" حسن الإيجاز " محاولة فاشلة لمعارضة الفاتحة

إنضم
14/05/2012
المشاركات
1,111
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الأردن
يريد بعض المنصرين التخفيف عن المسلمين ـــ وبخاصة الذين يسلمون حديثاً ـــ، فيقترحون استبدال فاتحة القرآن الكريم بسورة فاتحة جديدة عصرية، تتناسب مع العامة، أيسر للحفظ..
السورة كتبها أحد النصارى ـ دون أن يذكر اسمه ـ في رسالة سماها: " حسن الإيجاز " صدرت من المطبعة الإنكليزية الأمريكانية ببولاق مصر سنة 1912م.
هذا نصها:

" الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان "

وقد ردَ محمد رشيد رضا عليها في تفسيره المنار عند تفسير سورة الفاتحة، ج1 ص 69 - 73. ووضع لها عنوان: " معارضة نصرانية سخيفة، للفاتحة الشريفة " وأطال بيان الثغرات البيانية فيها.
ومما قال:
إن اختصار الدراري السبع في السماء ، أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض . وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حيا يمشي بين الناس .
وأما العامي الجاهل ، الذي قد يغتر بقول كل قائل ، ولا سيما إذا كان في الطعن بغير دينه ، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار ، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ونكتفي منه بما يلي :
(1) إن أول شيء اختصره هذا الجاهل المتعصب وجعل ذكره مطعنا في فاتحة القرآن اسم الجلالة الأعظم (الله) الذي لا يغني عنه سرد جميع أسماء الله الحسنى ! فإنه هو اسم الذات الملاحظ معه اتصاف تلك الذات بجميع صفات الكمال إجمالا .
(2) أنه اختصر اسم الرحيم وقد بينا فائدته وأن اسم الرحمن لا يغني عنه ، وأنى لمثله أن يعلمه ؟ ويراجع الفرق بينهما فيما تقدم [يقصد ما ورد في تفسير المنار لسورة الفاتحة].
(3) أنه استبدل الأكوان بالعالمين وليس في هذا اختصار ، وإنما فيه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأولى ، فإن الأكوان جمع كون ، وهو في الأصل مصدر لا يجمع ، وله معان لا يصح إضافة اسم الرب إليها ، منها الحدث والصيرورة والكفالة ، ويطلقه عرب الجزيرة على الحرب لعلهم لا يستعملونه في غيرها ، وأما العالمون فجمع عالم ، وفي اشتقاقه التذكير بكونه علامة ودليلا على وجود خالقه ، وفي جمعه جمع العقلاء تذكير للقارئ بما في كلمة رب من معنى تربيته جل جلاله وعم نواله للأحياء ولا سيما الناس ، وكونهم يشكرونه عليها بقدر استعمال عقولهم ، ولذلك قال بعض الأعلام : إن لفظ العالمين عام مستعمل هنا في الخاص ، وهو عالم البشر ، وراجع سائر تفسيره المتقدم .
(4) أنه استبدل كلمة (الديان) بكلمة (يوم الدين) وهي لا تقوم مقامها ، ولا تفيد ما فيها من المعاني المطلوبة لذاتها ، فإن للديان في اللغة معاني منها القاضي والحاسب أو المحاسب والقاهر . وغاية ما يفيده وصف الرب بأنه حاكم يدين عباده ويجزيهم . وأما يوم الدين : فإنه اسم ليوم معين موصوف في كتاب الله بأوصاف عظيمة هائلة ، يحاسب الله فيه الخلائق ويحكم بينهم ويجزيهم ، والإيمان بهذا اليوم ركن من أركان الدين ، وإضافة ملك ومالك إليه تفيد أن الأمر كله في ذلك اليوم له وحده فلا يملك أحد لأحد فيه شيئا من نفع ولا من كشف ضر كما تقدم تفصيله في تفسير الآية - فاستحضار هذه المعاني في النفس له من التأثير المقوي لعقيدة التوحيد المرغب في العمل الصالح المرهب الزاخر عن الشر ، ما ليس لاسم الديان وحده ، ويكفي الإنسان في الجزم بهذا مشاورة فكره ، ومراجعة وجدانه ، وإن لم يكن يعلم من فنون البلاغة شيئا ، وهل لهذا المبشر المتعصب فكر ووجدان يهديانه إلى ما يجهل من بلاغة القرآن ؟
(5 ، 6) أنه اختصر قوله تعالى : (إياك نعبد وإياك نستعين) بقوله هو : لك العبادة وبك المستعان . وهو أغرب ما جاء به وسماه إيجازا ، فإنه استبدل أربعا بأربع ، ولكنها أطول منها بزيادة حرف ، وتنقص عنها في المعنى ، فأين الإيجاز ؟ إنه مفقود لفظا ومعنى .
إذا أراد بقوله : لك العبادة - أنها كلها له تعالى في الواقع ونفس الأمر ، فالجملة غير صحيحة ؛ لأن الذين لا يعبدونه وحده من البشر هم الأكثرون . ومنهم النصارى قوم الطاعن في دين التوحيد وكتاب التوحيد الأعظم (القرآن) المبدلين لآية التوحيد البليغة . وإن أراد أن العبادة مستحقة لله تعالى وحده فالمعنى صحيح ، لكنه لا يدل على أن القارئ ، ولا واضع الجملة من القائمين بهذا الحق له تعالى . وأما " إياك نعبد " فإنها تفيد عرض عبادة القارئ مع عبادة جميع المؤمنين الموحدين عليه جل جلاله ، وتقربهم إليه بأنهم يعبدونه ولا يعبدون غيره .
وأحيلك في الفرق بين تأثير هذا وذاك على الوجدان الذي ذكرتك به في النقد الذي قبله ، دع ما في عرض المؤمن عبادته واستعانته على ربه في ضمن عبادة جميع المؤمنين واستعانتهم
من ملاحظة أخوة الإيمان وتكافل أهله ، ومن هضم الفرد لنفسه ، ورجاء القبول في ضمن الجماعة ، وغير ذلك مما يعلم من تفسير الآية .
ومثل هذا يقال في مسألة الاستعانة ، ويمكن الزيادة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، ومنه اختياره المصدر الميمي الذي هو صيغة اسم المفعول (المستعان) على المصدر الأصلي وهو الاستعانة المناسب للفظ العبادة ، ومن جهة ارتباطه بما بعده ، فإن طلبنا للهداية من الاستعانة التي أسندناها إلى أنفسنا .
(7) استبداله " صراط الإيمان " بالصراط المستقيم ، وهذا أعم منه وأشمل ؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، من العقائد والعبادات والآداب ، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه . فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة ، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك ، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت ، كذلك الطرق المعنوية ، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل ، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق ، وما يعتري سالكه الموانع واقتحام لعقبات واتقاء العثرات .
(8) أن وصف الصراط المستقيم بكونه الصراط الذي سلكه خيار عباد الله المفلحين ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مذكر لقارئه بأولئك
الأئمة الوارثين ، الذين يجب التأسي بهم ، والسعي للانتظام في سلكهم ، والتصريح بكونه غير صراط المغضوب عليهم من المعاندين للحق ، وغير الضالين الزائغين عن القصد ، مذكر للقارئ بوجوب اجتناب سبلهم ، لئلا يتردى في هاويتهم .
أين من هذه المقاصد السامية الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادتي الدنيا والآخرة ، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر؟؟!!

أما الخوئي فذكرها في تفسيره البيان، ص93-95. ومما جاء فيه:
وكيف تصح المقايسة بين قوله " الحمد للرحمن " مع قول الله تعالى: " الحَمْدُ لِلهِ ". وقد فوَّت بجملته هذه المعنى المقصود من قول الله تعالى. فإن كلمة " الله " علم للذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومن صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة، فذكر كلمة " الرحمن " يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة، والتي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة.
وكذلك استبدال قوله: " رب الأكوان " بقوله تعالى: " رَبِّ العَالَمِيْنَ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيْم ". فإن فيه تفويتا لمعنى هاتين الآيتين، فإن فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية والعرضية، وأنه تعالى مالك لجميعها ومربيها، وأن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحو مستمر غير منقطع، كما يدل عليه ذكر لفظ " الرَّحِيْم " بعد لفظ " الرَّحْمَنُ ".
وأين من هذه المعاني قول هذا القائل: " رب الأكوان " ؟ فإن الكون معناه الحدوث والوقوع والصيرورة والكفالة وهو بجميع هذه المعاني معنى مصدري لا يصح إضافة كلمة الرب إليه وهي بمعنى المالك المربي. نعم يصح إضافة كلمة الخالق إليه. فيقال: خالق الأكوان. على أن لفظ الأكوان لا يدل على تعدد عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ العالمين، ولا على سائر الجهات التي تدل عليها الاية الكريمة.
وكذلك استبداله جملة " الملك الديان " بقول الله تعالى: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْن ". مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الأعمال، وأن الله تعالى هو مالك ذلك اليوم، وليس فيه لأحد تصرف ولا اختيار، وأن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكم الله تعالى ينفذ فيهم أمره، فبعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار. وغاية ما تدل عليه جملته تلك أن الله ملك يجازي بالأعمال، وأين هذا من معنى الآية الكريمة؟! أما قوله تعالى: " إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِيْن ". فقد فهم هذا الكاتب من معناه أن العبادة لا بد من أن تكون لله، وأن الاستعانة لا تكون إلا به تعالى، فأبدلها بقوله: " لك العبادة، وبك المستعان " وقد فاته أن المقصود بالآية تلقين المؤمن أن يظهر توحيده في العبادة، وحاجته وافتقاره إلى إعانة الله عز وجل في عباداته وسائر أعماله، وأن يعترف بأنه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله، ولا يستعينون بأحد سوى الله، بل يعبدونه وحده ويستعينون به.
أين هذا من عبارة هذا الكاتب؟ على أنها ليست أخصر من الآية المباركة.
 
جزاك الله خيرا أستاذي الفاضل عبد الرحيم الشريف, ورحم الله الشيخ محمد رشيد رضا وغفر له ببركة ذبه عن القرآن الكريم.
أما هذه المعارضة المزعومة فإنها لا تصلح أن تكون معارضة للمقدمات البليغة التي كان السلف يفتتحون بها كتبهم, فكيف توهم صاحبها أن يعارض بها القرآن, ومن العجيب أن أكثر من يدعون معارضة القرآن يأتون بكلام ركيك متهافت لا يشبه كلام البلغاء و لا يصلح أن تعارض به نصوص الأدب, فسبحان من حفظ بعزته وقدرته كتابه وجعل الخيبة والخزي على من تطاول على جنابه.
 
عودة
أعلى