حكم الوقف على قوله تعالى : [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ]

إنضم
22/05/2006
المشاركات
2,552
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
59
الإقامة
الرياض
حكم الوقف على قوله تعالى : [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ]
قال تعالى: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ][يوسف: 24].
القول الأول: أن يوسف عليه السلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان (1)
وعلى هذا التأويل: يحسن الوقف على قوله: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ]واضحاً، ولئلا يوهم الوصلُ شيئًا لا يليق بنبي معصوم أن يهمَّ بامرأة، ثم يستأنف، ليظهر معنى الابتداء بجملة [وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه]، أي: لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها (2).
القول الثاني: أن يوسف عليه السلام هم بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى، وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه قاله ابن عباس، وقتادة، وابن أبي مليكة، وثعْلب. وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة، فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة، وهو قول الجمهور(3)
وعلى هذا التأويل: فلا وقف على [هَمَّتْ بِهِ]
(1) انظر التحرير والتنوير/12/252
(2) تام: عند النحاس القطع / 400، وكاف عند الأشموني، المنار: 192.
(3) انظر التحرير والتنوير/12/252
قال النحاس: وقيل الوقف على قوله [ولقد همت به وهم بها]منهم من جعل الهم الأول كالهم الثاني وهو قول أبو عبيده، قال ولم يذكر الله معاصي الأنبياء ليذمهم بها ولكن لئلا ييأس الناس ، وذكر الداني والأشموني ذلك التوجيه في أحد توجيههما (1).
رأي أهل الوقف:
قال ابن الأنباري: الوقف على [وهم بها]فيه ثلاثة أقوال:
قال عامة أهل العلم: ( قعد منها مقعد الرجل من المرأة، فتمثل له يعقوب عاضا على إصبعه يقول: يوسف يوسف، فالوقف من هذا المذهب على [لولا أن رأى برهان ربه]، والتمام إنه من عبادنا المخصلين.
وقال آخرون: الأنبياء عليهم السلام معصومون، لا يعصون، ولا يهمون بالكبائر ، وقالوا: معنى الآية: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فالوقف من هذا المذهب على [ولقد همت به]، ثم تبتدئ [وهم بها لولا أن رأى برهان ربه]أي: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
وقال آخرون: الهاء كنابة عن الفرة، كأنه قال: ولقد همت به وهم بالفرة [من الفرار مصدر مرة ] ، فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على [لولا أن رأى برهان ربه]، ويتم على [المخلصين]ولا يتم على [ولقد همت به]، لأن [هم بها]نسق عليه (2)
قال النحاس: وقيل الوقف على قوله [ولقد همت به وهم بها]منهم من جعل الهم الأول كالهم الثاني وهو قول أبو عبيده، قال ولم يذكر الله معاصي الأنبياء ليذمهم بها ولكن لئلا ييأس الناس (3)
(1) انظر: القطع والائتناف / 401، و انظر: المكتفى 325. والأشموني: 391.
(2) انظر: إيضاح الوقف والابتداء ص: 385 .
(3) انظر: القطع والائتناف / 401، و انظر: المكتفى 325. والأشموني: 391.
قال الداني: تام، وقيل كاف على مذهب أبي عبيده، ومن زعم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومين، وقدر ذلك على التقديم والتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، وجمهو أهل العلم على خلاف ذلك.
قال الأشموني: كاف: وبهذا الوقف يتخلص القاريء من شيء لا يليق بنبيّ معصوم أن يهم بامرأة وينفصل من حكم القسم قبله في قوله: [ولقد همت]ويصير وهمّ بها مستأنفاً إذ الهمّ من السيد يوسف منفيّ لوجود البرهان والوقف على برهان ربه ويبتديء كذلك أي عصمته كذلك فالهم الثاني غير الأول.
وقيل: الوقف على [وهمّ بها]وإن الهمّ الثاني كالأول أي ولقد همت به وهمّ بها كذلك، وعلى هذا لولا أن رأى برهان ربه متصل بقوله: [لنصرف عنه]أي: أريناه البرهان لنصرف عنه ما همَّ به، وحينئذ الوقف على الفحشاء(2)
الراجح في المسألة:
الراجح الرأي الأول، هو عصمة يوسف عليه السلام الهم بالمعصية، فهو لم يخالطه همّ بأن يجيب امرأة العزيز لأن الله عصمه بما أراه من البرهان، لأن الهم فيه نزغ من الشيطان، والله سبحانه وتعالى بين أنه عليه السلام من عباده المخلصين، قال تعالى: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ][يوسف: 24]، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء، والشيطان ليس له سلطان على المخلصين، قال تعالى: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ][الحجر: 39 40]، وقال تعالى: [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ][النحل99]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: [لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به وكتب له حسنة كاملة، ولم يكتب عليه خطيئة إذ فعل خيرا ولم يفعل سيئة (1)
وقال رحمه الله: فالهمّ: اسم جنس تحته نوعان؛ كما قال الإمام أحمد:
الأول: همُّ خطرات
الثاني: همُّ إصرار
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا همَّ بسيئة؛ لم تكتب عليه، وإذا تركها؛ كتبت له حسنة، وإن عملها؛ كتبت له سيئة واحدة ) متفق عليه، وإن تركها من غير أن يتركها لله؛ لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف عليه السلام همَّ همًّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب- وهو الهم- وعارضه الإخلاص(2).
وقال الفخر الرازي- رحمه الله- هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته اهـ. (3)
(1) انظر أمراض القلوب/1/8
(2) تفسير الفخر الرازي: ( 1/2507).
(3) الفتاوى الكبرى: ( 5/262).

قال الإمام أبو حيان الأندلسي: الذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد. بل نقول: إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم(3) (3) البحر المحيط ص ( 5/294).
وقال الشنقيطي- رحمه الله-: إن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به، أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود.
1- حزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله: [هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي][ يوسف: 26 ] وقوله: [قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ][ يوسف: 33 ] الآية.
2- اعتراف المرأة بذلك في قولها للنسوة: [وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم][ يوسف: 32 ] وقولها: [الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين][ يوسف: 51 ]
3- اعتراف زوج المرأة: في قوله: [قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين][ يوسف: 28- 29 ]
4- اعتراف الشهود بذلك في قوله: [وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ][ يوسف: 26 ] الآية
5- شهادة الله جل وعلا ببراءته في قوله: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين][ يوسف: 24 ].
أما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته، ففي قوله تعالى: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ][ص: 82، 83]، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلَصين، كما صرح تعالى به في قوله: [إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]، فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي. اهـ (1). (1) أضواء البيان في إيضاح القرآن ( 12/9).
رموز المصاحف: عموم المصاحف رمزت بـ ( صلى) بعد قوله ( همت به )، ووضع الباكستاني ( ج) والذين أميل إليه هو أولوية الوقف مع جواز الوصل، ويناسب ذلك الرمز (قلي) تفاديا لهذا المحذور المتوهم.

كلام نفيس لشيخ الإسلام بن تيمية
قال رحمه الله : وَقَدْ اتَّفَق النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا . وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : [إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ]. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ : [إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ]إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ الاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ (1) (1) الفتاوى الكبرى: ( 15/146).
من كتاب الأثر العقدي في الوقف والابتداء
 
جزاك الله خيرا يا شيخ جمال على هذا التفصيل الجميل وأسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتك وأن يتقبل منك عملك
 
عودة
أعلى