حديث الجمعة : (بين حياتين)

إنضم
28/12/2009
المشاركات
144
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بين حياتين

الحياةُ مليئةٌ بالمواقفِ والمفاجآتِ التي تكونُ فيها العظةُ والعبرةُ للمرء ومن آخر تلك المواقف التي عايشتها ما كان قبلَ أيامٍ قليلةٍ عندما كنتُ في العمل بين زملائي وأصدقائي نتجاذب أطرافَ الحديث وأخبارَ الناس ... عندها رَنَّ هاتفي المحمول ، وإذا به أحدُ أصدقائي وبعد السلام والتحية... بعث إليَّ النبأ الذي لأجله اتصل " زوجة زميلنا فلان توفيت – رحمها الله - وسَيُصَلَّى عليها ظهر اليوم بالمسجد النبوي" - هكذا من غير مقدِّمات - ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، سألتُه كيف تُوفِّيَت وأنا لم أسمعْ منه أنها مريضة!! قال : نامت البارحة مع زوجها وأولادها كعادتها ، وعندما أيقظها لصلاة الفجر وجدها قد فارقت الحياة!! يا الله ما أصعبَه من موقف ، وما أشدَّ وقْعَهُ على النفس ، ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلَّم علَّمَنا الصبر في أوقاتِ الأزماتِ والمَصائِبِ ، وأخبرنا أن الصبرَ يكونُ عندَ أول لحظة من سماع الخبر فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : ( مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ ، فَقَالَ : " اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي " ، قَالَتْ : " إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي " ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ ، فَقِيلَ لَهَا : " إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ ، فَقَالَتْ : " لَمْ أَعْرِفْكَ " ، فَقَالَ " : " إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى " ) . متفق عليه واللفظ للبخاري .
في الحقيقة سرح خيالي باقي اليوم وأخذ الموضوعُ كلَّ تفكيري وتركيزي ولم أستطع أنْ أواصل إلقاءَ الدروس على الطلاب فذهني مشغولٌ حتى خرجتُ قبيل الظهرِ إلى المسجد النبوي ... وهاهي الصلاة على الجنازة ، وما إنْ صُلِّيَ عليها إلا والأكتاف تحملُها ، وهذا زميلي صاحبُ الأدبِ الجم ، والخُلُقِ الرفيع ، والهدوءِ المعهود ، الذي لم أره منذُ زمنٍ ! أراه الآن يتقدَّمُ الناسَ ويحملُ ريحانةَ قلبهِ وزهرةَ حياتهِ وصديقةَ عُمُرِهِ ورفيقةَ دربِهِ ولبَّ حياتِهِ وقبرَ أسرارِه التي عاش معها أكثر من أربعةَ عَشَرَ عاماً ، عاشها معها بين فرحٍ وسرورٍ وسفرٍ وحضورٍ ... وكأني به يَمُرُّ على ذاكرته شريطُ حياتِه معها في هذه اللحظات الصعبة والدقائق الحرجة وتَمُرُّ به تلك الذكرياتُ والأيامُ الجميلاتُ الخالياتُ ... ، وعند وضعها في القبر وإهالة التراب عليها أخذ الناس يتباعدون شيئاً فشيئاً إلى الوراء !! فالوقتُ الظهر ، الحرارةُ شديدةٌ ، والهواءُ يهبُّ من كلِّ جهةٍ ، وأخذ الغبار يتعالى ويتصاعد ، نعم غبارٌ كثيفٌ جداً ، ذكَّرني هذا الغبارُ بليلةٍ لن ينساها صديقي ، ولن ينساها أيُّ زوجٍ في مثل هذا الموقف ، إنها ليلةُ الزَّفافِ ، والله تذكرتُ تلك الليلةِ ، والذي ذكَّرني بها الغبار ، فقلت في نفسي : الله أكبر هذا الغبارُ كان في ليلة الزفاف دخان أيُّ دخان ! إنه دخان – البخور - الذي يبعث الرائحةَ الزكيَّةَ الطيبةَ ، يا الله مُلَخَصُ هذه الحياة بين الزوجين كان في ليلةِ الزفاف دخاناً فأصبح اليوم غباراً ، بل إنها الحياةُ بين الأبيضين الفستانُ الأبيضُ ليلةَ الزفافِ ، والكفنُ الأبيضُ يومَ الفراقِ والوداعِ ، في تلك الليلة تُزَفُّ إلى زوجها زفَّاً ، واليوم تُحْمَلُ إلى قبرها حملاً ، إنه قَدرُ اللهِ تعالى القائل : [FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P154]ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] ، وهذه الحياةُ لا تدومُ على حالٍ ، ولا يَسْتَقِرُ لها قرار ، فسبحان مغيِّر الأحوال .
قال التهامي في رائيته :

حكمُ المنيَّةِ في البريَّة جارِ ** ما هذه الدنيا بدارِ قرارِ


بينا يُرى الإنسانُ فيها مخبِراً ** حتى يُرى خبراً من الأخبار


طُبعتْ على كدرٍ وأنت تُريدُها ** صفواً من الأقذاءِ والأكدار


ومكلِّفُ الأيَّامِ ضدَّ طِباعِها ** متطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نار


وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنما ** تَبْنِي الرَّجاءَ على شفيرٍ هار


فالعيشُ نومٌ والمنيّةُ يقظةٌ ** والمرءُ بينهما خيالٌ سار


والنفسُ إنْ رَضِيَتْ بذلك أو أبتْ ** منقادة ٌ بأزمة المقدار


فاقضُوا مآربكم عِجَالاً إنما ** أعماركم سفرٌ من الأسفار


وتراكضوا خيلَ الشبابِ وبادروا ** أن تُستردَّ فإنهن عَوَارِ

إلى أن قال :

قد لاحَ في ليلِ الشبابِ كواكبٌ ** إنْ أمهلت آلت إلى الأسفار


يا كَوْكَباً ما كانَ أقصرَ عُمْره ** وكذا تكونُ كواكبُ الأسحار


أثني عليه بأثره ولو أنَّهُ ** لم يغتبط أثنيتُ بالآثار


وهلالَ أيامٍ مضى لم يستدرْ ** بدراً ولم يُمهلْ لوقت سرار


عَجَّلَ الخسوفُ عليهِ قبلَ أوانهِ ** فمحاهُ قبلَ مَظَّنةِ الإبدار


واستُلَّ من أتربه ولَداتهِ ** كالمقلة استُلَّت من الأشفار


فكأنّ قلبيَ قبرهُ وكأنَّهُ ** في طيِّه سرٌّ من الأسرار

وفي الختام : اللهَ اللهَ في العشرةِ بين الزوجينِ بالمعروفِ ، وحُسْنِ الصحبةِ ، والقناعةِ ، وإخلاصِ الوُدِّ ، والتسامحِ ، وقَصْرِ النظرِ ، والملاطفةِ والمؤانسةِ ، والمحبةِ والتقديرِ ، وإدخالِ السرورِ ، والبشاشةِ والهشاشةِ ، وذكرِ المحاسنِ ، والوفاءِ في الحياةِ وبعدَ المماتِ.

عبدالرحمن بن سند الرحيلي


10 جمادى الآخرة 1433هـ
 
بارك الله فيكم على هذه الموعظة الطيبة, ربما أحداث الوفاة تتكرر على مسامعنا ليل نهار حتى باتت لا تؤثر في غفلتنا وانشغالاتنا اللامتناهية بهذه الحياة أكثر من دقائق معدودة! فشكرا لقلمك الذي جعلنا نتأمل الموقف بعمق.
جعل الله ذلك في ميزان حسناتك ـ أخي الكريم ـ ونفع بك.
 
ماأقصر الحياة مهما بدت لنا طويلة !
وماأقرب المنية وإن ألهتنا الدنيا وظننا أنها عنا بعيدة !
وماأعظم نعمة اجتماع الشمل وإن أصابنا من ذلك الملل والبطر أحيانًا (كثيرة )!




والوفاءِ في الحياةِ وبعدَ المماتِ.
وحسن العهد من الإيمان ولقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير زوج لأهله وأوفاهم

ففي المستدرك عن عائشة قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أنت ؟ قالت : أنا جثامة المزنية فقال : بل أنت حسانة المزنية كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا ؟ قالت : بخير بأبي أنت و أمي يا رسول الله فلما خرجت قلت : يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : إنها كانت تأتينا زمن خديجة و إن حسن العهد من الإيمان .
وفي البخاري:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا.

أرأيتم أو سمعتم وفاءً كهذا الوفاء ؟!!


شكر الله لكم هذا التذكير وبارك الله في قلمكم ..
 
ما شاء الله لاقوة إلا بالله , موعظةٌ بليغةٌ , وقلمٌ سيَّـال , وأسلوبٌ سهلٌ يتسلَّل إلى سويداء القلبِ ليستقرَّ فيها طويلاً , وأسأل الله أن يكونَ سبب تأثيركَ السَّريع والمُباشر فينا إخلاصكَ للهِ في كتابَتِها.

ونسأل الله أن يربط على قلبِ زوجِها وبَنيها وأهلِها.
اللهم إنها في ذمتك وحبل جوارك فقِها فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق فاغفرلها وارحمها إنك أنت الغفور الرحيم , اللهم اغفر لها في المهديين واخلفها في عقبها في الغابرين واغفر لنا ولها يا رب العالمين وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه ,اللهم إن هذه أمَتُك وابنةُ عبدِك وابنةُ أمَتِك خرجت من رَوْح الدنيا وسعتها إلى ظلمة القبر, كانت تشهدُ ألا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم بها , اللهم إنها نزلت بك وأنت خير منزولٍ به وأصبحت فقيرةً إلى رحمتك وأنت غنيٌ عن عذابها آتها برحمتك رضاك وقها فتنة القبر وعذابه وآتها برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثها إلى جنتك يا أرحم الراحمين , اللهم انقلها من مواطن الدود وضيق اللحود إلى جنات الخلود ,اللهم ارحمها تحت الأرض واسترها يوم العرض ولا تخزها يوم يبعثون , اللهم يمن كتابها ويسر حسابها وثقل بالحسنات ميزانها وثبت على الصراط أقدامها وأسكنها في أعلى الجنات في جوار نبيك ومصطفاك , اللهم اجعل عن يمينها نوراً وعن شمالها نوراً ومن أمامها نوراً ومن فوقها نوراً حتى تبعثها آمنةً مطمئنةً في نورِ من نورك , اللهم أسكنها فسيح الجنان واغفر لها يا رحمن , اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم فإنك أنت الله الأعز الأكرم. آميــن اللهم وجميع موتانا وموتى المسلمين.
 
أشكركم جميعاً على حسن ظنكم ، ورزقني ربي وإياكم علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلاً .
 
عودة
أعلى