د. محمد بن جميل المطري
Member
حديث: (حتى وجدتُّ بَرْدَ أنامِلِه) رواية ودراية
بقلم/ محمد بن جميل المطري
بقلم/ محمد بن جميل المطري
قال الإمام الترمذي في سننه (3235): حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا معاذ بن هانئ أبو هانئ اليشكري قال: حدثنا جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا فثُوِّب بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجوَّز في صلاته، فلما سلَّم دعا بصوته فقال لنا: (على مصافِّكم كما أنتم) ثم انفتل إلينا فقال: (أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قُدِّر لي، فنعست في صلاتي فاستثْقَلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قالها ثلاثًا، فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنةً في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج قال: حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. وهذا غير محفوظ. هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم". انتهى كلام الترمذي رحمه الله.
وقد جاء هذا الحديث عن عشرة من الصحابة كما قال ابن منده في الرد على الجهمية (ص: 227)، وسرد طرقها الدارقطني في كتاب الرؤية (ص: 309 - 359)، وبعض متونها مثل متن حديث معاذ أو نحوه، وبعضها مختصر بذكر رؤية الله في المنام، قال ابن رجب في رسالته اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص: 37) بعد أن ذكر حديث معاذ: "في إسناده اختلاف، وله طرق متعددة، وفي بعضها زيادة، وفي بعضها نقصان".
وقد اختلف أهل العلم في صحة هذا الحديث، فصحح بعض طرقه: أحمد بن حنبل والبخاري والترمذي وابن العربي في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (12/ 111)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 321): "هو حديث حسن، رواه الثقات"، وصححه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (7/ 209)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة بمجموع شواهده (3169) بعد أن كان يُضعِّف حديث معاذ في كتابه ضعيف الجامع الصغير (1233). ويُنظر: العلل الكبير للترمذي (ص: 356)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (8/ 61).
وضعَّف هذا الحديث من المتقدمين: محمد بن نصر المروزي وابن خزيمة والعُقَيلي والدارقطني والبيهقي والخطيب البغدادي وغيرهم.
رواه محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل (ص: 22) من حديث عبد الرحمن بن عائش ثم قال: "وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وأبي أمامة رضي الله عنهم، هذا حديث قد اضطربت الرواة في إسناده على ما بينا، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث"، وسرد ابن خزيمة في كتابه التوحيد (2/ 532 - 546) طرق هذا الحديث من رواية عبد الرحمن بن عائش ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وثوبان ثم قال (2/ 546): "ليس يثبت من هذه الأخبار شيء"، وقال العُقَيلي في الضعفاء الكبير (3/ 126): "الرواية في هذا الباب فيها لين واضطراب"، وقال الخطيب البغدادي في تلخيص المتشابه في الرسم (1/ 302) بعد أن ذكر الخلاف في الحديث من رواية عبد الرحمن بن عائش ومعاذ وابن عباس: "لا يثبت شيء من هذه الأقاويل"، وسُئِل الدارقطني عن حديث معاذ بن جبل فذكر عِلَله في كتابه العلل (6/ 57) ثم قال: "ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة"، وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات (644) حديث عبد الرحمن بن عائش، وبيَّن الاضطراب فيه، ثم قال (2/ 74): "هذا حديث مختلف في إسناده، ... وقد روي من وجه آخر، وكلها ضعيف".
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1/ 20) بعد أن ذكره من حديث أبي عبيدة بن الجراح وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن عائش ومعاذ بن جبل: "أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة. قال الدارقطني: كل أسانيده مضطربة، ليس فيها صحيح، وقال أبو بكر البيهقي: قد روي من أوجه كلها ضعاف"، ثم ذكر ابن الجوزي أن أحمد بن حنبل رواه في مسنده عن ابن عباس بإسناد حسن، قلت: حديث ابن عباس رواه أحمد في مسنده (3484) من طريق عبد الرزاق الصنعاني عن معمر عن أيوب عن أبي قِلابة عن ابن عباس، ورواه الترمذي (3234) من طريق قتادة عن أبي قِلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس، وهو مُعَلٌّ، في إسناده اختلاف، وأبو قلابة لم يسمع من ابن عباس، وذكر أبو حاتم الرازي والمزي أن الصواب أنه عن ابن عائش وهم فيه بعض الرواة فقال: عن ابن عباس، يُنظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (1/ 433 - 435)، تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (8/ 160)، مسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط (5/ 438 - 441)، المسند المصنف المعلل (11/ 437).
وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 571) عبد الرحمن بن عائش، ونقل عن أبي حاتم الرازي أنه قال: أخطأ من قال: له صحبة، وقال أبو زرعة: ليس بمعروف، ثم قال الذهبي: "حديثه عجيب غريب".
تنبيه: جاء في كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد - علل الحديث (14/ 56، 57): "حديث معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه: (يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟) قال الإمام أحمد: طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل، هو أصحها". انتهى.
وقال ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (8/ 61): "هذا له طرق، قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة)، واختلفوا في أسانيدها، فرأيت أحمد بن حنبل صحح هذه الرواية التي رواها موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير حديث معاذ بن جبل قال: هذا أصحها".
قال إبراهيم النحاس في كتابه الجامع لعلوم الإمام أحمد بن حنبل في الحاشية: "هذا الحديث مداره على عبد الرحمن بن عائش، وهو إلى الجهالة أقرب منه إلى العدالة، فليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وقد قال فيه أبو زرعه الرازي: ليس بمعروف، فمثل هذا لا يتحمل تفرده فضلًا عن الخلاف عليه، فقد اضطرب في هذا الحديث، رواه مرة عن رجل عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ومرة عن مالك بن يخامر عن معاذ، ومرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقد اضطرب في هذا الحديث على ما فيه من جهالة، فالعلة فيه ظاهرة، ومن دافع عنها فقد جانبه الصواب، واللَّه أعلم. فائدة: قول الإمام أحمد: (أصحها) لا يعني صحة الحديث كما فهم ذلك ابن عدي رحمه اللَّه، غايته أن عبد الرحمن بن عائش جوَّده ورواه على الوصل فقط مع الإقرار بالاضطراب، واللَّه أعلم". انتهى كلام صاحب كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد.
وممن يضعف هذا الحديث من المعاصرين: شعيب الأرناؤوط كما في تحقيق مسند أحمد (5/ 438 - 441)، وشيخنا حسن بن حيدر الصنعاني في كتابه نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب (1/ 177، 178) فقال: "ضعَّف ابن خزيمة حديث معاذ، فقد ضعف أخبار هذا الباب كلها. وكذا الدارقطني حيث قال في العِلل ما نصه: ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة. اهـ. وقال في المؤتلف في حديث ابن عائش: "مختلف في إسناده". اهـ. وتقدم كلام البخاري وحكايته الاضطراب في إسناده إلا أن هذا الذي تقدم عنه يضاد ما حكاه الترمذي عنه كما تقدم إلا أن يقال: كلامه الذي حكاه البيهقي في حديث ابن عائش، والذي حكاه الترمذي هو في حديث معاذ، وهما مختلفان، لكن يعكر علينا صنيع الدارقطني، فإنه يظهر من صنيعه في العلل أن الحديث واحد وقع اختلاف فيه، منهم من جعله من مسند ابن عباس، ومنهم من جعله من مسند أنس، ومنهم من جعله من مسند عبد الرحمن بن عائش، ومنهم من جعله عن غير من تقدم، وهذا الظاهر؛ لذا عقب ذلك كله بكلامه المتقدم، ثم وجدت الدارقطني في المؤتلف (ص: 1558، 1559) قد صرَّح بكون الحديث واحدًا فلله الحمد. وممن ضعَّفه أيضًا محمد بن نصر المروزي حيث قال في كتاب قيام الليل (ص: 22): هذا حديث قد اضطربت الرواة في إسناده على ما بينا، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث. اهـ. وقال البيهقي ما نصه: وقد روى من غير وجه وكلها ضعيفة، وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله. اهـ. وقال ابن عبد البر في ترجمة ابن عائش من الاستيعاب: يختلفون في حديثه، روى عنه خالد بن اللجلاج وأبو سلام الحبشي، لا تصح له صحبة؛ لأن حديثه مضطرب. اهـ. وفي اتفاق هؤلاء الأئمة على كونه مضطربًا رد على من يصححه" انتهى كلام شيخنا حسن حيدر وفقه الله، وأذكرُ أني سألتُ عن هذا الحديث شيخنا مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله فقال لي ما معناه: "الحديث ضعيف، وقد صححه بعض المتقدمين، فلا يُنكَر على من يصححه".
فالحديث مختلف في تصحيحه، وغالب الظن أنه ضعيف، وعلى القول بصحته فأحسن طرقه حديث معاذ، وفي بعض طرق الحديث: (فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي) من غير ذكر الأنامل، وفي بعض طرقه ذكر الأنامل.
وممن روى الحديث بلفظ: (حتى وجدت برد أنامله بين صدري):
- أحمد بن حنبل في مسنده (22109) من حديث معاذ.
- الترمذي في سننه (3235) من حديث معاذ.
- الروياني في مسنده (656) من حديث ثوبان.
- ابن خزيمة في كتاب التوحيد (58) من حديث معاذ.
- الطبراني في المعجم الكبير (20/ 141) من حديث معاذ.
- الطبراني في الدعاء (1416) من حديث أبي عبيدة بن الجراح.
- الدارقطني في كتاب رؤية الله (227) و (230) من حديث معاذ، وفي رواية أخرى (254) من حديث ثوبان.
- ابن منده في الرد على الجهمية (29) من حديث ثوبان.
- أحمد بن حنبل في مسنده (3484) من حديث ابن عباس.
- أحمد بن حنبل في مسنده (16621) و (23210) من حديث ابن عائش عن بعض الصحابة.
- الدارمي في مسنده (2195) من حديث عبد الرحمن بن عائش.
- الترمذي في سننه (3233) و (3234) من حديث ابن عباس.
- أبو يعلى في مسنده (2608) من حديث ابن عباس.
- الطبراني في المعجم الكبير (20/ 109) من حديث معاذ.
- الدارقطني في رؤية الله (228) من حديث معاذ، وفي رواية أخرى (233) من حديث ابن عائش، وفي رواية أخرى (241) من حديث ابن عباس، وفي رواية أخرى (247) من حديث أنس بن مالك، وفي رواية أخرى (248) من حديث أبي أمامة، وفي رواية أخرى (253) من حديث ثوبان، وفي رواية أخرى (257) من حديث أبي هريرة.
- الرد على الجهمية لابن منده (28) من حديث أبي هريرة، وفي رواية أخرى (30) من حديث عبد الرحمن بن عايش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
- أبو إسحاق الختلي في المحبة لله (82) من حديث معاذ.
- أبو بكر النجاد في الرد على من يقول: القرآن مخلوق رقم (74) و (75) من حديث معاذ و (76) من حديث ابن عباس و (78) من حديث أبي أمامة و (81) من حديث ابن عائش و (82) من حديث أبي هريرة و (91) من حديث ابن عباس.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ذكر الأصابع لله سبحانه كما يليق بجلاله، والفرق بين الأصابع والأنامل أن الأنامل أطراف الأصابع، قال الأزهري في تهذيب اللغة (15/ 263): "الأَنْمَلَةُ: المِفصَل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع"، وقال الجوهري في الصحاح (5/ 1836): "الأَنْمَلَةُ: واحدة الأنامل، وهي رءوس الأصابع"، وقال ابن سيده في المحكم والمحيط الأعظم (10/ 390): "الأَنْمَلَةُ التي فيها الظُّفْرُ، والجمع أنامِلُ وأَنْمَلاتٌ".
وقد أثبت علماء أهل السنة والجماعة الأصابع لله سبحانه للأحاديث الصحيحة المشهورة في إثباتها، قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل (1/ 187): "باب إثبات الأصابع لله عز وجل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم" ثم روى أحاديث عن النواس بن سمعان وأم سلمة وأبي ذر فيها أن قلوب العباد بين أصابع الله يقلبها كيف يشاء، وروى مسلم في صحيحه (2654) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))، وروى الترمذي (2140) نحوه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الترمذي: "وفي الباب: عن النواس بن سمعان، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأبي ذر"، وقد روى أحاديث هؤلاء الصحابة الآجُرِّي بأسانيده في كتاب الشريعة (3/ 1156) في باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل بلا كيف، وقال ابن قُتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 322) بعد أن ذكر صفة الصورة واليدين والأصابع والعين: "نحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد"، وقال ابن قُتيبة أيضًا في تأويل مختلف الحديث (ص: 304): "لا نقول: أصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا، لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئًا منا"، وقال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في كتابه التبصير في معالم الدين (ص: 132 - 140): "لله تعالى ذِكرُه أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، ... وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين ... وأن له أصابع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن)) ... فإن قال لنا قائل: فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: الصواب من هذا القول عندنا أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه جل ثناؤه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]"، وقال البغوي في شرح السنة (1/ 168): "الإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله سبحانه وتعالى"، وقال أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الحجة في بيان المحجة (1/ 312): "قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن)) هذا وأمثاله مما صح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذهب السلف إثباته وإجراؤه على الظاهر، ونفي الكيفية والتشبيه عنه".
ولم أجد أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين صرَّح بإثبات صفة الأنامل لله عز وجل كما يليق بجلاله سبحانه إلا عثمان بن سعيد الدارمي وابن منده ثم أبا يعلى بن الفراء، فظاهر كلام عثمان بن سعيد الدارمي عن الحديث أنه يثبت صفة الأنامل، لكنه لم يصرح بذلك، ولم يفردها بالذكر. يُنظر: نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (2/ 736).
وروى ابن منده الحديث في الرد على الجهمية (ص: 224 - 224) في باب ذكر خبر يدل على ما تقدم من ذكر الأصابع، فجعل هذا الحديث من ضمن أحاديث إثبات صفة الأصابع.
وذكر الحديث القاضي أبو يعلى ابن الفراء في إبطال التأويلات (ص: 115) في الفصل الثالث وضع الكف بين كتفيه، ولم يعقد لهذه الصفة بابًا مفردًا، بل جعلها ضمن صفة الكف، مع أن ظاهر كلامه أنه يثبتها، والقاضي أبو يعلى ابن الفراء غفر الله لنا وله معروف بالغلو في إثبات بعض الصفات، قال في إبطال التأويلات (ص: 118): "فإن قيل: قوله: (فوجدت برد أنامله) يحتمل آثار إحسانِه ونِعمِه ورحمته في صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض، قيل: هذا غلط لما بينا من أن إحسانه ونعمه لا يختص القلب والكف والأنامل، ولأنه إن جاز تأويل الأنامل على ذلك جاز تأويل اليدين على النعمتين، والوجه على الذات". ويُنظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية (7/ 372 - 390).
وقال ابن رجب في رسالته اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص: 40، 41) بعد أن ذكر هذا الحديث الذي فيه الأنامل: "وأما وصف النبي لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي به ربه عز وجل فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نهي التمثيل عنه، ومن أشكَل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: {آمنا به كل من عند ربنا}، وكما قال النبي في القرآن: ((وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ)) خرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، ولا يتكلف ما لا علم له، فإنه يخشى عليه من ذلك الهلكة".
قلت: حديث: (وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ) رواه أحمد في مسنده (6741) من طريق شيخه عبد الرزاق الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وصححه الأرناؤوط في تحقيق المسند، وهو في جامع معمر المطبوع في آخر مصنف عبد الرزاق الصنعاني (20367)، ورواه أحمد بن حنبل أيضًا (6702) من طريق شيخه أنس بن عياض قال: حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: ((فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ))، وروى الحاكم في المستدرك (5321) وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك عن عبد الرحمن بن أبزى قال: لما وقع الناس في أمر عثمان رضي الله عنه قلت لأُبي بن كعب: أبا المنذر، ما المخرج من هذا الأمر؟ قال: (كتاب الله وسنة نبيه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه).
فائدة: قال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (24/ 325): "قوله في هذا الحديث: (رأيت ربي) معناه عند أهل العلم في منامه"، وقال الطوفي في الانتصارات الإسلامية في كشف شُبَه النصرانية (1/ 446): "حديث: (رأيت ربي في أحسن صورة) كان منامًا باتفاق علماء المسلمين. صرح الترمذي وغيره بأنه كان منامًا". والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولزيادة الفائدة راجع رسالتي: فوائد وتنبيهات في مسائل الصفات، وهي منشورة في شبكة الألوكة، فيها بفضل الله مع اختصارها نقول نفيسة، وفوائد عظيمة، وتنبيهات مهمة جدًا في مسائل الصفات، والله الموفق وحده.