د. محي الدين غازي
New member
أكتب هذه السطور، وأنا على يقين بأن المجتمع الإسلامي مجتمع قائم على مبدأ السلم والتراحم والتناصح، ولا مجال فيه للعنف والطغيان وسفك الدماء وانتهاك الحريات.
وأكتب هذه السطور، ودماء المسلمين قد استبيحت ولا زالت تستباح، فى أرجاء العالم الإسلامي وعلى يد من يدعون الإسلام، ويبدو أن الأمر قد هان في الأذهان وفى القلوب، على الرغم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".
تراق دماء المسلمين في قعر دار المسلمين، على الرغم من النداء الأخير للنبي صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجة الوداع حيث ناشد الأمة كلها وقال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هذا".
وفى القرآن الكريم نصوص صريحة على حرمة قتل المسلم قطعية فى دلالتها، فقد قال الله عزوجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. [النساء:92]
فهناك قتل المؤمن خطأ، ويقول عنه السيد قطب: "فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي .. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع .. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة. كبيرة جدا. ونعمة عظيمة. عظيمة جدا. ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد .. إن هذا العنصر .. المسلم .. عنصر عزيز في هذه الأرض .. وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله .. فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله .. وهذا أمر يعرفه أصحابه. يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم. وقد علمهم اللّه إياه بهذه العقيدة وبهذه الوشيجة وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم ترتقي فتجمعهم في اللّه سبحانه الذي ألف بين قلوبهم. ذلك التأليف الرباني العجيب". (فى ظلال القرآن 2 / 735)
وأما قتل المؤمن عمدا، فيقول السيد قطب: "وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء. فليس من شأنها أن تقع. إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا. وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا. وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا". (فى ظلال القرآن 2 / 735)
والوعيد فى قتل المؤمن عمدا شديد جدا، ترتجف منه القلوب وتقشعر له الجلود، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] فكما لا يفترض أن يقتل مؤمن مؤمنا متعمدا، كذلك لا يتصور وعيد أشد من هذا الوعيد على الإطلاق.
يقول الشيخ السعدي: وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول. فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. (تفسير السعدي 1 / 193)
إلا أنه، ومع كل ما سبق من تحريم ووعيد وتهديد، كان هناك باب خطير يخشى منه فى استباحة دماء المسلمين، وهو باب الاعتبار بمصالح المسلمين العامة، وكان من المتصور أن يبرر شخص أو جماعة قتل المسلم بحكم المصالح وبحكم ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبحكم أن المصلحة العامة ترجح على المصلحة الخاصة، إلى غير ذلك من الاعتبارات.
والقرآن الحكيم لم يترك هذا الباب من غير توجيه بل أتى بمنهج واضح المعالم، وذلك فى الآية التالية من سورة الفتح: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح : 25].
فإن الآية تذكر أولا الدواعي لقتال المشركين، وهي أولا كفرهم، وثانيا صدهم عن المسجد الحرام، وثالثا صدهم الهدي معكوفا أن يبلغ محله.
وقوة هذه الدواعي تظهر فى قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217]
فإن هذه الدواعي موجبة لقتالهم ولو كان فى الشهر الحرام، مع أن القتال فى الشهر الحرام كبير عند الله.
وقد زاد هنا سببا آخر يوجب قتالهم، وهو منعهم الهدي من أن يبلغ محله، وكان ذلك جريمة عند العرب ليس فوقها جريمة، ولم يحدث فى تاريخ العرب قط منع الهدي من أن يبلغ منسكه، وفوق ذلك فهو جريمة كبيرة فى حق الجبار العزيز مالك الملك، حيث منعت الهدايا المقصودة إليه. وهو داخل في الصد عن سبيل الله المذكور فى آية البقرة، إلا أن شأن الهدي كبير.
فهذه الدواعي التي قد تبرر قتال المشركين فى الشهر الحرام، وقد تبرر قتال المشركين فى البلد الحرام وفى المسجد الحرام، وجدت مجتمعة تعزز بعضها بعضها، وواحد منها كان كافيا لأن يكون سببا مقبولا لقتالهم.
وفى جانب آخر فإن النصر العظيم كان محققا يقينا فى حالة نشوب القتال، حيث ذكر الله تعالى في نفس السياق: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. [الفتح : 22 ، 23]
فإذا كانت الدواعي القوية وجدت واقتضت مجتمعة قتال المشركين ، وإذا كان النصر تأكد، فلماذا إذن منع الله القتال؟ ولماذا قال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.[الفتح : 24]
إنه أمر واحد لا غير، وهو الذي ذكر الله الحكيم في قوله: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [الفتح : 25]
فإذا تلطخت أيدي المسلمين بدماء المسلمين، فهو معرة، وكان من رحمة الله على المؤمنين أن صانهم وحماهم من هذه المعرة والله يدخل فى رحمته من يشاء.
والدليل على أن هذا هو السبب الوحيد، قوله تعالى في نفس السياق: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. [الفتح : 25] أي لو تزيل المسلمون وتميزوا عن المشركين، وانتفى احتمال قتلهم على أيدي المسلمين لوقع القتال ولعذّب الله المشركين على أيدي المؤمنين عذابا أليما.
والذي يلفت الانتباه فى قوله تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. تكرار ذكر عدم العلم، فقال : لَمْ تَعْلَمُوهُمْ، ثم قال: بِغَيْرِ عِلْمٍ. وهذا يشير إلى أن المانع من القتال من ناحية القطع واليقين، لم يكن في قوة الدواعي من ناحية القطع واليقين. فإن المؤمنين والمؤمنات الموجودين بين أظهر المشركين كان مجهولا إسلامهم، مجهولا لدى المؤمنين ومجهولا كما يبدو لدى المشركين أيضا، لأنهم أخفوا إسلامهم ولم يعلنوا به خوفا من تعذيب المشركين إياهم. والإنسان معذور إذا قتل فى أثناء الحرب أحدا من جماعته يحسبه عدوه لوجوده بين أظهر الأعداء.
ومع ذلك جعل الله لهذا المانع اعتبارا قويا، وراعى جانب المعرة الناتجة عن قتل المؤمنين ولو كان بغير علم. فكيف إذا كان وجود المسلمين فى موقع العملية القتالية معلوما وإصابتهم نتيجة إجراء العملية قطعيا. وكيف إذا كان المسلمون هم المستهدفين من أعمال العنف والتشريد والقتل؟؟؟
ولقد اتضح جليا من الآيات القرآنية أن دماء المسلمين لا تستباح ولو باسم المصالح العامة للإسلام والمسلمين. فكيف إذا كانت المصالح المزعومة مصالح شخصية ناتجة عن هوى النفس وحب التشبث بالسلطة على رغم أنف الشعب المسلم، وكيف إذا كانت المصالح المزعومة مجرد تعصب لحزب أو اتجاه فكري لايقبل التعددية ولا يسمح بالمعارضة ولا يقبل حرية الاختلاف فى الرأي. وكيف إذا كانت الدواعي ليست إلا نتيجة نمط سلوكي لا يعرف الحوار والخطاب السلمي، وإنما اعتاد على خطاب العنف والطغيان والاستبداد؟؟؟
وأكتب هذه السطور، ودماء المسلمين قد استبيحت ولا زالت تستباح، فى أرجاء العالم الإسلامي وعلى يد من يدعون الإسلام، ويبدو أن الأمر قد هان في الأذهان وفى القلوب، على الرغم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".
تراق دماء المسلمين في قعر دار المسلمين، على الرغم من النداء الأخير للنبي صلى الله عليه وسلم فى خطبة حجة الوداع حيث ناشد الأمة كلها وقال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هذا".
وفى القرآن الكريم نصوص صريحة على حرمة قتل المسلم قطعية فى دلالتها، فقد قال الله عزوجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. [النساء:92]
فهناك قتل المؤمن خطأ، ويقول عنه السيد قطب: "فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي .. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع .. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة. كبيرة جدا. ونعمة عظيمة. عظيمة جدا. ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد .. إن هذا العنصر .. المسلم .. عنصر عزيز في هذه الأرض .. وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله .. فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله .. وهذا أمر يعرفه أصحابه. يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم. وقد علمهم اللّه إياه بهذه العقيدة وبهذه الوشيجة وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم ترتقي فتجمعهم في اللّه سبحانه الذي ألف بين قلوبهم. ذلك التأليف الرباني العجيب". (فى ظلال القرآن 2 / 735)
وأما قتل المؤمن عمدا، فيقول السيد قطب: "وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء. فليس من شأنها أن تقع. إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا. وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا. وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا". (فى ظلال القرآن 2 / 735)
والوعيد فى قتل المؤمن عمدا شديد جدا، ترتجف منه القلوب وتقشعر له الجلود، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] فكما لا يفترض أن يقتل مؤمن مؤمنا متعمدا، كذلك لا يتصور وعيد أشد من هذا الوعيد على الإطلاق.
يقول الشيخ السعدي: وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول. فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. (تفسير السعدي 1 / 193)
إلا أنه، ومع كل ما سبق من تحريم ووعيد وتهديد، كان هناك باب خطير يخشى منه فى استباحة دماء المسلمين، وهو باب الاعتبار بمصالح المسلمين العامة، وكان من المتصور أن يبرر شخص أو جماعة قتل المسلم بحكم المصالح وبحكم ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبحكم أن المصلحة العامة ترجح على المصلحة الخاصة، إلى غير ذلك من الاعتبارات.
والقرآن الحكيم لم يترك هذا الباب من غير توجيه بل أتى بمنهج واضح المعالم، وذلك فى الآية التالية من سورة الفتح: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح : 25].
فإن الآية تذكر أولا الدواعي لقتال المشركين، وهي أولا كفرهم، وثانيا صدهم عن المسجد الحرام، وثالثا صدهم الهدي معكوفا أن يبلغ محله.
وقوة هذه الدواعي تظهر فى قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217]
فإن هذه الدواعي موجبة لقتالهم ولو كان فى الشهر الحرام، مع أن القتال فى الشهر الحرام كبير عند الله.
وقد زاد هنا سببا آخر يوجب قتالهم، وهو منعهم الهدي من أن يبلغ محله، وكان ذلك جريمة عند العرب ليس فوقها جريمة، ولم يحدث فى تاريخ العرب قط منع الهدي من أن يبلغ منسكه، وفوق ذلك فهو جريمة كبيرة فى حق الجبار العزيز مالك الملك، حيث منعت الهدايا المقصودة إليه. وهو داخل في الصد عن سبيل الله المذكور فى آية البقرة، إلا أن شأن الهدي كبير.
فهذه الدواعي التي قد تبرر قتال المشركين فى الشهر الحرام، وقد تبرر قتال المشركين فى البلد الحرام وفى المسجد الحرام، وجدت مجتمعة تعزز بعضها بعضها، وواحد منها كان كافيا لأن يكون سببا مقبولا لقتالهم.
وفى جانب آخر فإن النصر العظيم كان محققا يقينا فى حالة نشوب القتال، حيث ذكر الله تعالى في نفس السياق: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. [الفتح : 22 ، 23]
فإذا كانت الدواعي القوية وجدت واقتضت مجتمعة قتال المشركين ، وإذا كان النصر تأكد، فلماذا إذن منع الله القتال؟ ولماذا قال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.[الفتح : 24]
إنه أمر واحد لا غير، وهو الذي ذكر الله الحكيم في قوله: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [الفتح : 25]
فإذا تلطخت أيدي المسلمين بدماء المسلمين، فهو معرة، وكان من رحمة الله على المؤمنين أن صانهم وحماهم من هذه المعرة والله يدخل فى رحمته من يشاء.
والدليل على أن هذا هو السبب الوحيد، قوله تعالى في نفس السياق: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. [الفتح : 25] أي لو تزيل المسلمون وتميزوا عن المشركين، وانتفى احتمال قتلهم على أيدي المسلمين لوقع القتال ولعذّب الله المشركين على أيدي المؤمنين عذابا أليما.
والذي يلفت الانتباه فى قوله تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. تكرار ذكر عدم العلم، فقال : لَمْ تَعْلَمُوهُمْ، ثم قال: بِغَيْرِ عِلْمٍ. وهذا يشير إلى أن المانع من القتال من ناحية القطع واليقين، لم يكن في قوة الدواعي من ناحية القطع واليقين. فإن المؤمنين والمؤمنات الموجودين بين أظهر المشركين كان مجهولا إسلامهم، مجهولا لدى المؤمنين ومجهولا كما يبدو لدى المشركين أيضا، لأنهم أخفوا إسلامهم ولم يعلنوا به خوفا من تعذيب المشركين إياهم. والإنسان معذور إذا قتل فى أثناء الحرب أحدا من جماعته يحسبه عدوه لوجوده بين أظهر الأعداء.
ومع ذلك جعل الله لهذا المانع اعتبارا قويا، وراعى جانب المعرة الناتجة عن قتل المؤمنين ولو كان بغير علم. فكيف إذا كان وجود المسلمين فى موقع العملية القتالية معلوما وإصابتهم نتيجة إجراء العملية قطعيا. وكيف إذا كان المسلمون هم المستهدفين من أعمال العنف والتشريد والقتل؟؟؟
ولقد اتضح جليا من الآيات القرآنية أن دماء المسلمين لا تستباح ولو باسم المصالح العامة للإسلام والمسلمين. فكيف إذا كانت المصالح المزعومة مصالح شخصية ناتجة عن هوى النفس وحب التشبث بالسلطة على رغم أنف الشعب المسلم، وكيف إذا كانت المصالح المزعومة مجرد تعصب لحزب أو اتجاه فكري لايقبل التعددية ولا يسمح بالمعارضة ولا يقبل حرية الاختلاف فى الرأي. وكيف إذا كانت الدواعي ليست إلا نتيجة نمط سلوكي لا يعرف الحوار والخطاب السلمي، وإنما اعتاد على خطاب العنف والطغيان والاستبداد؟؟؟