إلياس قويسم
New member
إعداد : إلياس قويسم
باحث و جامعي تونسي
1. توطئة:هجر الحتميّة التذكاريّة
ورد في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة في مادة "تاريخ" ما يلي: "يتساءل المؤرّخ عن صناعته فيعني بالتاريخ تحقيق و سرد ما جرى فعلا في الماضي.ويتساءل الفيلسوف عن هدف الأحداث فيعني بالتاريخ مجموع القوانين التي تشير إلى مقصد خفيّ يتحقّق تدريجيّا أو جدليّا.و يتساءل الفيلسوف أيضا عن ماهية الإنسان،عمّا يميّزه عن سائر الكائنات فيقول إنّه التاريخ...هذه هي أهمّ المفاهيم التي تتداخل حتما في أذهاننا عندما نستعمل ،و لو عرضا، كلمة تاريخ "
ندرك من خلال ما ورد آنفا أنّ مادة "أرخ" لم تعد تحتمل دلالتها الأصليّة باعتبار أنّ المتداول الإجرائي لها قد افتتح حقولا دلاليّة أخرى مردّ ذلك قلق التحديث و توتّر التجاوز الذي يسكن الذات المفكّرة ممّا اضطرّها إلى صياغة معان متعدّدة متولّدة أساسا عن تساؤلات منهجيّة و معرفيّة و فلسفيّة مختلفة، انطلاقا من هذا الانزياح من الدلالة اللغويّة –الأصليّة لمادة أرخ،بدأنا نشهد ولادات هجينة لمفاهيم مستقاة من رحم هذه المادة،فنجد مثلا عند الفيلسوف المغربي محمّد العزيز الحبابي استعمالات من مثل "التأريخ" histoire و "التآريخ" l'Histoire و"التآريخيّة" Historicité ،و بين هذه الاستعمالات استقلال –في-ترابط،بمعنى أنّ لكلّ مادة دلالتها الخاصة و لكن ليس في تمايز أو في قطيعة أو في تعارض أو تصادم مع الدلالات الوليدة المجاورة،بالإضافة إلى التوليدات الأخرى التي نجدها إجرائيّا عند محمّد أركون و نصر حامد أبو زيد و طيب تيزيني و عبد المجيد الشرفي ... من مثل التاريخيّة و التاريخانيّة...
وهذا الاختلاف في التسميات ليس إلاّ اختلافا شكليّا في مستوى المحامل اللفظيّة في حين أنّ الدلالات تتّجه رأسا نحو معان بعينها مرادة من قبل المفكّر،يعبّر من خلالها عن طبيعة النسق التاريخي الذي غدا يسم نمط التفكير والإجراء،حيث أنّ القراءة التأثيليّة Archéologique لمادة "أرخ" تعبّر عن نوع من التجليّات الدورانيّة والمتدوّمة Tourbillonnées تنمّ عن الطابع الحلقي لكلّ عصر من العصور،فالمنظومات المعرفيّة غدت كطفرات Mutations حلزونيّة،التي تتّخذ شكل دوائر متشظّية،إلى أن انتهت في عصور الحداثة إلى القطع مع أنظمة الرؤية و التعبير و الاتّحاد بالماورائي أو الحلول فيه،حيث بدأنا نلحظ ميلاد قوّة بديلة (الحياة بمعناها الواقعي-المادي) تتكلّم عن مكوّنات الوجود: الإنسان و اللغة و التاريخ والإله... بمعزل عن تأثير القوى الغيبيّة المفارقة التي تحوّلت من حقيقة إلى مجاز أو إلى وهْم أو ميثولوجيا ،مثل هذا الهجر للميتافيزيقا جعل الذات المفكّرة تتحوّل في إدراكها للمعاني من الكليّة و التماميّة إلى التشظّي والتشتّت و التبدّل الحيني أو المؤجّل فلم يعد الحديث في هذا المنهج التاريخي عن الـ"حقيقة" و الـ"معنى" الكوني الكلّي في تماميّته وإنّما عن صياغات دلاليّة ممزّقة ومشوّشة وآيلة إلى التجاوز و النسخ المحمول على معنى الإلغاء التاريخي والمحو الموقوتي القابل للعودة والتداول و المحايثة بحسب طبيعة الحاجة الاجتماعيّة والثقافيّة والإجرائيّة-الإيديولوجيّة الأفقيّة" ليست الوثيقة ،إذن، خزّانا و ذاكرة تحفظ التراث و تبقي على الدوام و الخلود.إنّها على العكس من ذلك،لا تعمل سوى على تأكيد الاختلاف بين الحاضر الذي يمنحنا أفق التفكير و التساؤل ،و بين الماضي الذي كفّ عن شحذ هذا الحاضر."
ذلك أنّ طبيعة الأنظمة الوليدة ضمن دائرة الحداثة الغربيّة تخلو من مراكز على اعتبار تلك القطيعة مع المتعالي و الإبقاء على حيويّة المحايث والواقع الأرضي في تعدّده ،وهي دلالة واضحة على نهاية تاريخ الميتافيزيقا المطلق و المغلق،أي أنّ مثل هذه الأنظمة و جملة ممارساتها التنظيريّة تدفع خارج حقلها كلّ فكرة ثيولوجيّة تسعى إلى التحكّم في نسق تفكيرها أو صياغاتها و تصوّراتها بصورة متعالية ومفارقة،من ثمّ فالمفكّر في التاريخ أو بالتاريخ يحاول تجنّب الحتميّة التذكاريّة التي تعمل على محاولة سرد خطّي أمين أو أفقي أو بسيط ساذج للمعنى من خلال تثبيته عند دلالة أحاديّة،بمعنى أنّه يصرّح أنّ انخراطه في التعامل مع التاريخ أو مع النصوص مهما كانت مصدريّتها ليس انخراطا موضوعيّا أو بريئا أو محايدا بل هو عمل موجّه وغير برئ وغائيّ و فيه انتهاك معلن لمقولاته بالطريقة التي يدركها القارئ في تعدّده ،لأنّ الممارسة التاريخيّة لا تهدف إلى الاستعادة الساذجة أو البدائيّة لمحامل النصوص وعتباته الخارجيّة أي مراد الباث أو المؤلّف و البقاء في حقل الإصدار و محاولة تلوين مقولاته بما يتّفق والمقصود الأحادي للمرسل-الباث ،بل يسعى إلى استمالة النصّ أو الحدث إلى جهة القارئ بالقدر الذي يمكّنه من استنهاض كوامنه الرابضة في منطقة اللامفكّر فيه من النصّ قصد توظيفها في حقله الاجتماعي أو الفكري...،فالقول بالاستعادة الواعية والصريحة والأمينة و المُحكمة للنصّ الأصليّ لا يمثّل سوى وهم ميتافيزيقي،لأنّ الممارسة التاريخيّة هي ممارسة تأويليّة رابضة على سطح رخو –قابل للتشكيل وإعادة الصياغة و تتفاعل مع متلقّ له ظروفه و مرجعيّاته ممّا يعني انعدام الالتزام الكامل و الحياديّة الموضوعيّة في فضاء بشري موسوم بالنسبيّة، لأنّ لكلّ قارئ معاملا شخصيّا به يميّزه تلقائيّا،ما يلائم طبعه واهتماماته وهذا يفترض تحييد فاعليّة الحياديّة،لأنّ الفهم ملتصق بجوانيّة الذات ومتأثّرا بجملة العوامل الدافعة نحو التفكير بطريقة أو بمخطّط دون آخر و ما انطوى عليه حدسه من مضمرات وتساؤلات واستفهامات ووجه من وجوه الإجابات الموقوتة-التاريخيّة،تبعا لذلك،تخلّصت الذات من فكرة الاعتقاد التي تحيل إلى الصرامة و الأحاديّة و الالتزام الإيماني إلى فكرة الفهم و التأويل عبر آليّة القراءة،وهذا يعكس تحوّلا جذريّا في مستوى تركيبة الذات الفرديّة والمعشريّة-الجمعيّة، حيث حوّل أفق مستقبله من البعد الزمني الذي يقع بعد الموت –الماورائي- إلى بعد محايث لا يغادر الأرضي،و في مستوى الفهم أحدث طفرة من خلال الانتقال من الدائرة الإيمانيّة إلى الدائرة العلميّة ممّا يعني التحوّل من نظرة القداسة إلى الدنيوة
نريد من وراء هذه الممارسة التأمّليّة التأكيد على أساس نبني من خلاله فكرتنا حول "التاريخيّة" وهي "اللامفكّر فيه L'impensé في المنظومة المتداولة أو الأرثودكسيّة" الأهليّة أو الغربيّة، المنطلقة أساسا من الطبيعة المنعكسة للفكر الغربي الذي ينكر الإله في ممارساته النقديّة التي طالت كلّ ذرى الوجود التي تحتضن الإنسان،مثل هذه الخطوة النقديّة النافية لحضور الآخر "الإله" تحرّره كفرد وتجعله منافسا له،تتضمّن هذه الممارسة تحويل سيرورة الوجود خارج الإطار الديني و تحويل مسار المعنى و حيويّة تاريخ الأفكار خارج الإطار التقليدي،هذا الأبق/الانزياح الفكري من قبل الإنسان الغربي عن الإله،هو الحدث المركزي الذي تعلن فيه الذات عن حضورها الحرّ و المستقل عن تبعيّة الإله،إنّه تأسيس لهذه الذات خارج الحقل الديني،حيث الاختفاء الإرادي للإله أو السقوط أو الخروج و بداية حيرة الإنسان، هذه البداية ستنقله من الحٍٍِلّ إلى الترحال أي من حلقة إلى أخرى و من نشأة إلى أخرى و لكن خارج إطار المعتقد الديني الذي يحوّل إلى منْتَج ثقافيّ، ممّا يعني تسطيح الأبعاد المتعالية و المفارقة والاكتفاء بحيثيّات واقعه التاريخي،إنّه فكر يفكّر في الإنسان ومن أجله ضمن حدود وعيه المحايث.
من هذه النقطة،أرى إمكانيّة تناول "التاريخيّة" لا كمصطلح فحسب،بل كمنهج و مذهب حوّل وجهة الفكر و الوجود من المتعالي إلى المحايث،ومن التفكير بحضور الإله إلى التفكير في غيابه.ومن فكرة الامتداد و التجاوز إلى فكرة الموقوتيّة و الحينيّة للأفكار،انسجاما و طبيعة الإنسان المتغيّرة و المتجدّدة التي لا تقبل بالتماميّة أو الكونيّة،إنّه تاريخ نفي وتدوّم حلزونيّ حيث يستمرّ اللاتناسق بين الإلهي و الإنساني و الذي تلخّصه عبارة الإنجيل " مملكتي ليست في هذا العالم" مثل هذه العبارة شكّلت حجر الأساس لبدء حضور الإنسان خارج النموذج الإنسان المتديّن،عبر زوال وهْم الإله أو العالم الماورائي-القروسطي، وعلمنة أنماط الحياة و المعارف،حيث يتحوّل تاريخ الأفكار إلى دورات و انعطافات متكرّرة و قول ونسيان و نفي و عود على بدء،فكأنّ العالم الغربي يكرّر عبارة يحي لموسى: إنّ قومك سيتولوّن عبادة آلهة أخرى،كما عبّر عن ذلك ميشال فوشو .مثل هذه الانعطافة لم تشكّل تحوّلا في مستوى الوجود فحسب بل شكّلت دعامة قويّة لتغيير معنى الكلمات والأشياء،من ذلك معنى التاريخ الذي أصبح يعني " كلاما عن الحاضر.إنّ المؤرّخ لا يصف الماضي كماض وإنّما يصف الماضي المستحضر في ذهنه." وهو إيذان بالتحوّل من التأريخ إلى التآريخيّة أو التاريخيّة .
2. قراءة في التاريخيّة : الفهم عمليّة تاريخيّة
2. 1: من التأريخ إلى التآريخيّة
حينما نتعامل مع العديد من التعريفات التي صيغت حول مفهوم التاريخيّة سنجدها رغم اختلاف محاملها اللغويّة تنشدّ نحو الوجود الأرضي المادي-الإمبيريقي الذي اعتبر مجازا أو ثانويّا في المنظومة القروسطيّة-المنشدّة إلى المتعالي الديني،فنجد مثلا محمّد أركون يعرّفه بقوله " تصييغ عرفاني استعمله الفلاسفة الوجوديون بالخصوص للتحدّث عمّا للإنسان من ميزة في إنتاج سلسلة متلاحقة من الأحداث، والنظم،والمنتوجات الثقافيّة،التي يتكوّن من مجموعها مصير البشريّة،و بهذا المعنى يكون المفهوم صالحا للفكر في التغيّر كأنّه مقولة وجوديّة مرتبطة بمطالب الموجود الأوّل و العرفان و التقييم و التملّك" ،يتجلّى أنّ التاريخيّة هي مقدرة كلّ مجتمع على إنتاج ميدانه الاجتماعي و الثقافي الخاص به،أي تلك القدرة على التكيّف عبر آليّة التأويل،الذي لا يُقصد به هنا الرجوع إلى المعنى الأصليّ و الثابت،بقدر ما يراد به التصنيف المكيّف لما يمكن أن يحمله أيّ نصّ أو حدث من معان ظاهرة و أخرى محدوسة،أي التحوّل من وضع النصّ في حقل ظهوره إلى ما يمكن أن يوحي به بالنسبة إلى عصر آخر عسى أن يُفهم ويفسّر بمنهج آخر و برؤى مغايرة ممّا يعني بداهة أثر الفكر الماركسي-المادي على مثل هذه الأطروحات حيث يؤكّد ماركس أنّ التاريخ هو صنع الإنسان وهو بدوره صانع له و كلّ تحيّز فكري نقيض لها يعتبر محض خيال و حياكة في سراب وهذا تأكيد من طرفها على أنّ المطلوب ليس مجرّد تفسير التاريخ أو الحدث أو النصّ أو الظاهرة بل تأويله و فهمه من أجل التغيير ،بهذا المعنى تغدو التاريخيّة مريدة لتجاوز حرفيّة الأثر إلى إبراز إشكاليّات جديدة،بهذا المعنى نتحوّل بحسب الفيلسوف المغربي محمّد العزيز الحبابي من "تأريخ" histoire عبر جعل الحدث أو النصّ تحفة ثمينة معدّة للمتعة البصريّة/ أو وثيقة متحفيّة إلى "التآريخيّة" Historicité التي تتعامل مع الأثر كأنّه آثار حيّة قابلة للتجنيد في معركة المصير الثقافي طامحة إلى تجاوز الحاضر المحاضر إلى مستقبل منفتح . فهي بذلك تتجه إلى دراسة التغيّر و التطوّر الذي يصيب البنى و المؤسسات و المفاهيم من خلال مرور الأزمان وتعاقب السنوات .وهي تختلف عن مفهوم "التاريخوية l’historicisme المرتبط بالنظرة الوضعية الضيقة التي سادت في القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن،و الذي يعني دراسة التاريخ أو مفاهيم أو بنى و كأنها محكومة بفكرة التقدم المستمر في اتّجاه محدود و ثابت و معروف.
2 .2 : التاريخيّة القديمة و وهم الموضوعيّة
إنّ التاريخيّة هي في الأصل سلف وخلف،تاريخيّة قديمة و أخرى جديدة،و كلاهما يتّخذ موقفا من الحدث التاريخي أو النصّ المراد تناوله والتعامل معه و كذا في باقي العلوم المتعلّقة بالإنسان،ففي حين تتخّذ الأولى منحى أقرب ما يكون إلى الالتصاق بالنصّ و محاولة استرجاع أو إعادة بناء سياقه القديم و الإبقاء على تجانسه و إحكامه وذلك من أجل محاولة فهم النصّ كما فهمه معاصروه،و هذا ما يجعل للنصّ معنا واحدا و ثابتا غير قابل للتأويل أو التجاوز أو القراءة بطريقة مغايرة تسعى إلى الكشف عن المسكوت عنه في النصّ و مستوياته و طبقاته المتراكبة و دلالاته المتشابكة، فهو ثابت دون مراعاة السياق أو البيئة أو التقادم و تغيّر بيئة المتلقّي،من هنا يكون لهذه النظريّة جانب صحّة وهو الإقرار بتاريخيّة العمل : نصّا أو حدثا ...و لكن في جانب آخر يسقط في نوع من المغالطة التاريخيّة على اعتبار التضحية بتاريخيّة القارئ و عصره وهواجسه و كوامنه و ضمنيّاته وخلفيّاته و تصوّراته، وانتظاراته،فأقانيم هذه النظريّة القديمة تدعو القارئ إلى التجرّد أو التطهّر من مقولات عصره و شواغله و تحييد فاعليّتها الإجرائيّة ليتسنّى له بلوغ درجة الفهم الموضوعي و امتلاك المعنى القديم/الأصليّ للنصّ أو للحدث أو للأثر.
مثل هذا التصوّر يجعل من النصّ نقطة البدء و المعاد في مجال الدراسات الأدبيّة،و لأجل الحفاظ على موضوعيّة المعنى و حياديّة الفهم لنقٌل قصد المؤلّف إلى القارئ وجب صياغة أطر مرجعيّة وإستراتيجيّات ناجعة ،وكانت بدايات هذه المحاولة مع المفكّر الألماني شليرماخر (1843م) حيث نقل مصطلح الهرمينوطيقا من دائرة الاستخدام اللاهوتي/ الديني إلى دائرة العمل الأدبي و غيره ...حيث جعله آليّة للفهم،و ليس أيّ فهم بل هو الفهم الموضوعي المعبّر عنه بتطابق فهم القارئ مع مقصود المؤلّف مهما تباعدا تاريخيّا "إنّه يحاول أن يتجنّب "سوء الفهم المبدئيّ" في أيّ عمليّة تفسير.و لكنّه في هذه المحاولة لتجنّب "سوء الفهم" يطالب المفسّر –مهما كانت درجة الهوّة التاريخيّة التي تفصل بينه و بين النصّ – أن يتباعد عن ذاته و عن أفقه التاريخي الراهن ليفهم النصّ فهما موضوعيّا تاريخيّا.إنّه يطالب المفسّر –أوّلا- أن يساوي نفسه بالمؤلّف،و أن يحلّ مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي و الموضوعي لتجربة المؤلّف من خلال النصّ " معنى هذا أنّ التاريخيّة الكلاسيكيّة/ القديمة تفترض وجود دائرة هرمنيوطيقيّة Cercle herméneutique يكون فيها المؤوّل عارفا بجانبيْ النصّ التاريخي و التنبّؤي،من خلال الإدراك الكامل باللغة و بخصائص النصّ من جانب الآخر .
لكن مثل هذه القواعد و الشروط التي وضعها منظّرو التاريخيّة الكلاسيكيّة من أجل تجنّب زلل "سوء الفهم" و إمكانيّة التعرّف بطريقة موضوعيّة ودقيقة على أحداث الماضي ليست إلاّ وهما ،لأنّ مثل هذا المنهج يريد من القارئ أن يتجرّد من خصوصيّة واقعه بجملة شحناته الوجدانيّة-النفسيّة و فعاليّاته وآثاره الفرديّة و الجمعيّة وتوجّهاته،بمعنى أنّ نجعل من هذا القارئ أو المتصدّي للنصّ يفكّر بطريقة مغايرة و خارجة عن ذاته و تخالف نمط امتلاكه للمعنى،لكن مثل هذا التوق نحو الشموليّة والموضوعيّة و الوقوف عند المعنى الأوّل و الوحيد للنصّ ليس إلاّ إيتوبيا حالمة،و طبيعة هذه الإيتوبيا أنّها تصبو نحو وحدة المعنى إلاّ أنّها لا تنتج سوى معان متشظّية لأنّها أهملت وجود القارئ لصالح المؤلّف و اهتمّت بذلك "الوجود المغاير" على حساب الوجود الفعلي الواقعي للقارئ،فالتاريخيّة الكلاسيكيّة، نظرا إلى أرثودكسيّتها/صرامتها المعرفيّة لقرب عهدها باللاهوتيّة،بل و خروجها من رحمها، و التي تقرّ بمبدأ الفهم الصارم الوحيد للنصّ الديني و "تحريم" المساس بقدسيّة النصّ معنى و مبنى،لم تعتبر حال تعميم نموذجها على النصوص الأدبيّة ذات الإبداع الإنساني،مبدأ التعديل بالقدر الذي يضمن توظيف هذا المنهج بطريقة إيجابيّة،أي أهليّتها الفكريّة للإجابة عن الإشكاليّات المطروحة،لأنّ الهرمينوطيقا في إهابها القديم-اللاهوتي سعت إلى إعادة أو استعادة تراث الكاتب، والحال أنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ، و حسب تآريّخيّته،هذا المعنى هو الذي سعت التاريخيّة الجديدة إلى الارتفاع به إلى دائرة الضوء من خلال تنصيصها على النظرة الثقافيّة الحضاريّة بدل النظرة الشموليّة العامة،و ذلك من خلال فعل التأمّل و التأويل الذي يتجاوز نسق الاستلهام إلى منهج الانتهاك حيث يكون المؤوّل حاملا لقبليّات قراءته قصد التأمّل في النصّ،ومن ثمّ تكون المواجهة بين ضمنيّات المؤلّف و قبليّات القارئ،وهو ما يتولّد عنه تعدّد الفهوم و المعاني،لأنّ مثل هذا الفعل ليس إلاّ بحثا عمّا يؤيّد المشروعيّة المنطقيّة و التأريخيّة للمصادرات التي يؤمن بها القارئ ،وهذا متولّد أساسا عن هجرة الأنظمة التأويليّة للنموذج اللاهوتي وتحويل مجرى الإنسان خارج الإنسان المتديّن، والتأكيد على أنّ الوصف الموضوعي أو النقل الأمين ليس إلاّ وهما ميتافيزيقيّا في النموذج المعدّل للتاريخيّة الجديدة،فالقول بوجود قوانين للفهم و العصمة من الخطأ و سوء الفهم ما هو إلاّ مصادرة عن المطلوب،و من ثمّ لا يبقى إلاّ الفهم و طابعه التأويلي حيث تبرز المسافة بين الفكرة في مهد نشوئها و بين حركة إبداع الفكر التقدي.
2 .3 : التاريخيّة الجديدة و التواصل بقبليّات القراءة
انطلقت التاريخيّة القديمة من ثلاثة افتراضات أساسيّة وهي:
• التاريخ موضوع يقبل المعرفة.
• الأدب مرآة تعكس الحقيقة التاريخيّة .
• بإمكان المؤرّخ و الناقد رؤية الحقائق التاريخيّة بموضوعيّة.
مثل هذه الافتراضات اعتبرت في التاريخيّة الجديدة غير قمينة بالظهور والتداول نظرا إلى أنّها لا تأخذ بخصوصيّة الواقع ولا بتموضع القارئ وجملة خصوصيّاته و احتمالاته،لأنّ هناك فارقا بين زمن الكتابة و زمن القراءة،ومن ثمّ يبرز مفهوم سياق الكتابة و سياق القراءة حيث يخضع كليهما للظرف التاريخي و الاجتماعي و التراثي والإيديولوجي و النفسي و الانتظارات،وعلى هذا الأساس يرى منظرو التاريخيّة الجديدة أنّ التاريخ هو نصّ أو موضوع نصّ،حيث إمكانيّة القراءة المفتوحة و تكرارها تبقى متاحة وهنا يكمن الفارق بين التاريخيّة القديمة و الجديدة،ففي الأولى تأخذ نهجا صارما-أرثودكسيّا فلا مجال لزحزحة المعنى عن سياقه الأصلي،ومن ثمّ يصعب التواصل لأنّ وسائل التعبير تتغيّر مع الأجيال كما تتغيّر الاهتمامات،وهو ما يجعل النصّ محصورا معنى ومبنى في لغة عصره و في اهتمامات خاصة بعصره ممّا يجعل آفاقه و انسيابه الحضاري معطّلا ،في حين أنّه في النموذج الجديد للتاريخيّة تغدو إمكانيّة تبنّي إشكاليّته و تأويل لغته مسموحة وتوظيفها لصالح عصرنا ممكنة،من ثمّ تقرّ التاريخيّة الجديدة بأنّنا لا نملك التاريخ ذاته أو التاريخ المفترض أن يكون موضوعيّا بل وجها من وجوه التاريخ الممكنة،بقدر ما نملك جملة من النصوص والمتخيّلات و الرؤى و التأويلات والأفهومات والحكايات لأنّنا تخطيّنا فكر العرض السردي-الوثائقي إلى فكر الفهم الثقافي و التأويل من أجل التغيير و التجاوز في الوجود الإمبيريقي،نظرا إلى أنّ الفلسفات تعزو لهثها وراء تسطيح المعاني إلى البحث عن الإنسان و التاريخ بعد فقدهما أو حضورهما السلبي في النسق المستقيل/ الملغى:اللاهوتي بحسب التفسير المادي الغربي،لذلك نجد أنّ التاريخيّة الجديدة تقف على التفيض من نسختها الكلاسيكيّة، وتقرّ بالآتي:
• قابليّة التاريخ للمعرفة و لكن من خلال جملة النصوص و التأويلات،أي امتلاك رؤية في شكل طفرات معرفيّة.
• الأدب ليس مرآة للحقيقة التاريخيّة،كما أنّ التاريخ ذاته ليس انعكاسا للحقيقة التاريخيّة.
• التاريخ هو سيرورة تدمير النصوص عبر فعل الظهور و الإلغاء.
• لا وجود لحقيقة موضوعيّة بقدر ما هناك "حقائق" بصورة ذاتيّة و هي حقائق لا يمكن عرضها إلاّ من خلال هذا المنظار و بواسطة تأويل ذاتيّ محض.
من هذا المنظار ندرك أنّ التاريخيّة الجديدة سعت إلى التخلّص من إهاب التاريخيّة الكلاسيكيّة التي أبقت على الإهاب الديني و جملة مفاهيمه كالخطيئة و الإثم و التجريم و المعنى الواحد والمقدّس و المغلق ،ممّا يجعل العمل ضمن حقل الإنسان المتديّن عملا موجّها تجاه الباث و الالتزام بقواعده وأطروحاته دون المساس خصوصا بقدسيّة المعنى والمبنى و بعده الواحد تماشيا مع وحدة الإله وفرادته خوفا من الردّ العقابي العاجل أو الآجل المقرّر في المدوّنة الدينيّة،ممّا يعني في نظر آباء التاريخيّة الجديدة اهتماما كليّا بالبعد العمودي-المفارق (الإله) و حضورا باهتا إن لم نقل حلولا في الإله و نسيانا لوجوده أي بعده الوجودي-الأفقي،أي استبدال تاريخه الخاص بتاريخ الإله.
و لكن التاريخيّة الجديدة آثرت أن تكون مفاهيمها خارج هذا الحقل،أي تحويل مجرى الإنسان خارج الإطار الديني عبر تحرير الإنسان من تبعات وأوزار و عقوبات المنظومة الدينيّة وهو تحرير له دلالته المنهجيّة و النفسيّة الفكريّة إذ هو إعلان عن انتقال الإنسان من وضع العبوديّة والتبعيّة إلى وضع السياديّة عبر تنزيل كلّ الأطروحات ضمن الإطار الوجودي-التاريخي ومن ثمّ ظهور الإنسان عبر اختفاء الإله،أي الحديث هنا عن تاريخ المعرفة المنعكسة خارج الإطار الديني،فالتاريخيّة الجديدة تغدو معبّرة عبر إفرازاتها و مرجعيّاتها خصوصا الماركسيّة و التقويضيّة أو التفكيكيّة والأنتروبولوجيا الثقافيّة عن تاريخ المعرفة المنعكسة،فهذه المغامرة الدورانيّة هي في الحقيقة مغامرة ما يسميّة غادامير: "تاريخيّة الفهم و التأويل، فالتأويل حدث تاريخي لا يتمّ في فراغ بل هو حكاية جهود القارئ في انتهاك النصّ و التعامل معه قصد الولوج إلى معان بكر أو غير مسبوقة متجنّبا تكرار المكرور كما في التاريخيّة الكلاسيكيّة،و مثل هذه الجهود تبقى ضمن إطارها الوجودي الجديد،أي التاريخي الأرضي المحكوم بإوالياتها و ظرفيّة القارئ و قبليّاته المفترضة أثناء جهود قراءته،ومن ثمّ يكون الفهم أو تاريخيّة الفهم حدثا متغيّرا،على اعتبار تغيّر صيغة امتلاك النصّ عبر تغيّر القارئ وجملة ظروفه الاجتماعيّة ومحيطه الثقافي واستعداداته النفسيّة،بحيث كلّ قراءة تعتبر ولادة جديدة للنصّ نظرا إلى فعل التناص بين فكر القارئ ونصّ المؤلّف،ممّا يجعل النصّ أو كلّ عمل أدبيّ" خذروف غريب لا يوجد إلاّ بالحركة،و لا بدّ لإبرازه إلى الوجود من فعل ملموس هو القراءة" بحسب تعبير سارتر من هنا تبرز حيويّة النصّ و معانيه ودلالاته حيث تؤثّر الإيديولوجيا و صراع القوى الاجتماعيّة و الثقافيّة و مرجعيّات القراءة و قبليّات القارئ و نظرته إلى النصّ و مرجعيّته و انتماؤه الثقافي في إعادة تشكيل النصّ مبنى و معنى ومصدرا حيث تتغيّر الدلالات و تتضارب حسب المتغيّرات التاريخيّة و الثقافيّة و ميزان القوى،وهو ما أخذته التاريخيّة الجديدة من منهج التفكيك عند جاك دريدا،من هنا تكمن أهميّة مفهوم إزالة الاغتراب الذي يقول به غادامير بين النصّ والقارئ،
فالتأويل و فعل القراءة هي محاولة لجعل النصّ مألوفا لدى قارئه و منتميا بدلالاته إلى أفق القارئ ومتعاصرا معه،بحيث يكشف عما يريد القارئ إبانته و تنزيله ضمن فضائه،فقد يكون النصّ يكشف سابقا عمّا هو ديني و طقوسيّ و مقدّس و أسطوريّ ورمزيّ و شعائريّ و ماورائي و غيبيّ،فإنّه في حالته الجديدة يكشف عمّا هو زمنيّ و دنيويّ وتاريخيّ ومحايث حيث تنتفي المصدريّة و تغدو النصوص متساوية الدرجة دون تمييز بين ما هو فلسفي وإلهي و أدبي، فهي كلّها نصوص ثقافيّة منتجة في واقع تاريخيّ محدودة و مرتبطة بحاكميّة الحقل التاريخي الجديد،يحكم على فاعليّتها من دون مفارقة الزمني،فتحدّد نشأتها من خلال بناها التحتيّة ضمن المجال التاريخي-المادي المحض من دون تلك المغامرة فوق التاريخي.
يظهر جليّا كيف أنّ التاريخيّة الحديثة اتخذت مسارا يساريّا ثوريّا يسعى إلى تقويض المسلّمات الأثيلة وتغييرها بما يراه قمينا بالظهور من وجهة نظره حيث تؤثّر الإيديولوجيا و صراع القوى الاجتماعيّة في تشكّل النصّ و حيث تتغيّر الدلالات وتتضارب حسب المتغيّرات التاريخيّة والثقافيّة ،وهذا التضارب في الدلالات هو من تبعات تبنّي التاريخيّة الجديدة بعضا من دلالات التفكيكيّة أو التقويضيّة.
مثل هذا التوجّه قد يكون مقبول النتائج إن كان مع نصوص ثقافيّة مستوحاة من الواقع و ناشئة عن صياغة بشريّة معنى و مبنى،و لكن هل يبقى الموقف ذاته إن تعاملنا مع النصوص المقدّسة المتعالية و ذات طبيعة مفارقة و متّخذة صفة القداسة التي تعني المساس بمضامينها أو تحويلها أو التشكيك فيها أو التصريح بإمكانيّة تجاوزها،نظرا إلى اكتسابها موقعا وجدانيّا لدى الناس،مثل الانخراط في خلاف هذا الرأي يشكّل تقويضا للإلفة العقائديّة-الوجدانيّة لدى حرّاس الرأسمال الرمزي و مريديهم، لأنّ إرادة التعامل العلمي-التاريخي مع مثل هذه النصوص تستلزم "إحراج" المنظومة عبر محاولة إنزال أصولها من المفارق إلى المحايث عبر البحث عن مرجعيّاتها الاجتماعيّة-التاريخيّة القبليّة القمينة و المشرّعة لظهور مثل هذه الظاهرة وهذا يقتضي نقض مفهوم القداسة و إدراجها ضمن "الثقافي" الذي يسوّي بين النصوص مهما كانت مصدريّتها، و النماذج الموضّحة لتعامل "المفكّر"ين العرب مع النصّ المرجعي-القرآني انطلاقا من المنهج التاريخي كثيرة، و نذكر على سبيل المثال لا الحصر الطيبّ تزيني وحسن حنفي و نصر حامد أبو زيد و حسين مروة ومحمّد أركون...
3. في طريق الختام
تتّجه بنا مقولات التاريخيّة إلى القول بأنّ النصوص القمينة بالتداول و الثريّة تقبل تأويلات لا تأويلا واحدا،و أنّها –أي التاريخيّة-تحرّر المقولات من أسر المعنى إلى آفاق المغزى حيث النصّ في جدل مع القارئ و حقله الحاف به : الثقافي والاجتماعي و التاريخي،بشرط النزوع إلى الدنيوة والتخلّص من نزعة القداسة المكبّلة للمعاني أي القول بثقافيّتها و واقعيّتها،قصد امتلاكها شرعيّة التداول والتفاعل و لكن و ليس بصورة واحدة بل بصور متعدّدة تخضع لإحداثيّات الواقع التاريخي،مثل هذه المقولات التي أتت بها التاريخيّة قمينة بالاعتبار في مستوى النصوص الأدبيّة –البشريّة،أمّا في مستوى النصوص المقدّسة فإنّ الأمر يغدو مختلفا لأنّ هناك انتقال من وضعيّة إنتاج بشري إلى اعتناق دين الذي هو في الأساس ليس خيارا إنسانيّا بقدر ما هو وضع إلهي داع إلى الاتّباع الواعي،من دون التشكيك في مصدريّته،لأنها جزء من هويّته،فإسقاط هذا الشرط هو بداية الإيغال في الانسلاخ عن الدين و تشريع للوجود التاريخي خارج دائرة الإله والعيش بإهاب الإنسان المعلمن لا المتديّن،أي الذي آثر الاغتراب وإنزال غربته من المتعالي إلى المحايث،في غياب شبه كلّي للإله في صورته الأصليّة،و لكن تبقى التاريخيّة آليّة جديرة بالاعتبار و التوظيف في مجال إعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة واعية قصد تجريده من الدخيل و تمكين القارئ من الاشتغال به و عليه لعلّه ينحت مسارا من مسارات الحداثة بمواصفات أهليّة لا وافدة تعطي مشروعيّة للتجديد و التعديل للقيام بطفرات واعية نحو الأفق الغدوي الذي ماهو سوى ممارسة أكثر واقعيّة و جدوى من الحاضر ولكن بشرط أن يكون القارئ واعيا بشروط التاريخيّة و حدودها و محدوديّتها الإجرائيّة-الوظيفيّة،بمعنى الوعي بأنّها آليّة نمتلكها ولا تمتلكنا.و مثل هذه المعالجة تعتبر قمينة بالظهور باعتبارها تمثّل آليّة أساسيّة من آليّات استقدام النصّ القرآني من قداسته و عليائه لإدراجه في الهنا الأرضي حيث التعالي يغدو مؤنسنا و عليه تكون كلّ النصوص سواء بالنظر إلى كونها قد غدت منتجا ثقافيّا،وهي البوابة التي يراد من خلالها تناول النصّ القرآني قصد تحرير دلالته و تأسيس مقولات القارئ بدلا عن آيات الله،فتكون الأحكام وفق مناط القارئ و إكراهات الواقع وليس تحت ضاغطة التوجيه الإلهي،فتكون الأحكام معتقلة و مرجأة التحقيق إلى حين انتظار نداء الواقع مع إغفال خصوصيّة هذه الأحكام سواء أكانت ناسخة أو منسوخة،لأنّ النسخ تاريخي موقوتي و ليس تأبيدي،و تلك خطورة توظيف التاريخيّة في مجال المقدسات.
الهوامش:
العروي (عبد الله)،مادة تاريخ،الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ،إشراف،معن زيادة، معهد الإنماء العربي.بيروت-ط1/1988، ج1 / ص 210.
التأثيليّة: مصطلح يعني الحفر التاريخي الذي يتّجه صوب البحث عن العوامل التي تجعل المعارف و النظريّات شيئا ممكنا،واضعة في أفق منظورها سؤالا جوهريّا دائم الفاعليّة وهو :حسب أيّة أنظمة تأسّست المعرفة و صاغت موادها ومواردها و على أيّ أساس تاريخي أمكن لبعض الأفكار أن تنبجس و لبعض العلوم أن تتداول و تتأجرأ.
بن عبد العالي (عبد السلام)،أسس الفكر الفلسفي المعاصر ،مجاوزة الميتافزيقا،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء-المغرب،ط2، 2000،ص 64.
فوشو (ميشال)،تاريخ الأفكار و العقل المنعكس،قراءة في ماهية العقل الغربي،مجلّة الفكر العربي المعاصر،مركز الإنماء القومي،بيروت-لبنان،عـ102-103ـدد،1998،ص 137-138.
الحبابي(محمّد العزيز)،ورقات عن فلسفات إسلاميّة،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء-المغرب،ط1، 1988،ص 10.
الدنيوة: مصطلح شديد الدلالة خصوصا عند محمّد أركون حيث يجعله في تضاد تام مع مفهوم القداسة،فدنيوة المفاهيم و كلّ ذرى الوجود الإنساني،هي محاولة التعامل مع كلّ المعطيات التي تمسّ الإنسان من دون الوقوع تحت طائلة القداسة و توابعها من حلال و حرام...بمعني زحزحة المفاهيم خارج ساحة الإنسان المتديّن،بمعنى علمنة الواقع البشري، وجعل المقدّس جانبا ذاتيّا ذا دلالة خصوصيّة-فرديّة،دون أن يمسّ الحراك الاجتماعي.
اللامفكّر فيه: مصطلح من معجم محمّد أركون و يدلّ على كلّ ما لايحطر على بال ثقافة معيّنة في فترة ما،و لديه مصطلح توأم وهو المستحيل التفكير فيه،و الذي من دلالاته ما يستحيل التفكير فيه في لحظة معيّنة من لحظات التاريخ أو في مجتمع معيّن.بالإمكان مراجعة كتاب نزعة الأنسنة في الفكر العربي،ص 21 (في الهامش)
فوشو (ميشال)،المرجع السابق،ص 142.
العروي (عبد الله)،المرجع السابق، ج1 / ص 215.
أركون (محمّّد)،الإسلام و التاريخيّة و التقدّم،ضمن الملتقى العاشر للفكر الإسلامي،10-19 جويلية 1976،عنابة-الجزائر ،مطبعة البعث،1400هـ/ 1980م،ص 68.
معن (زيادة)،الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، معهد الإنماء العربي،.بيروت-لبنان،ط1/1988،ج2/ ص 988.
الحبابي(محمّد العزيز)،من تأريخ الفارابي إلى تاريخيّته، مجلّة دراسات فلسفيّة و أدبيّة،عـ1ـدد،1976-1977،دار الكتاب،الدار البيضاء-المغرب،ص 100-101.
أبو زيد (نصر حامد)،إشكاليّات القراءة و آليّات التأويل، المركز الثقافي العربي،بيروت-لبنان،ط2 ،1992،ص 23.
الحبابي(محمّد العزيز)،المرجع السابق،ص 109.
الطرهوني (علي)/النصّ المكتوب و النصّ المقروء،مجلّة الحياة الثقافيّة،وزارة الثقافة التونسيّة، عـ58ـدد،السنة 1990،ص 59.
الرويلي(ميجان) و البازغي(سعد)،دليل الناقد الأدبي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء-المغرب،ط2، 2000،ص 45.
باحث و جامعي تونسي
بسم1
1. توطئة:هجر الحتميّة التذكاريّة
ورد في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة في مادة "تاريخ" ما يلي: "يتساءل المؤرّخ عن صناعته فيعني بالتاريخ تحقيق و سرد ما جرى فعلا في الماضي.ويتساءل الفيلسوف عن هدف الأحداث فيعني بالتاريخ مجموع القوانين التي تشير إلى مقصد خفيّ يتحقّق تدريجيّا أو جدليّا.و يتساءل الفيلسوف أيضا عن ماهية الإنسان،عمّا يميّزه عن سائر الكائنات فيقول إنّه التاريخ...هذه هي أهمّ المفاهيم التي تتداخل حتما في أذهاننا عندما نستعمل ،و لو عرضا، كلمة تاريخ "
ندرك من خلال ما ورد آنفا أنّ مادة "أرخ" لم تعد تحتمل دلالتها الأصليّة باعتبار أنّ المتداول الإجرائي لها قد افتتح حقولا دلاليّة أخرى مردّ ذلك قلق التحديث و توتّر التجاوز الذي يسكن الذات المفكّرة ممّا اضطرّها إلى صياغة معان متعدّدة متولّدة أساسا عن تساؤلات منهجيّة و معرفيّة و فلسفيّة مختلفة، انطلاقا من هذا الانزياح من الدلالة اللغويّة –الأصليّة لمادة أرخ،بدأنا نشهد ولادات هجينة لمفاهيم مستقاة من رحم هذه المادة،فنجد مثلا عند الفيلسوف المغربي محمّد العزيز الحبابي استعمالات من مثل "التأريخ" histoire و "التآريخ" l'Histoire و"التآريخيّة" Historicité ،و بين هذه الاستعمالات استقلال –في-ترابط،بمعنى أنّ لكلّ مادة دلالتها الخاصة و لكن ليس في تمايز أو في قطيعة أو في تعارض أو تصادم مع الدلالات الوليدة المجاورة،بالإضافة إلى التوليدات الأخرى التي نجدها إجرائيّا عند محمّد أركون و نصر حامد أبو زيد و طيب تيزيني و عبد المجيد الشرفي ... من مثل التاريخيّة و التاريخانيّة...
وهذا الاختلاف في التسميات ليس إلاّ اختلافا شكليّا في مستوى المحامل اللفظيّة في حين أنّ الدلالات تتّجه رأسا نحو معان بعينها مرادة من قبل المفكّر،يعبّر من خلالها عن طبيعة النسق التاريخي الذي غدا يسم نمط التفكير والإجراء،حيث أنّ القراءة التأثيليّة Archéologique لمادة "أرخ" تعبّر عن نوع من التجليّات الدورانيّة والمتدوّمة Tourbillonnées تنمّ عن الطابع الحلقي لكلّ عصر من العصور،فالمنظومات المعرفيّة غدت كطفرات Mutations حلزونيّة،التي تتّخذ شكل دوائر متشظّية،إلى أن انتهت في عصور الحداثة إلى القطع مع أنظمة الرؤية و التعبير و الاتّحاد بالماورائي أو الحلول فيه،حيث بدأنا نلحظ ميلاد قوّة بديلة (الحياة بمعناها الواقعي-المادي) تتكلّم عن مكوّنات الوجود: الإنسان و اللغة و التاريخ والإله... بمعزل عن تأثير القوى الغيبيّة المفارقة التي تحوّلت من حقيقة إلى مجاز أو إلى وهْم أو ميثولوجيا ،مثل هذا الهجر للميتافيزيقا جعل الذات المفكّرة تتحوّل في إدراكها للمعاني من الكليّة و التماميّة إلى التشظّي والتشتّت و التبدّل الحيني أو المؤجّل فلم يعد الحديث في هذا المنهج التاريخي عن الـ"حقيقة" و الـ"معنى" الكوني الكلّي في تماميّته وإنّما عن صياغات دلاليّة ممزّقة ومشوّشة وآيلة إلى التجاوز و النسخ المحمول على معنى الإلغاء التاريخي والمحو الموقوتي القابل للعودة والتداول و المحايثة بحسب طبيعة الحاجة الاجتماعيّة والثقافيّة والإجرائيّة-الإيديولوجيّة الأفقيّة" ليست الوثيقة ،إذن، خزّانا و ذاكرة تحفظ التراث و تبقي على الدوام و الخلود.إنّها على العكس من ذلك،لا تعمل سوى على تأكيد الاختلاف بين الحاضر الذي يمنحنا أفق التفكير و التساؤل ،و بين الماضي الذي كفّ عن شحذ هذا الحاضر."
ذلك أنّ طبيعة الأنظمة الوليدة ضمن دائرة الحداثة الغربيّة تخلو من مراكز على اعتبار تلك القطيعة مع المتعالي و الإبقاء على حيويّة المحايث والواقع الأرضي في تعدّده ،وهي دلالة واضحة على نهاية تاريخ الميتافيزيقا المطلق و المغلق،أي أنّ مثل هذه الأنظمة و جملة ممارساتها التنظيريّة تدفع خارج حقلها كلّ فكرة ثيولوجيّة تسعى إلى التحكّم في نسق تفكيرها أو صياغاتها و تصوّراتها بصورة متعالية ومفارقة،من ثمّ فالمفكّر في التاريخ أو بالتاريخ يحاول تجنّب الحتميّة التذكاريّة التي تعمل على محاولة سرد خطّي أمين أو أفقي أو بسيط ساذج للمعنى من خلال تثبيته عند دلالة أحاديّة،بمعنى أنّه يصرّح أنّ انخراطه في التعامل مع التاريخ أو مع النصوص مهما كانت مصدريّتها ليس انخراطا موضوعيّا أو بريئا أو محايدا بل هو عمل موجّه وغير برئ وغائيّ و فيه انتهاك معلن لمقولاته بالطريقة التي يدركها القارئ في تعدّده ،لأنّ الممارسة التاريخيّة لا تهدف إلى الاستعادة الساذجة أو البدائيّة لمحامل النصوص وعتباته الخارجيّة أي مراد الباث أو المؤلّف و البقاء في حقل الإصدار و محاولة تلوين مقولاته بما يتّفق والمقصود الأحادي للمرسل-الباث ،بل يسعى إلى استمالة النصّ أو الحدث إلى جهة القارئ بالقدر الذي يمكّنه من استنهاض كوامنه الرابضة في منطقة اللامفكّر فيه من النصّ قصد توظيفها في حقله الاجتماعي أو الفكري...،فالقول بالاستعادة الواعية والصريحة والأمينة و المُحكمة للنصّ الأصليّ لا يمثّل سوى وهم ميتافيزيقي،لأنّ الممارسة التاريخيّة هي ممارسة تأويليّة رابضة على سطح رخو –قابل للتشكيل وإعادة الصياغة و تتفاعل مع متلقّ له ظروفه و مرجعيّاته ممّا يعني انعدام الالتزام الكامل و الحياديّة الموضوعيّة في فضاء بشري موسوم بالنسبيّة، لأنّ لكلّ قارئ معاملا شخصيّا به يميّزه تلقائيّا،ما يلائم طبعه واهتماماته وهذا يفترض تحييد فاعليّة الحياديّة،لأنّ الفهم ملتصق بجوانيّة الذات ومتأثّرا بجملة العوامل الدافعة نحو التفكير بطريقة أو بمخطّط دون آخر و ما انطوى عليه حدسه من مضمرات وتساؤلات واستفهامات ووجه من وجوه الإجابات الموقوتة-التاريخيّة،تبعا لذلك،تخلّصت الذات من فكرة الاعتقاد التي تحيل إلى الصرامة و الأحاديّة و الالتزام الإيماني إلى فكرة الفهم و التأويل عبر آليّة القراءة،وهذا يعكس تحوّلا جذريّا في مستوى تركيبة الذات الفرديّة والمعشريّة-الجمعيّة، حيث حوّل أفق مستقبله من البعد الزمني الذي يقع بعد الموت –الماورائي- إلى بعد محايث لا يغادر الأرضي،و في مستوى الفهم أحدث طفرة من خلال الانتقال من الدائرة الإيمانيّة إلى الدائرة العلميّة ممّا يعني التحوّل من نظرة القداسة إلى الدنيوة
نريد من وراء هذه الممارسة التأمّليّة التأكيد على أساس نبني من خلاله فكرتنا حول "التاريخيّة" وهي "اللامفكّر فيه L'impensé في المنظومة المتداولة أو الأرثودكسيّة" الأهليّة أو الغربيّة، المنطلقة أساسا من الطبيعة المنعكسة للفكر الغربي الذي ينكر الإله في ممارساته النقديّة التي طالت كلّ ذرى الوجود التي تحتضن الإنسان،مثل هذه الخطوة النقديّة النافية لحضور الآخر "الإله" تحرّره كفرد وتجعله منافسا له،تتضمّن هذه الممارسة تحويل سيرورة الوجود خارج الإطار الديني و تحويل مسار المعنى و حيويّة تاريخ الأفكار خارج الإطار التقليدي،هذا الأبق/الانزياح الفكري من قبل الإنسان الغربي عن الإله،هو الحدث المركزي الذي تعلن فيه الذات عن حضورها الحرّ و المستقل عن تبعيّة الإله،إنّه تأسيس لهذه الذات خارج الحقل الديني،حيث الاختفاء الإرادي للإله أو السقوط أو الخروج و بداية حيرة الإنسان، هذه البداية ستنقله من الحٍٍِلّ إلى الترحال أي من حلقة إلى أخرى و من نشأة إلى أخرى و لكن خارج إطار المعتقد الديني الذي يحوّل إلى منْتَج ثقافيّ، ممّا يعني تسطيح الأبعاد المتعالية و المفارقة والاكتفاء بحيثيّات واقعه التاريخي،إنّه فكر يفكّر في الإنسان ومن أجله ضمن حدود وعيه المحايث.
من هذه النقطة،أرى إمكانيّة تناول "التاريخيّة" لا كمصطلح فحسب،بل كمنهج و مذهب حوّل وجهة الفكر و الوجود من المتعالي إلى المحايث،ومن التفكير بحضور الإله إلى التفكير في غيابه.ومن فكرة الامتداد و التجاوز إلى فكرة الموقوتيّة و الحينيّة للأفكار،انسجاما و طبيعة الإنسان المتغيّرة و المتجدّدة التي لا تقبل بالتماميّة أو الكونيّة،إنّه تاريخ نفي وتدوّم حلزونيّ حيث يستمرّ اللاتناسق بين الإلهي و الإنساني و الذي تلخّصه عبارة الإنجيل " مملكتي ليست في هذا العالم" مثل هذه العبارة شكّلت حجر الأساس لبدء حضور الإنسان خارج النموذج الإنسان المتديّن،عبر زوال وهْم الإله أو العالم الماورائي-القروسطي، وعلمنة أنماط الحياة و المعارف،حيث يتحوّل تاريخ الأفكار إلى دورات و انعطافات متكرّرة و قول ونسيان و نفي و عود على بدء،فكأنّ العالم الغربي يكرّر عبارة يحي لموسى: إنّ قومك سيتولوّن عبادة آلهة أخرى،كما عبّر عن ذلك ميشال فوشو .مثل هذه الانعطافة لم تشكّل تحوّلا في مستوى الوجود فحسب بل شكّلت دعامة قويّة لتغيير معنى الكلمات والأشياء،من ذلك معنى التاريخ الذي أصبح يعني " كلاما عن الحاضر.إنّ المؤرّخ لا يصف الماضي كماض وإنّما يصف الماضي المستحضر في ذهنه." وهو إيذان بالتحوّل من التأريخ إلى التآريخيّة أو التاريخيّة .
2. قراءة في التاريخيّة : الفهم عمليّة تاريخيّة
2. 1: من التأريخ إلى التآريخيّة
حينما نتعامل مع العديد من التعريفات التي صيغت حول مفهوم التاريخيّة سنجدها رغم اختلاف محاملها اللغويّة تنشدّ نحو الوجود الأرضي المادي-الإمبيريقي الذي اعتبر مجازا أو ثانويّا في المنظومة القروسطيّة-المنشدّة إلى المتعالي الديني،فنجد مثلا محمّد أركون يعرّفه بقوله " تصييغ عرفاني استعمله الفلاسفة الوجوديون بالخصوص للتحدّث عمّا للإنسان من ميزة في إنتاج سلسلة متلاحقة من الأحداث، والنظم،والمنتوجات الثقافيّة،التي يتكوّن من مجموعها مصير البشريّة،و بهذا المعنى يكون المفهوم صالحا للفكر في التغيّر كأنّه مقولة وجوديّة مرتبطة بمطالب الموجود الأوّل و العرفان و التقييم و التملّك" ،يتجلّى أنّ التاريخيّة هي مقدرة كلّ مجتمع على إنتاج ميدانه الاجتماعي و الثقافي الخاص به،أي تلك القدرة على التكيّف عبر آليّة التأويل،الذي لا يُقصد به هنا الرجوع إلى المعنى الأصليّ و الثابت،بقدر ما يراد به التصنيف المكيّف لما يمكن أن يحمله أيّ نصّ أو حدث من معان ظاهرة و أخرى محدوسة،أي التحوّل من وضع النصّ في حقل ظهوره إلى ما يمكن أن يوحي به بالنسبة إلى عصر آخر عسى أن يُفهم ويفسّر بمنهج آخر و برؤى مغايرة ممّا يعني بداهة أثر الفكر الماركسي-المادي على مثل هذه الأطروحات حيث يؤكّد ماركس أنّ التاريخ هو صنع الإنسان وهو بدوره صانع له و كلّ تحيّز فكري نقيض لها يعتبر محض خيال و حياكة في سراب وهذا تأكيد من طرفها على أنّ المطلوب ليس مجرّد تفسير التاريخ أو الحدث أو النصّ أو الظاهرة بل تأويله و فهمه من أجل التغيير ،بهذا المعنى تغدو التاريخيّة مريدة لتجاوز حرفيّة الأثر إلى إبراز إشكاليّات جديدة،بهذا المعنى نتحوّل بحسب الفيلسوف المغربي محمّد العزيز الحبابي من "تأريخ" histoire عبر جعل الحدث أو النصّ تحفة ثمينة معدّة للمتعة البصريّة/ أو وثيقة متحفيّة إلى "التآريخيّة" Historicité التي تتعامل مع الأثر كأنّه آثار حيّة قابلة للتجنيد في معركة المصير الثقافي طامحة إلى تجاوز الحاضر المحاضر إلى مستقبل منفتح . فهي بذلك تتجه إلى دراسة التغيّر و التطوّر الذي يصيب البنى و المؤسسات و المفاهيم من خلال مرور الأزمان وتعاقب السنوات .وهي تختلف عن مفهوم "التاريخوية l’historicisme المرتبط بالنظرة الوضعية الضيقة التي سادت في القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن،و الذي يعني دراسة التاريخ أو مفاهيم أو بنى و كأنها محكومة بفكرة التقدم المستمر في اتّجاه محدود و ثابت و معروف.
2 .2 : التاريخيّة القديمة و وهم الموضوعيّة
إنّ التاريخيّة هي في الأصل سلف وخلف،تاريخيّة قديمة و أخرى جديدة،و كلاهما يتّخذ موقفا من الحدث التاريخي أو النصّ المراد تناوله والتعامل معه و كذا في باقي العلوم المتعلّقة بالإنسان،ففي حين تتخّذ الأولى منحى أقرب ما يكون إلى الالتصاق بالنصّ و محاولة استرجاع أو إعادة بناء سياقه القديم و الإبقاء على تجانسه و إحكامه وذلك من أجل محاولة فهم النصّ كما فهمه معاصروه،و هذا ما يجعل للنصّ معنا واحدا و ثابتا غير قابل للتأويل أو التجاوز أو القراءة بطريقة مغايرة تسعى إلى الكشف عن المسكوت عنه في النصّ و مستوياته و طبقاته المتراكبة و دلالاته المتشابكة، فهو ثابت دون مراعاة السياق أو البيئة أو التقادم و تغيّر بيئة المتلقّي،من هنا يكون لهذه النظريّة جانب صحّة وهو الإقرار بتاريخيّة العمل : نصّا أو حدثا ...و لكن في جانب آخر يسقط في نوع من المغالطة التاريخيّة على اعتبار التضحية بتاريخيّة القارئ و عصره وهواجسه و كوامنه و ضمنيّاته وخلفيّاته و تصوّراته، وانتظاراته،فأقانيم هذه النظريّة القديمة تدعو القارئ إلى التجرّد أو التطهّر من مقولات عصره و شواغله و تحييد فاعليّتها الإجرائيّة ليتسنّى له بلوغ درجة الفهم الموضوعي و امتلاك المعنى القديم/الأصليّ للنصّ أو للحدث أو للأثر.
مثل هذا التصوّر يجعل من النصّ نقطة البدء و المعاد في مجال الدراسات الأدبيّة،و لأجل الحفاظ على موضوعيّة المعنى و حياديّة الفهم لنقٌل قصد المؤلّف إلى القارئ وجب صياغة أطر مرجعيّة وإستراتيجيّات ناجعة ،وكانت بدايات هذه المحاولة مع المفكّر الألماني شليرماخر (1843م) حيث نقل مصطلح الهرمينوطيقا من دائرة الاستخدام اللاهوتي/ الديني إلى دائرة العمل الأدبي و غيره ...حيث جعله آليّة للفهم،و ليس أيّ فهم بل هو الفهم الموضوعي المعبّر عنه بتطابق فهم القارئ مع مقصود المؤلّف مهما تباعدا تاريخيّا "إنّه يحاول أن يتجنّب "سوء الفهم المبدئيّ" في أيّ عمليّة تفسير.و لكنّه في هذه المحاولة لتجنّب "سوء الفهم" يطالب المفسّر –مهما كانت درجة الهوّة التاريخيّة التي تفصل بينه و بين النصّ – أن يتباعد عن ذاته و عن أفقه التاريخي الراهن ليفهم النصّ فهما موضوعيّا تاريخيّا.إنّه يطالب المفسّر –أوّلا- أن يساوي نفسه بالمؤلّف،و أن يحلّ مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي و الموضوعي لتجربة المؤلّف من خلال النصّ " معنى هذا أنّ التاريخيّة الكلاسيكيّة/ القديمة تفترض وجود دائرة هرمنيوطيقيّة Cercle herméneutique يكون فيها المؤوّل عارفا بجانبيْ النصّ التاريخي و التنبّؤي،من خلال الإدراك الكامل باللغة و بخصائص النصّ من جانب الآخر .
لكن مثل هذه القواعد و الشروط التي وضعها منظّرو التاريخيّة الكلاسيكيّة من أجل تجنّب زلل "سوء الفهم" و إمكانيّة التعرّف بطريقة موضوعيّة ودقيقة على أحداث الماضي ليست إلاّ وهما ،لأنّ مثل هذا المنهج يريد من القارئ أن يتجرّد من خصوصيّة واقعه بجملة شحناته الوجدانيّة-النفسيّة و فعاليّاته وآثاره الفرديّة و الجمعيّة وتوجّهاته،بمعنى أنّ نجعل من هذا القارئ أو المتصدّي للنصّ يفكّر بطريقة مغايرة و خارجة عن ذاته و تخالف نمط امتلاكه للمعنى،لكن مثل هذا التوق نحو الشموليّة والموضوعيّة و الوقوف عند المعنى الأوّل و الوحيد للنصّ ليس إلاّ إيتوبيا حالمة،و طبيعة هذه الإيتوبيا أنّها تصبو نحو وحدة المعنى إلاّ أنّها لا تنتج سوى معان متشظّية لأنّها أهملت وجود القارئ لصالح المؤلّف و اهتمّت بذلك "الوجود المغاير" على حساب الوجود الفعلي الواقعي للقارئ،فالتاريخيّة الكلاسيكيّة، نظرا إلى أرثودكسيّتها/صرامتها المعرفيّة لقرب عهدها باللاهوتيّة،بل و خروجها من رحمها، و التي تقرّ بمبدأ الفهم الصارم الوحيد للنصّ الديني و "تحريم" المساس بقدسيّة النصّ معنى و مبنى،لم تعتبر حال تعميم نموذجها على النصوص الأدبيّة ذات الإبداع الإنساني،مبدأ التعديل بالقدر الذي يضمن توظيف هذا المنهج بطريقة إيجابيّة،أي أهليّتها الفكريّة للإجابة عن الإشكاليّات المطروحة،لأنّ الهرمينوطيقا في إهابها القديم-اللاهوتي سعت إلى إعادة أو استعادة تراث الكاتب، والحال أنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ، و حسب تآريّخيّته،هذا المعنى هو الذي سعت التاريخيّة الجديدة إلى الارتفاع به إلى دائرة الضوء من خلال تنصيصها على النظرة الثقافيّة الحضاريّة بدل النظرة الشموليّة العامة،و ذلك من خلال فعل التأمّل و التأويل الذي يتجاوز نسق الاستلهام إلى منهج الانتهاك حيث يكون المؤوّل حاملا لقبليّات قراءته قصد التأمّل في النصّ،ومن ثمّ تكون المواجهة بين ضمنيّات المؤلّف و قبليّات القارئ،وهو ما يتولّد عنه تعدّد الفهوم و المعاني،لأنّ مثل هذا الفعل ليس إلاّ بحثا عمّا يؤيّد المشروعيّة المنطقيّة و التأريخيّة للمصادرات التي يؤمن بها القارئ ،وهذا متولّد أساسا عن هجرة الأنظمة التأويليّة للنموذج اللاهوتي وتحويل مجرى الإنسان خارج الإنسان المتديّن، والتأكيد على أنّ الوصف الموضوعي أو النقل الأمين ليس إلاّ وهما ميتافيزيقيّا في النموذج المعدّل للتاريخيّة الجديدة،فالقول بوجود قوانين للفهم و العصمة من الخطأ و سوء الفهم ما هو إلاّ مصادرة عن المطلوب،و من ثمّ لا يبقى إلاّ الفهم و طابعه التأويلي حيث تبرز المسافة بين الفكرة في مهد نشوئها و بين حركة إبداع الفكر التقدي.
2 .3 : التاريخيّة الجديدة و التواصل بقبليّات القراءة
انطلقت التاريخيّة القديمة من ثلاثة افتراضات أساسيّة وهي:
• التاريخ موضوع يقبل المعرفة.
• الأدب مرآة تعكس الحقيقة التاريخيّة .
• بإمكان المؤرّخ و الناقد رؤية الحقائق التاريخيّة بموضوعيّة.
مثل هذه الافتراضات اعتبرت في التاريخيّة الجديدة غير قمينة بالظهور والتداول نظرا إلى أنّها لا تأخذ بخصوصيّة الواقع ولا بتموضع القارئ وجملة خصوصيّاته و احتمالاته،لأنّ هناك فارقا بين زمن الكتابة و زمن القراءة،ومن ثمّ يبرز مفهوم سياق الكتابة و سياق القراءة حيث يخضع كليهما للظرف التاريخي و الاجتماعي و التراثي والإيديولوجي و النفسي و الانتظارات،وعلى هذا الأساس يرى منظرو التاريخيّة الجديدة أنّ التاريخ هو نصّ أو موضوع نصّ،حيث إمكانيّة القراءة المفتوحة و تكرارها تبقى متاحة وهنا يكمن الفارق بين التاريخيّة القديمة و الجديدة،ففي الأولى تأخذ نهجا صارما-أرثودكسيّا فلا مجال لزحزحة المعنى عن سياقه الأصلي،ومن ثمّ يصعب التواصل لأنّ وسائل التعبير تتغيّر مع الأجيال كما تتغيّر الاهتمامات،وهو ما يجعل النصّ محصورا معنى ومبنى في لغة عصره و في اهتمامات خاصة بعصره ممّا يجعل آفاقه و انسيابه الحضاري معطّلا ،في حين أنّه في النموذج الجديد للتاريخيّة تغدو إمكانيّة تبنّي إشكاليّته و تأويل لغته مسموحة وتوظيفها لصالح عصرنا ممكنة،من ثمّ تقرّ التاريخيّة الجديدة بأنّنا لا نملك التاريخ ذاته أو التاريخ المفترض أن يكون موضوعيّا بل وجها من وجوه التاريخ الممكنة،بقدر ما نملك جملة من النصوص والمتخيّلات و الرؤى و التأويلات والأفهومات والحكايات لأنّنا تخطيّنا فكر العرض السردي-الوثائقي إلى فكر الفهم الثقافي و التأويل من أجل التغيير و التجاوز في الوجود الإمبيريقي،نظرا إلى أنّ الفلسفات تعزو لهثها وراء تسطيح المعاني إلى البحث عن الإنسان و التاريخ بعد فقدهما أو حضورهما السلبي في النسق المستقيل/ الملغى:اللاهوتي بحسب التفسير المادي الغربي،لذلك نجد أنّ التاريخيّة الجديدة تقف على التفيض من نسختها الكلاسيكيّة، وتقرّ بالآتي:
• قابليّة التاريخ للمعرفة و لكن من خلال جملة النصوص و التأويلات،أي امتلاك رؤية في شكل طفرات معرفيّة.
• الأدب ليس مرآة للحقيقة التاريخيّة،كما أنّ التاريخ ذاته ليس انعكاسا للحقيقة التاريخيّة.
• التاريخ هو سيرورة تدمير النصوص عبر فعل الظهور و الإلغاء.
• لا وجود لحقيقة موضوعيّة بقدر ما هناك "حقائق" بصورة ذاتيّة و هي حقائق لا يمكن عرضها إلاّ من خلال هذا المنظار و بواسطة تأويل ذاتيّ محض.
من هذا المنظار ندرك أنّ التاريخيّة الجديدة سعت إلى التخلّص من إهاب التاريخيّة الكلاسيكيّة التي أبقت على الإهاب الديني و جملة مفاهيمه كالخطيئة و الإثم و التجريم و المعنى الواحد والمقدّس و المغلق ،ممّا يجعل العمل ضمن حقل الإنسان المتديّن عملا موجّها تجاه الباث و الالتزام بقواعده وأطروحاته دون المساس خصوصا بقدسيّة المعنى والمبنى و بعده الواحد تماشيا مع وحدة الإله وفرادته خوفا من الردّ العقابي العاجل أو الآجل المقرّر في المدوّنة الدينيّة،ممّا يعني في نظر آباء التاريخيّة الجديدة اهتماما كليّا بالبعد العمودي-المفارق (الإله) و حضورا باهتا إن لم نقل حلولا في الإله و نسيانا لوجوده أي بعده الوجودي-الأفقي،أي استبدال تاريخه الخاص بتاريخ الإله.
و لكن التاريخيّة الجديدة آثرت أن تكون مفاهيمها خارج هذا الحقل،أي تحويل مجرى الإنسان خارج الإطار الديني عبر تحرير الإنسان من تبعات وأوزار و عقوبات المنظومة الدينيّة وهو تحرير له دلالته المنهجيّة و النفسيّة الفكريّة إذ هو إعلان عن انتقال الإنسان من وضع العبوديّة والتبعيّة إلى وضع السياديّة عبر تنزيل كلّ الأطروحات ضمن الإطار الوجودي-التاريخي ومن ثمّ ظهور الإنسان عبر اختفاء الإله،أي الحديث هنا عن تاريخ المعرفة المنعكسة خارج الإطار الديني،فالتاريخيّة الجديدة تغدو معبّرة عبر إفرازاتها و مرجعيّاتها خصوصا الماركسيّة و التقويضيّة أو التفكيكيّة والأنتروبولوجيا الثقافيّة عن تاريخ المعرفة المنعكسة،فهذه المغامرة الدورانيّة هي في الحقيقة مغامرة ما يسميّة غادامير: "تاريخيّة الفهم و التأويل، فالتأويل حدث تاريخي لا يتمّ في فراغ بل هو حكاية جهود القارئ في انتهاك النصّ و التعامل معه قصد الولوج إلى معان بكر أو غير مسبوقة متجنّبا تكرار المكرور كما في التاريخيّة الكلاسيكيّة،و مثل هذه الجهود تبقى ضمن إطارها الوجودي الجديد،أي التاريخي الأرضي المحكوم بإوالياتها و ظرفيّة القارئ و قبليّاته المفترضة أثناء جهود قراءته،ومن ثمّ يكون الفهم أو تاريخيّة الفهم حدثا متغيّرا،على اعتبار تغيّر صيغة امتلاك النصّ عبر تغيّر القارئ وجملة ظروفه الاجتماعيّة ومحيطه الثقافي واستعداداته النفسيّة،بحيث كلّ قراءة تعتبر ولادة جديدة للنصّ نظرا إلى فعل التناص بين فكر القارئ ونصّ المؤلّف،ممّا يجعل النصّ أو كلّ عمل أدبيّ" خذروف غريب لا يوجد إلاّ بالحركة،و لا بدّ لإبرازه إلى الوجود من فعل ملموس هو القراءة" بحسب تعبير سارتر من هنا تبرز حيويّة النصّ و معانيه ودلالاته حيث تؤثّر الإيديولوجيا و صراع القوى الاجتماعيّة و الثقافيّة و مرجعيّات القراءة و قبليّات القارئ و نظرته إلى النصّ و مرجعيّته و انتماؤه الثقافي في إعادة تشكيل النصّ مبنى و معنى ومصدرا حيث تتغيّر الدلالات و تتضارب حسب المتغيّرات التاريخيّة و الثقافيّة و ميزان القوى،وهو ما أخذته التاريخيّة الجديدة من منهج التفكيك عند جاك دريدا،من هنا تكمن أهميّة مفهوم إزالة الاغتراب الذي يقول به غادامير بين النصّ والقارئ،
فالتأويل و فعل القراءة هي محاولة لجعل النصّ مألوفا لدى قارئه و منتميا بدلالاته إلى أفق القارئ ومتعاصرا معه،بحيث يكشف عما يريد القارئ إبانته و تنزيله ضمن فضائه،فقد يكون النصّ يكشف سابقا عمّا هو ديني و طقوسيّ و مقدّس و أسطوريّ ورمزيّ و شعائريّ و ماورائي و غيبيّ،فإنّه في حالته الجديدة يكشف عمّا هو زمنيّ و دنيويّ وتاريخيّ ومحايث حيث تنتفي المصدريّة و تغدو النصوص متساوية الدرجة دون تمييز بين ما هو فلسفي وإلهي و أدبي، فهي كلّها نصوص ثقافيّة منتجة في واقع تاريخيّ محدودة و مرتبطة بحاكميّة الحقل التاريخي الجديد،يحكم على فاعليّتها من دون مفارقة الزمني،فتحدّد نشأتها من خلال بناها التحتيّة ضمن المجال التاريخي-المادي المحض من دون تلك المغامرة فوق التاريخي.
يظهر جليّا كيف أنّ التاريخيّة الحديثة اتخذت مسارا يساريّا ثوريّا يسعى إلى تقويض المسلّمات الأثيلة وتغييرها بما يراه قمينا بالظهور من وجهة نظره حيث تؤثّر الإيديولوجيا و صراع القوى الاجتماعيّة في تشكّل النصّ و حيث تتغيّر الدلالات وتتضارب حسب المتغيّرات التاريخيّة والثقافيّة ،وهذا التضارب في الدلالات هو من تبعات تبنّي التاريخيّة الجديدة بعضا من دلالات التفكيكيّة أو التقويضيّة.
مثل هذا التوجّه قد يكون مقبول النتائج إن كان مع نصوص ثقافيّة مستوحاة من الواقع و ناشئة عن صياغة بشريّة معنى و مبنى،و لكن هل يبقى الموقف ذاته إن تعاملنا مع النصوص المقدّسة المتعالية و ذات طبيعة مفارقة و متّخذة صفة القداسة التي تعني المساس بمضامينها أو تحويلها أو التشكيك فيها أو التصريح بإمكانيّة تجاوزها،نظرا إلى اكتسابها موقعا وجدانيّا لدى الناس،مثل الانخراط في خلاف هذا الرأي يشكّل تقويضا للإلفة العقائديّة-الوجدانيّة لدى حرّاس الرأسمال الرمزي و مريديهم، لأنّ إرادة التعامل العلمي-التاريخي مع مثل هذه النصوص تستلزم "إحراج" المنظومة عبر محاولة إنزال أصولها من المفارق إلى المحايث عبر البحث عن مرجعيّاتها الاجتماعيّة-التاريخيّة القبليّة القمينة و المشرّعة لظهور مثل هذه الظاهرة وهذا يقتضي نقض مفهوم القداسة و إدراجها ضمن "الثقافي" الذي يسوّي بين النصوص مهما كانت مصدريّتها، و النماذج الموضّحة لتعامل "المفكّر"ين العرب مع النصّ المرجعي-القرآني انطلاقا من المنهج التاريخي كثيرة، و نذكر على سبيل المثال لا الحصر الطيبّ تزيني وحسن حنفي و نصر حامد أبو زيد و حسين مروة ومحمّد أركون...
3. في طريق الختام
تتّجه بنا مقولات التاريخيّة إلى القول بأنّ النصوص القمينة بالتداول و الثريّة تقبل تأويلات لا تأويلا واحدا،و أنّها –أي التاريخيّة-تحرّر المقولات من أسر المعنى إلى آفاق المغزى حيث النصّ في جدل مع القارئ و حقله الحاف به : الثقافي والاجتماعي و التاريخي،بشرط النزوع إلى الدنيوة والتخلّص من نزعة القداسة المكبّلة للمعاني أي القول بثقافيّتها و واقعيّتها،قصد امتلاكها شرعيّة التداول والتفاعل و لكن و ليس بصورة واحدة بل بصور متعدّدة تخضع لإحداثيّات الواقع التاريخي،مثل هذه المقولات التي أتت بها التاريخيّة قمينة بالاعتبار في مستوى النصوص الأدبيّة –البشريّة،أمّا في مستوى النصوص المقدّسة فإنّ الأمر يغدو مختلفا لأنّ هناك انتقال من وضعيّة إنتاج بشري إلى اعتناق دين الذي هو في الأساس ليس خيارا إنسانيّا بقدر ما هو وضع إلهي داع إلى الاتّباع الواعي،من دون التشكيك في مصدريّته،لأنها جزء من هويّته،فإسقاط هذا الشرط هو بداية الإيغال في الانسلاخ عن الدين و تشريع للوجود التاريخي خارج دائرة الإله والعيش بإهاب الإنسان المعلمن لا المتديّن،أي الذي آثر الاغتراب وإنزال غربته من المتعالي إلى المحايث،في غياب شبه كلّي للإله في صورته الأصليّة،و لكن تبقى التاريخيّة آليّة جديرة بالاعتبار و التوظيف في مجال إعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة واعية قصد تجريده من الدخيل و تمكين القارئ من الاشتغال به و عليه لعلّه ينحت مسارا من مسارات الحداثة بمواصفات أهليّة لا وافدة تعطي مشروعيّة للتجديد و التعديل للقيام بطفرات واعية نحو الأفق الغدوي الذي ماهو سوى ممارسة أكثر واقعيّة و جدوى من الحاضر ولكن بشرط أن يكون القارئ واعيا بشروط التاريخيّة و حدودها و محدوديّتها الإجرائيّة-الوظيفيّة،بمعنى الوعي بأنّها آليّة نمتلكها ولا تمتلكنا.و مثل هذه المعالجة تعتبر قمينة بالظهور باعتبارها تمثّل آليّة أساسيّة من آليّات استقدام النصّ القرآني من قداسته و عليائه لإدراجه في الهنا الأرضي حيث التعالي يغدو مؤنسنا و عليه تكون كلّ النصوص سواء بالنظر إلى كونها قد غدت منتجا ثقافيّا،وهي البوابة التي يراد من خلالها تناول النصّ القرآني قصد تحرير دلالته و تأسيس مقولات القارئ بدلا عن آيات الله،فتكون الأحكام وفق مناط القارئ و إكراهات الواقع وليس تحت ضاغطة التوجيه الإلهي،فتكون الأحكام معتقلة و مرجأة التحقيق إلى حين انتظار نداء الواقع مع إغفال خصوصيّة هذه الأحكام سواء أكانت ناسخة أو منسوخة،لأنّ النسخ تاريخي موقوتي و ليس تأبيدي،و تلك خطورة توظيف التاريخيّة في مجال المقدسات.
الهوامش:
العروي (عبد الله)،مادة تاريخ،الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ،إشراف،معن زيادة، معهد الإنماء العربي.بيروت-ط1/1988، ج1 / ص 210.
التأثيليّة: مصطلح يعني الحفر التاريخي الذي يتّجه صوب البحث عن العوامل التي تجعل المعارف و النظريّات شيئا ممكنا،واضعة في أفق منظورها سؤالا جوهريّا دائم الفاعليّة وهو :حسب أيّة أنظمة تأسّست المعرفة و صاغت موادها ومواردها و على أيّ أساس تاريخي أمكن لبعض الأفكار أن تنبجس و لبعض العلوم أن تتداول و تتأجرأ.
بن عبد العالي (عبد السلام)،أسس الفكر الفلسفي المعاصر ،مجاوزة الميتافزيقا،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء-المغرب،ط2، 2000،ص 64.
فوشو (ميشال)،تاريخ الأفكار و العقل المنعكس،قراءة في ماهية العقل الغربي،مجلّة الفكر العربي المعاصر،مركز الإنماء القومي،بيروت-لبنان،عـ102-103ـدد،1998،ص 137-138.
الحبابي(محمّد العزيز)،ورقات عن فلسفات إسلاميّة،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء-المغرب،ط1، 1988،ص 10.
الدنيوة: مصطلح شديد الدلالة خصوصا عند محمّد أركون حيث يجعله في تضاد تام مع مفهوم القداسة،فدنيوة المفاهيم و كلّ ذرى الوجود الإنساني،هي محاولة التعامل مع كلّ المعطيات التي تمسّ الإنسان من دون الوقوع تحت طائلة القداسة و توابعها من حلال و حرام...بمعني زحزحة المفاهيم خارج ساحة الإنسان المتديّن،بمعنى علمنة الواقع البشري، وجعل المقدّس جانبا ذاتيّا ذا دلالة خصوصيّة-فرديّة،دون أن يمسّ الحراك الاجتماعي.
اللامفكّر فيه: مصطلح من معجم محمّد أركون و يدلّ على كلّ ما لايحطر على بال ثقافة معيّنة في فترة ما،و لديه مصطلح توأم وهو المستحيل التفكير فيه،و الذي من دلالاته ما يستحيل التفكير فيه في لحظة معيّنة من لحظات التاريخ أو في مجتمع معيّن.بالإمكان مراجعة كتاب نزعة الأنسنة في الفكر العربي،ص 21 (في الهامش)
فوشو (ميشال)،المرجع السابق،ص 142.
العروي (عبد الله)،المرجع السابق، ج1 / ص 215.
أركون (محمّّد)،الإسلام و التاريخيّة و التقدّم،ضمن الملتقى العاشر للفكر الإسلامي،10-19 جويلية 1976،عنابة-الجزائر ،مطبعة البعث،1400هـ/ 1980م،ص 68.
معن (زيادة)،الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، معهد الإنماء العربي،.بيروت-لبنان،ط1/1988،ج2/ ص 988.
الحبابي(محمّد العزيز)،من تأريخ الفارابي إلى تاريخيّته، مجلّة دراسات فلسفيّة و أدبيّة،عـ1ـدد،1976-1977،دار الكتاب،الدار البيضاء-المغرب،ص 100-101.
أبو زيد (نصر حامد)،إشكاليّات القراءة و آليّات التأويل، المركز الثقافي العربي،بيروت-لبنان،ط2 ،1992،ص 23.
الحبابي(محمّد العزيز)،المرجع السابق،ص 109.
الطرهوني (علي)/النصّ المكتوب و النصّ المقروء،مجلّة الحياة الثقافيّة،وزارة الثقافة التونسيّة، عـ58ـدد،السنة 1990،ص 59.
الرويلي(ميجان) و البازغي(سعد)،دليل الناقد الأدبي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء-المغرب،ط2، 2000،ص 45.
التعديل الأخير: