حديث الجمعة...(قصاصَاتٌ مُتَنَاثِرَةٌ)

إنضم
18/07/2010
المشاركات
537
مستوى التفاعل
2
النقاط
18
الإقامة
المدينة المنورة
بسم1

لما كان حديث الجمعة هذا الأسبوع من جملة ما يلاحقني من المهام التي وعدتُ بإلزام نفسي بها؛ كان لزاما عليّ أن أوفي بوعدي رغم شدّة انشغالاتي (والتي معها أضحيتُ بالكاد أسترق وقتا أنادم فيه حاسوبي!). وحين أمسكتُ بالقلم أخطّ مشاركتي تقاذفتْ عليّ المشاغل الذهنيّة من كل حدب وصوب, وراحتْ تتجاذبني وتتنازعني وتتقاسمني حتى تشتت ذهني وتمزقت همتي. فلما حدّثتني نفسي بالانسحاب والاعتذار = وبّختها وحثثتها على الإقدام وحسن الوفاء بالوعد.
وها أنا قد أتيتُ ولكن في جعبتي قصاصات مختلفة كتبتُها في أوقات سابقة, منها ما نشر من قبل ومنها ما لم ينشر, ولقد عزمتُ أن أنثرها في هذه الزاوية حين أبت خيوط فكري أن تنتج نسيجا مكتملا. وإني لأرجو لقصاصتي المتناثرة هذه توفيقا تحوز به الإعجاب :

**القصاصة الأولى:
حين تتفتحُ عينُ الإدراك فيك بعد أن تخرج من شرنقة الطفولة مفعما بالحيوية؛ مقبلا على الحياة بحماس متقدٍ, وعاطفة شاعريةٍ, فتنظر إلى عالمك الجديد بعين الشاب الناضج لا بعين الطفل الذي كُنْتَهُ, تستصحب من الطفولة شيئا من البراءة مع حب الكون, ثم تضفي عليه مسحة من المشاعر العميقة, فتأتي نظرتك في قالب جديد مميز, ترى فيه عيناك كونا بديعا رائعا, صاخبا بالألوان البراقة والطبيعة الآسرة الجذابة.
... فتفتنك الشمس بشروقها... وتسحرك بروعة غروبها, ويأسرك البحر حين يعانق الأفق بزرقته, ويعجبك سكونه من بعد ثورته... تطربك الطيور بتغريدها, وتجذبك الزهور بأريجها. وينعكس كل جميل تراه عيناك على مشاعرك وروحك بعمق.
فإذا بالحياة تسحرك حتى تُقبِلَ عليها باندفاع المتهورين وشغف المتلهفين وهيام العاشقين, فتراها حلوة خلابة فاتنة, فترفرف السعادة في كل زوايا قلبك حتى يفيض فؤادك حبا للحياة وحبا للناس أجمعين.
ولا تزال في غفلتك وافتتانك هذا حتى ..... تلج دهليزا من دهاليز الحياة!!!
نعم... ثمة دهاليز في الحياة لا نبصرها, ولا نشعر بوجودها إلا لحظة ولوجنا فيها.
في الدهاليز لا ترى ضوء الشمس ولا موج البحر ولا نبض العشق... فقط تشتم رائحة الطين ممزوجة باليأس.
في الدهاليز تمضي وحدك... تقاسي وحدك... وتتألم وحدك, قد تحظى بمن يواسيك, ومن يبكي لأجلك, لكنك لا تحظى بمن يتألم بدلا عنك!
بعض الدهاليز سطحية وقصيرة, تدخلها سريعا لتخرج بعد ذلك فتنساها...
وبعضها يأبى إلا أن يعلق في ذاكرتك بطولِهِ وشدة ظلمته...
والبعض الآخر لا تخرج منه إلى الحياة أبدا, فهو دهليز معتم بلا نهايات... سيشهد معاناتك... وسيُقبِر نهاياتك...
أعاذنا الله وإياكم من كل بلاء وكل مرض.

**القصاصة الثانية:
ما أعذب حديث الأدباء !! وما أرّق طباعهم!!...
لهم حسّ مرهف يكاد النسيم برقّته أن يخدشه!!... ولهم نفوس كالزجاج الرقيق تكاد أدنى لمسة أن تهشمه!!
ترى النفوس تهفو إلى مجالستهم, والأسماع تطرب بحديثهم, لأنهم إنما يجودون عليك في مجالسهم بنصيبهم من السعادة في هذه الدنيا, فإذا ما خلو إلى أنفسهم تراهم إلى الصمت أقرب, وبالحزن ألصق!!
ترهقهم الحياة لقسوتها وشدة وقعها على نفوسهم الرقيقة, وترهقهم أيضا لكثرة تقلب قلوب العباد فيها بين حب وكره ووفاء وخيانة ... وما ذاك إلا لأنهم إن أحبوا أخلصوا... وإن أخلصوا كان عطائهم بحرا لا ساحل له!!.

**القصاصة الثالثة:
الإخلاص في الود والحب بين الأصدقاء نادر ندرة الماء العذب في قلب صحراء قاحلة!!
والحفاظ على هذا النبع صافيا عذبا أمر صعب وشاق!!. لأن صاحبه يعده أمانة تركها خله في قلبه..
لذا ترى المخلص إذا ما هبت عواصف الحياة المختلفة هرع إلى ذاك النبع فغطاه بجسده كي لا تردمه رمال الصحراء الزاحفة فيختفي, أو تخالط ماءه ذرات التراب المتطايرة هنا وهناك فتغير صفاءه!
وحين تشتد شمس الصيف تراه يفدى نبعه أيضا بجسده !! فلئن جفت أنهار الحياة من شرايين جسده أحب إليه من أن يجف نبع الوفاء والحب الذي يجري في فؤاده لصاحبه!!
لذا فلا عجب أن نرى الصديق المخلص حين يُرمى بسهام الخيانة في موطن الوفاء من قلبه يترنح وينزف ويتوجع!!
وحق له أن يترنح ويتألم لأن ذلك النبع الرقراق الذي سهر الليالي ليحافظ عليه قد أتى صاحبه الذي أودعه أمانة في قلبه فادعى أنه قد باعه وقبض ثمنه منذ زمن, أو أنه حين عاد تنكر له بالنسيان بحجة أن ذلك النبع التافه لم يعد يهمه بعد أن فُتحت عليه الدنيا بخيراتها!!

**القصاصة الرابعة:
من المفارقات ... تلك الهمّة التي تدفعك على طرد النعاس والسهر بنشاط متّقد في غرفة مظلمة وهادئة أمام شاشة حاسوبك؛ تحادث هذا وتجادل هذا وتسامر ذاك, فتطوي الساعة تلو الساعة حتى يطلع عليك الفجر ولمّا يتجرأ النعاس أن يتسلل إلى جفنيك ولو لمرة واحدة !!
بينما لو حيل بينك وبين جهازك ثم أُعطيتَ مصحفا بدلا عنه في ذات الغرفة المظلمة تلك؛ لرأيتَ النعاس وقد تجيّش حول عينيك في ميمنة وميسرة, وفي قوات برية وبحرية وجوية, ثم إذا به ينازلك الجولة تلو الجولة, لا يحطّ من عزمه انتصارك في أولى الجولات, ولا يعتريه يأس أو ملل إن أردف لنفسه خسارة تلو خسارة.
ثم ما هي إلا ساعة أو تزيد إلا والحرب قد وضعت أوزارها بانهيار دفاعاتك, وهزيمة كل مقاوماتك؛ فإذا بك تغط في نوم عميق تحت راية الاستسلام الشاهدة على هزيمتك المخزية!!

فيا ترى هل كان محدثك الذي لم تنعس بين يديه أفضل قولا وأصدق حديثا وأكثر نفعا لك من محدثك الذي نعست بين يديه؟؟!!


بنت اسكندراني
9/8/1433هـ
 
بورك قلمك، عبرت قصاصتك الأولى إلى قلوبنا وأثارت في النفس مخاوف من الدهاليز المتتابعة التي ما نلبث أن نغادر أحدها حتى يبتلعنا آخر، لكن قصاصتك الرابعة التي كان بينها وبين قصاصتك الأولى وشائج وصلات انتزعتنا من مخاوفنا وأعادت لنا الأمل بفرج الله بعد كل كرب.
 
مبدعة كالعادة.. بورك لك،،
صارت تروق لي أكثر فكرة القصاصات المتناثرة.. (^_^)..

أثرت في نفسي مشاعر شتى وأنا أقرأ قصاصتك الأولى..!. وتساءلت..! كيف ومتى ابتعدت عن تلك الفتاة التي تحمل بعض ما ذكرت..؟!.
بقيت أتأمل فترة.. حتى هان علي اختفاء بعض ملامحها.. فتلك الدهاليز المظلمة.. والصفعات المتتالية نعمة.. لندرك أن لا سعادة أبدية هنا..! فنعمل ونجد لنكون هناك.. حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. جمعنا الله تحت ظل عرشه..

ولمت نفسي مرات ومرات حين قرأت قصاصتك الرابعة..! فكم نشغل أنفسنا عن الأهم بالمهم ونظنها على خير..!. وكم نضيع فرصاً نعلم يقيناً أنها قد لا تعوض..!. وكم نتشاغل ونتكاسل..! والله المستعان..

وأخيراً.. فكم اختزلت عبارة "من السجن إلى القصر" فعلاً من معان..! سبحان مالك الملك..!​
 
بوركت أيتها الغالية وزادك الكريم من فضله ....
 
عودة
أعلى