حقيقة المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم

إنضم
09/01/2006
المشاركات
77
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الرياض
يُشْكل على بعض القراء والباحثين ما يجده من نسبة مصاحف متعددة للصحابة رضي الله عنهم في كتب التفسير وغيرها من ناحيتين:
الناحية الأولى: متى كانت هذه المصاحف؟ وإلى متى؟
الناحية الثانية: عن كُنْهِ هذه المصاحف، وهل هي مصاحف كاملة كالمصحف الإمام تبدأ من سورة الفاتحة إلى سورة الناس؟
وكل ما يتبع ذلك من تساؤلات.
ولحلِّ هذا الإشكال لابد من معرفة متى نشأت هذه الكلمة (مصحف)؟
وما معناها؟

وهنا يجدر التنبيه على ثمان مسائل قبل الدخول في حلَّ الإشكال وإن كان بعضها عند بعض القراء مسلمات ولكني أرى ضرورة التنبيه عليها لتنحلَّ العُقَد وينفض الإشكال؛ فالمسائل التالية حلقات متسلسلة آخذٌ بعضها بحجز بعض:

المسألة الأولى:
أن الله سبحانه قد تكفل بحفظ القرآن من التحريف بنوعيه اللفظي والمعنوي كما قال تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ وهذا مما خصَّ الله به القرآن الكريم، ووعدٌ من الله لا يتخلف، ولا يقف في طريقه شيء وإن اجتمعت الجن والإنس لتحول دونه.
وقد شمل حفظ الله للقرآن ثلاثة أحوال:
الحال الأول: حفظ القرآن قبل نزوله قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ قال ابن كثير:"في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل".
الحال الثاني: حفظ القرآن أثناء نزوله، قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ قال الضحاك(ت:105هـ):" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبَّه الشيطان على صورة الملك".
وقال تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ قال البقاعي:"﴿وَبِالْحَقِّ﴾ لا بغيره نزل هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلنا سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارئ، فليس فيه شيء من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين يسألهم قومك".
الحال الثالث: حفظ القرآن بعد نزوله، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ قال قتادة(ت:118هـ) وثابت(ت:127هـ):"حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً, أو يبطل منه حقاً"، وقال القرطبي:"فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظاً، وقال في غيره: ﴿ بما استحفظوا﴾ فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا ".

المسألة الثانية:
أن من حفظ الله لكتابه أن جعل الأصل فيه التلقي والمشافهة والحفظ بالصدور:﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ قال ابن كثير:"أي القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمراً ونهياً وخبراً، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيراً".
قال ابن تيمية:"والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن ربي قال لي أن قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب إذا يثلغوا رأسي -أي يشدخوا- فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً فابعث جنداً أبعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك) [أخرجه مسلم]، فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء؛ بل يقرؤه في كل حال..".
وقال ابن كثير:"أي لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل..".
وقال ابن الجزري:" ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب ، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ... وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظراً لا عن ظهر قلب..".

المسألة الثالثة:
أن إقراء القرآن قائمٌ على أصلين:
الأصل الأول: قراءة المتيسر من وجوه حروفه المتعددة رحمة وتيسيراً كما يدل عليه منطوق حديث الأحرف السبعة لمتواتر. قال صلى الله عليه وسلم:(إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)[أخرجه البخاري ومسلم].
الأصل الثاني: أن الأصل في القراءة التوقيف والاقتصار على التلقي والمشافهة. كما في القاعدة الشهيرة:(القراءة سنة ماضية يأخذها الآخر عن الأول).
وهذا الأصل مما أجمع عليه القراء من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم فقالوا:(القراءة سنة ماضية يأخذها الآخر عن الأول) ونحوها من العبارات والألفاظ.
وهذا ما عليه الواقع العملي لتاريخ الإقراء والقراءات عند أهل الأداء إلى اليوم بالإجماع وهو عدم الأخذ إلا بما اتصلت به المشافهة.
وهذا الإجماع مأخوذ مما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم:(أن يقرأ كل رجلٍ منكم كما أُقرِئ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف) وفي لفظ:( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم) [أخرجه أحمد 1/419 وهذا لفظه باختصار والخبر له قصة، وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/194، وأبو يعلى 8/470، والبزار -البحر الزخار- 2/99، وابن جرير في التفسير 1/22، والشاشي 2/105 -106، وابن مجاهد في السبعة 47، والآجري في الشريعة 1/472-473، وابن حبان -ترتيب ابن بلبان- 3/ 22- 23، والحاكم في المستدرك 2/223 – 224، وأبو عمرو الداني في جامع البيان 1/132- 133]
ولما سمع أبو وائل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرأ:﴿هيت لك﴾ قال له: ﴿ هئت لك﴾ قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إنما نقرؤها كما علمناها"[أخرجه البخاري].
فما في مصاحف المسلمين اليوم من سورة الفاتحة إلى سورة الناس الأصل فيه ما أخذه حفظةُ القرآن عن شيوخهم تلقياً ومشافهةً ولو تُرك وجهٌ من وجوه الإقراء كـ:(ضَعْف) أو (ضُعْف) وانقطعت المشافهة به لما صحَّ الإقراء به.
قال مكي ابن أبي طالب(438هـ) في الإبانة ص27-28 وهو يشير إلى هذين الأصلين :"الصحابة رضي الله عنهم كان قد تعارف بينهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ترك الإنكار على من خالفت قراءته قراءة الآخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا بما شئتم) ولقوله صلى الله عليه وسلم:(أنزل القرآن على سبعة أحرف كل شاف كاف) ولإنكاره صلى الله عليه وسلم على من تمارى في القرآن..فكان كل واحد منهم يقرأ كما علّم، وإن خالف قراءة صاحبه، لقوله صلى الله عليه وسلم:( اقرؤوا كما علمتم) وحديث عمر مع هشام بن حكيم رضي الله عنهم مشهور إذ تخاصم معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة سمعه يقرأها فأنكرها عمر عليه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملبباً بردائه فاستقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما، فقال:(أصبت)، ثم قال:(إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا بما شئتم)، فكانوا يقرؤون بما تعلموا، ولا ينكر أحد على أحد قراءته..".
وقال أبو عمرو الداني(444هـ) في جامع البيان 1/119:"..ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(إن القرآن أنزل عليها وإنها كلها شاف كاف) وأباح لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها والإقرار بكلها إذ كانت كلها من عند الله تعالى منزلة ومنه صلى الله عليه وسلم مأخوذة ولم يلزم أمته حفظها كلها ولا القراءة بأجمعها بل هي مخيرة في القراءة بأي حرف شاءت منها..".

المسألة الرابعة:
أن الأصل الأول في المسألة السابقة -الثالثة- مقيد بشرط هام وهو عدم المراء والتخطئة لبقية الوجوه والأحرف فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:(سمعت رجلاً قرأ وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) أخرجه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم:(نزل القرآن على سبعة أحرف، على أي حرف قرأتم فقد أصبتم، فلا تتماروا فيه فان المراء فيه كفر) [أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن 2/166-167، وأحمد في المسند 4/204 رقم:[17819] والحديث في صحيح الجامع 2/818].
قال الغزالي في إحياء علوم الدين 3/186:"المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم .." ، و"المراء في الدين لا يكون إلا مذموماً"[المراء في الدين ص17].

المسألة الخامسة:
أن الأمة سارت في صدرها الأول على الأصلين المذكورين في المسألة الثالثة حتى زمن ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وبالتحديد في فتح إرمينية وأذربيجان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان -وكان يغازي أهل الشام، في فتح إرمينية وأذربيجان، مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة؛ أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة:إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ، أو مصحف، أن يحرق) أخرجه البخاري.
ويؤخذ من هذه القصة أن السبب الذي جعل عثمان رضي الله عنه يأمر بنسخ الصحف في المصاحف هو ما رآه حذيفة رضي الله عنه أثناء غزوه من اختلاف القراءة وهذا الاختلاف ليس من اختلاف القراءات الداخلة في دائرة الأحرف السبعة لأمرين:
الأول: أنه لا يخفى على حذيفة رضي الله عنه مثل هذا فهو أحد رواة حديث الأحرف السبعة المتواتر وإن سلم خفاؤه عليه فإن أمر الأحرف والقراءات الداخلة في دائرته سيتبين له بعد قدومه المدينة ولقائه بكبار الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: أنه جاءت روايات أخر تبين حجم هذا الاختلاف وإلى أي حد وصل من تلك الروايات ما رواه مصعب بن سعد قال:(قام عثمان فخطب الناس فقال: يا أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون: قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة..) وفي رواية:(فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسب فيه الكتاب..) أخرجه ابن أبي داود، قال ابن كثير:"إسناده صحيح"، فالاختلاف وصل إلى حد التخطئة وهذا نذير خطر وقد علق صلى الله عليه وسلم الرخصة بالقراءة في الأحرف بعدم الوصول إليه وهذا ما سبقت الإشارة إليه في المسألة الرابعة.

المسألة السادسة:
أن الجمع الذي أمره به عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن بالأمر الهين بحيث يقوم به فرد أو مجموعة محددة تعتزل لوحدها فتقوم بهذه المهمة بمعزل عن الأمة جميعها بل هو أمر كبير يحتاج إلى تكاتف الجهود مع العمل الدؤوب ويكون أيضاً في جوٍ من الصفاء لا يكدره الاختلاف وهذا ما توفر لعثمان رضي الله عنه وهو اتفاق الأمة على ما أمر به من جمعٍ للقرآن، ويدل على تحقق هذا الإجماع جانبان:
الجانب النصي: حيث جاءت نصوص عديدة عن التابعين وغيرهم تدل على حصول هذا الإجماع وتحققه وسأكتفي بنص واحد وهو قول مصعب بن سعد: أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية:(الناس) حين شقَّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعِبْ ذلك أحدٌ) قال ابن كثير:"إسناده صحيح"[أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن 2/98، وينظر: كتاب "المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم والرد على الشبهات المثارة حولها" ص337-338]
قال أبو عبيد(224هـ) في فضائل القرآن 2/153:"يعني من المهاجرين والأنصار وأهل العلم".
وقال البقاعي في مصاعد النظر 1/440:" يعني من المهاجرين والأنصار".
وفي رواية أخرجها ابن شبة في تاريخ المدينة 3/1004:(أدركت أصحاب رسول الله متوافرين فما رأيت أحدا منهم عاب ما صنع عثمان رضي الله عنه في المصاحف) وقوله متوافرين مأخوذ من الوفرة وهي الكثرة والتمام كما ذكره ابن فارس في مقاييس اللغة 6/129.
ومصعب بن سعد قد ذكر في ترجمته أنه يروي عن أبيه سعد بن أبي وقاص، وصهيب بن سنان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعدي بن حاتم، وعكرمة بن أبي جهل، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فمصعبٌ إذاً قد أدرك عدداً كبيراً من جيل الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال كما في بعض الروايات:(أدركت أصحاب رسول اللهمتوافرين..) مما يدل على الكثرة.
وقد ذكرت في كتاب "المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم والرد على الشبهات المثارة حولها" ص345-352 بضعاً وعشرين من نصوص العلماء التي تحكي الإجماع والاتفاق على ما أمر به عثمان رضي الله عنه من جمع القرآن ونسخ الصحف في مصاحف.
الجانب العملي: وهو التزام المسلمين عموماً بما فيهم الصحابة رضي الله عنهم الإقراءَ بما يوافق المصاحف العثمانية التي أمر بها عثمان رضي الله عنه ويتمثل هذا الجانب في كون أسانيد عدد من القراء العشرة المتواترة تنتهي إلى عدد ممن نسبت لهم مصاحف من الصحابة كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم. [ينظر: فضائل القرآن 2/190-191، وشرح السنة للبغوي 4/518، والإتقان 2/473-482، ورسالة بعنوان:"العجالة البديعة الغرر في أسانيد الأئمة القراء الأربعة عشر" للشيخ محمد بن أحمد المتولي الضرير] ، مما يدل دلالة قطعية لا شك فيها على رضاهم وموافقتهم لما قام به عثمان رضي الله عنه بما فيهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وهذا الإجماع النصي والعملي في إجماع الصحابة رضي الله عنهم وموافقتهم لما أمر به عثمان رضي الله عنه من جمع القرآن قاضٍ على كل خبر أو رواية تخالفه قال عطاء بن أبي رباح(ت:114هـ) كما في تاريخ ابن أبي خيثمة 1/213:"ما اجتمعت عليه الأمة أقوى عندنا من الإسناد".
وقال ابن قتيبة(ت:276هـ) في تأويل مختلف الحديث ص483:"إن الحق يثبت عندنا بالإجماع أكثر من ثبوته بالرواية".

المسألة السابعة:
أن الإقراء بعد الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه أصبح يسير في جانبين:
الجانب الأول: الإقراء بما يوافق المصاحف العثمانية التي أرسلت إلى الآفاق وذلك حسماً للخلاف كما سبق ذكره في المسألة الخامسة.
الجانب الثاني: عدم منع من قرأ بما تيسر من الأحرف السبعة قبل إرسال المصاحف العثمانية إلى الآفاق ويدل على هذا الجانب دليلان:
الدليل الأول: الأصلان اللذان سبق ذكرهما في المسألة الثالثة وحاشا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفوا هذين الأصلين.
الدليل الثاني: بقاء عددٍ من الناس على ما كانوا أخذوه من قراءات للقرآن قبل الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه وما نتج عنه من إرسال المصاحف العثمانية إلى الآفاق وإلزام الناس بالإقراء بما يوافقها. قال الأعمش(148هـ) كما في السبعة لابن مجاهد ص67:"أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد رضي الله عنه فيهم إلا كقراءة عبد الله رضي الله عنه فيكم اليوم ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان"، وهذا يدل على تبدل الحال والالتزام بالمصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه.
فما زال الجانب الأول في تمدد وانتشار لموافقة أصول الإقراء التي سنّها النبي صلى الله عليه وسلم، ولموافقة الأمة وإجماعها عليه.
وما انفك الجانب الثاني ينحسر وينكمش حتى زال وتلاشى ولم يبق منه إلا الذكر في الكتب.

المسألة الثامنة:
استلزم الهدف -وهو وقوع الاختلاف بين المسلمين وتخطئة بعضهم بعضاً في القراءات بالأحرف السبعة كما سبق ذكره في المسألة الخامسة- الذي من أجله جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه القرآن التخلص من جميع الصحف والمصاحف المخالفة للمصاحف العثمانية التي أمر بتوزيعها في الأمصار وهذا ما حصل كما في حديث أنس رضي الله عنه في قصة الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه وفيه:(.. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) أخرجها البخاري، وفي رواية عند أبي عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن والداني في المقنع:( أو يخرق).
قال ابن حجر في فتح الباري 9/20 :"قوله:(وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) في رواية الأكثر "أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة أثبت. وفي رواية الإسماعيلي " أن تمحى أو تحرق ".
وأياً ما كانت الرواية فالقصد هو الإتلاف.


هذه المسائل مدخل هام لمعرفة حقيقة المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم ينبغي دوماً استيعابها واستحضارها ذهنياً.
 
المراحل التي مرَّت بها كلمة (مصحف)

المراحل التي مرَّت بها كلمة (مصحف)


المراحل التي مرَّت بها كلمة (مصحف)​

عند النظر في الروايات والأخبار يلحظ المتأمل لكلمة المصحف أنها مرَّت بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى:​
إطلاق هذه الكلمة (مصحف) على ما حوى كلاماً مقدساً معظماً من الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل وإن لم يكن ذائع الانتشار كما هو الحال في إطلاق المصحف للدلالة على القرآن الكريم فيما بعد، ويدل على هذا ما جاء في بعض الآثار والتي منها:
ما روته أم سلمة رضي الله عنها في قصة الهجرة إلى الحبشة الطويلة عندما دخل المهاجرون على النجاشي وفيها:(..وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله..) وفيها أيضاً:(..فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم..)
[أخرجه أخرجه ابن إسحاق - كما في الجزء المطبوع من السيرة - ص194-197، وأحمد 1/201-203، وابن هشام في السيرة 1/355-358 ، وابن راهويه في المسند 4/71-74 ، وأبو نعيم في الحلية 1/115- 116 وفي دلائل النبوة ص 199 - 203 ، والبيهقي في السنن الكبرى 9/144وفي شعب الإيمان 1/235-236 وفي دلائل النبوة 2/301-304 وفي الاعتقاد 32-34 . وإسناده حسن].
ومنها ما جاء عن أبي العالية(ت:90هـ وقيل 93 هـ). قال:"لما افتتحنا تُسْتَر وجدنا في بيت مال الهُرْمُزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه .." الخبر [أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/381-382 ، وإسناده حسن].
ويبدو أن هذا الإطلاق قد استمر -على ندرة- إلى قرنين أو أكثر بعد البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فقد نقل ابن المنذر(ت:318هـ) في الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف 11/203 عن إمامين جليلين أحدهما الأوزاعي(ت157هـ) والآخر الثوري (ت161هـ) أنهما أطلقا لفظ المصحف على كتب النصارى المقدسة فقال:" وقال الأوزاعي: في المصحف من مصاحف الروم يصاب في بلادهم: يدفن أحب إلي، قلت: ولا ترى أن يباع؟، قال: كيف وفيه شركهم؟، وقال الثوري: أتعلم ما فيه؟ قلت: لا، قال: فكيف يباع؟".

المرحلة الثانية:​
وفيها أصبح لفظ المصحف عَلَمَاً على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً مرتب السور والآيات مجموعاً في مكان واحد من سورة الفاتحة إلى سورة الناس لا ينصرف حين الإطلاق إلا إليه، ومن البدهي أن يكون هذا الإطلاق بعد أن أصبح القرآن الكريم كله مجموعاً في مكان واحد وهو ما حصل في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه حيث أُخِذَت الصحف الموجودة عند حفصة رضي الله عنها وجمعت في مصحفٍ واحد ونسخ منه عدة مصاحف وأُرْسِلت إلى الآفاق.
ويدل على هذه المرحلة دليلان:
الدليل الأول: ما جاء في رواية جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه التي رواها صاحب القصة ومن أَمَرَهُ عثمان رضي الله عنه بالجمع وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه حين قال:"لما نسخنا الصحف في المصاحف.." أخرجه البخاري.
وكذلك في رواية من حضر وشهد الواقعة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه ومما جاء فيها:"..حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة.."أخرجه البخاري.
وقد جمعت هاتان الروايتان أعلى درجات الدلالة -على أن تسمية المصحف على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً لم يكن إلا في الجمع العثماني- من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: من ناحية راويَيْها فأحدهما: صاحب القصة ومن أَمَره عثمان رضي الله عنه بالجمع وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وثانيهما: حَضَرَ وشَهِدَ الواقعة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه وكلاهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الجهة الثانية: أن دلالتهما دلالة منطوق لا مفهوم.
الجهة الثالثة: من ناحية المصدر فمصدرهما صحيح البخاري.
ومن هذه الجهات الثلاث تبوأتا الصدارة في الإحكام القاضي على كل متشابه من رواية أو خبر.

الدليل الثاني: أن هذا المعنى هو الذي تدل عليه كلمة مصحف في لغة العرب يقول الفراء(ت: 207هـ) كما في إصلاح المنطق ص 120، وأدب الكاتب ص 555، وتهذيب اللغة 4/254 :"وقد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسرت ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل ومجسد؛ لأنها في المعنى مأخوذة من أصحف جمعت فيه الصحف...".
وقال الأزهري(ت: 370هـ) كما في لسان العرب /2404 :"وإنما سمي المصحف مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين".
وقال أبو إسحاق الوهراني المعروف بابن قُرْقُول:(ت:569هـ) في مطالع الأنوار 4/264:"والمصحف مأخوذ من الصحيفة".
وقال المطرزي(ت:610هـ) في المغرب في ترتيب المعرب 1/467 :"والمصحف الكراسة وحقيقتها مجمع الصحف".
وقال السمين الحلبي(ت: 756هـ) في عمدة الحفاظ 2/371:"والمصحف هو الجامع للصحف المكتوبة...وغلب على ما كتب من القرآن".
وقال الشهاب الخفاجي:(1069هـ) في نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ص554:"المصحف بضم الميم وكسرها ونقل فيه التثليث وهو مجمع الصحف من أصحف إذا جمع وهو مخصوص بالقرآن".
وقد جاءت عدة روايات تدل على أن هناك عدداًً من الصحابة رضي الله عنهم قد سبق كل واحد منهم عثمانَ رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف، والخلاصة بعد دراسة هذه الروايات أنها إما صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة، والإطلاق الموجود إنما هو إطلاق في مقابل ما أمر به عثمان رضي الله عنه من جمع الصحف في مصحف واحد نَسَخ منه عدة نُسَخ وأرسلها إلى الأمصار.

المرحلة الثالثة:​
وهي ما بعد المرحلة الثانية التي حصل فيها إطلاق لفظ المصحف على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً في مكان واحد مرتب السور والآيات، فمن هنا نشأت تسميتان:

التسمية الأولى: للعمل الذي أمر به الخليفة الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه في الجمع الأخير والمصاحف التي أرسلها إلى الآفاق فأصبح يطلق عليها:(المصاحف العثمانية) وينسب كل واحد منها إلى المِصْر الذي أرسل إليه فيقال: المصحف المكي المصحف الشامي وهكذا، والصحيح أنه يطلق عليها كلها المصحف الإمام.

التسمية الثانية: (مصاحف الصحابة) فيقال: (مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أو مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه أو غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم)، وهذه التسمية لأمرين:

الأمر الأول: لما كان يقوم به بعض الصحابة رضي الله عنهم من جهود خاصة في كتابة بعض القرآن وتدوينه مفرقاً في أجزاء ونحوها.
الأمر الثاني: للقراءات المنسوبة لبعض الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين المخالفة للمصاحف العثمانية.
قال ابن أبي داود في المصاحف لابن أبي داود 1/283-284 :"إنما قلنا: مصحف فلان، لما خالف مصحفنا هذا [يريد المصحف العثماني] من الخط أو الزيادة أو النقصان، أخذته عن أبي رحمه الله، هكذا فعل في كتاب التنزيل".
وقد قال ابنُ أبي داود هذا الكلام مباشرة بعد عَقْدِهِ باباً بعنوان باب اختلاف مصاحف الصحابة رضي الله عنهم جعل تحته عشرةً من العناوين كلها تحمل اسم مصحف فبدأ بمصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم مصحف علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وهكذا، ثم قال: وأما مصاحف التابعين، فجعل تحته أحد عشر عنواناً كلها تحمل اسم مصحف فبدأ بمصحف عبيد بن عمير الليثي، وهكذا كما صنع تحت باب اختلاف مصاحف الصحابة رضي الله عنهم ثم سرد فيهما قراءات منسوبة للصحابة رضي الله عنهم والتابعين.
وهذا نصٌ من ابن أبي داود دالٌ في منطوقه على مقصده من هذا العنوان = فبترُ هذا العنوان -كما فعل بعض مثيري الشبه- وما حواه من قراءات منسوبة للصحابة رضي الله عنهم من دون كلام ابن أبي داود الشارح له = انحراف مشين عن البحث العلمي!!
ومن هنا -بعد الجمع الذي أمر به عثمان- أصبح يطلق على ما في تلك الأجزاء التي تحوي بعض سور القرآن أو للقراءات المنسوبة لبعض الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين المخالفة للمصاحف العثمانية مصحفاً مقروناً بالإضافة فيقال: مصحف عبد الله بن مسعود، مصحف أبي بن كعب وهكذا ما نسب لبقية الصحابة رضي الله عنهم.

يبقى الكلام على إيضاحات واعتراضات واستشكالات على هذه المراحل يأتي ذكرها والجواب عنها بإذن الله.

 
اعتراضات على المرحلة الثانية من المراحل التي مرت بها كلمة (مصحف) وأجوبتها

اعتراضات على المرحلة الثانية من المراحل التي مرت بها كلمة (مصحف) وأجوبتها



وللتذكير فالمرحلة الثانية: هي التي أصبح فيها لفظ المصحف عَلَمَاً على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً مرتب السور والآيات مجموعاً في مكان واحد من سورة الفاتحة إلى سورة الناس لا ينصرف حين الإطلاق إلا إليه، وذلك بعد أن أصبح القرآن الكريم كله مجموعاً في مكان واحد وهو ما حصل في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه حيث أُخِذَت الصحف الموجودة عند حفصة رضي الله عنها وجمعت في مصحفٍ واحد ونسخ منه عدة مصاحف وأُرْسِلت إلى الآفاق.

والاعتراضات على هذه المرحلة تدور على وجود روايات تدل على أن هناك عدداًً من الصحابة رضي الله عنهم قد سبقوا عثمانَ رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف ويُمْكن جعل هذه الروايات في ست اعتراضات كالتالي:

أولها: روايات تدل على أن أبا بكر رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
ثانيها: روايات تدل على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
ثالثها: روايات تدل على أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
رابعها: روايات تدل على أن سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
خامسها: روايات تدل على إطلاق كلمة (مصحف) لما كان يقوم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كتابة للقرآن قبل الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه ولو بيسير.
سادسها: رواية تدل على وجود إطلاق مسمى المصحف بشكل عام قبل الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه للقرآن.


أولاً: ما جاء أن أبا بكر رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.​

وقد بلغ عدد الروايات التي جاء فيها أن أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جع القرآن في مصحف ست روايات.

الرواية الأولى:​
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(يرحم الله أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جمع بين اللوحين) وفي لفظ:( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين).
[ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10/267، و13/9، وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/92، وابن سعد في الطبقات الكبرى 3/193، وأحمد في فضائل الصحابة 1/282-283 ، 433 الأرقام:[280 ، 513 ، 514]، وابن أبي داود في المصاحف 1/150-154 الأرقام:[14-18]، وأبو عمرو الداني في المقنع ص3، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 1/32 - 33، وابن عساكر في تاريخ دمشق 30/379 – 381 كلهم من طرق عن السدي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه: الخبر صححه ابن كثير، وحسنه ابن حجر، والسيوطي].

الرواية الثانية:​
عن صعصعة قال:"أول من جمع بين اللوحين وورث الكلالة أبو بكر رضي الله عنه ".
[أخرجه ابن أبي شيبة 10/268، وأبو عروبة في الأوائل ص128 من طريق سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن صعصعة قال:"أول من جمع القرآن وورث الكلالة أبو بكر].
وهذان الأثران لا يسلمان من ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول: أن في إسناد أثر علي ابن أبي طالب رضي الله عنه السدي الكبير وفيه خلاف بين علماء الجرح والتعديل ولعل حاله كما قال الحافظ ابن حجر:"صدوق يهم ورمي بالتشيع" فمن هذه حاله لا تُعارض روايته بروايةٍ أخرجها البخاري وغيره وإسناد البخاري فيها قال عنه ابن معين كما في فتح الباري 9/21 :"لم يرو أحد حديث جمع القرآن أحسن من سياق إبراهيم بن سعد".
أما إسناد صعصعة ففيه مجالد بن سعيد ضعَّفه عدد من الحفاظ كالقطان وابن معين وأحمد، وكان ابن مهدي لا يروي عنه شيء، وقال ابن المديني:"في نفسي منه شيء"
[ينظر: تهذيب الكمال 27/219 – 225 مع حواشي المحقق].
الاعتراض الثاني: على فرض صحة الأثرين السابقين فإنهما ليسا على ما قد يفهم من ظاهرهما بل معناهما كما قال أبو شامة في المرشد الوجيز ص215:"وقيل معنى قول علي رضي الله عنه:(أبو بكر رضي الله عنه أول من جمع القرآن بين اللوحين): أي جمع القرآن الذي هو الآن بين اللوحين، وكان هذا أقرب إلى الصواب جمعاً بين الروايات..".
وقد يكون معناهما أي حفظه كما فسره عروة بن الزبير(ت:94هـ) فقد روى هشام بن عروة، عن أبيه قال:(أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم) يقول: ختمه[أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/156حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه الأثر. قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 1/34 :"صحيح.."]، وقد روى ابن أبي داود هذا الأثر مباشرة بعدما روى أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خمسة طرق.
والجمع بمعنى الحفظ هو أحد إطلاقي مسمى(جمع القرآن) وهو الأصل في إطلاقه.
الاعتراض الثالث: أنه على فرض صحة الأثرين السابقين وأنهما يدلان دلالة قطعية على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن الكريم في المصحف فإن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو من قام بالجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه يقول:( فكانت الصحف عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله ثم عند عمر رضي الله عنه حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها)[أخرجه البخاري]
ويقول أيضاً حين أُمَرَه عثمان رضي الله عنه بجمع القرآن:"لما نسخنا الصحف في المصاحف.." أخرجه البخاري.
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي قصة جمع القرآن في زمن عثمان رضي الله عنه وهو ممن حضر وشهد الواقعة:( فأرسل عثمان رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنه؛ أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان... حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا..) [أخرجه البخاري].
فزيد بن ثابت رضي الله عنه قام بجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عثمان رضي الله عنه، وأنس بن مالك رضي الله عنه راوي قصة جمع القرآن في زمن عثمان رضي الله عنه وهو ممن حضر وشهد الواقعة، فهل يُقدم خبرهما؟ أم خبر من لا ندري أكان حاضراً زمن جمع القرآن أو لا؟

الرواية الثالثة:​
ذكرها المظفري(ت:642هـ) فقال:"لما جمع القرآن قال: سموه. فقال بعضهم: سموه إنجيلاً، فكرهوه. وقال بعضهم: سموه السفر، فكرهوه من يهود. فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف فسموه به".
[ ينظر: البرهان 1/377، والإتقان 2/344، والزيادة والإحسان 1/370 . وقد بحثتُ في التاريخ المختصر المطبوع للمظفري في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أظفر بشيء فلعلها في التاريخ الكبير. ينظر: التاريخ الإسلامي المعروف بالتاريخ المظفري ص117 – 171].
ورواية المظفري هذه ضعيفة؛ لسببين:
السبب الأول: أنها كما في المصادر التي نقلتها مرسلة بغير إسناد.
السبب الثاني: أنها لو صحت سنداً لما انتهضت لمعارضة ما ثبت في صحيح البخاري وغيره فكيف وهذا حالها!

الرواية الرابعة:​
ذكرها ابن أشته(ت:360هـ) عن موسى بن عقبة(ت:141هـ)، عن ابن شهاب(ت:124هـ)، قال:" لما جمعوا القرآن، فكتبوه في الورق، قال أبو بكر رضي الله عنه: التمسوا له اسماً فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف وكان أبو بكر رضي الله عنه أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف".
[ الإتقان 2/344 ، وينظر: المرشد الوجيز ص63-64].
وهذه الرواية ضعيفة لثلاثة أسباب:
السبب الأول: أنه لا يعرف من بين ابن أشته وبين موسى بن عقبة.
السبب الثاني: أن هذا الخبر مرسل من مراسيل الزهري ومراسيل الزهري مع ثقته وإمامته وكثرة أحاديثه وصحتها من أوهى المراسيل.[ينظر: تاريخ دمشق 55/368-369 ، وشرح علل الترمذي 1/282، 284].
السبب الثالث: أن هذه الرواية لو صحت سنداً لما انتهضت لمعارضة ما ثبت في صحيح البخاري وغيره فكيف وهذا حالها!

الرواية الخامسة:​
عن أبي العالية يقول فيها: "أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب رضي الله عنه ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة:﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن فقال أبي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعدهن آيتين: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)﴾ قال: فهذا آخر ما أنزل من القرآن فختم الأمر بما فتح به بـ (لا إله إلا هو) وهو قول الله تبارك وتعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾.
[ أخرجه عبد الله في زوائد المسند 5/134 -ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة 3/360-، وابن الضريس في فضائل القرآن ص38، وابن أبي داود في المصاحف 1/167-168 -ومن طريقه السخاوي في جمال القراء 1/87-، والخطيب في تلخيص المتشابه في الرسم 1/403] .
وفي لفظ: عن أبي العالية، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنهم جمعوا القرآن من مصحف أبي، فكان رجال يكتبون يملي عليهم أبي بن كعب رضي الله عنه ، فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ أثبتوا أن هذه الآية آخر ما أنزل الله تعالى من القرآن، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾إلى آخر السورة قال: فهذا آخر ما نزل من القرآن قال: فختم الأمر بما فتح الله به: بلا إله إلا الله بقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾.
[ مسند أحمد 35/149 -كما في زوائد عبد الله-، والمصاحف 1/222-223، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 6/1919، والضياء المقدسي في المختارة 3/361- 362].
هذه الرواية مدارها على أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية به. وأبو جعفر الرازي هو التيمي مولاهم، مشهور بكنيته، واسمه عيسى ابن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، وقد وثقه جماعة وطعن فيه آخرون، قال ابن حجر:"صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة"، وفي إحدى الروايات عن الإمام أحمد قال:" مضطرب الحديث"، ونص ابن حبان في ترجمة شيخه الربيع بن أنس على اضطرابه في الرواية عنه فقال:"والناس يتقون حديثه ما كان من رواية أبى جعفر عنه لأن فيها اضطراباً كثيراً".
[ينظر: تهذيب الكمال 33/192-197، وتهذيب التهذيب 12/56-57، وتقريب التهذيب ص 1126، و المجروحين 2/101، و الثقات 4/228]
والمتأمل في هذه الرواية يرى أمارات الخلط بارزة عليها؛ فأبو جعفر تارة يروي الخبر عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية كما في فضائل القرآن لابن الضريس ص38، والمصاحف 1/167- 168، وجمال القراء 1/87 .
وتارة يجعل الرواية عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه كما في زوائد عبد الله على المسند 5/134، والمصاحف 1/222-223، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 6/1919، وتلخيص المتشابه في الرسم 1/356، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي 3/360- 362.
وتارة يذكر لفظ المصحف أو المصاحف في المتن كما في زوائد عبد الله على المسند 5/134، والمصاحف 1/222-223، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 6/1919، وتلخيص المتشابه في الرسم 1/356، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي 3/360- 362، وتارة لا يذكرها كما في تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 6/1919.
هذا مع ما في المتن من غرابة فالمشهور أن الذي أمر بتتبع القرآن وجمعه زيد بن ثابت رضي الله عنه فذكر أبي بن كعب رضي الله عنه هنا غريب، وكذلك في الآية ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن كثير يحكم على هذه الرواية بالغرابة بعدما ذكرها فقال في تفسير القرآن العظيم 7/328:" وهذا غريب".

الرواية السادسة:​
في قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه:" أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف.."متفق عليه.
وقد علق النووي في شرح صحيح مسلم للنووي 4/142على قول أنس :"كأن وجهه ورقة مصحف" فقال:عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته.
وهذه الرواية مع صحة سندها لا يوجد فيها تصريحٌ على تحديد وقت إطلاق كلمة المصحف على ما قبل الجمع الذي أمَرَه به عثمان رضي الله عنه.
ولمزيد توضيحٍ يقال: الحديث رواه الشيخان وجماعة ومداره على الزهري عن أنس رضي الله عنه، والزهري اختلف في يوم مولده وأقدم ما قيل: أنه ولد سنة خمسين للهجرة [ينظر: تهذيب الكمال 26/440-441] والجمع الذي أمَرَه به عثمان رضي الله عنه كان كما حرره ابن حجر في الفتح 9/17 "في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين..".
فالراوي الوحيد عن أنس رضي الله عنه وهو الزهري ولد بعد ربع قرن من الجمع الذي أمَرَه به عثمان رضي الله عنه!!
فتحديث أنس رضي الله عنه بهذا الخبر متأخر بعشرات السنين عن جمع القرآن في عهد الخليفتين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.
 


وللتذكير فالمرحلة الثانية: هي التي أصبح فيها لفظ المصحف عَلَمَاً على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً مرتب السور والآيات مجموعاً في مكان واحد من سورة الفاتحة إلى سورة الناس لا ينصرف حين الإطلاق إلا إليه، وذلك بعد أن أصبح القرآن الكريم كله مجموعاً في مكان واحد وهو ما حصل في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه حيث أُخِذَت الصحف الموجودة عند حفصة رضي الله عنها وجمعت في مصحفٍ واحد ونسخ منه عدة مصاحف وأُرْسِلت إلى الآفاق.

والاعتراضات على هذه المرحلة تدور على وجود روايات تدل على أن هناك عدداًً من الصحابة رضي الله عنهم قد سبقوا عثمانَ رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف ويُمْكن جعل هذه الروايات في ست اعتراضات كالتالي:

أولها: روايات تدل على أن أبا بكر رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
.....

لا خلاف في أن الخليفة أبا بكر رضي الله عنه قد سبق الخليفة عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في الصُحُف في موضع واحد ، و الخلاف في تسمية ذلك مصحفا أم صحفا ، و هذا لا يُعّدّ اعتراضا ؛ فمصحف عثمان منسوخ من صحف أبي بكر رضي الله عنهما ؛ ففي صحيح البخاري : ( فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ ) .
 
حياك الله يا د. أبو بكر وبياك...

ليتك توضح لي كيف لا يُعد اعتراضاً، والكلام كله يدور حول كلمة (مصحف) والمراحل التي مرَّت بها.

وتكرماً منك لعلك تتأمل المراحل التي مرت بها كلمة (مصحف) المذكورة في الأعلى
 
الأخ العزيز الأستاذ محمد الطاسان
بارك الله فيكم و في كتاباتكم القيّمة

و بخصوص كلمة ( مصحف ) ، قال أبو شامة في " المرشد الوجيز " : وذكر أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع" عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر أول من جمع القرآن في المصاحف، وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف واحد . اهـ
و هذا يفسر ما رواه الإمام البخاري من حديث زيد بن ثابت و أنس بن مالك رضي الله عنهما في كلامهما عن ( المصحف ) ، و هذا ليس فيه نفي لإطلاق ذلك على ما قبله من مصاحف
 

وفيك بارك الله أخي د. أبو بكر وجزاك الله خيرا ونفع بك

الأثر الذي ذكرته -حفظك الله- عن عروة لا يُفَسّر ما في صحيح البخاري بل يعارضه؛ فما ذكره زيد بن ثابت رضي الله عنه -وهو من أُمِرَ بجمع القرآن من قبل الخليفتين- حين قال:"لما نسخنا الصحف في المصاحف.." أخرجه البخاري.
وكذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه وهو من حضر وشهد الواقعة:"..حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة.." أخرجه البخاري.
يدل بمنطوقه أن جعل الصحف التي أمر بها أبو بكر رضي الله عنه بها في مصاحف متعددة إنما كان في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه.
وهذا ما تدل عليه لغة العرب كما قال الأزهري(ت: 370هـ) كما في لسان العرب /2404 :"وإنما سمي المصحف مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين".
وفي الأعلى نقول متعددة عن غيره من علماء اللغة وغيرهم تدل على أن ما حصل في الذي أمر به عثمان رضي الله عنه مطابق لمعنى كلمة مصحف في اللغة.
ثانياً: أن من الفروق الهامة بين الجمع الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه والجمع أمر به عثمان رضي الله عنه أن جمع أبي بكر رضي الله عنه جمعٌ في صحف فيها سور مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم تكن على إثر بعض في مكان واحد وجاء عن سالم وخارجة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان جمع القرآن في قراطيس وكان قد سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر رضي الله عنه ففعل وكانت تلك الكتب عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفي ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفي ثم كانت عند حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها عثمان رضي الله عنه فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنها إليها فبعثت بها إليه فنسخها عثمان رضي الله عنه هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها".
[ أخرجه ابن وهب في الجامع -علوم القرآن- 3/31، وفي موطئه كما في فتح الباري 9/16، والإتقان في علوم القرآن 2/386، وابن أبي داود في المصاحف 1/168 – 169، -ومن طريقه السخاوي في جمال القراء 1/88-، والطحاوي في مشكل الآثار-تحفة الأخيار- 8/157، وابن عبد البر في التمهيد 8/300 كلهم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سالم وخارجة أن أبا بكر الصديق... الأثر. وهذا إسناد مدني لا غبار عليه بيْد أن سالماً وخارجة لم يدركا أبا بكر رضي الله عنه].
قال الحاكم في المستدرك 2/229:" والجمع الثالث وهو في ترتيب السورة كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنهم أجمعين-".
وقال أبو شامة في المرشد الوجيز ص215-216:"..وكأن أبا بكر رضي الله عنه كان جمع كل سورة أو سورتين أو أكثر من ذلك في صحيفة على قدر طول السورة وقصرها فمن ثم قيل: إنه جمع القرآن في صحف، ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتعدد، ثم إن عثمان رضي الله عنه نسخ من تلك الصحف مصحفاً جامعاً لها، مرتبة سوره هذا الترتيب..".
وقال ابن حجر في فتح الباري 9/18:" والفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبى بكر رضي الله عنه وكانت سوراً مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها إثر بعض فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفاً"وقال أيضاً في فتح الباري 9/11:" قوله: باب جمع القرآن المراد بالجمع هنا جمع مخصوص، وهو جمع متفرقه في صحف، ثم جمع تلك الصحف في مصحف واحد مرتب السور".
ثالثاً: أن أثر عروة:" إن أبا بكر الصديق أول من جمع القرآن في المصاحف حين قتل اصحاب اليمامة وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف واحد".
لم أقف على من رواه بهذا اللفظ غير الداني في المقنع ص9 فقال: حدثنا أبو محمد خلف بن أحمد العبدري قراءة عليه قال حدثنا زياد بن عبد الرحمن اللؤلؤي قال حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه عن إبراهيم بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه.
وهذا الأثر فيه ثلاث علل:
الأولى: أن راويه عن هشام بن عروة هو إبراهيم بن محمد بن الحارث أبو إسحاق الفزاري الكوفي [ينظر: تهذيب الكمال 2/167-170] ومع ثقة هشام بن عروة فقد تُكلِّم في العراقيين عنه فلم تكن معه كتبه فحدث من حفظ فوقع في الوهم[ينظر: تاريخ بغداد 16/60-61 وتهذيب الكمال 30/238-239، وشرح علل الترمذي 2/604-605] .
الثانية: أن زياد بن عبد الرحمن اللؤلؤي، ومحمد بن يحيى بن حميد لم أقف على من ترجمهما وكذلك قالت محققة المقنع ص157.
الثالثة: على فرض صحة الأثر عن عروة فإن ما في البخاري يدل بمنطوقه أن جعل الصحف التي أمر بها أبو بكر رضي الله عنه بها في مصاحف متعددة إنما كان في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه، وهذا ما تدل عليه لغة العرب كما سبق.
 
الأخ العزيز
إن قلتم إن هناك خلافا في تسمية جمْع أبي بكر رضي الله عنه القرآن ( صُحُفا ) أم ( مصحفا ) ، فهذا مُسَلّم ؛ قال أبو شامة في " المرشد الوجيز " : وقد حكى القاضي أبو بكر [ الباقلاني ] في "كتاب الانتصار" خلافا في أن أبا بكر جمع القرآن بين لوحين أو في صحف وأوراق متفرقة، وبكل معنى من ذلك قد وردت الآثار . اهـ

و إن قلتم إن هناك فرقاًً بين جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن و بين جمع عثمان رضي الله عنه له ، فهذا مُسَلّم أيضا .

و لكن هذا الفرق غير مؤثر من حيث اشتمال كلا الجمعيْن على القرآن الكريم كاملا في موضع واحد

و تضعيفكم للحديث المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(يرحم الله أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جمع بين اللوحين) وفي لفظ:( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين) أمرٌ غيْر جَيّد ؛ لتصحيح ابن كثير له ، و تحسين ابن حجر و السيوطي له . و هو ما ذكرتموه

و استقلال المعاصرين بالحكم على الأحاديث ، و مخالفتهم حُكْم أهل الصنعة - من الأئمة المتقدمين - عليها ، فيه ما فيه
و لا يصح مِنّا الاعتماد على ترجمة راوٍٍ في السند للحكم على حديثٍٍ ما ، ثم نضرب عُرض الحائط بحُكْم الإمام صاحب مصنف الترجمة على الحديث .

و أكتفي بهذا ؛ لأتابع بقية دراستكم الطيبة في المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم

 
الأخ العزيز


و تضعيفكم للحديث المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(يرحم الله أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جمع بين اللوحين) وفي لفظ:( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين) أمرٌ غيْر جَيّد ؛ لتصحيح ابن كثير له ، و تحسين ابن حجر و السيوطي له . و هو ما ذكرتموه

و استقلال المعاصرين بالحكم على الأحاديث ، و مخالفتهم حُكْم أهل الصنعة - من الأئمة المتقدمين - عليها ، فيه ما فيه
و لا يصح مِنّا الاعتماد على ترجمة راوٍٍ في السند للحكم على حديثٍٍ ما ، ثم نضرب عُرض الحائط بحُكْم الإمام صاحب مصنف الترجمة على الحديث .

و أكتفي بهذا ؛ لأتابع بقية دراستكم الطيبة في المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم


أخي د. أبو بكر هل كلامك -عدم مخالفة العلماء السابقين- خاص في هذا الأثر لتصحيح ابن كثير والسيوطي له؟
أو هو طردٌ لكل نظير ومثيل له؟
ثم هل هو طرد لبقية أبواب الشريعة؟ أو هو حصر في باب التصحيح والتضعيف فقط؟
فكلامك أخي إما أن يكون قاعدة مطردة؟ أو فرع مستثنى يحتاج لدليل؟

أرجو التوضيح بارك الله فيك
 
أخي الفاضل الأستاذ محمد الطاسان

هو خاصٌ بتضعيفكم - أنتم - ما صحّحه و حَسّنه الأئمة : ابن كثير و ابن حجر و السيوطي

و أنا و قراءٌ كثيرون منتظرون بقية دراستكم في موضوع المصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم
 
أخي د. أبو بكر
هذه المسألة تعود لثلاثة أمور:
الأول: حكم مخالفة المعاصرين للسابقين في الحكم على الأحاديث.
الثاني: نقد الروايات.
الثالث: الترجيح بين التعديل والتجريح في الرواة.
وهذه من مباحث علم الحديث المتخصصة والكلام في توضيحها قد يطول ولا أرغب في الدخول فيها هنا لسببين:
السبب الأول: أني رأيت الأخوة المشرفين في الملتقى لا يحبذون الخروج عن التخصص وقد أغلقوا مواضيع لهذا السبب -وهذا من حقهم-.
السبب الثاني: أن الموضوع هنا خاص بالمصاحف المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم.
فإن وافق المشرفون على فتح موضوع خاص لتوضيح هذين الأمرين فلا مانع لدي.
وإن كانت الأخرى فهناك كتب عديدة تكلمت عن ما ذكرت يمكنك الاستفادة منها ككتاب مقارنة المرويات للدكتور إبراهيم اللاحم في مجلدين، وكتاب قرائن ترجيح التعديل والتجريح للدكتور عبدالعزيز اللحيدان في مجلد.
 

المراحل التي مرَّت بها كلمة (مصحف)​

عند النظر في الروايات والأخبار يلحظ المتأمل لكلمة المصحف أنها مرَّت بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى:​
إطلاق هذه الكلمة (مصحف) على ما حوى كلاماً مقدساً معظماً من الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل وإن لم يكن ذائع الانتشار كما هو الحال في إطلاق المصحف للدلالة على القرآن الكريم فيما بعد، ويدل على هذا ما جاء في بعض الآثار والتي منها: .......

المرحلة الثانية:​
وفيها أصبح لفظ المصحف عَلَمَاً على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً مرتب السور والآيات مجموعاً في مكان واحد من سورة الفاتحة إلى سورة الناس لا ينصرف حين الإطلاق إلا إليه، ومن البدهي أن يكون هذا الإطلاق بعد أن أصبح القرآن الكريم كله مجموعاً في مكان واحد وهو ما حصل في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه حيث أُخِذَت الصحف الموجودة عند حفصة رضي الله عنها وجمعت في مصحفٍ واحد ونسخ منه عدة مصاحف وأُرْسِلت إلى الآفاق.
ويدل على هذه المرحلة دليلان:
الدليل الأول: ما جاء في رواية جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه التي رواها صاحب القصة ومن أَمَرَهُ عثمان رضي الله عنه بالجمع وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه حين قال:"لما نسخنا الصحف في المصاحف.." أخرجه البخاري.
وكذلك في رواية من حضر وشهد الواقعة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه ومما جاء فيها:"..حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة.."أخرجه البخاري.
وقد جمعت هاتان الروايتان أعلى درجات الدلالة -على أن تسمية المصحف على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً لم يكن إلا في الجمع العثماني- من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: من ناحية راويَيْها فأحدهما: صاحب القصة ومن أَمَره عثمان رضي الله عنه بالجمع وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وثانيهما: حَضَرَ وشَهِدَ الواقعة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه وكلاهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الجهة الثانية: أن دلالتهما دلالة منطوق لا مفهوم.
الجهة الثالثة: من ناحية المصدر فمصدرهما صحيح البخاري.
ومن هذه الجهات الثلاث تبوأتا الصدارة في الإحكام القاضي على كل متشابه من رواية أو خبر.

الدليل الثاني:
أن هذا المعنى هو الذي تدل عليه كلمة مصحف في لغة العرب يقول الفراء(ت: 207هـ) كما في إصلاح المنطق ص 120، وأدب الكاتب ص 555، وتهذيب اللغة 4/254 :"وقد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسرت ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل ومجسد؛ لأنها في المعنى مأخوذة من أصحف جمعت فيه الصحف...".
وقال الأزهري(ت: 370هـ) كما في لسان العرب /2404 :"وإنما سمي المصحف مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين".
وقال أبو إسحاق الوهراني المعروف بابن قُرْقُول:(ت:569هـ) في مطالع الأنوار 4/264:"والمصحف مأخوذ من الصحيفة".
وقال المطرزي(ت:610هـ) في المغرب في ترتيب المعرب 1/467 :"والمصحف الكراسة وحقيقتها مجمع الصحف".
وقال السمين الحلبي(ت: 756هـ) في عمدة الحفاظ 2/371:"والمصحف هو الجامع للصحف المكتوبة...وغلب على ما كتب من القرآن".
وقال الشهاب الخفاجي:(1069هـ) في نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ص554:"المصحف بضم الميم وكسرها ونقل فيه التثليث وهو مجمع الصحف من أصحف إذا جمع وهو مخصوص بالقرآن".
وقد جاءت عدة روايات تدل على أن هناك عدداًً من الصحابة رضي الله عنهم قد سبق كل واحد منهم عثمانَ رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف، والخلاصة بعد دراسة هذه الروايات أنها إما صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة، والإطلاق الموجود إنما هو إطلاق في مقابل ما أمر به عثمان رضي الله عنه من جمع الصحف في مصحف واحد نَسَخ منه عدة نُسَخ وأرسلها إلى الأمصار.
.........

لا ريْب في أن الصحابي و أول الخلفاء الراشدين سيدنا أبا بكرٍ رضي الله عنه قد سبق سيدنا عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن الكريم كاملا في مكان واحد ؛ ثبت ذلك برواية صحيحة صريحة ؛ ففي صحيح البخاري ، باب جمع القرآن ؛ قال : حدثنا موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: «أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده»، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: «كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» قال عمر: هذا والله خير، «فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر»، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، «فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن»، قلت: «كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟»، قال: هو والله خير، " فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه " . انتهى جديث البخاري

قال الحافظ ابن حجر في شرحه الحديث : وقال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته ، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك ؛ وفاء لوعد الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا ، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر ، ويؤيده ما أخرجه بن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال : سمعت عليا يقول : "أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله " .

و قال - ابن حجر - أيضا : وإنما كان [ أي القرآن مكتوبا ] في الأديم والعسب أولا قبل أن يجمع في عهد أبي بكر ، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة .

و قال أيضا : وكان القرآن مكتوبا في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها فنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار . اهـ


فإن كان الخلاف في تسمية جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن كاملا في موضعٍ واحدٍ : صحفاً أو مصحفاً ؛ فهو خلافٌ غير مؤثر في حقيقة القرآن المجموع . و قد أورد البخاري في " صحيحه " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه إطلاق لفظ " مصحف " على ما كان موجودا قبل مصحف عثمان رضي الله عنه ؛ قال : " ... حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق " . اهـ

و عليه فلم يَصِحّ قول الأخ الأستاذ محمد الطاسان : ( وقد جمعت هاتان الروايتان أعلى درجات الدلالة -على أن تسمية المصحف على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً لم يكن إلا في الجمع العثماني- ) ؛ لتقدّم جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن كاملا في موضع واحد عن الجمع العثماني ، و ورود تسمية مثل ذلك ( مصحفا ) كما في رواية الصحابي أنس بن مالك عند البخاري في الحديث المذكور آنفا .
و هاتان الروايتان مستوفيتان نفس و أعلى درجات الدلالة ، التي استشهد بها أخي أ . الطاسان على ما ادعاه ، و سببه قصره - هو - استعمال لفظ ( المصحف ) الوارد بالحديث على ذلك الجمع المخصوص للقرآن المعروف بالجمع العثماني ، و لا يستفاد من ورود اللفظ القصر ، و لا نفيه عما قبله مِن مِثْله ، و يؤيد هذا قول أنس بن مالك : وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق " . اهـ
و لا شك في أن المقصود بذلك ( المصاحف ) الموجودة قبل المصحف العثماني .



وللتذكير فالمرحلة الثانية: هي التي أصبح فيها لفظ المصحف عَلَمَاً على ما حوى بين دفتيه القرآن كاملاً مرتب السور والآيات مجموعاً في مكان واحد من سورة الفاتحة إلى سورة الناس لا ينصرف حين الإطلاق إلا إليه، وذلك بعد أن أصبح القرآن الكريم كله مجموعاً في مكان واحد وهو ما حصل في الجمع الذي أمر به عثمان رضي الله عنه حيث أُخِذَت الصحف الموجودة عند حفصة رضي الله عنها وجمعت في مصحفٍ واحد ونسخ منه عدة مصاحف وأُرْسِلت إلى الآفاق.

والاعتراضات على هذه المرحلة تدور على وجود روايات تدل على أن هناك عدداًً من الصحابة رضي الله عنهم قد سبقوا عثمانَ رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف ويُمْكن جعل هذه الروايات في ست اعتراضات كالتالي:

أولها: روايات تدل على أن أبا بكر رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.
.........

أولاً: ما جاء أن أبا بكر رضي الله عنه قد سبق عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف.​

وقد بلغ عدد الروايات التي جاء فيها أن أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جع القرآن في مصحف ست روايات.

الرواية الأولى:​
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(يرحم الله أبا بكر رضي الله عنه هو أول من جمع بين اللوحين) وفي لفظ:( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين).
[ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10/267، و13/9، وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/92، وابن سعد في الطبقات الكبرى 3/193، وأحمد في فضائل الصحابة 1/282-283 ، 433 الأرقام:[280 ، 513 ، 514]، وابن أبي داود في المصاحف 1/150-154 الأرقام:[14-18]، وأبو عمرو الداني في المقنع ص3، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 1/32 - 33، وابن عساكر في تاريخ دمشق 30/379 – 381 كلهم من طرق عن السدي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه: الخبر صححه ابن كثير، وحسنه ابن حجر، والسيوطي].
........



لا خلاف في أن الخليفة أبا بكر رضي الله عنه قد سبق الخليفة عثمان رضي الله عنه في جمع القرآن في الصُحُف في موضع واحد ، و الخلاف في تسمية ذلك مصحفا أم صحفا ، و هذا لا يُعّدّ اعتراضا ؛ فمصحف عثمان منسوخ من صحف أبي بكر رضي الله عنهما ؛ ففي صحيح البخاري : ( فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ ) .

حياك الله يا د. أبو بكر وبياك...

ليتك توضح لي كيف لا يُعد اعتراضاً، والكلام كله يدور حول كلمة (مصحف) والمراحل التي مرَّت بها.

وتكرماً منك لعلك تتأمل المراحل التي مرت بها كلمة (مصحف) المذكورة في الأعلى

لعلي بهذا أكون قد أوضحت ما أردت توضيحه
 
وذلك الادعاء غير الصحيح بأن عثمان رضي الله عنه هو أول مَن جمع القرآن كاملاً في موضع واحد - أيام خلافته - و لم يسبقه أحدٌ مِن الصحابة إلى ذلك - يعني تأَخُر التدوين المعتَمَد للقرآن إلى ذلك الوقت ( 25 أو 30 هـ ) بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم .
و هذا التأخر في التدوين ادعاه بعض المستشرقين ، و هو غير صحيح بحال من الأحوال ؛ كما تقدّم بيانه في المداخلة السابقة

و أتعجب كيف فات ذلك على اللجنة التي ناقشت رسالة الماجستير موضوع المشاركة الأصل هنا !
 
أخي د. أبو بكر حفظك الله

ما وصلت إليه بارك الله فيك فات الباحث -الضعيف- أيضاً الذي مكث مع البحث سنوات ولايزال، وفات المشرف، وفات لجنة المناقشة، وفات لجنة التحكيم في جمعية تبيان التي منحت الرسالة جائزة الرسالة المتميزة لعام 1432ه وقامت بطبعاتها.

لك الحق في الاعتراض بعلم وتروٍ ولكن من غير تهويل!!

وما ترى أن ما وصلت إليه صواباً ستجد جوابه فيما يأتي إن شاء الله لو صبرت!!

بوركت أخي
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
 
إضاءة:
هنالك بعض الفروق بين الجمعين، أهمها وما يعنينا في هذا المقام:
أولاً: ما فعله زيد في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما:
كان جمع ما ورد عن الصحابة وما كتبوه زمن النبوة في مكان واحد
ولكن بخط أولئك الصحابة الكرام
ولعل ما جمعه زيد في زمن أبي بكر ليس كله مكتوبا على ورق (الكاغد) بل ما كتب على الرقوق والجلود أيضاً؛ لذا كان من الصعوبة جمعها في ((مصحف واحد)) وإن لم يمنع من جمعها في غرفة واحدة أو مَوضع واحد.
قال ابن التين: إن أبا بكر رضي الله عنه جَمَعَ صحائف القرآن الكريم، ورَتَّبَهَا، ووَضَعَها في موضع واحد. انظر: الاتقان في علوم القرآن للسيوطي.
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: " إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلتْ عليه آيةٌ دَعَىَ بالكاتبِ فَأَثْبَتَهَا، وكانوا يكتبونها في العُسُبِ والحجارة وعِظام الكَتف. ثم جَمَعَ القرآنَ بعدَهُ في المصحفِ أبو بكرٍ رضي الله عنه ؛ صوناً عليه. ثم نَسَخَ مِن ذلك عثمانُ بن عفان رضي الله عنه وبقيةُ الصحابة. وكل ذلك لحفظِ القرآن، لِئَلاَّ يَشِذّ منه شيءٌ ".
ويبدو أن زيداً رضي الله عنه كان يسمي تلك الجلود والكواغد والرقوق بل وحتى الأكتاف صحفاً من باب المجاز، والدليل حديث قضية حرب المرتدين الطويل.. وفيه:
بعد قول أبي بكر رضي الله عنه لزيد " فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ " ... قال زيد: " فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ.. وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ ".

هل معنى :" فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ " = أعدتُ كتابة ؟
المعنى بعيد، والله أعلم.

ثانياً: بينما أعيدت كتابته زمن عثمان رضي الله عنه بخط كاتب واحد هو زيد بن ثابت، ثم أعاد كتابته بضع مرات (نسخه إلى نسخٍ عدة) بعد حديث قضية فتوحات بلاد الروم.
 
الأخ الأستاذ محمد الطاسان - بعيداً عن دعوى التهوين و التهويل : لك مِنّي ألاّ أُعَقِّب حتى آخر الرسالة
 
عبد الرحيم الشريف المحترم :
لم يكتب زيد على ورق ولا على كاغد ، وهذا الأخير الورق الغليظ المصنوع من خيوط وبقايا القماش عادة .
أما الورق فلا ذكر له قبل عام ١٣٣ هـ تقريبا . وبدأ صناعة الورق حوالي ١٧٨ هـ تقريبا في بغداد . وكان البردي أكثر انتشارا في ذلك الوقت وفي العصر الأموي .
أقدم أجزاء المصاحف المتبقية من القرن الأول هـ كتبت على الرق وهو الجلد الحيواني .

بتحياتي
 
شكرا لك د. موراني
القصد هو نسخ زيد رضي الله عنه للمصحف على الرقوق
كالرقوق التي نسخت فيها مخطوطة مصحف صنعاء
وبالمناسبة ..
ما رأيك بتلك المخطوطة وقيمتها العلمية د. موراني؟
 
عبد الرحيم الشريف المحترم ،
لم أقصد شيئا آخر غير الإشارة إلى أن الورق (أو الكاغد) لم يكن معروفا بالحجاز في عصر زيد .
أما الأهمية العلمية للأجزاء المتبقية من المصاحف بصنعاء فهي تكمن في أنها أقرب إلى العصر النبوي من غيرها من النسخ - قرآنية كانت أو غير قرآنية . وللنص العتيق أهمية كبرى من جميع النواحي العلمية : المادة ، الحبر ، الألوان وتحليل صناعتها ، وأيضا ترتيب الآيات والسور الكاملة في تلك الأجزاء . وكل ذلك لا علاقة له بالوحي ، بل بتأريخ النص ونسْخه ، وأرجو التمييز بين هذين الأمرين .
والبحث العلمي يشمل على هذه المخطوطات أيضا : فأنظر: معجم مصطلحات المخطوط العربي لأحمد شوقي بنبين ولمصطفى طوبي (ورق ، كاغد ، بردي ، رق) . الطبعة الثانية ، الرباط ٢٠٠٤ ، وكذلك الأبحاث( الكلاسيكية أليوم ) في هذا الميدان للمستشرقة Nabia Abbott تجدها في الشبكة على صيغة pdf في ثلاثة مجلدات .
 
د. موراني المحترم
كان سؤالي عن دقة ما أخبرني به د. عبدالله بن عبدالمجيد الزنداني ذات لقاء، بأن تلك المخطوطات قد اكتشفت من قِبل باحثين ألمان في جامع صنعاء الكبير ١٩٧٢م.
وتكمن أهميتها العلمية في أنها (وهي المكتوبة في القرن الأول الهجري) لا تخالف المصحف الذي بين أيدينا حالياً.
فهل أصدر الباحثون الألمان تقريراً يؤكدون به ما قيل حول المخطوط؟
 
من تلك الروايات ما رواه مصعب بن سعد قال:(قام عثمان فخطب الناس فقال: يا أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون: قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة..) وفي رواية:(فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسب فيه الكتاب..) أخرجه ابن أبي داود، قال ابن كثير:"إسناده صحيح"،
والأثر عند ابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/209
 
التعديل الأخير:
محمد الطاسان المحترم ،
ليست هناك أدلة قاطعة على استخدام الورق ، ولا الكاغد الرومي ، بالحجاز في عصر النبوي والخلفاء الراشدين . لقد ذكرتَ ما ذكرت بروايتين والألفاظ تختلف .
أنظر صحيح البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب ٤ ، وكذلك كتاب التفسير في الصحيح ، باب ١٨ .
وللونشريسي في المعيار(دار الغرب الاسلامي) ، ج ١ ، ص ٩٢ وما بعدها وأيضا ما قبلها حديث لطيف في هذا الموضوع . الأمر ليس بهذه السهولة كما تتصور .
بتحياتي
 
طاب مساؤك د. موراني المكرم

الاقتباس الذي وضعته أنا ليس لتسجيل رأيٍ في مسألة: هل الورق كان موجود زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةرضي الله عنهم أو لا؟

وإنما وضعته من أجل
أما الورق فلا ذكر له قبل عام 133 هـ تقريبا . وبدأ صناعة الورق حوالي 178 هـ تقريبا في بغداد .
 
عودة
أعلى