حق الله على العباد

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
العبادة هي حق الله تعالى على العباد ؛ فما خلقهم الله تعالى إلا لذلك ، قال تعالى : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ ( الذريات : 56 ) ؛ فالعبادة لله هي الغاية المحبوبة المرضية له Y ؛ ففي الصحيحين عَنْ مُعَاذٍ t قَالَ : كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ e عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ : " يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ؟ " قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ : " فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ : " لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " ( [1] ) .
من هنا كان يجب على كل أحدٍ أن يعرف هذا الحق وأن يعرف كيف يقوم به كما أراد الله تعالى ؛ ومن هنا - أيضا - كان التقصير في هذه المعرفة إثمًا يُعاقب عليه .
إن بيان العبادة كانت مهمة الرسل الأولى إلى أقوامهم ، فما أرسل الله تعالى رسولا إلا وقال لقومه : ] اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [ ؛ قال تعالى : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ ( الأنبياء : 25 ) ؛ والعبادة هي حق الله وحده ، ولا تجوز لغيره ، وهي مقتضى كلمة الإخلاص التي يلهج بها المسلم في حياته كلها : لا إله إلا الله ، فمعنى ذلك : لا معبود بحق إلا الله ، ومقتضى ذلك ، لا يستحق العبادة إلا الله ، فهو الخالق الرزاق سبحانه Y ؛ فالذي خلق ورزق هو المستحق للعبادة ؛ قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ ( البقرة : 21 ، 22 ) ، وقال U : ] وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ ( العنكبوت : 16 ، 17 ) .
ويقتصر فهم البعض للعبادة على العبادات المحضة ( الصلاة – الصيام – الزكاة – الحج والعمرة ؛ ونوافل ذلك والذكر وما شابه ذلك ) ؛ ولا يعي أن العبادة شاملة لحياة العبد كلها زمانا ومكانا وحالا ، فالزمان هو عمر العبد ، والمكان محل العبد أينما حل ؛ والمراد بالحال حال العبد مع ربه ظاهرًا وباطنًا ، وحاله في نفسه ظهورًا وخفاء ، وسكونًا وحركة ، وحاله مع الناس .. فالعبادة شاملة لكل هذا .. لكل حركاته وسكناته .. ممتدة معه طول عمره .. إنه عبد لله تعالى ؛ وقد قال U : ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ ( الأنعام : 162 ، 163 ) .
ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والخضوع ، يقال طريق معبد ، أي : مذلل ، وعَبَدَ الله يعبده عبادة ومعْبَدًا ومَعْبَدَةً : تألَّه له ، ورجلٌ عابد من قوم عَبَدَةٍ وعُبُدٍ وعُبَّدٍ وعُبَّادٍ ؛ والتعبد : التنسك ، والعبادة : الطاعة ( [2] ) .
والعبادة في الشرع : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين ، والإحسان إلى البهائم ، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة الظاهرة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله ، والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف من عذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله ، وهي العبادة الباطنة . أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( [3] ) .
وعرفها الحافظ ابن كثير بقوله : عبارة عن ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف .ا. هـ ( [4] ) .
قلت : الذي ذهب إليه شيخ الإسلام أجمع وأشمل ، بل هو التعريف الجامع المانع ، فقوله : ( اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ) دخل فيه كل ما أمر الله به ورضيه فعلاً ، وكل ما نهى الله عنه ورضيه تركًا ، وخرج به كل ما لا يحبه الله ولا يرضاه مما يتقرب به على غير ما أمر الله تعالى .
وقوله : ( من الأعمال الظاهرة ) دخل فيه كل أعمال الجوارح .
وقوله : ( والباطنة ) دخل فيه كل أعمال القلوب .
فانتظم في ذلك جميع حركات المسلم وسكناته ، كما قال الله تعالى : ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ .
وأما ما ذهب إليه ابن كثير - رحمه الله - فهو حقيقة العبادة ، وشبيه به ما قاله ابن القيم : والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب ، بغاية الذل والخضوع ؛ فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له ، حتى تكون محبًا خاضعًا.ا.هـ ( [5] ) . والعلم عند الله تعالى .


[1] - البخاري ( 2856 ) ، ومسلم ( 30 ) .

[2] - انظر لسان العرب باب الدال فصل العين ، ومختار الصحاح ، والمصباح المنير ، ومفردات الراغب ( مادة : ع ب د ) .

[3] - انظر مجموع الفتاوى : 10 / 149 .

[4] - انظر تفسيره : 1 / 26 ( دار الفكر ) .

[5] - انظر مدارج السالكين : 1 / 74 .
 
شروط العبادة
شأن العبادة توقيفي ؛ بمعنى أنه لا تثبت عبادة إلا بدليل عن الله تعالى أو عن رسوله e ؛ أي : إن الأصل في العبادة المنع إلا أن يأتي الدليل من الكتاب والسنة على إقرارها ومشروعيتها .
وعليه ، فاشترط العلماء للعبادة ثلاثة أمور : الأول : صدق العزيمة ؛ وهو شرط في وجودها ؛ والثاني : إخلاص النية ، والثالث : موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يدان إلا به ؛ وهما شرطان في قبولها . وفي بيان ذلك قال حافظ حكمي - رحمه الله - في ( معارج القبول ) : فإذا اجتمعت النية الصالحة والعزيمة الصادقة في هذا العبد قام بعبادة الله U ؛ واعلم أنه لا يقبل منه ذلك إلا بمتابعته الرسول e فيعبد الله تعالى بوفق ما شَرعَ ، وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد سواه ؛ كما قال تعالى : ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ [ آل عمران :85 ] ؛ وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ " وفي رواية لمسلم : " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ؛ فهذه الثلاثة الأركان شروط في العبادة ، لا قوام لها إلا بها ؛ فالعزيمة الصادقة شرط في صدورها ، والنية الخالصة وموافقة السنة شرط في قبولها ؛ فلا تكون عبادة مقبولة إلا باجتماعها .
فإخلاص النية بدون صدق العزيمة : هوس ( [1] ) ، وتطويل أمل ، وتمن على الله ، وتسويف في العمل ، وتفريط فيه .
وصدق العزيمة بدون إخلاص فيه يكون شركًا أكبر أو أصغر ، بحسب ما نقص من الإخلاص ؛ فإن كان الباعث على العمل من أصله هو إرادة غير الله فنفاق ، وإن كان دخل الرياء في تزيين العمل وكان الباعث عليه أولا إرادة الله والدار الآخرة كان شركًا أصغر بحسبه ، حتى إذا غلب عليه التحق بالأكبر .
وإخلاص النية مع صدق العزيمة إن لم يكن العمل على وفق السنة كان بدعة وحدثًا في الدين ، وشرع ما لم يأذن الله به ؛ فيكون ردًا على صاحبه ووبالا عليه والعياذ بالله .
فلا يصدر العمل من العبد إلا بصدق العزيمة ، ولا يقبل منه ذلك إلا بإخلاص النية واتباع السنة ؛ ولذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : ] لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [ [ الملك : 2 ] ؛ قال : أخلصه وأصوبه ؛ يعني : خالصا من شوائب الشرك ، موافقا للسنة ( [2] ) .

[1] - هَوِسَ الناس هَوَسًا : وقعوا في اختلاطٍ وفساد .

[2] - انظر معارج القبول : 2 / 442 ، 443 .
 
وإليكم الحديث عن هذه الأمور الثلاثة بشيء من التفصيل :

أما الأمر الأول : وهو صدق العزيمة ؛ فالصِّدْقُ ضد الكذب ، وهو موافقة الباطن الظاهر ؛ والمراد به هنا - كما قال في ( معارج القبول ) : بذل العبد جهده في امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى الله عنه ، والاستعداد للقاء الله ، وترك العجز ؛ وترك التكاسل عن طاعة الله ، وإمساك النفس - بلجام التقوى - عن محارم الله ؛ وطرد الشيطان عنه بالمداومة على ذكر الله ، والاستقامة على ذلك كله ما استطاع ؛ قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ [ التوبة : 119 ] ؛ وقال تبارك وتعالى : ] آلم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ [ العنكبوت : 2 ، 3 ] ، إلى قوله : ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ . وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [ [ العنكبوت : 10 ، 11 ] ، وقال تعالى : ] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ [ البقرة : 177 ] ( [1] ) ، والآيات في ذلك كثيرة .
وحقيقة الأمر أنه لا يمكن أن يتحقق هذا الصدق إلا من قلب يحب الله تعالى ؛ فهذا من لوازم العبودية ، كما قال ابن القيم - رحمه الله : العبادة تجمع غاية الذل والخضوع مع غاية الحب .ا.هـ .
فقد يخضع الإنسان لغيره وهو لا يحبه ، فلا تكون هذه عبادة ، وإنما العبادة تنطلق فيها جوارح العبد طاعة وخضوعًا وتذللا نابعًا عن محبة تملأ جوانح القلب ، وهكذا الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ( [2] ) .
وهل في الوجود من هو أجدر من الله تعالى بأن يُحَب ؟ فهو سبحانه المنعم الذي أسبغ على عباده نعمه ظاهرة وباطنة : أوجدهم من عدم ، وصورهم فأحسن تصويرهم ، واستخلفهم في الأرض ، وكرمهم وفضلهم على كثير من خلقه ، وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعًا منه ، ورزقهم من الطيبات .. إلى غير ذلك من النعم التي لا يستطيع حصرها القلم ، كما لا يحيط بها بشر : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ ( إبراهيم : 34 ) ، ] وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [ ( النحل : 53 ) .
فعطاؤه ومنعه ، ومعافاته وابتلاؤه ، وقبضه وبسطه ، وعدله وفضله ، وإماتته وإحياؤه ، ولطفه وبره ، ورحمته وإحسانه ، وستره وعفوه ، وحلمه وصبره على عبده ، وإجابته لدعائه ، وكشف كربه ، وإغاثة لهفته ، وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه ، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه ؛ كل ذلك داع للقلوب إلى تألهه ومحبته ، فلو أن مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته ، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته ؟! فخيره تعالى إليه نازل ، وشر العبد إليه صاعد ؛ يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه ؛ والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه ؛ فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه ؛ فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه ، وتعلقها بمحبة سواه ؛ وأيضًا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه ، وغرضه منك ؛ والرب سبحانه وتعالى يريدك لك ، كما في الأثر الإلهي : ( عبدي كلٌ يريدك لنفسه وأنا أريدك لك ) فكيف لا يستحيي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة ، وهو معرض عنه مشغول بحب غيره وقد استغرق قلبه محبة ما سواه ( [3] ) . ومعنى : ( وأنا أريدك لك ) أي : لمنفعتك وصالحك ؛ فعبادة الإنسان لله تعالى ومحبته له إنما يعود نفعه وأجره وثوابه للعبد ؛ والله Y غني عن ذلك ؛ قال U في الحديث القدسي الذي رواه أحمد ومسلم عن أبي ذر : " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ؛ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ؛ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ؛ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ؛ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " ( [4] ) .
وإذا كانت محبة النبي e واجبة لا يصح إيمان عبد إلا بها ؛ وقد أقسم النبي e أنه لا يؤمن عبد حتى يكون هو e أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ، فكيف بمحبة الرب Y ؟! وروى أحمد والبخاري صحيح البخاري عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ e وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ e : " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " ( [5] ) ، أي : لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية ؛ فإذا كان النبي e أولى بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها ، أفليس الرب Y وتقدست أسماؤه أولى بمحبته وعبادته من أنفسنا ؟! اللهم بلى .
وإذا كانت النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، فمَنْ أولى من الله تعالى أن يُحب ؟! ولهذا قـال الله تعالى : ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [ ( البقرة:165) .
فإذا تحققت المحبة اللائقة بجلال الله وإحسانه في قلب عبد ، كان ذلك دلالة صدق العبد في عبادته وخضوعه وتذلُّله لله جل وعلا ... وللحديث صلة .

[1] - انظر معارج القبول : 2 / 440 .

[2] - بشاشة القلوب : اتساعها وانبساطها .

[3] - انظر ( الجواب الكافي ) لابن القيم ص 165 .

[4] - أحمد : 5 / 154 ، ومسلم ( 2577 ) .

[5] - أحمد : 5 / 293 ، والبخاري ( 6632 ) .
 
.. علامات أهل محبة الله تعالى ..
ونذكر ها هنا علامات أهل محبة الله تعالى ، لينظر العبد : أين هو من هذه العلامات ؟ إذ محبة الله تعالى وما يقتضيها من أعمال ، شرط من شروط ( لا إله إلا الله ) السبعة التي ذكرها حكمي في ( معارج القبول ) بقوله :
وبشروط سـبعة قـد قيدت ... وفي نصوص الوحي حقا وردت
فـإنه لـم ينتـفع قـائلها ... بالنـطق إلا حـيث يستكملها
العـلم واليقـين والقـبول ... والانقـياد فـادْرِ مـا أقـول
والصـدق والإخلاص والمحبة ... وفقـك الله لـما أحـبه
..علامات أهل محبة الله تعالى ..
جعل الله لأهل محبته علامات : الأولى : اتباع الرسول ، قال تعالى : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [ آل عمران :31 ] .
الثانية : الجهاد في سبيله ، قال U : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ [ المائدة : 54 ] . وقال تعالى : ] قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ ( التوبة : 24 ) . فوصفهم في الآية الأولى بأنهم أهل محبته ؛ وتوعد - في الآية الثانية - من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد .
الثالثة : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ؛ قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [ ، وهو معنى الولاء لأوليائه ، والبراء من أعدائه ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ، ويسخطه ما يسخط الله ، ويحب ما أحبه الله ورسوله ، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالي أولياء الله تعالى ويعادي أعداء الله تعالى ؛ هذا الذي استكمل الإيمان كما في الحديث : « مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ ، وَأَعْطَى لِلَّهِ ، وَمَنَعَ لِلَّهِ ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ " ( [1] ) .
فائدة :
قال ابن القيم ما خلاصته : إن الدين كله يدور على أربع قواعد : حب وبغض ، وفعل وترك ، والفعل والترك
يترتب على الحب والبغض ؛ فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان ، بحيث إذا أحبَ أحب لله ، وإذا أبغض أبغضَ لله ، وإذا فعل فعلَ لله ، وإذا ترك تركَ لله ، وأي نقص من هذه الأربعة يعد نقصا من إيمان العبد ودينه بحسبه .
وهذا بخلاف الحب مع الله فهو نوعان : نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك ؛ ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله ولا يخرج من الإسلام .
فالأول كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم ؛ قال تعالى : ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [ ، وهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم وأصنامهم وآلهتهم مع الله ، كما يحبون الله ؛ فهذه محبة تأله وموالاة ، يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء ؛ وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله ، ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد ، وشدة بغضها وبغض أهلها ومعاداتهم ومحاربتهم ؛ وبذلك أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه ، وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية ، وخلق الجنة لمن حارب أهلها وعاداهم فيه وفي مرضاته ، فكل من عبد شيئًا من لدن عرشه إلى قرار أرضه فقد اتخذ من دون الله إلها ووليا وأشرك به كائنا ذلك المعبود ما كان ، ولا بد أن يتبرأ منه أحوج ما كان إليه .
والنوع الثاني : محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ؛ فيحبها محبة شهوة ، كمحبة الجائع للطعام ، والظمآن للماء ، فهذه المحبة ثلاثة أنواع : فإن أحبها لله توصلا بها إليه واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عليها ، وكانت من قسم الحب لله توصلا بها إليه ، ويلتذ بالتمتع بها ، وهذا حال أكمل الخلق e الذي حبب إليه من الدنيا النساء والطيب ، وكانت محبته لهما عونا له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره .
وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه ، بل نالها بحكم الميل الطبيعي ، كانت من قسم المباحات ، ولم يعاقب على ذلك ، ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه .
وإن كانت هي مقصوده ومراده وسعيه في تحصيلها والظفر بها ، وقدمها على ما يحبه الله ويرضاه منه كان ظالما لنفسه متبعا لهواه .
فالأولى محبة السابقين ، والثانية محبة المقتصدين ، والثالثة محبة الظالمين .
فتأمل هذا الموضع وما فيه من الجمع والفرق ، فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة ؛ والمهدي من هداه الله ( [2] ) .


[1] - انظر مجموع الفتاوى : ، والحديث رواه أبو داود ( 4681 ) عن أبي أمامة رضي الله عنه .

[2] - الروح ص 253 ، 254 .
 
الأمر الثاني : الإخلاص
فقال الله تعالى : ] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ ( غافر : 14 ) ؛ قال ابن كثير - رحمه الله : أي : فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم . ا.هـ ( [1] ) .
اعلم - علمني الله وإياك الخير - أن كلَّ شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه وخلص سمي خالصًا ؛ ويسمى الفعل المصفى المخلَّص إخلاصًا ؛ والإخلاص يضاده الشرك ، فمن ليس مخلصًا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ؛ وقد جرى العرف على تخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب ، فإذا امتزج قصد التقرب بباعث آخر من رياء أو غيره من حظوظ النفس خرج عن الإخلاص ( [2] ) .
وعليه فالإخلاص نوعان :
الأول : إخلاص التوحيد ؛ وهو أن يُعبد الله وحده ، فلا يتوجه بشيء من العبادات إلا لله U ؛ وهذا الذي جاء به جميع الرسل : ] اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [ ( الأعراف : 59 ، 65 ، 73 ، 85 ) ؛ وقال Y : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ ( الأنبياء : 25 ) ، وقال الله تعالى لنبيه محمد e : ] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ ( الزمر : 11 : 15 ) ؛ ويضاد هذا النوع من الإخلاص : الشرك الأكبر ؛ وهو صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى .
الثاني : إخلاص العمل ؛ وهو : تخليص النية عند القيام بالعمل من حظوظ النفس ، ليسلم من الرياء الذي هو الشرك الأصغر ، والذي هو أكبر الذنوب بعد الشرك الأكبر ، إذ هو محبط للعمل الذي يقارنه ؛ وفي الصحيحين عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " ( [3] ) ؛ ففي قوله e : " فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " بيان لأثر الإخلاص في قبول العمل ؛ فالعمل إذا لم يكن لله تعالى ، فهو لما كان له حسب قصد فاعله ؛ وليس له عند الله تعالى من أجر ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ؛ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ ؛ قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ؛ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ " ( [4] ) .
ولابد من تحقيق النوعين في العبادة [ إخلاص التوحيد وإخلاص العمل ] ؛ فالعبادة بدون الإخلاص صورة عبادة ، وليست عبادة على التحقيق ؛ رزقنا الله تعالى الإخلاص بمنِّه وكرمه .


[1] - تفسير القرآن العظيم : 4 / 67 .

[2] - انظر موعظة المؤمنين : 444 .

[3] - البخاري ( 1 ) ، ومسلم ( 1907 ) .

[4] - مسلم ( 1905 ) ؛ ورواه الترمذي ( 2382 ، والنسائي ( 3137 ) ، وغيرهم .
 
الأمر الثالث : وهو موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يدان إلا به

هذا ما يسميه بعض العلماء : المتابعة لرسول الله e ؛ وهو الالتزام بما شرعه الله عز وجل ودعا إليه رسوله صلى الله عليه وسلم : أمرًا ونهيًا ، وتحليلاً وتحريمًا ؛ فهذا الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله تعالى ؛ فليس عبدًا لله من رفض الاستسلام لأمره ، واستكبر عن اتباع نهجه والانقياد لشرعه ، وإن أقر بأن الله تعالى خالقه ورازقه ؛ فقد كان مشركو العرب يقرون بذلك ، ولم يجعلهم القرآن بذلك مؤمنين ولا عبادًا لله طائعين .
فخضوع الإقرار بالربوبية لا يكفي ، وخضوع الاستعانة في الكربات والاستغاثة في الشدائد لا يكفي ، ولابد من خضوع التعبد والانقياد والاتباع الذي هو حق الألوهية .
ومحك الاختبار في هذا الالتزام هو الأمر والنهي ؛ ومن هنا كان الإذعان لأمر الله تعالى والتسليم لشرعه دليلا على صحة الإيمان ؛ قال الله تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [ [ الأحزاب : 36 ] ؛ وقال U : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ [ النساء : 65 ] . وقال Y : ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [ [ النور : 51 ، 52 ] .
ومن موافقة الشرع اتباع الرسول e في كل ما أمر به أو نهى عنه ؛ قال الله تعالى : ] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ [ الحشر : 7 ] ؛ وروى الترمذي عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَـالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ؛ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " ( [1] ) .
فعند التأمل والنظر يظهر أن هذه الثلاثة تشكل شروط العبادة ؛ فلا عبادة إلا ما جاء النص ببيان أنها عبادة ، ولا تكون عبادة إلا مع صدق العزيمة الذي لا يكون إلا عن محبة قلب فاعلها ، وكذلك لا تقبل العبادة إلا بتمحيض النية وصدق الإخلاص ؛ رزقنا الله الإخلاص بمنِّه وكرمه .


[1] - أحمد : 4 / 130 ، 132 ، والترمذي ( 2664 ) واللفظ له ، وابن ماجة ( 12 ) ، والدارمي ( 586 ) ، وصححه ابن حبان ( 12 ) ، والحاكم : ( 371 ) .
 
شمولية العبادة
العبادة في الإسلام شاملة لحياة المسلم كلها ، وكذلك لكيان المسلم كله ؛ فهي شاملة لحياة العبد كلها زمانًا ومكانًا وحالا ، فالزمان هو عمر العبد ، والمكان محل العبد أينما حل ؛ والمراد بالحال حال العبد مع ربه ظاهرًا وباطنًا ، وحاله في نفسه ظهورًا وخفاء ، وسكونًا وحركة ، وحاله مع الناس .. فالعبادة شاملة لكل هذا .. لكل حركاته وسكناته .. ممتدة معه طول عمره .. إنه عبد لله تعالى ؛ وقد قال U : ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ ( الأنعام : 162 ، 163 ) .
فشمولها لحياة المسلم ينتظم أمور هذه الحياة قاطبة : فهو في نفسه عبد لله تعالى خاضع له متذلل ، في ظهوره وخفائه ، في نهاره وليله ، في نومه واستيقاظه ، في فرحه وترحه ، في بيته وخارجه ، في مسجده وسوقه ، في جده ومزاحه .. وله في كل حال من هذه الأحوال عبادة لله تعالى ؛ فليس في المنهج الإسلامي عمل أو نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة ، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف ، فالمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولا وأخيرًا .
فعبادة الله تعالى ليست مقصورة على الصلاة والصيام والزكاة والحج ، وإن كانت هذه الشعائر العظيمة أركانًا أساسية في بناء الإسلام ، لكنها - وعلى أهميتها ومنزلتها - جزء من العبادة لله تعالى التي تشمل الحياة كلها من قضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم .
والمسلم يعبد الله بالقلب وذلك بالتفكر والتأمل ، واليقين والتوكل والمحبة وغير ذلك ؛ ويعبده باللسان ، وذلك بالذكر والدعوة إليه Y ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك ؛ ويعبده بالجوارح وسائر الحواس ، وكل جارحة لها عبادة ، وكل حاسة كذلك ، ويعبده ببدنه كله في الصلاة والحج والجهاد ، بل ويعبده ببذل النفس والمال في الجهاد ، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن إذا اقتضى الحال ، قال الله تعالى : ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [ ( العنكبوت : 56 ) ؛ فما من جزء من بدنه إلا وله عبادة ، وما من حال من أحواله إلا وله عبادة ؛ فهو عبد لله تعالى ، وعبد له وحده ، وفي هذا عز النفس في الدنيا والآخرة .
 
شمول العبادة لأركان الإنسان
إذا كان الإنسان عبدا لله تعالى ، فكل ركن من أركانه جزء من العبد ، وكل ركن من هذه الأركان خص بعبادة تناسبه ؛ لتكتمل بذلك عبودية هذا الكيان ( الإنسان ) لله تعالى .
قال ابن القيم - رحمه الله - في ( مدارج السالكين ) ما خلاصته : ورحى العبودية تدور على خمسة عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية ؛ وبيانها : أن العبودية منقسمة على القلب واللسان والجوارح ، وعلى كل منها عبودية تخصه ؛ والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ، ومستحب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح ؛ وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح .
حظ القلب من العبودية لله
فواجب القلب منه متفق على وجوبه ومختلف فيه ؛ فالمتفق على وجوبه : كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والرجاء والخوف والتصديق الجازم والنية في العبادات ، وهذه قدر زائد على الإخلاص ؛ فإن الإخلاص هو : إفراد المعبود عن غيره ؛ ونية العبادة لها مرتبتان : إحداهما : تمييز العبادة عن العادة ، والثانية : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض ؛ وكذلك الصدق ؛ والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبًا وطلبًا ، فالإخلاص توحيد مطلوبه ، والصدق توحيد طلبه ؛ وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة ، وله طرفان : واجب مستحق ، وكمال مستحب ؛ واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة .
وأما المختلف فيه : فكالرضا ، والخشوع في الصلاة ، وفيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره ؛ وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه ، ولم يوجبها أكثر الفقهاء .
والقصد أن هذه الأعمال واجبها ومستحبها هي عبودية القلب ، فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك ، وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح ؛ والمقصود أن يكون ملك الأعضاء - القلب - قائمًا بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته .
وأما المحرمات التي عليه ؛ فهي نوعان : كفر ومعصية ، فالكفر : كالشك والنفاق والشرك وتوابعها ؛ والمعصية نوعان : كبائر ، وصغائر ؛ فالكبائر : كالرياء والعجب والكبر ، والفخر والخيلاء ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والفرح والسرور بأذى المسلمين ، والشماتة بمصيبتهم ، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم ، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله ، وتمنى زوال ذلك عنهم ، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ؛ ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها ، وإلا فهو قلب فاسد ، وإذا فسد القلب فسد البدن ؛ وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب ، وترك القيام بها ؛ فوظيفة ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ [ على القلب قبل الجوارح ، فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولابد ؛ وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها ، وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر ، وقد تكون كبائر ، بحسب قوتها وغلظها ، وخفتها ودقتها .
ومن الصغائر أيضًا : شهوة المحرمات وتمنيها ؛ وتتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهى ؛ فشهوة الكفر والشرك : كفر ؛ وشهوة البدعة : فسق ، وشهوة الكبائر : معصية ؛ فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب ، وإن تركها عجزًا بعد بذله مقدوره في تحصيلها ، استحق عقوبة الفاعل ، لتنزله منزلته في أحكام الثواب والعقاب ، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ، ولهذا قال النبي e : " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ " قـالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ ؛ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " ( [1] ) . فنزله منزلة القاتل في الإثم لا في الحكم ، لحرصه على قتل صاحبه ؛ وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب . وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه .
ومعنى كلامه – رحمه الله : أن المستحب ترك تمني فضول مباحات الشهوة ، وأما مباح الشهوة فتمنيه مباح ما لم يخرج عن حد القصد ، والعلم عند الله تعالى ...... وللحديث صلة .

[1] - رواه أحمد : 5 / 43 ، 46 ، 48 ، والبخاري ( 31 ، 6875 ، 7083 ) ، ومسلم ( 2888 ) . وأبو داود ( 4268 ، 4269 ) ، والنسائي ( 4120 : 4123 ) ، وابن حبان ( 5981 ) عن أبي بكرة . ورواه أحمد : 4 / 401 ، والنسائي ( 4118 ، 4119 ، 4124 ) ، وابن ماجة ( 3964 ) عن أبي موسى . ورواه ابن ماجة ( 3963 ) عن أنس .
 
حظ اللسان من العبودية لله
اللسان عضو مهم جدًا في حياة الإنسان ؛ فالمرء بأصغريه : قلبه ولسانه ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ ، فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " ( [1] ) ؛ وقوله : " تُكَفِّرُ اللِّسَانَ " أَيْ تَتَذَلَّلُ وَتَتَوَاضَعُ لَهُ ؛ وَالتَّكْفِيرُ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنْ الرُّكُوعِ ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ ( [2] ) ؛ والمعنى : خف الله في حفظ حقوقنا ، فلا تقتحم منهيًا فنهلك معك ، فإنما نحن نستقيم ونعوج تبعا لك ؛ فإن استقمت على الصراط المستقيم استقمنا معك ؛ وإن مِلتَ عن الاعتدال ، ملنا عنه ؛ قال ابن القيم في ( الفوائد ) : وإنما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء ؛ وقولها : " فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ " أي : نجاتنا بك وهلاكنا بك ، ولهذا قالت : " فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " ( [3] ) .ا.هـ .
فأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح : اللسانُ ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه ؛ وقد قال النبي e لمعاذ t : " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " ( [4] ) .
وأما ما اختص به اللسان من أعمال تجري عليها الأحكام الخمسة ، وتشكل في مجموعها عبودية اللسان ، فهي - كما يقول ابن القيم : واجبها : النطق بالشهادتين ، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن ، وهو ما تتوقف عليه صحة صلاته ؛ وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة ؛ ومن واجبه رد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وأداء الشهادة المتعينة ، وصدق الحديث .
وأما مستحبها : فتلاوة القرآن ، ودوام ذكر الله ، ومذاكرة العلم النافع ، وتوابع ذلك .
وأما ما يحرم عليه : فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله ؛ كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله ، والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها ، وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول ، والكذب وشهادة الزور ، والقول على الله بغير علم ، وهو أشدها تحريمًا .ا.هـ . قلت : ويدخل في ذلك كل ما يكتبه القلم من مخالفة شرعية ، أو دعوة إلى إباحية ، أو دفاع عن منهج علماني أو نحو ذلك مما انتشر في كثير من وسائل الإعلام ؛ إذ القلم هو اللسان الثاني ، وهو يُظهر مكنونات صاحبه ؛ وقد قال العلماء : إن للفكر عورات كما أن للجسم عورات ؛ وكما يجب ستر عورات الجسم ، فإنه يجب ستر عورات الفكر ؛ ولا شك أنه يدخل فيما حرَّم الله على اللسان ما يبث في وسائل الإعلام المسموعة والمنظورة من نطق لما يبغضه الله ورسوله ، ومن كلام يدعو إلى إشاعة الفاحشة ، ومن دعوات مخالفة لما بعث الله به رسوله e .
ويكره له : التكلم بما تركه خير من الكلام به ، مع عدم العقوبة عليه .ا.هـ .
ولم يذكر - رحمه الله - ما يباح للسان ؛ إذ هو معروف ، فالمباح من الكلام مباح ؛ وهو ما ليس بواجب ولا حرام ولا مستحب ولا مكروه ؛ ككلام الإنسان في بيعه وشرائه ومعاملاته ، وفي بيته ونحو ذلك .

[1] - أحمد : 3 / 95 ، والترمذي ( 2407 ) ، وأبو يعلى ( 1185 ) ؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ( 2871 ) .

[2] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ( مادة ك ف ر ) .

[3] - الفوائد ص 57 .

http://vb.tafsir.net/tafsir32521/#_ftnref4[ 4 ] – أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 11394 ) ، وابن ماجة ( 3973 ) ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 20 / 130 ، 131 ( 266 ) ، والحاكم : 2 / 412 ، 413 وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .
 
حظ الحواس من العبودية لله
من المعلوم أن الحواس خمسٌ ، وهي : حاسة السمع ، وحاسة البصر ، وحاسة الشم ، وحاسة الذوق ، وحاسة اللمس ؛ وهذه الحواس نعم عظيمة من نعم الله تعالى ؛ وهبها Y الإنسانَ ليتمكن بها من إدراك ما حوله ، وليستعين بها على فهم الحق والعمل به .
وقد جعل الله - جلت قدرته - لهذه الحواس آلات مختلفة تعمل بكيفية لم يستطع العلم أن يصل إلى معرفة كنهها - على الحقيقة - إلى اليوم ، إنما هي نظريات تتوالى في محاولة لفهم سر عمل أجهزة هذه الحواس ، وإذا كُشف للعاملين في حقل البحث في هذه الأسرار عن سر منها ، وضعوا نظرية تهدم سابقتها أو تصحح بعض ما فيها ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وآلة السمع هي الأذن ، وبها يدرك الإنسان الأصوات ويميز بينها ؛ وآلة البصر هي العين ، وبها يرى الإنسان ما حوله ويميز بين المرئيات ؛ وآلة الشم هي الأنف ، وبها يميز الإنسان بين المشمومات ؛ وآلة الذوق : اللسان ، وبه يميز الإنسان بين المطعومات والمشروبات ؛ وآلة اللمس هي الجلد ؛ وغالبا ما تكون اليد ، وبها يميز الإنسان الليونة والخشونة والحرارة والبرودة ، والصلابة والرخاوة .. الخ ؛ وحقيقة هذه الحواس أنها أجهزة متكاملة داخل آلتها المعدة لها .
ومن قدرة الله سبحانه وتعالى أن جعل لكل حاسة من هذه الحواس آلية عمل تختلف عن غيرها ، فلكل عضو من هذه الآلات خلايا وأعصاب ومستقبلات خاصة به ، تتمايز فيما بينها ؛ كما أن لكل منها موقع ارتباط خاص بالدماغ ، لا يشارك الحاسة شيء فيه ، ولا تتأثر الحواس الأخرى في حالة إصابة موقع إحداها في الدماغ ، مع وجود ارتباط بين هذه الحواس ؛ فسبحان من خلق فسوى ، وقدر فهدى .
ولما كانت هذه الحواس جزء من الإنسان الذي هو عبد لله تعالى ، كان لكل حاسة من هذه الحواس حظها من العبودية .
حاسة السمع وحظها من العبودية لله :
السمع نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على الإنسان ؛ فبها يدرك الأصوات من حوله ويميز بينها ؛ وهذا أمر مهم جدًا في حياة الناس ؛ إذ الناس إنما يتعاملون مع بعضهم البعض على أساس التفاهم بالمخاطبة ، وهذا يعتمد على نعمة السمع ، كما يعتمد على نعمة الكلام ؛ كما أن في الكون أصوات أخرى يدركها الإنسان بحاسة السمع ، لها دلالات تنذر الإنسان أو تبشره ؛ فصوت الرعد وصوت الانفجار ، وصوت السقوط القوي ، وصوت الحيوان الضاري ؛ هذه أصوات منذرة ؛ وهناك أصوات أخرى مبشرة ومطمئنة ؛ كصوت المطر ، وصوت خرير الماء ، وصوت الطيور ، وصوت الحيوانات الأليفة ... الخ ؛ ومن آيات الله تعالى في الإنسان أنه يميز بين هذه الأصوات وغيرها ، بل قد يسمع أصواتًا مختلطة فيميزها أيضًا ؛ فلله الحمد والمنة .
واعلم - علمني الله وإياك الخير - أن عملية السمع عملية معقدة ؛ فكل شيء يتحرك يحدث صوتًا ، ويتكون الصوت من اهتزازات لجزيئات الهواء التي تنتقل في موجات ، ثم تدخل هذه الموجات إلى الأذن التي هي آلة السمع ، حيث تتحول إلى إشارات عصبية ترسل إلى الدماغ ، الذي يقوم بدوره بترجمة هذه الموجات إلى أصوات يميز صاحبها بعضها عن بعض ؛ فهذا صوت عصفور ، وهذا صوت ماء ، وهذا صوت حركة ، وهذا صوت ارتطام ، وهذا صوت إنسان ، وهذا صوت حيوان ... الخ .. وأما كيف يتم تحويل هذه الموجات إلى أصوات مميزة عند كل شخص ؛ فهذا مما حار فيه العلماء ؛ فسبحان الذي خلق كل شيء بحكمة ولحكمة ، وتبارك الذي وسع علمه كل شيء .
وهذه النعمة العظيمة ( حاسة السمع ) لها عبادات خاصة بها - فكما يقول ابن القيم : على السمع وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه ؛ من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما ، وكذلك استماع القراءة في الصلاة الجهرية ، واستماع الخطبة يوم الجمعة ، في أصح قولي العلماء .ا.هـ . فهذه واجبات السمع .
ويحرم عليه : استماع الكفر والبدع ، إلا حيث يكون استماعه مصلحة راجحة من رده [ أي رد الكفر والبدعة ] أو الشهادة على قائله ؛ وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ، ما لم يكن متضمنًا لحق لله يجب القيام به ، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه ؛ وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن ، إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة ، أو معاملة ، أو استفتاء ، أو محاكمة ، أو مداواة .. أو نحوها ؛ وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو ، ولا يجب سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه ، إلا إذا خاف السكون والإنصات ، فحينئذٍ يجب لتجنب سماعها وجوبَ سد الذرائع .
وأما السمع المستحب : فكاستماع المستحب من العلم ، وقراءة القرآن ، وذكر الله ، واستماع كل ما يحبه الله ، وليس بفرض .
والمكروه : عكسه ، وهو : استماع كل ما يُكره ولا يعاقب عليه .
والمباح : ظاهر .ا.هـ . كمباح الكلام - وهو الذي خلا من الواجب والمحرم والمستحب والمكروه - فهذا يباح استماعه ؛ كما يباح استماع أصوات المخلوقات الأخرى غير الإنسان .
 
حاسة النظر وحظها من العبودية لله
نعمة البصر من أعظم النعم المادية على الإنسان ، فبها يرى ما حوله ، فيحذر المحذور ، وينجو من الصدمات ، ويسلم من الحفر ؛ ويرى المحب والمبغض ، والصديق والعدو ، ويشاهد أمور حياته التي بها يعيش ؛ ويتأمل في مخلوقات ربه ؛ ويميز بين الجميل والقبيح ، والحسن والسيئ ، والنافع والضار ، والنازل والصاعد ، .. الخ .
وتعتبر حاسة البصر أكثر الحواس الخمس تعقيدًا في عملها ، فهي تجمع بين الاستقبال الحسِّي والتمييز الدقيق ؛ فإن أشعة الضوء التي تعبر حدقتي العينين إلى الشبكتين - في مؤخر العينين - تكوِّن صورتين مسطحتين ثنائيتي الأبعاد ، ثم يتم تحويل هاتين الصورتين إلى دفعات كهربائية ، تنتقل عبر العصب البصري لكل عينٍ إلى أجزاء من الدماغ ، حيث يتم تفسيرها على صورتها الواقعية ؛ فالمعلومات التي استقبلتها مستقبلات الرؤية تنتقل إلى الدماغ ، ثم تترجم في الدماغ إلى الصورة التي يراها صاحبها ؛ وكل ذلك لا يستغرق وقتا زمنيا ملموسًا أو محسوسًا ؛ وهي عملية تجري بكيفية حار فيها العلماء ، ولم يصلوا بعد إلى حقيقتها ، وإنما هي نظريات بعضها أقرب من بعض ، تتغير كلما كُشف لهم عن سر من أسرار هذه الحاسة ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وهذه الحاسة أيضًا لها أعمال خاصة بها تشكل عبوديتها لربها ؛ وهي تجري عليها الأحكام الشرعية الخمسة : الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والحرام .

فأما النظر الواجب - كما يقول ابن القيم رحمه الله : فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها ، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها ، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز .. بينها ونحو ذلك .
والنظر الحرام : النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقًا ، وبغيرها إلا لحاجة : كنظر الخاطب والمستام والمعامل والشاهد والحاكم والطبيب وذي المحرم ؛ وكذلك النظر إلى العورات ؛ وهي قسمان : عورة وراء الثياب ، وعورة وراء الأبواب . ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء ، وذهبت هدرًا بنص رسول الله e في الحديث المتفق عليه : " مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ " ( [1] ) ؛ وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله ، كعورة له هناك ينظرها [ أي : زوجة أو أمة ] ، أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الإطلاع عليها .
والمستحب : النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانًا وعلمًا ، والنظر في المصحف ، والنظر في آيات الله المشهودة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته .
والمكروه : فضول النظر الذي لا مصلحة فيه ، فإن له فضولاً كما للسان فضولاً ، وكم قاد فضولهما إلى فضول أعيا دواؤها ، وقال بعض السلف : كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام .
والمباح : النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ، ولا منفعة .

[1] - البخاري ( 6902 ) ، ومسلم ( 2158 ) عن أبي هريرة t .
 
.................................... حاسة التذوق وحظها من العبودية لله
من النعم العظيمة التي منَّ الله بها على الإنسان ؛ التمييز بين أنواع المطعومات والمشروبات ؛ من حلو ومر ، وعذب ومالح ، وحامض وقلوي قابض ، على تفاوت بين ذلك في الشدة والضعف ؛ بل والشعور بطعم يختلف عن هذه المفردات إذ خلط بعضها ببعض .
والمسؤول عن تمييز هذه الخصائص هو جهاز التذوق ؛ وتسمى الحاسة التي تقوم بذلك : حاسة التذوق ؛ وآلية إحساسنا بتذوق ما نضع في الفم من طعام أو شراب تعطي للمتأمل تصويرًا لعظيم قدرة الله تعالى في خلقه ؛ حيث تنتشر على اللسان حلمات التذوق ؛ وهي عبارة عن حزمة من النهايات العصبية تُسمى ( براعم التذوق ) ، مختلفة الشكل والحجم ، تحتوى على خلايا حسية قادرة - بآلية خاصة - على ملاحظة اختلاف ما يحتويه الطعام أو الشراب من مواد حلوة أو مرة أو مالحة أو حامضة أو مخلوطة ؛ وينتج عن تفاعل هذه الخلايا مع ملامسة أجزاء الطعام أو الشراب نوعية من الشحنات الكهربائية فيما بين داخل خلية التذوق وخارجها ، مما يؤدي إلى سريان نوع من التيار الكهربائي أو الإشارات العصبية ، التي تبدأ من خلايا التذوق وتمر في الأعصاب حتى تصل إلى المخ ، الذي بدوره يترجم ذلك إلى إحساسٍ لدى الإنسان عما تناوله للتو في فمه ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ولنعمة التذوق أعمال خاصة بها ، ويجري عليها - أيضًا - الأحكام الخمسة المتقدم ذكرها ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : أما الذوق الواجب : فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت ، فإن تركه حتى مات ، مات عاصيًا قاتلاً لنفسه ؛ قال الإمام أحمد : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار ؛ وكذلك تناول الدواء إذا تيقن النجاة به من الهلاك .
والذوق الحرام : كذوق الخمر ، والسموم القاتلة ، والذوق الممنوع منه للصوم الواجب .
وأما المكروه : فكذوق الشبهات ( [1] ) ، والأكل فوق الحاجة ، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها ؛ وفي السنن أن رسول الله e نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ ( [2] ) .
والذوق المستحب : أكل ما يعينك على طاعة الله U ، مما أذن الله فيه ؛ والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل ، فينال منه غرضه ، والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها .
والذوق المباح : ما لم يكن فيه إثم ، ولا رجحان .ا.هـ . أي : إذا خلا المطعوم والمشروب من الحرام فهو مباح ؛ وأما رجحان الإثم فهو غلبة الظن أن المطعوم أو المشروب حرام ، إذا كان مترددًا بين الحل والحرمة ؛ فإن كان غلبة الظن أنه ليس بحرام ، فهو مباح الذوق .

[1] - كطعام فيه شبهة حرام ، سواء أكان في المال المشترى به ، أو في كونه متردد بين حل وحرمة ؛ كالعصير الذي أصبح متغيرًا ، لا يدرى أوصل إلى حد الخمر أم لا ؛ فإن كانت غلبة الظن أنه تحول إلى خمر فحرام ؛ وإلا فهو مكروه .

[2]- أبو داود ( 3754 ) ، والطبراني في الكبير : 11 / 340 ( 11942 ) ، والحاكم ( 7170 ) وصححه ، وكذا صححه الألباني في الصحيحة ( 627 ) .
 
حاسة الشم وحظها من العبودية لله
هذه الحاسة هي - أيضًا - من نعم الله العظيمة على بني آدم ؛ إذ بها يميز الرائحة الطيبة من الخبيثة ، على درجاتٍ في كل واحدة منهما .
وتعتبر هذه الحاسة من أكثر حواس الإنسان غرابة واستعصاء على الفهم ، وقد صنفها العلماء كحاسة كيميائية ، أي : إنها تعتمد في عملها على تأثير المواد الكيميائية ؛ ولم يستطيعوا إلى الآن تفسير السر في قدرتها على التمييز بين الروائح المختلفة .
وعملية الشم تبدأ مع دخول الجزيئات المتطايرة الدقيقة جدًا إلى فتحة الأنف ، فتصل إلى منطقة تسمى ( المنطقة الشمية ) ، حيث تذوب هذه الجزيئات في الطبقة المخاطية الرقيقة المحيطة بهذه المنطقة ، ثم تقوم بروتينات خاصة موجودة في المنطقة المخاطية بنقلها إلى المستقبلات الشمية ، التي يقدر عددها بحوالي عشرة ملايين مستقبل ، والتي تتصل بدورها بالأعصاب الشمية التي تتجمع في منطقة واحدة تسمى ( البصلة الشمية ) التي ترسل هذه الأعصاب إلى المخ ، حيث يتم تحليل الرائحة والتعرف عليها ؛ ويدخل ضمن عملية الشم هذه عدد كبير من العمليات الكيميائية والجينية التي ما زال العلم الحديث عاجزًا عن فك طلاسمها ومعرفة أسرارها ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
ولهذه النعمة - أيضا - أعمالها الخاصة بها ، ويجري عليها - أيضا - الأحكام الخمسة المتقدم ذكرها ؛ فالشم الواجب - كما يقول ابن القيم : كل شم تعيَّن طريقًا للتمييز بين الحلال والحرام ، كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة ؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه ؟ وأن يميز به بين ما يملك الانتفاع به وما لا يملك .
وأما الشم الحرام : فالتعمد لشم الطيب في الإحرام ، وشم الطيب المغصوب والمسروق ، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه .
وأما الشم المستحب : فشم ما يعينك على طاعة الله ، ويقوي الحواس ، ويبسط النفس للعلم والعمل ، ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك ، ففي صحيح مسلم : " مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ ، خَفِيفُ الْمَحْمَلِ " ( [1] ) .
والمكروه : كشم طيب الظَلَمَة وأصحاب الشبهات ، ونحو ذلك .
والمباح : ما لا منع فيه من الله ولا تبعة ، ولا فيه مصلحة دينية ، ولا تعلق للشرع به .


[1] - مسلم ( 2253 ) ، ورواه أحمد : 2 / 320 ، وأبو داود ( 4172 ) واللفظ له ، النسائي ( 5259 ) ، عن أبي هريرة t .
 
حاسة اللمس وحظها من العبودية لله تعالى
نحن نحس الأشياء ونميز بينها بواسطة اللمس ، فنستطيع أن نتعرف على المواد إذا كانت ساخنة أم باردة , ملساء أم خشنة , طرية أم صلبة ، حادة أم غير حادة ... إلى غير ذلك ؛ بل ويستشعر الإنسان ألَمًا وراحة عن طريق حاسة اللمس أيضًا ، فمثلا في الجو البارد يشعر الإنسان بالراحة إذا اغتسل بماء حار ؛ في حين إذا ازدادت الحرارة عن حدها يستشعر ألما وضيقًا ؛ وفوق ذلك يستشعر الإنسان لذة بملامسة زوجه .
ويتم هذا الشعور المختلف عن طريق حاسة اللمس بآلية عجيبة تترجم هذه الأنواع من اللمسات إلى ما يمكن أن يستشعره الإنسان منها ، دون خطأ أو تأخير ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وإذا كانت حواس الشم والإبصار والتذوق والسمع تعتمد كلها على أجهزة خاصة تحتل أماكن صغيرة في أجزاء معينة في رأس الإنسان ؛ فحاسة اللمس تستند إلى أكبر عضو في الجسم وهو الجلد الذي تبلغ مساحته 21 قدمًا مربعة ، بداخله شبكة هائلة من الموصلات والمجسات العصبية أشبه بشبكة رادار ؛ ففي كل بوصة مربعة من الجلد 650 غدة عرقية ، تعتبر أحد أقسام جهاز التكييف في الجسم ؛ لذلك فإن حاسة اللمس التي تبدو بسيطة هي أكثر تعقيدًا من سائر الحواس ، فهي تنبئنا بهوية كل ما نلمسه من صلابة أو نعومة ، وتعطينا صفاته العامة من حرارة أو برودة ، أو سماكة - إلى غير ذلك من الصفات - دون حاجة إلى رؤيته بصريًّا .. وهناك حالات إنسانية كثيرة مشهورة بين الناس لكثير من العميان تعبر عن القدرات الكامنة في هذه الحاسة ؛ ففاقد البصر يعتمد على حاسة اللمس في كثير من أموره .
والآلية التي تعمل بها حاسة اللمس آية من آيات الله تعالى ؛ فيوجد تحت سطح الجلد ملايين من الألياف العصبية الحسية المزودة بمستقبلات هي المسؤولة عن اللمس ؛ وتعمل هذه الأعصاب الحسية على نقل إشارات من جلد الإنسان إلى حبله الشوكي ؛ ومن ثم إلى دماغه ، الذي بدوره يقوم بترجمة تلك الإشارات إلى طبيعة الغرض الذي يلمسه ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وحاسة اللمس لها من الأعمال التي تظهر عبوديتها لله تعالى ، ويجري عليه ما جرى على غيرها من الحواس من الأحكام الخمسة الشرعية :
فاللمس الواجب : كلمس الزوجة حين يجب جماعها .
والحرام : لمس ما لا يحل من الأجنبيات .
والمستحب : إذا كان فيه غض بصره ، وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله .
والمكروه : لمس الزوجة في الإحرام للذة ، وكذلك في الاعتكاف وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه ؛ ولمس فخذ الرجل إذا قلنا أنه عورة .
والمباح : ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
 
حظ اليد والرجل من العبودية لله ​
اليدان والرجلان من جوارح الإنسان وأركانه التي يعتمد عليها في أداء الغالب من أعماله وحركته وسعيه .
وهذه الجوارح هي من نعم الله تعالى العظيمة على الإنسان ؛ فلو فقد إنسان أحد هذه الأطراف لتأثرت بذلك حياته كلها ، وأصبح به نسبة من العجز العملي والكسبي .
ومن الحكمة في خلق هذه الأعضاء ، تيسير حركة الإنسان لأداء ما كلفه الله به من أعمال في هذه الدنيا ، وليقوم بعبادة ربه  شكرًا لبعض نعمه عليه .
ولهذه الجوارح كغيرها من أعضاء الإنسان أعمال خاصة بها تكتمل بها عبوديته لله تعالى ؛ فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب ، وكذلك لأداء دين على الصحيح ؛ ومنه إعانة المضطر ، ورمي الجمار ومباشرة الوضوء والتيمم .
والحرام : كقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ونهب المال المعصوم ، وضرب من لا يحل ضربه ، ونحو ذلك ، وكأنواع اللعب المحرم بالنص ؛ كالنرد ؛ ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفًا أو نسخًا ، إلا مقرونًا بردها ونقضها ؛ وكتابة الزور والظلم ، والحكم الجائر ، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب ؛ وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ، ولاسيما إن كسبت عليه مالاً :  فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ  [ البقرة : 79 ] ؛ وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله ، إلا أن يكون مجتهدًا مخطئًا فالإثم موضوع عنه .
وأما المكروه : فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام ، وكتابة ما لا فائدة في كتابته ولا منفعة في الدنيا والآخرة .
والمستحب : كتابة كل ما فيه منفعة في الدين ، أو مصلحة لمسلم ، والإحسان بيده بأن يعين صانعًا ، أو يصنع لأخرق ، أو يفرغ من دلوه في دلو المستقي ، أو يحمل له على دابته ، أو يمسكها حتى يحمل عليها ، أو فيما يحتاج إليه ، ونحو ذلك ؛ ومنه لمس الركن بيده في الطواف .
والمباح : ما لا مضرة فيه ولا ثواب .

وأما المشي الواجب : فالمشي إلى الجمعات والجماعات ، في أصح القولين ؛ والمشي حول البيت للطواف الواجب ، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه ، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه ، والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه ، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه ، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر .
والحرام : المشي إلى معصية الله ، وهو من رَجْل الشيطان ، قال تعالى :  وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ  [ الإسراء : 64 ] ، قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم ؛ فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس .ا.هـ . ولم يذكر الشيخ - رحمه الله - المكروه والمستحب والمباح .
والمشي المستحب : ما كان في طاعة غير واجبة ، كالمشي لحضور مجالس الذكر والوعظ ، أو لزيارة غير واجبة .. ونحو ذلك .
وأما المشي المكروه : فالمشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر ؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ - في الصحيحين - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : " لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا " ( 1 ) .
وأما المشي المباح : فإلى ما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين ، فيكون حكمه حكم ذلك الفعل .

( 1 ) البخاري ( 5855 ) ، ومسلم ( 2097 ) .
 
شمول العبادة لعمر الإنسان
تمتد العبادة مع الإنسان منذ ولادته وحتى مماته ، فإنما ولد عبدًا لله تعالى وإن لم يكن مكلفًا في مراحل عمره الأولى حتى يبلغ ؛ لكنه عبدٌ لله تعالى .. هكذا خلقه ربه Y ؛ ثم يؤمر بالعبادة من سن التمييز ليعتاد على أدائها ، ثم إذا بلغ سن التكليف سجلت له وعليه أعماله وأقواله ، وهكذا حتى يموت ؛ قال الله تعالى : ] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ [ ( الانفطار : 10 ، 11 ) ، وقال Y : ] مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ( ق : 18 ) .
وقد أمر الله تعالى نبيه e بعبادته حتى يأتيه أجله فقال U : ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ ( الحجر : 99 ) ؛ قال المفسرون : المعنى : واعبد ربك حتى يأتيك الموت ، الذي هو مُوقَن به ؛ أي : ما دمت حيًّا فلا تخل بالعبادة ؛ قال الزجاج - رحمه الله : معنى الآية : اعبد ربك أبدًا ، ولو قيل : اعبد ربك ، بغير توقيت ، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعًا .ا.هـ . وقال الرازي - رحمه الله : فإن قيل : فأي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟ قلنا : المراد منه : واعبد رَبَّكَ في زمان حياتك ، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة ، والله أعلم ( [1] ). قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله : أي قوم ! المداومةَ المداومة ، فإن اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ ( [2] ) .
فالعبادة ملازمة للعبد حتى يموت ؛ وتلك حال العبد مع ربه Y ، لا يخل وقت من أوقاته ، ولا حال من أحواله ، إلا وتتمثل فيه عبودية لله تعالى .
فائدة :
قال ابن كثير - رحمه الله : ويستدل بهذه الآية الكريمة : ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ على أن العبادة - كالصلاة ونحوها - واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلي بحسب حاله ، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله e قال : " صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ " ( [3] ) . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين : المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم ، وهذا كفر وضلال وجهل ؛ فإن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة ، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ( [4] ) .
وقال الشنقيطي - رحمه الله في ( أضواء البيان ) : اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين : المعرفة بالله جل وعلا ، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين - أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف ؛ لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة .
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة ، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين ؛ وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلاً ، بل يسمى لعبًا . ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابهم أعلم الناس بالله ، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا ، وأشدهم خوفًا منه وطمعًا في رحمته ؛ وقد قال جل وعلا : ] إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء [ [ فاطر : 28 ] ؛ والعلم عند الله تعالى ( [5] ) .

[1] - انظر تفسير الرازي عند الآية ( 99 ) من سورة الحجر .

[2] - انظر الزهد لابن المبارك ( 18 ) والزهد لابن أبي عاصم ص 272 .

[3] - البخاري ( 1117 ) ؛ ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة .

[4] - انظر تفسير ابن كثير عند الآية ( 99 ) من سورة الحجر .

[5] - انظر ( أضواء البيان ) للشنقيطي : 2 / 457 .
 
شمول العبادة لأحوال الإنسان
الإنسان في أحواله كلها من حركة وسكون لابد أن تظهر فيه صفة العبودية لله تعالى ؛ قال الله تعالى : ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ [ الأنعام : 162 ، 163 ] ، ولا يقوم بحق هذه العبودية إلا من علم الحق وطلب النجاة ؛ علم أن الله تعالى هو خالقه وموجده من العدم والمتفضل عليه بعظيم النعم ؛ فدعاه ذلك إلى توحيد ربه U ، وتصديق رسله تعالى ، والقيام بحق العبودية له Y ؛ طمعًا في مرضاته ورحمته وجنته ، وطلبًا للنجاة من عذابه .
ولا ينفك الإنسان في حياته عن أحد أمور ثلاثة : نِعَمٌ ، وابتلاءات ، وذنوب ؛ فالعبد لا ينفك عن أمر يفعله ، ونهي يتركه ، وقَدَرٍ يُجرى عليه ؛ وفرضه في الثلاثة الصبر والشكر ، ففعل المأمور هو الشكر ؛ وترك المحظور والصبر على المقدور هو الصبر ؛ فإن وقع في المحظور ففرضه الاستغفار والتوبة .
فكل حال من أحواله في الدنيا تقع تحت أحد هذه الأمور الثلاثة ؛ ومع كل واحد من هذه الأمور عبادة خاصة به ؛ فللنعم : الشكر ، وللابتلاءات : الصبر ، وللذنوب التوبة والاستغفار ؛ ولهذا قال من قال من السلف : إني أصبح بين نعمة وذنب ، فأريد أن أحدث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : فالصبر و الشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء و الضراء ، من النعم و المصائب ، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات ، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر ، والنعم بالشكر ، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير ، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله ، فيشهد القدر عند فعله للطاعات وعند إنعام الله عليه فيشكره ، ويشهده عند المصائب فيصبر ، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرًا تائبًا ، كما قال : ] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ ( غافر : 55 ) .ا.هـ ( [1] ) .
ونقل ابن تيمية - رحمه الله - عن الشَّيْخِ أَبُي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْقَادِرِ أنه قال فِي كِتَابِ ( فُتُوحِ الْغَيْبِ ) : لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَمْرٌ يَمْتَثِلُهُ ، وَنَهْيٌ يَجْتَنِبُهُ ، وَقَدَرٌ يَرْضَى بِهِ ؛ فَأَقَلُّ حَالَةٍ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِهَا قَلْبَهُ ، وَيُحَدِّثَ بِهَا نَفْسَهُ ، وَيَأْخُذَ بِهَا الْجَوَارِحَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ .ا.هـ .. ثم قال ابن تيمية : هَذَا كَلَامٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [ ( يوسف : 90 ) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [ [ آل عمران : 120 ] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ [ آل عمران : 186 ] ؛ فَإِنَّ التَّقْوَى تَتَضَمَّنُ : فِعْلَ الْمَأْمُورِ ، وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ ؛ وَالصَّبْرَ يَتَضَمَّنُ : الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ ، فَالثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ [ [ الذاريات : 56 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ [ الحجر : 99 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ [ البقرة : 21 ] ؛ وَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ أَمَرُوا قَوْمَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ [ النحل : 36 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ [ الزخرف : 45 ] .
وَإِنَّمَا كَانَتْ ( الثَّلَاثَةُ ) تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِفِعْلِ [ شَيْءٍ ] مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ ؛ وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تَحْدُثُ أَسْبَابُ الْمَعْصِيَةِ يَحْتَاجُ إلَى الِامْتِنَاعِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا فِعْلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ؛ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَخْطِرْ لَهُ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ عَدَمُ ذَنْبِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ الْمُسْتَمِرُّ لَا يُؤْمَرُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِأَمْرِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَذَاكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا ؛ سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثَ إيجَادِ أَمْرٍ أَوْ إعْدَامِ أَمْرٍ .
وَأَمَّا ( الْقَدَرُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ ) فَإِنَّهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْمَرَضِ أَوْ الْفَقْرِ أَوْ الْخَوْفِ ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ أَمْرَ إيجَابٍ ، وَمَأْمُورٌ بِالرِّضَا إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ ، وَإِمَّا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ ؛ وَلِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَنَفْسُ الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْمَصَائِبِ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ .
لَكِنْ هَذِهِ ( الثَّلَاثَةُ ) وَإِنْ دَخَلَتْ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَعِنْدَ التَّفْصِيلِ وَالِاقْتِرَانِ : إمَّا أَنْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : يُرَادُ بِهَذَا مَا لَا يُرَادُ بِهَذَا ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : ] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ [ هود : 123 ] ، وَقَوْلِهِ : ] فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [ [ طه : 14 ] ، فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْعِبَادَةِ ، وَعِنْدَ ( الِاقْتِرَانِ ) إمَّا أَنْ يُقَالَ : ذِكْرُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : ذِكْرُهُ خُصُوصًا يُغْنِي عَنْ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى : ] إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ [ الفاتحة : 5 ] ، وَقَوْلُهُ : ] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [ [ المزمل : 8 : 10 ] ، وَقَدْ يُقَالُ : لَفْظُ ( التَّبْتِيلِ ) لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْطُوفَةَ كَمَا يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ ، أَوْ عِنْدَ حُبّ الشَّيْءِ وَبُغْضِهِ .
وَكَلَامُ الشَّيْخِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَدُورُ عَلَى هَذَا الْقُطْبِ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ ، وَيَخْلُوَ فِيمَا سِوَاهُمَا عَنْ إرَادَةٍ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ غَيْرُ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْعَبْدُ بَلْ فَعَلَهُ الرَّبُّ U بِلَا وَاسِطَةِ الْعَبْدِ ، أَوْ فَعَلَهُ بِالْعَبْدِ بِلَا هَوَى مِنْ الْعَبْدِ ؛ فَهَذَا هُوَ الْقَدَرُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِهِ .ا.هـ ( [2] ) .
وصفوة القول : أن رحى عبودية العبد تدور على أمور ثلاثة : الشكر والصبر والاستغفار ؛ وسأحاول أن أبين ذلك في المباحث التالية ؛ بإذن الله تعالى .

[1] - انظر ( مجموعة الفتاوى ) : 8 / 327 ، 328 .

[2] - انظر مجموع الفتاوى : 10 / 455 : 459 .
 
عبادة الشكر

الشُّكْرُ : الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، فهو عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه ، ولا يكون إِلا عن يَدٍ ، أي : نعمة ، وقال ابن الأثير في ( النهاية ) : الشكرُ مُقابَلةُ النِّعمَة بالقَول والفِعل والنيَّة ؛ فيُثْنِي على المُنْعم بلِسانه ، ويُذِيب نفْسِه في طاعتِه ، ويَعْتَقِد أنه مُولِيها ( [1] ) .
وفي التنزيل العزيز في مدح نوح u : ] إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ ( الإسراء : 3 ) ، وفي الصحيحين عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! فَقَالَ : " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " ( [2] ) ؛ فالشَّكُورُ من عباد الله هو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأَدائه ما وَظَّفَ عليه من عبادته ؛ وقال الله تعالى : ] اعْمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً وقليلٌ من عِباديَ الشَّكُورُ [ ( سبأ : 13 ) نصب ( شُكْرًا ) لأَنَّهُ مفعول له ، كأَنه قال : اعملوا شكرًا ( [3] ) .
فأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته ؛ وهذا الشكر نصف الإيمان ؛ فالإيمان كما قال ابن مسعود t : نصفٌ صبر ونصفٌ شكر ؛ وهذا مأخوذ من قوله e : " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " ( [4] ) ؛ وفي توجيه ذلك قال ابن القيم : إن العبد فيه داعيان : داعٍ يدعوه إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها ، وداعٍ يدعوه إلى الله والدار الآخرة وما أعد فيها لأوليائه من النعيم المقيم ؛ فعصيان داعي الشهوة والهوى هو الصبر ، وإجابة داعي الله والدار الآخرة هو الشكر ( [5] ) .

دواعي عبادة الشكر

إذا علم العبد أن الله تعالى هو خالقه ، فنعمة وجوده في هذه الدنيا من الله U ، وكافة النعم التي أوليها وسخرت له هي من الله تعالى ؛ إذا علم ذلك ، كان ذلك داعيًا لأن يشكر واهب النعم Y على نعمه ؛ فالخير كله من الله كما قال تعالى : ] وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [ ( النحل : 53 ) ، وقال تعالى : ] وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [ ( الحجرات : 7 ، 8 ) ، وقال : ] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ ( الحجرات : 17 ) ، وقال تعالى : ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [ ( الفاتحة : 6 ، 7 ) ، وهؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون في قوله : ] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [ ( النساء : 69 ) .
فالنعم كلها هبة ومنة من مِنَنِ الله Y وفضله على عبده ؛ وسواء في ذلك ما يتعلق بنعمة الإيجاد والإمداد ، أو بنعمة الهداية والإرشاد ؛ كل ذلك من الله تعالى ؛ أفلا يستوجب ذلك أن يجتهد العبد ويستفرغ وسعه في شكر ربه Y ؟! ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل ، وكذلك نقيضه وهو الكفر ، عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل ؟
ونِعَم الله الكريم كثيرة جليلة يعجز المرء عن حصرها ، ولذلك يعجز عن شكرها ؛ قال الله تعالى : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ ( إبراهيم : 34 ) ، وقال Y : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ ( النحل : 18 ) ؛ وقد علم الله سبحانه عجز عباده عن شكر نعمه فوصفهم باللائق بهم فالإنسان ظلوم لنفسه كفور لنعم ربه ؛ وأبى U إلا أن يتفضل على عباده بمقابلة ظلمهم لأنفسهم وكفرهم لنعم ربهم بالمغفرة والرحمة ؛ لمن كان مطيعًا ولحقه تقصير لضعفه البشري ، فقابل قوله في الآية الأولى : ] إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ بقوله في الآية الثانية : ] إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ ، فالحمد لله حمدًا يليق بكرم وجهه وعظيم سلطانه ، سبحانه لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه .
فإذا علم العبد ما يستحقه الله من الشكر الذي لا يستحقه غيره ، صار علمه بأن الحسنات من الله يوجب له الصدق في شكر الله والتوكل عليه ؛ ولو قيل : إنها من نفسه لكان غلطًا ، لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل ، وما كان لعمله فيه مدخل فإن الله هو المنعم به ، فإنه لا حول و لا قوة إلا بالله ، ولا ملجأ و لامنجى منه إلا إليه ( [6] ) .
من هنا لابد أن يعلم أن الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته Y ، فهو المتفضل بالخلق .. المتفضل بالنعم .. المتفضل بقبول استغفار عبده .. المتفضل بإثابة عبده على شكره ؛ ولله در القائل :

هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة الـنار لم تضـرم


أليس من الواجب المستحــق على الورى الشكر للمنعم

فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يُعبد ويُجَلَّ ويُحبَّ ويُعظَّمَ فهو لذاته مستحق للعبادة ( [7] ) .ا.هـ .
هذا ، والعلم عند الله تعالى ، وللحديث صلة .
[1] - انظر لسان العرب باب الراء فصل الشين ؛ والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة ش ك ر ) .

[2] - البخاري ( 1130 ، 4836 ، 6471 ) ، ومسلم ( 2819 ) ، وغيرهما عن المغيرة ، ورواه البخاري ( 4837 ) ، ومسلم ( 2820 ) وغيرهما بنحوه عن عائشة رضي الله عنها .

[3] - انظر لسان العرب باب الراء فصل الشين ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ش ك ر ) .

[4] - رواه مسلم ( 2999 ) عن صهيب t .

[5] - انظر ( عدة الصابرين ) ص 90 .

[6] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 14 / 341 ؛ وجاحمة النارِ ، أَي : توقُّدُها .

[7] - انظر ( مدارج السالكين ) : 2 / 76 .
 
كيفية الشكر
عبادة الشكر عبادة عظيمة تشمل عمل القلب واللسان والجوارح ؛ فإن أصل الشكر - كما يقول ابن القيم - هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة ، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها ، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكِر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضا ، ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها ؛ فلابد في الشكر من علم القلب ، وعمل يتبع العلم ، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له ( [1] ) .
من هنا كان لابد في شكر النعم من أمور حتى يكون العبد شاكرًا أو شكورًا :
أحدها : معرفة الرب جل وعلا وتوحيده ، والعلم بأنه U مسدي هذه النعم ومسخرها لخلقه ؛ وأنه وحده المستحق للعبادة ، فيجتهد العبد في ذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله .
ثانيا : اللهج ( [2] ) بحمد الله وشكره بالقلب واللسان والجوارح .
ثالثا : أن تصرف النعمة في طاعة المنعم Y ؛ فالشكر تشاركت فيه طوائف الناس من مسلمين وغيرهم ، ومن سعة رحمة الباري سبحانه أن عدَّه شكرًا ، ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة ؛ لكن إذا علمت حقيقة الشكر وأن جزء حقيقته : الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته ، علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة ، وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم ، نعم لغيرهم منها بعض أركانه وأجزائه ، كالاعتراف بالنعمة ، والثناء على المنعم بها ؛ فإن جميع الخلق في نعم الله ، وكل من أقر بالله ربا وتفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه ، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته ؛ وقد كتبت عائشة – رضي الله عنها - إلى معاوية t : إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه : أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته ( [3] ) .ا.هـ ولله در القائل :
أَنَالَكَ رِزْقَهُ لِتَقُومَ فيهِ بطا ... عَتِهِ وتَشْكُرَ بعضَ حَقِّهْ
فلمْ تَشْكُرْ لنعمتِهِ ولكنْ ... قَويِتَ على معاصِيهِ برزقِهْ
فنعمة الصحة تنفق في الجهاد ، ونصرة المظلوم ، وإعانة من يحتاج إلى معاونة ، واستعمال البدن في طاعة الله تعالى من فرائض ونوافل .
ونعمة المال ؛ لابد فيها من أمرين مهمين ، الأول : أن تكتسب بطريق حلال ، والثاني : أن تنفق في طرق الحلال ؛ فمن شكر نعمة المال : إنفاقه في سبيل الله تعالى ، على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ؛ وكذلك إنفاقه في الجهاد ؛ ومن شكر هذه النعمة ألا يبخل على نفسه ولا على من يعول إن كان ذا سعة ؛ قال الله تعالى : ] وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [ ( الإسراء : 26 ) ، وقال تعالى : ] وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ ( الفرقان : 67 ) .
فشكر نعمة المال إنفاقه في ما يحب المنعم Y ، وكفران هذه النعمة إنفاقه فيما لا يحبه Y ؛ ولعبد الله بن المبارك :
إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَهَا ... فإنَّ المعاصيَ تُزيلُ النعمْ
وداومْ عليها بشكرِ الإله ... فشُكْرُ الإلهِ يُزِيلُ النِّقَمْ
وهكذا نعمة البصر ، ونعمة السمع ، ونعمة الكلام ، ونعمة التذوق ، ونعمة الشم ، وقد تقدم ما يتعلق بعبودية كلٍ .
وهكذا كل نعمة يقتضي شكرها أن تصرف في طاعة المنعم Y .

[1] - انظر ( طريق الهجرتين ) : 1 / 168 : 170 .

[2] - لَهِجَ بالأَمر لَهَجًا : أُولِعَ به واعْتادَه .

[3] - انظر ( مدارج السالكين ) : 2 / 253 .
 
عموم عبادة الشكر لقلب الإنسان ولسانه وجوارحه
مما سبق يتبين أن عبادة الشكر تعم القلب واللسان والجوارح ؛ ومن هنا قال الله تعالى : ] اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ ( سـبأ : 13 ) ، وقال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فاليد للطاعة ، وهي كناية عن عمل الجوارح ، واللسان للثناء ، والضمير ، أي : القلب ، للحب والتعظيم .
قـال ابن تيمية - رحمه الله : مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ؛ قَـالَ اللَّهُ تَعَالَى : ] اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [ ، وَقَامَ النَّبِيُّ e حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " ( [1] ) ... وَبَابُ سُجُودِ الشُّكْرِ فِي الْفِقْهِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ e عَنْ سَجْدَةِ سُورَةِ ( ص ) : " سَجَدَهَا داود تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا " . ( [2] ) .ا.هـ .
ولما كانت عبادة الشكر بهذه المكانة العظيمة وهذا العموم الذي يشمل القلب واللسان والجوارح ، قال ابن القيم - رحمه الله : ومقام الشكر جامع لجميع مقامات الإيمان ، ولذلك كان أرفعها وأعلاها ، وهو فوق الرضا ، وهو يتضمن الصبر من غير عكس ، ويتضمن التوكل والإنابة والحب والإخبات والخشوع والرجاء ، فجميع المقامات مندرجة فيه ، لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ، ولهذا كان الإيمان نصفين : نصف صبر ، ونصف شكر ؛ والصبر داخل في الشكر ، فرجع الإيمان كله شكرا ، والشاكرون هم أقل العباد كما قال تعالى : ] وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ ( سـبأ : 13 ) .ا.هـ ( [3] ) .
فائدة :
قال ابن القيم – رحمه الله : إن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب ، مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، وإن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنِّه وصدقته على عبده أن أعانه عليها ، ووفقه لها ، وخلق فيه إرادتها ، والقدرة عليها ، وحببها إليه ، وزينها في قلبه ، وكره إليه أضداها ؛ ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ، ولا هي على قَدْرِه Y ، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه ، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها ، فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم ، كما ثبت ذلك عن النبي e ، ولهذا نفى النبي دخول الجنة بالعمل ، كما قال e : " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ " وفي لفظ : " لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ " وفي لفظ : " لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ " قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ " ( [4] ) ؛ وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله : ] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ ( النحل : 32 ) ؛ ولا تنافي بينها ، إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد ، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنا وعوضًا لها . ا.هـ ( [5] ) .

[1] - متفق عليه ، وتقدم تخريجه .

[2] - انظر مجموع الفتاوى : 11 / 135 ، 136 باختصار .

[3] - مدارج السالكين : 1 / 137 .

[4] - رواه أحمد في مواطن منها : 2 / 256 ، 326 ، والبخاري ( 5673 ، 6463 ، 6467 ) ومسلم ( 2816 ) ، وابن ماجة ( 4201 ) عن أبي هريرة y .

[5] - انظر ( مدارج السالكين ) : 1 / 94 ، 95 .
 
عبادة الصبر
يحتاج الإنسان في أموره كلها إلى الصبر ؛ فإذا كان الصبر ثلاثة أقسام : إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها ، وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها ، وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها ، وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة ، فالصبر لازم له أبدا ، لا خروج له عنه البتة ( [1] ) .
ولما كان الإيمان نصفين : نصف صبر ، ونصف شكر - كما تقدم - كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين ، ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين ، وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ، ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين ( [2] ) ؛ وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - اعتبارات لهذا التنصيف ، منها : إن الإيمان اسم لمجموع القول والعمل والنية ، وهى ترجع إلى شطرين : فعل وترك ؛ فالفعل هو العمل بطاعة الله ، وهو حقيقة الشكر ؛ والترك هو الصبر عن المعصية ، والدين كله في هذين الشيئين ؛ فعل المأمور ، وترك المحظور .
ومنها : أن الإيمان قول وعمل ؛ والقول : قول القلب واللسان ، والعمل : عمل القلب والجوارح ، وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ، ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنا ، كما قال عن قوم فرعون : ] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ ( النمل : 14 ) ، وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح : ] وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [ ( العنكبوت : 38 ) ، وقال موسى لفرعون : ] قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [ ( الإسراء : 102 ) ، فهؤلاء حصل قول القلب ، وهو المعرفة والعلم ولم يكونوا بذلك مؤمنين ؛ وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنا ، بل كان من المنافقين ؛ وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمنًا حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة ، فيحب الله ورسوله ، ويوالى أولياء الله ويعادى أعداءه ، ويستسلم بقلبه لله وحده ، وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته والتزام شريعته ظاهرا وباطنا ، وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به .
فهذه الأركان الأربعة [ العلم بالقلب ، والإقرار باللسان ، واستسلام القلب لله وحده ، والانقياد لمتابعة الرسول e وطاعته ] هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه ، وهى ترجع إلى علم وعمل ، ويدخل في العمل كف النفس الذي هو متعلق النهى ، وكلاهما لا يحصل إلا بالصبر ، فصار الإيمان نصفين : أحدهما الصبر ، والثاني متولد عنه من العلم والعمل .
ومنها : إن الدين كله رغبة ورهبة ، فالمؤمن هو الراغب الراهب ، قال تعالى : ] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ ( الأنبياء : 90 ) ، وفي الدعاء عند النوم الذى رواه البخارى في صحيحه : " اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ » الحديث ( [3] ) . فلا تجد المؤمن أبدًا إلا راغبًا وراهبًا ، والرغبة والرهبة لا تقوم إلا على ساق الصبر والشكر ، فرهبته تحمله على الصبر ؛ ورغبته تقوده إلى الشكر .
ومنها : إن جميع ما يباشره العبد في هذه الدار لا يخرج عما ينفعه في الدنيا والآخرة ، أو يضره في الدنيا والآخرة ، أو ينفعه في أحد الدارين ويضره في الأخرى ؛ وأشرف الأقسام أن يفعل ما ينفعه في الآخرة ويترك ما يضره فيها ، وهو حقيقة الإيمان ؛ ففعل ما ينفعه هو الشكر ، وترك ما يضره هو الصبر .
ومنها : إن الدين مبنى على أصلين : الحق والصبر ، وهما المذكوران في قوله تعالى : ] وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ ( العصر : 3 ) ؛ ولما كان المطلوب من العبد هو العمل بالحق في نفسه وتنفيذه في الناس ، وكان هذا هو حقيقة الشكر ، لم يمكنه ذلك إلا بالصبر عليه ؛ فكان الصبر نصف الإيمان ، والله سبحانه وتعالى أعلم ا.هـ ( [4] ) .
إذا علم هذا علم أن الصبر لا ينفك عنه قول ولا عمل للمؤمن ؛ وأنه كما قال النبي e : " وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ " ( [5] ) .

[1] - انظر ( طريق الهجرتين ) : 1 / 400 .

[2] - انظر ( عدة الصابرين ) ص 5 .

[3] - البخاري ( 247 ، 6311 ) ، ومسلم ( 2710 ) .

[4] - انظر عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 88 : 90 ، باختصار .

[5] - رواه البخاري ( 1469 ، 6470 ) ، ومسلم ( 1053 ) وغيرهما عن أبي سعيد y .
 
عبادة الصبر في السراء والضراء

الابتلاء من سنن الحياة ولوازمها ، وهو يشمل الخير والشر والسراء والضراء ؛ فليس الابتلاء - كما يفهم البعض - خاص بالضراء فقط ، بل هو عام في السراء والضراء ، في الخير والشر ؛ قال الله تعالى : ] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [ ( الأنبياء : 35 ) ؛ وقال تعالى : ] فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [ ( الفجر : 15 ، 16 ) ؛ فبينت الآية من سورة الأنبياء أن الابتلاء واقع في الخير والشر ؛ كما بينت آيات سورة الفجر مثالا من هذا الابتلاء وهو أن إكرام الله ونعمته على عبده بكثرة المال إنما هو ابتلاء ؛ وكذلك التضييق على العبد في رزقه وإقلال ماله إنما هو ابتلاء ؛ وهكذا كل أحوال العبد هي ابتلاء : فالصحة ابتلاء ، والمرض ابتلاء ، وأسباب الفرح والسرور ابتلاء ، وأسباب الحزن والكرب ابتلاء .
وكذلك جعل الله Y كل شيء في هذه الحياة ابتلاء للبشر ، قال الله تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [ ( هود : 7 ) ، وقال U : ] إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ ( الكهف : 7 ) ، وقال Y : ] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ ( الملك : 2 ) ، وقال سبحانه : ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [ ( الأنعام : 165 ) .

والمؤمن في حياته يبتلى بأمور كثيرة من سراء وضراء وخير وشر ؛ والعجب أن كثيرا من الناس لا يعدُّون الابتلاء إلا في الضراء ، مع أن الابتلاء في السراء أشد ، إذ النعم قد يغفل معها الإنسان ، بل قد يطغى ؛ قال الله تعالى : ] إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ ( العلق : 6 ، 7 ) . وفي سنن الترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ؛ ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ ( [1] ) .

والحكمة من الابتلاء في السراء لينظر الله تعالى ما يفعل عباده فيما أعطاهم من أسباب السراء كالمال والصحة والعافية والولد ونحو ذلك ... أيشكرون أم يكفرون ؟ ومن هنا قال سليمان u عندما وجد عرش بلقيس مستقرا عنده : ] هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[ ( النمل : 40 ) .
وأما الابتلاء في الضراء فلينظر الله U ما يصنع عباده : أيصبرون أم يجزعون ؛ روى أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنَ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ ، وَمَنْ جَزَعَ فَلَهُ الْجَزَعُ " ( [2] ) ؛ والمعنى فمن صبر فله أجر الصبر ، ومن جزع فله جزاء الجزع . وروى الترمذي وابن ماجة عَنْ أَنَسٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ : " عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ " ( [3] ) ؛ ويحتمل المعنى هنا أمرين ؛ الأول : من رضي بالقضاء فله الرضا من الله تعالى ؛ ومن سخط فعليه من ربه السخط ؛ الثاني : من رضي بالقضاء فله أجر الرضا ، ومن سخط فله جزاء السخط . وقال ابن مسعود t : إن الله تبارك وتعالى بقسطه وحلمه جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ( [4] ) .
وقد أقسم الله تعالى أنه ليبلون خلقه ؛ ثم بشَّر الصابرين ، قال الله تعالى : ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [ ( البقرة : 155 ) .
من ذلك يترتب أمران :
الأول : أن الابتلاء مما لا ينفك عنه إنسان سواء أكان في ضراء أم في سراء .
الثاني : أن الصبر هو عبادة الإنسان عند الابتلاء عموما ، وذلك في السراء والضراء ، وعلى ذلك فالصبر يدخل في جميع عبادات العبد ؛ وذكر الرازي في تفسيره عن أهل السنة قولهم : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات ، كأنه يقول : تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات ( [5] ) .ا.هـ .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - رواه الترمذي ( 2464 ) وحسنه ، ورواه عبد الرزاق ( 20996 ) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وفيه قصة .

[ 2 ] - رواه أحمد : 5 / 427 ، 428 ، 429 ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 2 / 291: ورجاله ثقات .ا.هـ . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ( 3406 ) .

[ 3 ] - التِّرْمِذِي ( 2396 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 4031) وصححه الباني في صحيح الترمذي ، وصحيح ابن ماجة .

[4] - الرضا عن الله بقضائه ( 93 ) .

[5]- انظر تفسير الرازي عند الآية ( 98 ) من سورة الحجر .
 
أهل الجنة والصبر
بالصبر على التكاليف الشرعية وعلى الإيذاء في الله تعالى يصل أهل الإيمان إلى الجنة ؛ قال الله تعالى : ] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [ ( المؤمنون : 111 ) ، وقال U : ] أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [ ( الفرقان : 75 ) ، وقال Y : ] وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [ ( الإنسان :12) ، وقال جلَّ وعلا : ] وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [ ( الرعد : 22 ) ، ويخاطبهم الملائكة في الجنة : ] سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ ( الرعد : 24 ) .
 
الصبر والشكر عبادتان متلازمتان
مما سبق يتضح أمر مهم في حياة الإنسان ألا وهو أن الصبر والشكر عبادتان متلازمتان ، فالصبر نعمة من الله تعالى تحتاج إلى شكر ، والشكر عمل بالقلب واللسان والجوارح يحتاج إلى صبر ، فالمؤمن في غالب حياته يكون شاكرًا صابرًا ؛ كما سبق في حديث صهيب t : " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " .
يقول ابن القيم - رحمه الله : فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر ؛ والذي يوضح هذا هو أن العبد لا يخلو قط من أن يكون في نعمة أو بلية ، فإن كان في نعمة ففرضها الشكر والصبر : أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها ، وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها ، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها ، فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى ؛ ومن هنا يعلم سر مسألة الغني الشاكر والفقير الصابر ، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر ، وأنه قد يكون صبر الغني أكمل من صبر الفقير ، كما قد يكون شكر الفقير أكمل ، فأفضلهما أعظمهما شكرا وصبرا ، فإن فضل أحدهما في ذلك فضل صاحبه ؛ فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به ، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به ؛ فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر ، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر ؛ وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر أيضا : أما الصبر فظاهر ، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية ، فإن لله على العبد أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا ؛ فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر ما دام سائرا إلى الله ( [1] ) .ا.هـ . ولمحمود الوراق :
عَطِيَّتُُهُ إذا أَعْطَى سرورٌ ... وإنْ أَخَذَ الذي أَعْطَى أَثَابَا
فأيُّ النعمتينِ أعمُّ فضلاً ... وأَحْمَدُ في عواقِبِها إِيَابَا
أنِعْمَتُهُ التي أَهْدَتْ سُرُورًا ... أم الُأخرَى التي أهدتْ ثَوابَا
بل الأُخرى وإنْ نزلتْ بكرهٍ ... أحقُّ بشكرِ مَنْ صبرَ احتسابا
وقال ابن تيمية - رحمه الله : مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ : فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ ؛ وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ : فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ ، وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ ؛ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا ، ] وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ ( البقرة : 216 ) ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ : " وَاَللَّهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " ، وَإِذَا كَانَ هَذَا وَهَذَا ، فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ ؛ أَمَّا نِعْمَةُ الضَّرَّاءِ فَاحْتِيَاجُهَا إلَى الصَّبْرِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ السَّرَّاءِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ، وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ ؛ وَفِي الْحَدِيثِ : " أَعُوذ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى " ؛ وَالْفَقْرُ يَصْلُحُ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَالْغِنَى : لَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ إلَّا أَقَلُّ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ ، لِأَنَّ فِتْنَةَ الْفَقْرِ أَهْوَنُ ، وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ : اللَّذَّةُ ، وَفِي الضَّرَّاءِ : الْأَلَمُ ، اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ ، وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ ؛ قَالَ تَعَالَى : ] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ . وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ . إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ ( هود : 9 : 11 ) ؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ ، وَصَاحِبَ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا : وَاجِبٌ إذَا تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ ؛ وَأَمَّا صَبْرُ صَاحِبِ السَّرَّاءِ : فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا ، وَلَكِنْ لِإِتْيَانِهِ بِالشُّكْرِ - الَّذِي هُوَ حَسَنَاتٌ - يَغْفِرُ لَهُ مَا يَغْفِرُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ؛ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الضَّرَّاءِ لَا يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ شُكْرًا يَصِيرُ بِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ ؛ وَقَدْ يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي الشُّكْرِ مِمَّا يُغْفِرُ لَهُ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ جَمِيعًا يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا : يَصْبِرُ عَلَى الْأَلَمِ وَيَشْكُرُ عَلَى النِّعَمِ ؛ وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يظْهَرُ الْإِنْعَامَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ؛ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ ( [2] ) .
وصفوة القول : لما كان الإنسان بين نعمة يجب شكرها ، وهذا الشكر يعم عمل القلب واللسان والجوارح ، ويقتضي عمل هذه الثلاثة صبرًا لأدائه ، وصبرًا لتكميله ، وصبرًا لإخلاصه لله تعالى ، كان الصبر ملازما للشكر ؛ ولما كان الصبر عطاء من الله تعالى فهو نعمة يجب شكرها ، كان الشكر ملازما للصبر ؛ ولما كان كل متعلق بالشكر أو بالصبر هو من جهةٍ نعمة ، ومن جهةٍ ابتلاء ، كان الصبر والشكر عبادتان متلازمتان .

[1] - انظر طريق الهجرتين : 1 / 399 ، 400 .

[2] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 14 / 304 : 306 .
 
عبادة الاستغفار والتوبة
إذا وقع العبد في معصية ، وجب عليه الاستغفار والتوبة ، فالعبادة المطلوبة منه إذا خالف أمر ربه أن يعود إليه نادمًا مستغفرًا منيبًا عازمًا على ألا يعود للمعصية ؛ وهي عبادة لا ينفك عنها ابن آدم ، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " ( [1] ) .
والذنوب كما تقدم إحدى الحالات الثلاث التي تدور عليها حياة الإنسان ؛ فإذا ما وقع فيه عبد وجب عليه أن يتوب ويستغفر .
والاستغفار في اللغة استفعال من الغفر ، وأصل الغفر التغطية والستر ، فالغفر والمغفرة التغطية من الذنوب والعفو عنها . والألف والسين والتاء للطلب ، فالاستغفار طلب المغفرة ، فالمستغفر طالب لمحو ذنبه وإزالة أثره ووقاية شره ، ويستلزم ذلك ستره ، وهو نوع دعاء ؛ والله تعالى هو الغفور الغفار وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر ، وذنب منه يحتاج فيه إلى استغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما ، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجا إلى التوبة والاستغفار ؛ ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال : قال تعالى : ] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [ ( آل عمران : 17 ) قال بعضهم : أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار ، وفي الصحيح أن النبي e كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ، وقال : " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " ؛ وقال تعالى : ] فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [ إلى قـوله : ] وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ ( البقرة : 198 ، 199 ) ، ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار كما قال الله تعالى : ] الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا [ الآية (هود : 1 : 3 ) ، وقال تعالى : ] فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [ ( فصلت : 6 ) ، وقال تعالى : ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [ ( محمد : 19 ) ، ولهذا جاء في الحديث : "يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار " ، وقال يونس : ] لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [ ( الأنبياء : 87 ) ، وكان النبي e إذا ركب دابته يحمد الله ، ثم يكبر ثلاثا ، ويقول : " لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي " ؛ وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس والوضوء : " سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " .ا.هـ ( [2] ) .
والاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار ، وقد مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة ؛ قال بعض العارفين : من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره ؛ وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص t عن النبي e قال : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " ( [3] ) ؛ وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : وقوله تعالى : ] وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [ ( آل عمران : 135 ) ، فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب ، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب ( [4] ) .

[1] - أحمد : 3 / 198 ، والترمذي ( 2499 ) ، وابن ماجة ( 4251 ) ، والحاكم ( 7616 ) وصححه ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي وابن ماجة .

[2] - التحفة العراقية : 1 / 79 ، 80 .

[3] - أحمد : 2 / 165 ، 219 ، وعبد بن حميد ( 320 ) ، والبخاري في الأدب ( 380 ) ، والطبراني في مسند الشاميين ( 1055 ) ، والبيهقي في الشعب ( 7236 ، 11052 ) ؛ وجود إسناد المسند : المنذري في الترغيب : 3 / 202 ، وحسن إسناده الحافظ في فتح الباري : 1 / 137 ( الريان للتراث ) ، وانظر السلسة الصحيحة ( 482 ) . قال ابن الأثير في النهاية : أقماع جمع قمع ، شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئا مما يفرغ فيها ، فكأنما يمر عليهم مجازا ، كما يمر الشراب في الأقماع اجتيازا . ا.هـ .

[4] - فتح الباري : 11 : 99 .
 
أقسام الناس في مقام العبودية
الناس في مقام العبودية لله تعالى أحزاب ثلاثة ؛ حزبان مذمومان ، وحزب ممدوح ؛ أما الحزب الأول : فحزب لا يدعون الله تعالى لا في سراء ولا في ضراء ولا يتوبون إليه ولا يستغفرونه ، فهم في غيهم سادرون ؛ وأما الثاني فحزب يدعونه في الضراء ويتوبون إليه ، لكن إذا كشف الضر عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر أو المعصية .
وأما الحزب الممدوح فهم الذين يعبدون ربهم شاكرين صابرين ، فإذا وقع بعضهم في شيء من المخالفة تابوا وأنابوا واستغفروا لذنوبهم ، وعلموا أنه لا يغفر الذنوب إلا الله تعالى ؛ فقاموا بحق العبودية في جميع الأحوال بشكر وصبر واستغفار وتوبة .
قال ابن تيمية - رحمه الله : فَذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِزْبَيْنِ : حِزْبًا لَا يَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ ، وَلَا يَتُوبُونَ إلَيْهِ ؛ وَحِزْبًا يَدْعُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ ، فَإِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ مِنْ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ ؛ فَهَذَا الْحِزْبُ نَوْعَانِ : حِزْبٌ إذَا نَزَلَ بِهِمْ الضُّرُّ لَمْ يَدْعُوا اللَّهَ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا إلَيْهِ ، وَلَمْ يَتُوبُوا إلَيْهِ ؛ كَمَا قَالَ : ] وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ ( الأنعام : 42 ، 43 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [ ( المؤمنون : 76 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [ ( التوبة : 126 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ ( السجدة : 21 ) ؛ وَحِزْبٌ يَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ ، فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ] وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ ( يونس : 12 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [ ( فصلت : 51 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [ ( الإسراء : 67 ) وَقَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ : ] ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ . ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [ ( النحل : 53 ، 54 ) .
وَالْمَمْدُوحُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ وَيَثْبُتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي حَالِ السَّرَّاءِ ، فَيَعْبُدُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَهُمْ أَهْلُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : ] وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [ ( الأنبياء : 87 ، 88 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ . قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ ( ص : 34 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ . إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ . فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ( ص : 21 : 25 ) ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ : ] فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ . قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ ( الأعراف : 22 ، 23 ) ( [1] ) .
فهذا الحزب الثالث هم عباد الرحمن ، الذين دانوا له بالوحدانية ، وقاموا له بحق العبودية ، وعلموا أن لله تعالى في كل حال عبودية ترضيه ، فقاموا بذلك شاكرين له Y في حال النعمة ، صابرين على ما كلفهم به وعلى ما ابتلاهم به ، مستغفرين تائبين من التقصير والذنوب ؛ جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه .

[1] - انظر مجموع الفتاوى : 14 / 370 : 373 .
 
أنواع العبادات
شاء الله تعالى أن تكون عبادة الخلق له أنواعًا متعددة ، وقد ذكرنا تقسيمًا حسب أحوال العباد من نعمة أو ابتلاء أو ذنوب ؛ فكان عبادة الشكر ، وعبادة الصبر ، وعبادة الاستغفار والتوبة ؛ وهذا التقسيم يشمل كل حياة العبد ، ويندرج تحته كل تقسيم آخر ، وهو المراد من رسالتنا هذه ، فإن العبودية لله تعالى لا تتحقق إلا بذلك ، وعلى قدر النقص من ذلك يكون العبد ناقص العبودية لله تعالى .
وتنقسم العبادات في عمومها إلى عبادات عامة ، وعبادات خاصة .
فالعبادات العامة هي كل أمر أو نهي يشترك فيه جميع العباد من ذكر وأنثى على اختلاف طبقاتهم وفهومهم ، مثل الصلاة وما يتعلق بها من الوضوء والغسل وإزالة النجاسات وغير ذلك من شروطها ونحو ذلك مما ليس فيه خصوصية لأحد ؛ ومثل النهي عن الزنا والربا والسرقة وغير ذلك .
وأما العبادات الخاصة : فهي عبادات تختص بمن يوجد فيه محلها ، فمثل أحكام الحيض والنفاس للنساء ، وكذلك أحكام العدة الخاصة بهن .
ومثل ما يختص به البعض دون البعض ؛ فعلى الغني من العبادة مما يختص بالمال ، ما ليس على الفقير ؛ كأداء الزكاة والحج مثلا .
وعلى العالم من العبادة نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله e ما ليس على الجاهل ، وعليه من العبادة بالصبر على ذلك ، ما ليس على غيره .
وعلى الحاكم من العبادة : إقامة الشرع والحق ، وتنفيذه وإلزام من هو عليه به ، والصبر على ذلك والجهاد عليه ، ما ليس على غيره من سائر المحكومين .
وهكذا هناك عبادات خاصة من أبواب فروض الكفايات تتعين على البعض دون البعض .
 
التقسيم بحسب الأحكام العملية
يقسم الفقهاء الأحكام العملية بين عبادات وعادات ، أو بين عبادات ومعاملات ، ويقصدون بالعبادات هنا العبادات المحضة التي تكلموا عنها في كتب الفقه ؛ وتنقسم هذه العبادات حسب أدائها إلى خمسة أنواع :
1- عبادة قلبية : كالإخلاص والنية .
2- عبادة قولية : كتلاوة القرآن والذكر والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان .
3- عبادة بدنية : كالصلاة والصيام .
4- عبادة مالية : كالزكاة والصدقة والنفقة في سبيل الله .
5- عبادة بدنية مالية : كالحج والجهاد .
 
تحقيق العبودية لله تعالى
كيف يحقق العبد العبودية لله تعالى ؟ هذا هو الأمر العملي الذي يجب على العاقل أن يقوم به بعد قراءته لهذه الرسالة ، وأول هذه الخطوات العملية أن يعلم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، وأن الله تعالى سيسأله وسيجازيه على عمله بالإحسان إحسانًا وبالإساءة سوءًا ؛ وكثير من الناس غافلون عن معرفة هذه الحقيقة ، فمن هنا يقع منهم التفريط والإسراف ؛ والعاقل المسرف قد يفيق إذا ذُكِّر ؛ وتاريخ التائبين ملئ بالأمثلة ، غير أن الذي يقع مناسبا لهذا المقام ، هو ما ذكر في توبة بشر بن الحارث ( [1] ) - رحمه الله ؛ فقد ذكر ابن قدامة - رحمه الله - في كتاب ( التوابين ) أن بِشْرًا كان في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويطيبون ، فاجتاز بهم رجل من الصالحين ، فدق الباب ، فخرجت إليه جارية فقال : صاحب هذه الدار حر أو عبد ؟ فقالت : بل حر ! فقال : صدقت ! لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب ؛ فسمع بِشْرٌ محاورتهما ، فسارع إلى الباب حافيًا حاسرًا ، وقد ولى الرجل ؛ فقال للجارية : ويحك ! مَن كلمك على الباب ؟ فأخبرته بما جرى ، فقال : أي ناحية أخذ الرجل ؟ فقالت : كذا ؛ فتبعه بِشْرٌ حتى لحقه ، فقال له : يا سيدي ! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية ؟ قال : نعم ، قال : أعد علي الكلام ، فأعاده عليه ؛ فمرَّغ بشرٌ خديه على الأرض وقال : بل عبدٌ ! عبدٌ ! ثم هام على وجهه حافيًا حاسرًا حتى عرف بالحفاء ؛ فقيل له : لم لا تلبس نعلاً ؟ قال : لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات .ا.هـ . والشاهد من القصة قول الرجل الصالح : صاحب هذه الدار حر أو عبد ؟ فقالت : بل حر ! فقال : صدقت ! لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب .. ثم قول بشر : بل عبدٌ ، عبدٌ ؛ فكانت بداية توبته ، أن عرف أنه لله عبد ، فتاب وأقلع ، وحقق العبودية .
فمن عرف أنه عبد لله تعالى ترتب على ذلك أنه يقوم بحق العبودية له Y ؛ فيأتمر بما أمر الله تعالى وينتهي عما نهى ؛ ولا يتحقق ذلك في الواقع إلا بإيمان صادق ، وتوحيد خالص لله تعالى بأقسامه الثلاثة : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ؛ فإن الإذعان للأمر والنهي إنما يتأتى من دافع داخلي ووازع إيماني .
فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ يتعلق بالخلق والملك والتصريف والتدبير ؛ فلا خالق إلا الله ، ولله ملك السماوات والأرض ، وهو سبحانه الذي يدبر أمر ملكه ويتصرف في خلقه ، ولا ينازعه في ذلك أحد ؛ ومما يترتب على أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ - كما يقول ابن تيمية - أنه لَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ؛ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قُدِّرَ سَبَبًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مُعَوِّقٍ ، فَإِذَا طُلِبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ، طُلِبَ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ ، كَأَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَيَخْلُقُهُ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ ؛ فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، وَمَا سِوَاهُ لَا تَسْتَلْزِمُ إرَادَتُهُ شَيْئًا ؛ بَلْ مَا أَرَادَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِ ، إنْ لَمْ يُعِنْهُ الرَّبُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ ، وَنَفْسُ إرَادَتِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ] لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ ( التكوير : 28 ، 29 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : ] فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ ( الإنسان : 29 : 31 ) وَقَالَ : ] فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [ ( المدثر : 55 ، 56 ) . ا.هـ ( [2] ) .
فمن عرف ذلك لزمه اللجوء إلى الله تعالى ، وألقى بحمله عليه Y ، راغبًا راهبًا ، راجيًا خائفًا ، مستعينا مستغيثا ، داعيا مستغفرًا ، تائبا منيبا ، عابدًا طائعًا ... فيحقق عبوديته لله تعالى .
ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، إذ توحيد الإلهية يستلزم إفراده سبحانه بالعبادة والطاعة ؛ فيحصل للعبد بهذا الحياة الطيبة في الدنيا ، وينال الأجر العظيم في الآخرة ، قال الله تعالى : ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ ( النحل : 97 ) . وعندئذ لو أصيب العبد بشيء من البلاء علم - كما قال ابن تيمية - أن مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ ، فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ ، وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجَدْبِ ، أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ ، وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَالٌ أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك ؛ وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ . وَفِي بَعْضِ الإسرائيلِيَّاتِ : يَا ابْنَ آدَمَ الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك ( [3] ) .ا.هـ . إلى أن قال : فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ تَوْحِيدِ قُلُوبِهِمْ إلَى اللَّهِ ، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، لَا يُحِبُّونَ شَيْئًا إلَّا لَهُ ، وَلَا يَتَوَكَّلُونَ إلَّا عَلَيْهِ ، وَلَا يُوَالُونَ إلَّا فِيهِ ، وَلَا يُعَادُونَ إلَّا لَهُ ، وَلَا يَسْأَلُونَ إلَّا إيَّاهُ ، وَلَا يَرْجُونَ إلَّا إيَّاهُ ، وَلَا يَخَافُونَ إلَّا إيَّاهُ ، يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ عِنْدَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ ، وَعِنْدَ الْخَلْقِ بِلَا هَوًى ؛ قَدْ فَنِيَتْ عَنْهُمْ إرَادَةُ مَا سِوَاهُ بِإِرَادَتِهِ ، وَمَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ ، وَخَوْفُ مَا سِوَاهُ بِخَوْفِهِ ، وَرَجَاءُ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ ، وَدُعَاءُ مَا سِوَاهُ بِدُعَائِهِ ، هُوَ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ إلَّا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ ؛ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ ، وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( [4] ) .
وأما توحيد الأسماء والصفات فعليه تقوم حياة المؤمن القلبية والبدنية ، الدنيوية والأخروية ، إذا تمام توحيد الربوبية والألوهية بتوحيد الأسماء والصفات ، وبمعرفة حقيقتها ، وأن الله تعالى متصف بكل كمال وجلال وجمال ، فيعيش المؤمن مع فهم حقيقي بأسماء الله تعالى وصفاته ، ليحقق العبودية لله تعالى ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : فلا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب Y ، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه ، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام ، وقاعدة الإيمان ، وثمرة شجرة الإحسان ، فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان ، فضلا عن أن يكون من أهل العرفان ، وقد جعل الله سبحانه مُنْكِرَ صفاته مسيء الظن به ، وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر ، فقال تعالى : ] وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ ( فصلت : 22 ، 23 ) ؛ فأخبر سبحانه أن إنكارهم هذه الصفة من صفاته من سوء ظنهم به ، وأنه هو الذي أهلكهم ، وقد قال في الظانين به ظن السوء : ] عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ (الفتح: من الآية6) ، ولم يجيء مثل هذا الوعيد في غير من ظن السوء به سبحانه ؛ وجحْدُ صفاته وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به ... إلى أن قال : والرسل من أولهم إلى خاتمهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أرسلوا بالدعوة إلى الله ، وبيان الطريق الموصل إليه ، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه ؛ فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول ، فعرَّفوا الرَّبَ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفًا مفصلاً ، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه ، يكلم ملائكته ، ويدبر أمر مملكته ، ويسمع أصوات خلقه ، ويرى أفعالهم وحركاتهم ، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم ، يأمر وينهى ، ويرضى ويغضب ، ويحب ويسخط ، ويضحك من قنوطهم وقرب غِيَره ( [5] ) ، ويجيب دعوة مضطرهم ، ويغيث ملهوفهم ، ويعين محتاجهم ، ويجبر كسيرهم ، ويغني فقيرهم ، ويميت ويحيي ، ويمنع ويعطي ، يؤتى الحكمة من يشاء ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، ] كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ ( الرحمن : 29 ) : يغفر ذنبا ، ويفرج كربًا ، ويفك عانيًا ، وينصر مظلومًا ، ويقصم ظالِمًا ، ويرحم مسكينًا ، ويغيث ملهوفًا ، ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ، ويجريها على نظامها ، ويقدِّم ما يشاء تقديمه ، ويؤخر ما يشاء تأخيره ، فأزمة الأمور كلها بيده ، ومدار تدبير الممالك كلها عليه ، وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة .... إلى أن قال : فالإيمان بالصفات ومعرفتها ، وإثبات حقائقها ، وتعلق القلب بها ، وشهوده لها ، هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته ، وهو روح السالكين وحاديهم إلى الوصول ، ومحرك عزماتهم إذا فتروا ، ومثير هممهم إذا قصروا ، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد ، فمن كان لا شاهد له فلا سير له ولا طلب ولا سلوك له ؛ وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم ، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه ؛ كما قالت عائشة – رضي الله عنها : من رأى رسول الله فقد رآه غاديًا رائحًا ، لم يضع لبنة على لبنة ، ولكن رفع له علم فشمر إليه ( [6] ) ؛ ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله U له بفضله ومنه علما يشاهده بقلبه فيشمر إليه ويعمل عليه فإن عطلت شواهد الصفات ، ووضعت أعلامها عن القلوب ، وطمست آثارها ، وضربت بسياط البعد ، وأسبل دونها حجاب الطرد ، وتخلفت مع المتخلفين ، وأوحى إليها القدر أن اقعدي مع القاعدين ، فإن أوصاف المدعو إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب الوصول إليه ، لأن القلوب إنما تحب من تعرفه ، وتخافه وترجوه ، وتشتاق إليه وتلتذ بقربه ، وتطمئن إلى ذكره ، بحسب معرفتها بصفاته ، فإذا ضُرب دونها حجاب معرفة الصفات والإقرار بها ، امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة وملزوم لها ، إذ وجود الملزوم بدون لازمه والمشروط بدون شرطه ممتنع ( [7] ) .
فمن يريد أن يحقق العبودية لله تعالى فلابد أن يحقق التوحيد في قلبه ، وأن يحققه في حياته ؛ أما تحقيقه في قلبه فبمعرفة الله تعالى ، وأما تحقيقه في حياته بالقيام بطاعة الله تعالى في شئونه كلها .
والمعرفة بالله تعالى – كما يقول ابن القيم رحمه الله – نوعان : معرفة إقرار ؛ وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي ؛ والثاني : معرفة توجب الحياء منه ، والمحبة له ، وتعلق القلب به ، والشوق إلى لقائه ، وخشيته ، والإنابة إليه ، والأنس به ، والفرار من الخلق إليه ؛ ولهذه المعرفة بابان واسعان : باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها والفهم الخاص عن الله ورسوله ؛ والباب الثاني : التفكر في آياته المشهودة ، وتأمل حكمته فيها ، وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه ( [8] ) .
والطاعة لله تعالى إنما تتفرع عن المعرفة به Y ، فينظر العبد بعد ذلك في أوامره فيسارع إلى العمل بها ، وينظر في نواهيه ، فيسارع إلى اجتنابها ، مخلصا لعمله ، محتسبا لأجره ؛ وهو في كل ذلك شاكرا لأنعم الله ، صابرًا على كل التكاليف ، مستغفرًا تائبًا مما قد يكون من تقصير أو زلل ؛ راغبًا فيما عند الله تعالى من الأجر والمثوبة راجيا لذلك ؛ راهبًا مما أعده الله U لمن خالف أمره وعصاه ، خائفًا أن يأخذه الله تعالى بذنبٍ .
هذا بإيجاز شديد هو تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى ، أعاننا الله تعالى والمسلمين على تحقيق العبودية له Y .

[1] - قال الذهبي في ( سير أعلام النبلاء : 10 / 469 وما بعدها ) : بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء ، الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة ، شيخ الإسلام ، أبو نصر المروزي ، ثم البغدادي ، المشهور بالحافي ... كان رأسا في الورع والإخلاص .

[2] - انظر مجموعة الفتاوى : 10 / 331 : 332 .

[3] - مجموعة الفتاوى : 10 / 332 : 333 .

[4] - مجموعة الفتاوى : 10 / 335 ، 336 .

[5] - أي : من يأسهم مع قرب تغير الحال .

[6] - لم أجده عن عائشة رضي الله عنها ؛ ورواه ابن أبي عاصم في الزهد ص 279 ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 154 ، وابن حبان في الثقات : 6 / 261، كلهم عن الحسن البصري رحمه الله .

[7] - مدارج السالكين : 3 / 350 ، 351 .

[8] - مدارج السالكين: 1 / 417 : 420 باختصار .
 
آثار العبادات

لعبادة الله أعظم الأثر في صلاح الفرد والمجتمع والكون كله ، فأما أثر العبادة على الكون وعلى البشرية عامة ؛ فهي سبب نظام الكون وصلاحه ، وسبيل سعادة الإنسان ورفعته في الدنيا والآخرة ، وكلما كان الناس أقرب إلىالعبادة كان الكون أقرب إلى الصلاح ، والعكس بالعكس ؛ فإن انهمكوا في المعاصي والسيئات وتركوا الواجبات والطاعات كان ذلك مؤذنا بخراب الكون وزواله ، أما ترى أن ظهور الفساد في البر والبحر بسبب معاصي الناس ؟ قال الله تعالى : ] ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ ( الروم : 41 ) ؛ ثم تدبر قوله تعالى : ] لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ وما فيه من الترجية لعود الصلاح إن هم رجعوا إلى الله تعالى وأنابوا وأطاعوا ؛ وقال الله تعالى : ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ ( الأعراف : 96 ) , وهي واضحة في بيان هذه المسألة ، وهي أن عبادة الله وتقواه سبب لصلاح الكون ونزول الخيرات من السماء وخروجها من الأرض ؛ وأن المعاصي سبب في أخذ الظالمين وانهيار نظام معايشهم .
ومن تأمل كيفأن القيامة لا تقوم إلا على شرار الخلق حين لا يقال في الكون كله : " الله ، الله " علم صحة ما ذكرنا .

فهذا فيما يتعلق بآثار العبادة على الكون كله ؛ وعلى البشرية جمعاء .
وأما ما يتعلق بالمجتمع ؛ فالعبادة بالنظر إلى مفهومها الشامل سبيل لصلاح المجتمع ؛ لأنها شاملة لكل أوجه الإصلاح الفردي والاجتماعي ، حيث إن كل عمل يقوم به الفرد أو تقوم به الجماعة يدخل في إطار العبادة ، وقد تقدم بيان ذلك ؛ وفوق ذلك فإن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة ، ودرء المفاسد التي تضيع علهم هذه المصالح ؛ ومن آثار ذلك أن يعيش المجتمع في آمان ، فيشيع العدل ويقل الظلم , ويأمن الناس على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم ونسلهم وعقولهم ، ذلك أن الحفاظ على هذه الأمور من صميم العبادة لله تعالى ؛ وهذه هي الضرورات الخمس التي تقوم عليها حياة الناس .

وأما ما يتعلق بالفرد ؛ فالعبادة هي حق الله على العباد ، شرعها ابتلاء لعبوديتهم له ، ورتب عليها جزاءً ، وجعل حقًّا عليه تعالى أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئًا ، كما في حديث معاذ المتقدم ؛ وهذا أعظم آثارها على الفرد ، فمن لم يعذبه الله تعالى فهو من أهل الفوز والنعيم المقيم ، قال الله تعالى : ] فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ [ ( آل عمران : 185 ) .
- فمن أهم آثارها القيام بحق الله تعالى وما يترتب عليه مما أوجبه الله على نفسه من أنه لا يعذب من عبده وحده ولم يشرك به .
- ومن آثارها راحة الروح وطمأنينة القلب ، فكما أن للجسد غذاء يحيى به ، فكذلك للروح غذاء يحيى به ، وغذاء الروح علوي كما أن الروح كذلك ؛ وغذاء البدن أرضي ؛ لأنه منها خلق ؛ قال الله تعالى : ] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ ( بالرعد : 28 ) .
- ومنها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ ( النحل : 97 ) .
- ومنها تحقيق حرية الإنسان ، فالعبودية لله عين الحرية ؛ فهي وحدها التي تعتق القلب من رق المخلوقين ، وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد ، وإن ظهروا - صورةً وشكلاً - بمظهر السادة الأحرار ، فما من عبدٍ استكبر عن عبادة الله U إلا وقع حتمًا فيعبودية غيره ؛ ولا يكون حرًّا طليقا إلا إذا تحرر من كل سلطان سوى سلطان الله تعالى ؛ فإن العزة لله تعالى : ] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [ ( فاطر : 10 ) .
هذا ما ظهر لي من تلكم الآثار الطيبة لعبادة الله تعالى ، ومن تدبر العبادة وشأنها ، فسيجد آثارها تعم الإنسان قلبًا وقالبًا ، وتعم الحياة أمنًا وسلامة ومحبة ورحمة ، ثم إن عاقبتها هي أعظم آثارها : رضوان الله والجنة ؛ جعلنا الله تعالى والمسلمين من أهل رضوانه بمنه وكرمه .
 
خاتمة
هذا ما أردت بيانه بإيجاز حول مفهوم العبادة ، وأرجو أن أكون قد وفقت في بيان هذه الإفادة ، وما كان في ذلك من صواب فمن الله تعالى وحده وله الحمد والمنة ، وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله تعالى منه ، ورحم الله تعالى من رأى فيه غلطًا فردنا إلى الصحيح فيه ، أو خطأ فأرشدنا الصواب فيه .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
هذا ، والعلم عند الله تعالى ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله ؛ والحمد لله أولاً وأخيرًا .
 
عودة
أعلى