حديث الجمعة: صورة من وفاء تلميذ لشيخه

ايت عمران

New member
إنضم
17/03/2008
المشاركات
1,470
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فإن الوفاء خلق كريم، وسلوك مستقيم، ويكفي في فضله أن يقول الله - تعالى - في شأنه: {ومن أوفى بعهده من الله}.
والوفاء الذي أعنيه، ذاك الذي قال الجرجاني في "التعريفات" فيه: "الوفاء هو: ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء"
ولَمَّا قرر الإمام ابن حزم في "الأخلاق والسير" أن "أصول الفضائل كلها أربعة؛ عنها تتركب كل فضيلة، وهي: العدل، والفهم، والنجدة، والجود".
كان قد بين قبل ذلك أن الوفاء حاز شرف ثلاثة من هذه الأربعة، وذلك حين قال: "الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة...".
لذلك قال في مختصر طوق الحمامة: "ومن حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق في الحب وغيره - الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللاَّزم للمخلوقات".
وقد عُني القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء عناية فائقة الوصف، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الأمثلة في تنزيل ذلك على الواقع، وما ثبت عنه من وفائه لأم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - لا يخفى، ومن ذلك ما روته الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما - حين قالت: "جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنت؟
قالت: أنا جثَّامة المزنية.
فقال : بل أنت حسَّانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟
قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟
فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنَّ حسن العهد من الإيمان". (صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وينظر للزيادة سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/376.)
وفي القصة وفاء لأم المؤمنين، ووفاء لحسانة العجوز، وهذا هو الوفاء، وفاء لا ينسيه بعد الدار ولا موت الخلطاء، بل قال بعض الوعاة: "قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره وقت الحياة".
وليس غرضي في هذه العجالة التوسع في فضل خلق الوفاء، إنما قصدت أن أطلع من لم يطلع من إخواني على صورة مشرقة من صور وفاء أهل العلم لشيوخهم، وإليكم تلك الصورة كما صورتها ريشة صاحبها:
قال العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المِنْتُوري في خاتمة شرحه على الدرر اللوامع (2/866) ما نصه:
"وقد ذكرت في هذا الشرح كثيرا من أنظار شيخنا الأستاذ أبي عبد الله القيجاطي – رضي الله عنه – واختياراته، مما حفظته منه، أو سألته عنه، أو نقلته من تقييداته.
وما وقع فيه من رد مني على بعض من تقدم فإنما ذلك في قليل من المسائل حالت المنية بيني وبين شيخنا – رحمه الله – في عرضها عليه، ونسبة التحقيق فيها إليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليما".
ولم أزل معجبا بهذا القول منذ امتد ناظري إليه، ولإعجابي به أطلعت عددا من أصفيائي عليه؛ ذلك لما آنسته فيه من فوائد، ولما جمعته أطرافه من عظات فرائد.
يتعب المنتوري نفسه في تأليف شرح للدرر اعتبر من أهم الشروح وأجمعها – إن لم يكن أهمها وأجمعها – يرجع فيه إلى تسعة وسبعين ومائة مرجع، ويقول في ذلك (2/866): "وقد تأملت ما اطلعت عليه من الكتب التي نقلت منها إليه، فألفيت ذلك مائة وتسعة وسبعين مجموعا، منها مائة وسبعة وعشرون من كتب علم القراءات، وسائرها من فنون العلوم"، ويضيف إلى تلك المنقولات تحقيقات علمية فريدة بعضها لا تجده عند غيره، ثم يحاول جاهدا أن ينسب تلك التحقيقات كلها لشيخه، ويتحسر على أن مات شيخه قبل أن يسأله عن بعضها فينميها إليه!
إنها قمة الوفاء، وسنام الإخلاص، وسماء التواضع، وعلياء الأمانة...
والرجل قال قولته هذه وشيخه قد وافته منيته، فلا مجاملة، ولا مداراة ولا مداهنة، فالموت قاطع ذلك كله، ومبق على الوفاء وحده.
فمن لنا في هذا الزمن بمثل وفاء هذا العَلَم، إنه أضحى أندر من الكبريت الأحمر، وأصبحنا، وكأن الطغرائي يصف حالنا:
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجَتْ***مسافةُ الخُلْف بين القول والعمل
والمؤسف حقا أن يكون فيمن يذكر شيوخه - من يذكرهم لحاجة في نفسه؛ فلا تجده يذكر إلا من ترتفع به أسهم ذكره، وتزداد به حظوته لدى سامعه وناظره، فيتخير الأشهر، ومن ذكر غيره يتطير. ورحم الله الإمام الشافعي على قوله: "احفظ وداد من عاملك لحظة، ولا تنسَ جميل من أفادك لفظة".
ومن أكثر مَن يعرَّضون للنسيان، ويَسرق ذكرهم من لسان تلامذتهم مرُّ الزمان، مع أن فضلهم وسابقتهم ظاهران للعيان، أولئك الذين نفتح أعيننا على القرآن في مجالسهم، ونتعلم الخط والكتاب على أيديهم.
فليسأل كل نفسه هذا السؤال: إذا طلب مني أن اكتب سيرتي العلمية فهل أذكر من علمني القرآن؟ وهل أذكر أسماء أولئك الذين حفظوني السورة والسورتين، والجزء والجزءين؟
قد يكون بعض أولئك أولى بالذكر ممن أجازك برواية أو ما فوقها؛ لأنهم هم الذين أهلوك لأن تجاز بها، ويا لتعبهم لمن لم يجرب عملهم!.
ويكون وفاؤك لشيوخك أكمل إذا نسبت إليهم كل علم تعلمته منهم، وزينت بذكرهم مجالسك داعيا لهم ومسببا دعاء الحاضرين وترحمهم. وثق أن ذلك لن ينقص من قدرك وعلمك، بل يزيدك إكبارا في عيون سامعيك، وقد قال العلامة المنتوري ما قال وشرحه يتهافت عليه الناس.

كتبت ما كتبت لا لأتشبع بما لم أعطه، ولا لأتحلى بما لم أملكه، لكن لأذَكر نفسي وإخواني بهذا الخلق الجليل، لما رأيته – وترونه – في هذه العصر من استفحال نكران الجميل، وقلة الأمانة العلمية في هذا الجيل.
وأسأل الله كما حسن خَلقنا أن يحسن خُلقنا، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وتروكنا، وأن يصلي ويسلم على محمد بن عبد الله حبيبنا وقدوتنا وقرة أعينا، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم بعثنا من قبورنا.
 
ما أجمل ما سطرت يا أستاذ محمد ، تذكرة ثمينة ، نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص ، وأن نحفظ لمشايخنا قدرهم ، ونوفيهم حقوقهم ، ونرد الفضل إليهم ، بعد المولى عز وجل.
وأتذكر وأنا أقرأ هذا الموضوع بعض من جلست معهم من من لا يفتر لسانه عن الكلام في حق شيخه الذي صحح له حروفه ، وأجهد نفسه في شرح المتون العلمية له، يقول عنه : يبحث عن المال . . .يحقد علي ، فكان جزاؤه أن قصاه الله عن العلم ، وشغله بأمور الدنيا ، بعد أن قطع شوطا كبيرا في علمي التجويد والقراءات .
 

أصَبت المحزّ وجودّت البيان أخي الحبيب والغالي..

جعلني الله وإياك من أهل الوفاء وخلان الصفاء.​
 
عودة
أعلى