حكم الوقف على قوله تعالى : رَأْفَةً وَرَحْمَةً "

إنضم
22/05/2006
المشاركات
2,552
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
59
الإقامة
الرياض
حكم الوقف على قوله تعالى : رَأْفَةً وَرَحْمَةً "
قال تعالى: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ " [الحديد: 27]
اختلف أهل التفسير واللغة في إعراب (ورهبانية)
فيها قولان:
القول الأول: أن تكون "وَرَهْبَانِيَّةً" مقتطعة من العطف على ما قبلها، منصوبة على الاشتغال بفعل يفسره الظاهر، تقديره: وابتدعوا رهبانية +ابْتَدَعُوهَا"، كما هو قول ''الكوفيين'' قال السمين الحلبي: وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ (1) وعلى هذا التأويل: يكون الوقف على: +وَرَحْمَةً"(2)
القول الثاني: أن تكون "وَرَهْبَانِيَّةً" معطوفة على ما قبلها، فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة، ويكون هذا جعلا خلقيا كونيا، والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى: +وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" [القصص: 41].
وعلى هذا التأويل: فلا وقف على +وَرَحْمَةً" (3)
قال الإمام الطبري : ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته،( رَأْفَةٌ ) وهو أشدّ الرحمة،( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) يقول: أحدثوها( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم،( إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .أي: بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهوّدوا. 23 / 202
قال اللإمام بن كثير: ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات، +وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ"، وآتيناه الإنجيل، "وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ" على دينه وهم الحواريون +رَأْفَةً وَرَحْمَةً" لينًا وشفقة، فكانوا متوادِّين فيما بينهم، "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا" بالغلوِّ في العبادة +مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ" ما فرضناها عليهم، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، "إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ" زعموا بذلك رضا الله (4)
(1) تفسير الكشاف، 4/ 479
(2) السمين الحلبي 1/5211، والبحر المحيط: ج/8ص/228.
(3) السمين الحلبي 1/5211
(4) تفسير القرآن العظيم/8/29
رأي أهل الوقف: في الوقف على "ورحمة"،
قال ابن الأنباري: وقف حسن، ثم تبتدئ "ورهبانية ابتدعوها.." أي: ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم
ورى بعضهم أن في مصحف أبيِّ ما كتبتها عليهم ولكن ابتدعوها (1)
قال الداني: تام وقيل كاف، ثم تبتدئ "ورهبانية.." أي: وابتدعوا رهبانية، وورى عن ابن سلام: الوقف، ثم استناف الكلام فقال ".. وهبانية ابتدعوها.." لم يكتبها الله عليهم، ولكن ابتدعوها ليتقربوا بها إلى الله، قال الحسن ففرضها الله عليهم (2).
قال النحاس: كاف، ومن جعلها معطوفة على ما قبلها لم يقف على +ورحمة"، وكان وقفه الكافي "إلا ابتغاء رضوان الله".
قال نصير: تام إن كان القول، كما قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله، وهم ابتدعوا الرهبانية (3).
(1) إيضاح الوقف والابتداء ص: 492 .
(2) انظر: المكتفى 273، منار الهدى /265.
(3) ابن النحاس: القطع: 712، 713
الراجح في المسألة:
الراجح أولوية الوصل على "وَرَحْمَةً" لأن هذا الوقف يوهم أن الرهبانية التي ابتدعوها أنها ليست مخلوقة لله، إنما خلقت لهم على زعمهم، فلا عطف على "رَأْفَةً وَرَحْمَةً" التي هي من خلق الله، وهو رأي المعتزلة.
قال السمين الحلبي: قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } في انتصابِها وجهان :
أحدهما : أنها معطوفةٌ على « رأْفَةً ورحمةً » .
و « جَعَلَ » إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر ،
و « ابْتدعوها » على هذا صفةٌ ل « رَهْبانية » وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن ، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ ، إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه . وجوابُه ما تَقَدَّم : مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها .
وقال أيضاً : « وقيل : هو معطوفٌ عليها ، وابتدعوها نعتٌ له . والمعنى : فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله }
والوجه الثاني : أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ . وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون : ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له ، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه . والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه (1).
(1) الدر المصون سورة: الحديد آية (27).
حدثني الدكتور عبد العزيز القارئ قال : في التقرير العلمي: وجدنا في مصحف الأصل لمصحف المدينة النبوية أثناء مراجعة اللجنة رمز الوقف اللازم +مـ" على قوله: +وَرَحْمَةً"، وهذا على وجه من أوجه الإعراب، وهو أن تكون +وَرَهْبَانِيَّةً" منصوبة بفعل يفسره الظاهر، تقديره: وابتدعوا رهبانية +ابْتَدَعُوهَا"
وعلى هذا فالكلام عن +وَرَهْبَانِيَّةً" منفصل عن الكلام عن +رَأْفَةً"، +وَرَحْمَةً"، إذ هاتان صفتان في القلب لا تكَسُّب للإنسان فيهما، بخلاف +وَرَهْبَانِيَّةً"، فإنها أفعال البدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب، كذا ذكره أبو حيان، وذكر عن قتادة قال: الرأفة والرحمة من الله، والرهبانية هم ابتدعوها، ولكن هذا الإعراب تفوح منه رائحة الاعتزال، فقد لجأ إليه أبو علي الفارسي وتابعه عليه الزمخشري، وكلاهما معتزليان، فرارًا من اعتبار الرهبانية التي ابتدعوها مخلوقة لله تعالى، على قاعدتهم أن ما كان مخلوقًا لله لا يكون مخلوقًا للعبد، فالرأفة والرحمة من خلق الله، أما الرهبانية فهي من ابتداعهم وفعلهم، أي هي مخلوقة لهم، وهذا الاعتقاد هو الذي دفع أبا علي إلى اعتبار +وَرَهْبَانِيَّةً" مقتطعة من العطف على ما قبلها ومنصوبة على الاشتغال.
وقد عاب أبو حيان عليهم هذا الإعراب من جهة العربية، فقال: وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: +وَرَهْبَانِيَّةً" لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة (1).
ويبدو أن الذين وضعوا الوقف اللازم هنا على قوله: +وَرَحْمَةً" لم ينتبهوا لرائحة الاعتزال هذه، بينما كان الأولى عدم اعتبار هذا الوجه لظهور فساد الأساس الذي بني عليه، وفي بعض المصاحف وضعوا رمز الوقف الجائز مع تساوي الطرفين+ج"، وفي بعضها رمز الوقف الجائز مع أولوية الوصل +صلى" وكل هذا مبني على اعتبار ذلك الوجه المعتزلي من الإعراب، بينما الأولى إبطاله، وسد بابه، لذلك اختارت اللجنة عدم وضع أي رمز من رموز الوقف في هذا الموضع (2).
رموز المصاحف: ولم يشر مصحف المدينة بعلامة وقف إشارة إلى تبنيه الرأي الأول، وأشار مصحف الشمرلي بـ(الديار المصرية)، بـ ( صلى)، ووضع مصحف دمشق الرمز (مـ ).
(1) البحر المحيط: ج/8ص/228.
(2) التقرير العلمي لمصحف المدينة النبوية، 1405هـ، حرره د/عبد العزيز القارئ، رئيس لجنة مراجعة مصحف المدينة النبوية وعميد كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية.
يراجع كتاب الأثر العقدي في الوقف والابتداء
 
عودة
أعلى