حديث الجمعة: "روح الكلمة"

محمد العبادي

مشارك فعال
إنضم
30/09/2003
المشاركات
2,157
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
الخُبر
الموقع الالكتروني
www.tafsir.net
01.png



حين كلمني أخي العزيز الشيخ فهد في "حديث الجمعة" توقفت في اختيار الموضوع المناسب، فلستُ ممّن مَلَك القلم، وإنما اعتدت الكتابة بما يأتي عفو الخاطر، أو تعقبًا لسؤال، أو استتباعًا لفكرة مطروقة.

إلا أن أمرًا ملحوظًا طالما أحببت التفكر فيه، والتأمل في دوافعه ومَباديه، فكان هذا المقام فرصة لأجاذبكم -أحبابي- بعض أطرافه.
هو ذلك النَّفَس العجيب، والشعور المتمكن الذي يخالجني وأنا أقرأ بعض الكلمات:
هزة تسري فيّ مع كل حرف فيها.
أستطرد مع كلماتها فأجدني أقترب من صاحبها حتى أكاد أسمع صوته.
تقع العين على الحرف ثم ما تلبث أن يجتذبها إلى عالَمه، فيستحيل المكتوبُ مسموعًا، والمقروءُ محسوسًا، والمفهومُ واقعًا معاشًا وشعوراً متحققًا!
تُرى ما هو السر في هذا الشعور العجيب؟!
ما الذي جعل الكلمات تتمايز كما نتمايز نحن، فمنها الحيّ ومنها الميت؟!
ما الذي يبث الروح في الكلمة فتنتفض قائمة فاعلة في عالم الأحياء؟
وما الذي تفقده فتبقى حبيسة الحبر والورق، جثة هامدة، لا حياة فيها ولا عطاء؟
ما الذي يجعل بعض الكلمات كعروس محنطة! يشهد كل من يمر عليها بجمالها وحسن هيئتها، لكنها لا تحرك ساكنا ولا يخفق من أجلها قلب؟
هو أمر طالما استوقفني فأحببت الوقوف معه، ولست فيه مجيبا على الأسئلة السابقة، وإنما واصفا لما أجد في حديث مقتضب، ومشاركا لكم هذا الشعور الذي يجده كل قارئ.

حين يمسك الكاتبُ القلم، تقع همّته على أمرين:
الأول: معنى في نفسه يريد أن يوصله من خلال كلماته.
والثاني: لفظ يختاره يوصل من خلاله المعاني المختلجة في النفس.
وهذان الأمران هما أساس كل كلام، وبقدر تفاوت كل منهما جودةً ورداءة يقع الوصف المطابق للكلام.

أما الأول فكم تفاوتت فيه الهمم، وتنوعت فيه النوايا.
فكاتبٌ يريد إرضاء قارئيه، يسير مع هواهم، يتتبع ما يعلم أنهم يشتهونه فيشبع به كلامه، ولا تقع همته على غير ذلك.
وآخرُ يبحث عن الغرائب، ينقب عن المعلومة النادرة ولو كانت مستهجنة، ويستفصل فيما لم يقع، ويتتبع الأمر الذي لم يطرقه أحد حبًا في الظهور بالغريب، وإبرازًا للمعرفة بالنوادر، والتفكّه بعجائب الدهر!
وثالثٌ يكتب لأجل الكتابة، كلامه مكرور مُعاد، ومعانيه مطروقة مألوفة، فلا هو أراح نفسه ولا أفاد غيره.
ورابعٌ قد فارق هؤلاء جميعا، لم يرفع قلمه إلا بعد أن أُثقل قلبه بمعنى كبير لم يصطبر على مكابدته وحده، فأحال حروفه قوالب يصبّ فيها خلجاته ونفثاته وعصارة ذهنه ومصاصة قلبه.
لم يكتب قاصداً الترف، ولا الإغراب، ولا الشهرة، ولا التكثّر، ولا هوى الناس ورغباتهم، وإنما دافعُه قضيةٌ وَقَرَت في قلبه، فرأى وجوب مشاركتها غيره، نصحًا وحبًا وإخلاصًا.
هذه النية هي التي تفعل بالكلام فعل عصا موسى!
تُحيلُ كلماتِه أشخاصًا مؤثرة، لا يمر بها قارئ إلا وجد في نفسه أثرًا.
وما ذاك إلا أن الكاتب قد منحها من روحه، حتى سَرَت فيها سرياناً لا يفارقها، فما تلتقطها عينٌ إلا بثّت في قارئها من هذه الروح، وهزت وجدانه، وعملت فيه عمل الأحياء!
وحين تكون النية خالصة لوجه الله تعالى، فإن الله تعالى يكسوها من جلاله ويمنحها من بركته ما لا يُقادر قدرُه.
قال يوسف بن أسباط: "ما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له".
والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، فمن أراد هذه الروح فليطيِّب النية.

أما الأمر الآخر الذي يكسب الكلام روحه، فهو تابع للأول، مكمّل له، وهو أن يُكسى بالحلة اللائقة من المنطق الحسن، واللفظ الجميل، والأسلوب المناسب. فإن الكلام قد يكون صادقًا معبرًا لكنه إن لم يُصَغ بالبيان الحسن والمنطق الجميل أساء للمعنى وشوّه المقصد.

قال الجاحظ: "وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، ومنزَّها عن الاختلال، مصونًا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة".

وهذا كلام نفيس يتبين فيه كيف تكتسب الكلمة روحَها، وإذا جمع الله تعالى لامرئ صدق النية وحسن البيان فهو من الكتّاب الذي اصطفاهم بهذا الوصف، واستحقوه عن صدق، وذلك فضله يؤتيه من يشاء...أسأل الله لي ولكم من فضله.

جدة 1433ه​
 
الأخ الفاضل / العبادي حفظه الله ونفع به
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فجزاك الله خيرا - أخي الكريم - على هذه المقالة التي وجدت فيها ما أشرت إليه .. نفع الله بك .
وذكرني تقسيمك لأصناف المتكلمين إلى أربعة على النحو الذي ذكرت ، بتقسيم بعض الظرفاء الشعراء إلى أربعة :
الشـــــــــعراء فلتعلـــمن أربـــــــــــــعة شاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر يخوض وسط المعمعة وشاعر لا تشتهي أن تسمعه
وشاعر لا تستحي أن تصفعه
دمت موفقًا .... ونفع الله بك .
 
مشاركة قيمة موفقة بارك الله فيك أخي الفاضل ولا أجدني أبالغ إن قلت بعد قرآءة ما كتبت أنك تمتلك الأمرين اللذين أشرت إليهما في مقالتك: المعنى المراد إيصاله واللفظ الذي يعبر عنه.
دمت موفقاً مسدداً بالنية الطيبة الصادقة في التعبير وبالكلمة البليغة التي تؤثر بمن يقرأها ويسمعها.
 
بارك الله فيك يا أبا إبراهيم .
أعجبني قول الجاحظ: (وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكأَنَّ الله قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله) .
وما أحوجنا للتأمل في مثل هذا الكلام الذي كتبه الجاحظ ، وأكد عليه غيره كابن الأثير في (الجامع الكبير في صناعة المنثور والمنظوم) وفي (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) وكما كتب أيضاً أبو هلال العسكري في (كتاب الصناعتين) فهي معينة على تجويد الكتابة وتحسينها ، ولا سيما مع كثرة ممارسة الكتابة . ثم تبقى القراءة الهادفة المركزة أكبر معين على تجويد الكتابة ، فلا يكون غير القارئ كاتباً جيداً عادةً ، والذين يمارسون الكتابة دون الاستمرار في القراءة تضعف معانيهم ، وتتكرر أفكارهم حتى يزهد فيها القراء .
 
أثابك الله خيراً أخي على هذا الموضوع القيم ولا شك أن الإخلاص ينفخ الروح في الكلمات، وهناك عوامل أخرى منها القراءة المكثفة والدربة وما إلى ذلك؛وللفائدة سأشارك القارئ تجربتي الشخصية مع الكتابة: عندما كنت بصدد كتابة رسالة الماجستير توجست خيفة من القلم ولم أكن قد كتبت شيئاً في حياتي؛حتى ما يسمى موضوعات (التعبير) في المدرسة كنت أتحايل على والدتي لتكتبها لي، ثم تلقيت نصيحة ذهبية من أخت لي قالت : عندما تستطيعين التفكير باللغة الفصحى ومخاطبة نفسك بها ستجيدين الكتابة والحقيقة أنا لا أقول عن نفسي أني أجدت الكتابة لكني على الأقل نجحت في إنجاز رسالتي بسهولة بفضل هذه النصيحة.
 
مقال جميل دقيق يدل على دقة تأمل كاتبه... ونعم صدقتَ فإن للكلمات سحرا تأسر به النفوس، وترغمها على الإبحار في أعماق الحروف والكلمات ومعانيها، وما وراء المعاني من أسرار، حتى يكاد قارئها ينفصل عن عالمه فيتصل بعالم آسر ساحر من صنع تلك الكلمات.
وأوافقك الرأي تماماً في أن الكلمات التي غُمست في روح كاتبها، وجرت في شراينه، وانسجمت في رحلتها هذه مع إيقاع نبض قلبه، واعتملت في عقله ووجدانه زمنا قبل أن تصير حبرا = هي كلمات حيّة.
لكن أثر هذه الكلمات مرهون - من وجهة نظري- بقارئ مثقف متأمل يقدر الفكر، ويستعذب الأدب، ويسلم نفسه للإبحار السلس في فكر الكاتب حتى يمخر به العباب ويسبر به أغوار الأعماق.
وكم من الناس من يفتقد أن يكون قارئا جيدا تطربه مجرد كلمات، وتسعد نفسه بضع صور وسجعات، وتنتشي روحه من معان بديعة صبت في حكم أو أبيات، ويرتوي عقله حين يطالعه منطق واع متعقل ذا فكر راق وناضج.
قليل من الناس من يرى أن قرائته لكتاب معين في موضع يحبه يعد مغنما يرجوه ويطلبه، وأمنية تشرح صدره وترضيه، وسعادة لها مذاقها الخاص الذي لا يشبه أي مذاق.
لذا فإنه متى اجتمعت لدينا كلمات مميزة حية مع قارئ مميز متهيء كان لتلك الكلمات فعل السحر بقارئها، حتى أنها لتحيي بجمال فكرتها وصدق معانيها وروعة عبارتها كل جدب تمر به داخله.
نسأل الله أن يجعل أقلامنا جندا من جنوده يسخرها في طاعته والدعوة إلى دينه، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص والقبول.
وبورك قلمكم.
 
عودة
أعلى