل إن قول الجمهور كما سبق أقوم قيلا وأهدى سبيلا وذلك على النحو التالي:
1. حديث مكحول: "لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب" وهو يعد عمدة أدلتهم في هذا المقام:
وهذا الحديث قد رده كثير من أهل العلم بالحديث والفقه معاً:
• فقد قال فيه الشافعي رحمه الله: "وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه" [سير الأوزاعي للشافعي: 7/359]
• وذكره الحافظ إبن حجر في الدراية (2/158) وقال : لم أجده أ 0 هـ
• وقال الزيلعي: "غريب" أي لا أصل له
• وقال فيه النووي: "مرسل ضعيف فلا حجة فيه" [المجموع للنووي: 9/392]
• وقال العيني في البناية: "هذا حديث غريب ليس له أصل مسند" [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/158]
• وقال ابن قدامة في المغني: "وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك. ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الاجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به" [المغني: 4/46].
وعلى فرض ثبوته فإنه يحتمل النهي وذلك كقوله تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)) [البقرة:197].
• قال النووي رحمه الله تعالى: "والجواب عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة" [المجموع للنووي: 9/392].
والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة التي تحرم الربا، إذ لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب من كتب السنة الصحيحة المعتمدة.
• ومن أدلتهم ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع أو ليهود بني النضير عندما قالوا له إن لنا ديونًا لم تحل بعد، فقال: "تعجلوا أو ضعوا"، ومعلوم أن هذه المعاملة بين المسلمين تكون من باب الربا
والاستدلال بذلك موضع نظر لأن قاعدة ضع وتعجل من القضايا المختلف فيها بين أهل العلم، وقد أجازها بعض الصحابة نذكر منهم: عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم . والقول بحلها بين المسلمين وعدم اعتبارها من الربا المحرم هو أحد القولين لكل من الإمامين الشافعي وأحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأجازها ابن عابدين من فقهاء الحنفية كما في حاشيته على "الدر المختار" (5 / 160) . وقد أجازها المجمع الفقهي بمنظمة المؤتمر الإسلامي إذا وقعت بين الدائن والمدين ولم تكن عن اشتراط مسبق، ولا علاقة لذلك بدار الإسلام أو بدار الكفر، ولا بكون التعامل بها مع المسلمين أو مع غيرهم، وهذا هو نص قراره في هذا المجال:
الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء كانت بطلب الدائن أم المدين (ضع وتعجل)جائزة شرعا لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية
يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرا
إذا اعتبر الدين حالا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي
وقد استدلوا على جوازها بعدة أدلة :
1- منها : ما رواه الحاكم والطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم فقالوا : يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تَحِلَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا . قال في مجمع الزوائد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وُثِّق اهـ . وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة (1/396) : وإسناده حسن ليس فيه إلا مسلم بن خالد الزنجي وحديثه لا ينحط عن رتبة الحسن اهـ .
2- ومنها : قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إنما الربا أَخِّرْ لي وأنا أزيدك، وليس عَجِّلْ لي وأنا أضع عنك.
3- ومنها : أن هذه المعاملة فيها مصلحة للطرفين (الدائن والمدين) فالدائن يستفيد تعجيل الدين، والمدين يستفيد بوضع بعض الدين عنه.
وأجابوا عن دليل من حَرَّم ذلك، بأن قياس هذه المعاملة على الربا لا يصح، لأنها عكس الربا. ففي الربا يزيد الدين مقابل زيادة الأجل. وهنا نقص الدين ونقص الأجل. فكيف تقاس المسألة على عكسها؟!
• ومن أدلتهم قصة ركانة وما كان من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم له على ثلث غنمه، ثم تركه له هذا المال تكرما بعد ذلك، وما روي من أن الصديق أبا بكر خاطر مشركي قريش قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2)، فقالت له قريش: ترون أن الروم تغلب؟ قال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا؟ فقال: نعم. فخاطرهم، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليهم فزد في الخطر". ففعل، وغلبت الروم فارسا فأخذ أبو بكر خطره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم بل وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيدهم في الخطر
• والاستدلال بهاتين القصتين ليس استدلالا بمحرم مجمع على تحريمه في دار الإسلام، ولم يقع جوازه إلا في دار الحرب، بل المسألة من مواضع النظر، فإن قضية المسابقة إذا قصد بها تقوية الدين وإعلاء كلمة الله فإن القول بجوازها هو أحد القولين في مسألة اجتهادية، بل لعله القول الذي تشهد له الأدلة عند التحقيق والتأمل، سواء أكان ذلك في دار الإسلام أم كان في دار الكفر.
فقد اتفق الفقهاء على جواز بذل العوض وأخذه في سباق الخيل والإبل والسهام، إذا كان العوض من أحد المتسابقين أو من أجنبي عنهما، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" رواه الترمذي والنسائي وأبو داود.
واختلفوا فيما عدا هذه الثلاثة، مثل السباق على الأقدام، والمسابقة بالفيلة والبغال والحمير، والسباحة والمصارعة والمغالبة برفع الأثقال. كما اختلفوا في بذل العوض في المسابقات الدينية، كالمسابقة على حفظ القرآن الكريم، وحفظ مجموعة من الأحاديث النبوية، أو كتابة بحث علمي، فذهب جماعة من أهل العلم إلى الجواز، وهو الراجح إن شاء الله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه: " الفروسية" ( المسألة الحادية عشرة: المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة، والإصابة في المسائل، هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصِديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، وقد تقدم أنه لم يقم دليل شرعي على نسخه، وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار، وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح) انتهى.
وقال في موضع آخر من كتابه ( وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل، لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة التي بها تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى.
وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية).
وفي الإنصاف من كتب الحنابلة : ( والصراع، والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد بهما نصر الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق. فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما يعين على الدين، كما في مراهنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. واختار هذا كله الشيخ تقي الدين -رحمه الله- وذكر أنه أحد الوجهين عندنا، معتمداً على ما ذكره ابن البنا، قال ( ابن مفلح) في الفروع (فظاهره جواز المراهنة بعوض في باب العلم، لقيام الدين بالجهاد والعلم. وهذا ظاهر اختيار صاحب الفروع وهو حسن) انتهى. الإنصاف للمرداوي.
وفي تبيين الحقائق من كتب الحنفية (وعلى هذا: الفقهاء إذا تنازعوا في المسائل وشرط للمصيب منهم جعل جاز ذلك إذا لم يكن من الجانبين على ما ذكرنا في الخيل، لأن المعنى يجمع الكل، إذ التعليم في البابين يرجع إلى تقوية الدين وإعلاء كلمة الله.)
والحاصل أنه يدل على الجواز أمران:
رهان أبي بكر رضي الله عنه، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم.، وقياس السباق في المسائل العلمية على ما نص عليه في السباق في الخيل والإبل والسهام. والجامع في ذلك: تقوية الدين وإعلاء كلمة الله ولم يكن ذلك مخصوصا بدار الإسلام، بل تلك قضية عامة دار الإسلام ودار الكفر فيها سواء.
• وأما الاستدلال بما روي من أن العباس كان يتعامل بالربا في مكة قبل الفتح وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك، إلا بعد الفتح فدل على جواز الربا في دار الحرب، فهو موضع نظر، لأن العباس رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيحتمل انصراف الوضع إليه، هذا بالإضافة إلى أن الربا لم يكن تحريمه قد استقر يومئذ.
ثانيا: أدلة النظر والاعتبار
إن مأخذ الأحناف فيما ذهبوا إليه مبني - كما سبق - على اعتبار أموال الحربيين على أصل الحل فكيفما تيسر للمسلم أن ينال شيئا منها بأي طريق لا يتضمن غدرا بهم ولا احتيالا عليهم فهو مشروع، ويكون شأنه في ذلك كمن يأخذ الكلأ من الغابات أو الماء من المحيطات!
فإن الأموال كما تعصم بالإيمان تعصم بالأمان، ولا يلزم من جواز أخذ أموالهم بالاغتنام جواز أخذها بالعقود الفاسدة، فكما عصم الأمان أمواله في دار الإسلام عصمها في دار الكفر، أو هو التناقض الذي لا مهرب منه!
ومن ناحية أخرى هل يوافق أحد ممن يقولون بهذا المذهب اليوم على هذا التخريج بدءا من اعتبار ديار الغرب جميعا ديار حرب وانتهاء من الحكم على أموال أهلها جميعا بالحل اتباعا لما قاله السادة الأحناف؟! الظاهر خلاف ذلك، ولعل هذا يفسر حرص كل من جاهر بتبني هذا المذهب من المعاصرين على تحاشي ذكر دار الحرب في فتواهم صراحة رغم أن هذا هو منصوص الأحناف في هذه المسألة، واكتفوا بالإشارة إليها بأنها ديار غير المسلمين!
مآلات ولوازم مروعة تنقض بها عرى المحرمات عروة عروة!!
وبعد فإن في ما يتضمنه مذهب الأحناف في هذه القضية من الأحكام واللوازم الفاسدة ما تنقض به عرى المحرمات عروة عروة، والتي لا يقول بـها من تبنى مذهبهم في هذه النازلة من المعاصرين. من ذلك على سبيل المثال:
• جواز التعامل بالربا مع من أسلموا في دار الحرب ولم يهاجروا، شأنـهم في ذلك شأن غيرهم من الحربيين، فقد جاء في الدر المختار: "وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي، فللمسلم الربا معه خلافاً لهم، لأن ماله غير معصوم فلو هاجر إلينا ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقاً".
وفي بدائع الصنائع للكاساني عند حديثه عن شرائط جريان الربا "ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعاً، وهو أن يكونا مضمونين حقاً للعبد، فإن كان أحدهما غير مضمون حقاً للعبد لا يجري فيه الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب، فبايع رجلاً أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهماً بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام، أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز، لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده"، فهل يلتزم بذلك من تبنى مذهبهم في هذه النازلة، فيحل للمسلمين الوافدين أن يتعاملوا بالربا - إذا كانت الزيادة لهم - وغيره من العقود الفاسدة مع إخوانـهم من المسلمين الجدد في هذه المجتمعات؟!.
• ومن ذلك أيضاً ما يتضمنه مذهبهم من جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد بالربا أخذاً وإعطاءً ما داموا لم يهاجروا، سواء أكان ذلك مع نظرائهم من المسلمين الجدد أم مع بقية الحربيين، وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداء وقد أشار إلى ذلك ابن عابدين في الحاشية في قوله: "يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثمة ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضاً". ولا يخفى أن الهجرة لا سبيل إليها في هذه الأيام في الأعم الأغلب فيتدينون طيلة حياتـهم بدين لا أثر فيه لحرمة الربا؟!.
فهذه هي جملة أدلة الأحناف وما ذهبوا إليه، وقد رأينا ما فيها من ضعف، الأمر الذي لا يصح معه تقييد النصوص الجليلة القاطعة الواردة في تحريم هذه الفواحش بمثل هذه الاحتمالات الضعيفة، ومن أجل هذا لم تقبل بقية المذاهب المتبوعة رأي الأحناف في هذه المسألة، بل رده أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله" اهـ
كيف يتأتى القيام بواجب البلاغ في هذه المجتمعات مع تبني هذا المذهب؟
لا يخفى أن للمسلم المغترب خارج ديار الإسلام رسالة سامية تتمثل في حفظ الإسلام على أهله ودعوة غير المسلمين على الإسلام، وحفظ الإسلام على أهله يقتضي دعوتهم إلى الاستقامة على هدي الكتاب والسنة، واجتناب ما خالفهما من أهواء البشر، ولا مقابل لما أوحى الله إلى رسوله إلا الهوى كما قال تعالى: [فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله]
كما أن دعوة غير المسلمين إلى الإسلام تكون بلسان الحال كما تكون بلسان المقال، فحال واحد في ألف واحد خير من مقالة ألف واحد في واحد! ولا شيء يحمل الناس على الإصغاء لدعوة الحق في هذه المجتمعات مثل أن يكون الدعاة إليه والمتبعون له ممن يقيمونه في حياتهم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولقد مضى على إقامتنا في هذه المجتمعات أكثر من خمسة عشر عاما وكل يوم ينقضي يزيدنا إيمانا بهذه الحقيقة، فلم نمل من تكرارها على مسامع الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب: أقيموا الإسلام في نفوسكم تفتح له أسماع الآخرين وأفئدتهم، وإن من آكد وسائل البلاغ في هذا المجتمع إقامة جالية مسلمة قوية تحل الحلال وتحرم الحرام وتقف حيث أوقفها الله ورسوله، وتقدم للناس في هذه المجتمعات شهادة الواقع بعد شهادة النصوص والأدلة أن الحياة في رحاب الإسلام نعمة لا تعدلها نعمة، وأنها ممكنة وليست ضربا من الخيال أو ضغثا من الأحلام! ولا يخفى أن انتشار الإسلام في كثير من بقاع العالم كان من خلال التجار الدعاة الذين حملوا أخلاق الإسلام إلى هذه المجتمعات ففتحوا بها قلوبهم واستنارت بها بصائرهم واستجابت لدعوة الحق.
هذا وإن المحافظة على الهوية الإسلامية في هذه المجتمعات تتمثل في الاجتماع على الإسلام بإقامة الشعائر واجتناب المحرمات، مع اعتبار الضرورات على أن تقدر بقدرها ويسعى في إزالتها.
فكيف يتأتى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو حتى تعريفهم به في ظل جالية يتملك المسلمون فيها محلات لبيع الخمور والخنزير ويسهمون في إشاعتها في هذه المجتمعات، ثم يقولون للناس إننا أتباع دين يحل لأتباعه الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وإنه يحرم عليهم الاتجار في الميتة والخمر ولحم الخنزير، وينهى عن الزنى والربا وأكل أموال الناس بالباطل؟ أيا كانت المرتكزات الفقهية لهذا الترخص وأيا كان حظ القائمين عليه من النظر؟
إن حديث فقهائنا من السادة الأحناف أو من غيرهم عن دار الحرب وعن جواز التعامل فيها بالعقود الفاسدة يجب أن يؤخذ في سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم يكن أهل الإسلام فيما مضى يتوطنون دار الحرب بصورة دائمة، وينشئون فيها مراكزهم ومؤسساتهم الإسلامية، ويتاح لهم فيها من حرية الدعوة وحرية العمل وحرية الكلمة ما هو متاح لجالياتنا المسلمة المقيمة في الغرب، والتي يفوق تعداد بعضها عدد السكان الأصليين من بعض دول الخليج وإماراته! ويتحدثون فيها عن قضية توطين الدعوة وتحويلها من دعوة مهاجرة يحملها طلاب وافدون يقيمون فيها بصورة عارضة إلى متوطنين أصليين يحملون جنسية هذه المجتمعات ويوطنون لإقامتهم فيها بصورة نهائية أو شبه نهائية؟!! وفي إطار هذه النظرة تغير موقف فقهائنا من قضية التجنس فلم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالات أدت ببعض أهل الفتوى إلى القول بردة المتجنس عن الإسلام في وقت من الأوقات !
لقد كان فقهاؤنا فيما مضى يتحدثون عن حرمة السفر بالمصحف إلى ديار الكفار وكانوا مصيبين في ذلك غاية الإصابة في ظل السياقات التاريخية والسياسية السائدة يومئذ، واليوم نفس هؤلاء الفقهاء يتنافسون في حث الأمة على طباعة المصاحف وترجمة معانيها ونقلها إلى هذه البلاد، ويعتبرونها قربة من أجل القربات، وهم اليوم مصيبون في ذلك أيضا غاية الإصابة، لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال.
كيف يتأتى المحافظة على الهوية الإسلامية مع تبني هذا المذهب؟
أن فتح هذا الباب سيفتح بابا عريضا واسعا إلى خلع الربقة والتفلت من التكاليف، فسوف يمتد الأمر إلى الربا والميسر، وفي الولايات المتحدة ولاية يقوم اقتصادها كله على الميسر، ويؤمها المترفون والذين في قلوبهم مرض من بني جلدتنا وفضائحهم في هذا الشأن باتت تزكم الأنوف! وقد يتدرج الناس من استباحة العقود الفاسدة في باب الأموال إلى استباحتها في باب الأبضاع! ألم تر إلى ما يشيع في هذه المجتمعات من المراقص والأندية الليلية،وهي مشروعة من الناحية القانونية وتتم تحت سمع وبصر المسئولين في هذه المجتمعات، فهل على المسلم من حرج إن هو عمل في هذه البارات والمراقص باعتبارها من العقود الفاسدة التي أجازها السادة الأحناف ليتذرع بها إلى اخذ أموالهم التي هي بناء على تخريجهم على أصل الحل؟ وهل يجرؤ على القول بذلك عالم أو غير عالم؟
وإذا أبيح الأمر أبيحت الوسائل المفضية إليه فإذا جاز بيع الخمر ولحم الخنزير جاز السعي إلى تملكها لبيعها فلا حرج على المسلم أن يتملك مزرعة لتربية الخنزير أو مصنعا لإنتاج الخمور فإنه إن فعل كان هذا أحظى له في باب المال، فمن مزارعه أو من مصانعه إلى المستهلك مباشرة! وذلك أحظ له وأكثر استجلابا لأموالهم التي هي على أصل الحل! بل لا حرج في فتح بعض المؤسسات التعليمية لتعليم أصول الميسر رجاء أن يتخرج فيها مقامرون محترفون يجيدون فنون هذه اللعبة ويتمكنون معها من استجلاب أموال القوم، ما دامت على اصل الحل، وما دامت الذريعة إلى الحلال حلالا؟ لأن الأصول التي أجازت بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين قد يعول عليها نفسها في إجازة السعي إلى امتلاك مشروعات اقتصادية تستثمر في هذا المجال بجامع استجلاب أموال القوم التي هي ابتداء على أصل الحل!
ومن ثم فلا أحسب عالما منصفا يقر مثل هذا المسلك الفقهي في ظل كل هذه المتغيرات في واقعنا المعاصر مهما كان حظ هذا المذهب من النظر؟
تعقيب على فتوى دار الإفتاء المصرية
أما ما نسب إلى صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية من القول بالترخص في ذلك لمن سأله فقد وردت إلى أمانة المجمع أسئلة عديدة حول هذه الفتوى، ولم تحصل أمانة المجمع على أصل الفتوى الرسمية التي صدرت عن دار الإفتاء وإنما حصلت على صورة لها من خلال بعض المواقع الإسلامية على الانترنت فإن صحت نسبتها إلى فضيلته ونوجز تعقيبنا عليها فيما يلي:
أولا: أن مبنى كل من السؤال والجواب على حالة تعذر فيها على المستفتي أن يجد البديل المشروع الذي يغنيه عن اللجوء إلى الاكتساب المحرم ويسأل عن مخرج له في الوقت الراهن فجاءت الفتوى مشيرة إلى رخصة فقهية يمكن لمن وقع في ضرورة أو حاجة ماسة تنزل منزلتها أن يلجا إليها دفعا لضرورته بصورة مؤقتة إلى أن يتوفر له البديل المشروع الذي ينبغي أن يسعى إليه سعيا حثيثا، وأن لا يدخر وسعا في سبيل تحصيله، فقد كان نص السؤال الذي وجه إلى فضيلته ما يلي:
أنا شاب مسلم وأعمل في هولندا في سوبر ماركت لشخص هو الآخر مسلم ولكن يباع في هذا المكان بعض من زجاجات الخمور ولحم الخنزير، وقد بحثت عن عمل آخر ولكن للأسف لم أجد في الوقت الحالي، فماذا أفعل الآن؟
والرخص الفقهية هي ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره، والأخذ برخص الفقهاء بمعنى اتباع ما هو أخف من أقوالهم جائز شرعا – على ما ذكره أهل العلم - بالضوابط الآتية:
• أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعا ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال
• أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية
• أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك
• ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع
• أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة
• ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع
ويكون التلفيق ممنوعا في الأحوال التالية :
إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة سابقا في مسألة الأخذ بالرخص
إذا أدى إلى نقض حكم القضاء
إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدا في واقعة واحدة
إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه
إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين
ثانيا: ومن أجل ما سبق فقد كان المأمول من فضيلته وهو العالم الثبت أن ينبه المستفتي على ضوابط الترخص بقدر ما تتسع له مداركه، وأدنى ذلك أن يؤكد للمستفتي على حرمة عمله في الأصل، وأن بقاءه فيه عارض دفعا لحالة الضرورة أو الحاجة الماسة، وأن عليه أن يسعى إلى طلب البديل المشروع، وأن ينتقل إليه عند أول القدرة على ذلك، حتى لا يطير الناس هذه الفتوى كل مطير، ويتخذون منها تكأة لتحليل ما حرم الله على عباده من الربا والميسر والخمر والخنزير تحليلا مطلقا في عسرهم ويسرهم ومنشطهم ومكرههم، وما أكثر ما يقع هذا في أوساط العامة، وينسبون إلى فضيلته ما لعله لم يخطر بباله طرفة عين! ولا بد أن فضيلته خبر ذلك منهم وهو الرحالة الذي طوف بعلمه في المشارق والمغارب!
ولا يفوتنا في النهاية أن نؤكد أن فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية فقيه مبرز وعالم جليل، فلا يظن بفضيلته أنه قصد إطلاق القول بحل التعامل في الخمور مع غير المسلمين بيعا وشراء خارج ديار الإسلام، بل هذا هو الذي نفاه في بعض المقابلات التي أجريت مع فضيلته في أعقاب انتشار هذه الفتوى والتي أبدى فيها أسفه ودهشته على إساءة قراءة فتواه .
ولهذا فإن تعقيبنا علي فضيلته في بعض جزئيات هذه الفتوى لا تعني الغض من مكانته، فلم يزل المنتسبون إلى العلم يكمل بعضهم بعضا ويرد بعضهم على بعض على مدار التاريخ، ولم يغض هذه من قدرهم ولم يوهن عرى العلائق بينهم، بل هي النصيحة التي أوجبها النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليها بأنها جماع الدين وبين أنها لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى وساء السبيل
نسأل الله أن يجمعنا وإياه على الحق وأن يردنا وإياه إليه ردا جميلا اللهم آمين
د. صلاح الصاوي
الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا