(حداثة القرآن : إشكال الرسم العثماني وضرورة تنميط الكتابة القرآنية) لعبدالجليل الكور

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,318
مستوى التفاعل
127
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
هذه مقالة بعنوان (حداثةُ ﭐلقرآن: إشكالُ ﭐلرسم ﭐلعثماني وضرورةُ تنميط ﭐلكتابة ﭐلقرآنية ) للباحث عبد الجليل الكور ، منشورة بموقع الملتقى الفكري للإبداع . وقد قدم لها الموقع بقوله (ملاحظة:إن نشر هذا المقال لا يعني تبني هيئة تحرير الموقع ما يدعو إليه الكاتب، إنما ينشر في سياق ما ينشره الموقع من أفكار تستحق النقاش والحوار) .
وقد رأيتُ بعد قراءتها نقلها للزملاء في ملتقى القراءات والتجويد ورسم المصحف وضبطه ليطلعوا عليه أولاً ، ويعرفوا ما يستجد من دعوات حول إعادة كتابة القرآن بغير الرسم العثماني ثم ليناقشوا ما ورد فيها ثانياً باعتبارهم المعنيين بببيان الصواب في مثل هذه المسائل . وهذا نص المقالة ..

[align=center]حداثةُ ﭐلقرآن: إشكالُ ﭐلرسم ﭐلعثماني وضرورةُ تنميط ﭐلكتابة ﭐلقرآنية [/align]
للباحث عبد الجليل الكور

فِي ﭐلِاعْتِقَادِ ﭐلشَّائِعِ أَنَّ ﭐلْحَرْفَ ﭐلْعَرَبِيَّ تَوْقِيفِيٌّ مُقَدَّسٌ، وَبِذَالِكَـ فَلَا يَجِبُ مَسُّهُ بِأَيِّ تَغْيِيرٍ. [وَرَغْمَ أَنَّ] هَذَا ﭐلسَّبَبَ ﭐلْأَوَّلَ قَلِيلُ ﭐلْوُجُودِ فِي أَذْهَانِ بَعْضِ ﭐلْمُثَقَّفِيـنَ [فَإِنَّ]، تَأْثِيرَهُ ﭐلْخَفِيَّ مَا زَالَ يَفْعَلُ فِعْلَهُ بِـﭑلنِّسْبَةِ إِلَى ﭐلْقُرْآنِ ﭐلْكَرِيمِ.»
(أَحْمَدْ ﭐلْأَخْضَرْ غَزَالْ) [1]

ما أكثر ﭐلمشكلَات في حياة ﭐلمسلمين، سواء على مستوى واقع ﭐلحياة ﭐلمادية (ﭐلفقر، ﭐلجهل، ﭐلمرض، ﭐلتمزق ﭐلمذهبي، ﭐلِاستبداد ﭐلسياسي، ﭐلظلم ﭐلِاجتماعي، إلخ.) أو على مستوى واقع ﭐلحياة ﭐلثقافية (وضع قيم ﭐلتراث، حقيقة ﭐلشريعة، كيفية ﭐلتجديد، ﭐلدعوة وﭐلدولة، إلخ.). ومن ﭐلمؤكد أن هذه ﭐلمشكلَات، في تعددها وتعقدها، ليست كلُّها حقيقيةً وبالقدر نفسه من ﭐلْأهمية. إذ أن معظمها ليس، على ﭐلْأقل فيما ﭐتخذه من تشكلَات محلية وخاصة، سوى مُشكلَات زائفة.

ولعل واحدة من تلكـ ﭐلمشكلَات ﭐلكبرى إنما هي ﭐللتي تتعلق بالكيفية ﭐللتي دُوِّن بها رسم "ﭐلقرآن ﭐلكريم" في أثناء جمعه ﭐلنهائي (حوالي 647م) على عهد ﭐلخليفة ﭐلراشد عثمان بن عفان، رضي ﭐلله عنه (35هـ/655م). وتُعَدُّ "مشكلةً كبرى" في ﭐلواقع، لِأن أي "تجديد" أو "تحديث" حقيقي في حياة ﭐلمسلمين لَا يمكن قيامه إلَّا على أساس قراءة حديثة ومُجَدِّدَة للنص ﭐلمؤسِّس ﭐللذي هو "ﭐلقرآن ﭐلكريم"[2].

وثمة مشكلة في "ﭐلرسم ﭐلعثماني" للمصحف، ليس فقط لِأن ألفاظ "ﭐلقرآن" رُسمت -خطيا وإملائيا- في ﭐلْأصل بواسطة ﭐلحروف ﭐلصوامت بدون نُقَط ولَا حركات (مما يجعل كل كلمة قابلة للقراءة على أكثر من نحو)[3]، وإنما أيضا لِأن ﭐلمصحف "ﭐلعثماني" ﭐشتمل على جملة من ﭐلْألفاظ ﭐللتي كُتبت بأشكال مختلفة بين آية وأخرى (نعمة/نعمت، رحمة/رحمت، يدعو/يدع، يأتي/يأت، يكون/يكن، إلخ.) على نحو يَحُول دون ترسيخ ﭐلِاتساق ﭐلكتابي للنص ﭐلقرآني. وفي ﭐلمدى ﭐللذي تم فيه هذا ﭐلتدوين ﭐلنهائي للقرآن ﭐلكريم بواسطة لجنة من ﭐلصحابة ترأسها زيد بن ثابت –رضي ﭐللَّاهُ عنه-، فإن ﭐلسؤال يُطرح ليس فقط عن درجة إتقان هؤلَاء ﭐلصحابة -رضي ﭐللَّاهُ عنهم- لِرُسوم ﭐلكتابة، بل كذالكـ -وبشكل أساسي- عن مدى ﭐتفاقهم على طريقة محددة في رسم ﭐلْألفاظ ﭐلمُؤلِّفة لِآي "ﭐلذكر ﭐلحكيم". ومن ثم، يُمكن طرح ﭐلسؤال ﭐلمهم وﭐلخطير عن طبيعة "ﭐلرسم ﭐلعثماني" كما دُوِّن به "ﭐلقرآن ﭐلكريم" وكما تلقاه به ﭐلناس منذئذ إلى ﭐلْآن: هل هذا ﭐلرسم توقيف من ﭐللَّاهِ –عز وجل- على ﭐلنحو ﭐللذي يجعله جزءًا لَا يتجزأ من ﭐلوحي ﭐلقرآني ﭐلمقدس؟ أم أنه ليس سوى "ﭐتفاق" و"ﭐصطلَاح" بين ﭐلجماعة ﭐللتي أُوكِل لها أمر جمع ﭐلمصحف، وبالتالي قد يُمكن أن يُستبدل به "ﭐتفاق" أو "ﭐصطلَاح" آخر إذا دعت ﭐلضرورة إليه؟

إن ﭐلمسلمين، على ﭐختلَاف فِرَقِهم وتعدد مذاهبهم، يؤمنون -باستثناء بعض أدعياء "ﭐلعقلَانية" من ﭐلمعاصرين- بأن ﭐلمكتوب بين دفتي ﭐلمصحف كلَام ﭐللَّاهِ ﭐلمنزل على رسوله محمد بن عبد ﭐللَّاهِ -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم-، وبأنه لَا يأتيه ﭐلباطل من بين يديه ولَا من خلفه وبأن ﭐللَّاهَ -عز وجل- تكفل بحفظه من كل تحريف إلى يوم ﭐلدين ("إنا نحن نزلنا ﭐلذكر، وإنا له لحافظون"، ﭐلحِجْر:9). وهذا هو كتاب ﭐللَّاهِ، ﭐللذي هو "ﭐلقرآن" ﭐلمتعبد بتلَاوته وﭐلمعتمد أصلًا في معرفة أحكام ﭐلدين-ﭐلْإسلَام. وهكذا لَا يسع ﭐلمسلم إلَّا أن يؤمن –في حدود ما يُمكنه أن يعلم- بكل ذالكـ دون أدنى ﭐرتياب. إذ من ﭐلمتواتر، بين علماء ﭐلمسلمين، أن "ﭐلقرآن ﭐلكريم" قد جُمع حفظا في قلب رسول ﭐللَّاهِ -صلى ﭐللَّاهِ عليه وسلم-، حيث إن جبريل -عليه ﭐلسلَام- كان يُدارسه ﭐلقرآن من رمضان إلى رمضان وأنه -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم- عرضه عليه مرتين في ﭐلسنة ﭐللتي قُبض فيها[4]، وقد جمعه حفظا كثير من ﭐلصحابة على عهد رسول ﭐللَّاهِ وبعد مماته[5]. ومن ﭐلمتواتر، أيضا، أن "ﭐلقرآن" قد جُمع كتابةً، أولًا، من طرف كُتَّاب ﭐلوحي بأمر وتلقين من رسول ﭐللَّاهِ، صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم [6]؛ ثم، ثانيًا، في عهد ﭐلخليفة ﭐلراشد أبي بكر ﭐلصديق، رضي ﭐللَّاهُ عنه [7]؛ ثم ، أخيرًا، في عهد ﭐلخليفة ﭐلراشد عثمان بن عفان، رضي ﭐللَّاهِ عنه [8].

ولذالكـ، فإنه من ﭐلمتواتر، بين علماء ﭐلمسلمين، أن ﭐلنص ﭐلمجموع بين دفتي ﭐلمصحف توقيفي ونهائي، في تأليف ألفاظه وترتيب آياته وسوره وفي وجوه قراءته، بحيث ليس لِأحد من ﭐلبشر، أيا يكن، أن يدعي صوابا في تغيير أي شيء من هذا كله. وإنه لَأمرٌ فعلي وإيماني، عند ﭐلمسلم، مُسَلَّمٌ وَمُؤَكَّدٌ غايةَ ما يكون ﭐلتسليم وﭐلتأكيد. ولذا، فإن كل تشكيكـ في ذالكـ أو تجويز لغيره إنما يكون نتيجة لما يُلِمّ بِـﭑلمرتاب وﭐلجاحد من صُنُوف ﭐلِاعتقادات ﭐلفاسدة وﭐلْأهواء ﭐلمُضلة، ﭐللتي لَا تضر كتاب ﭐللَّاهِ في شيء بقدر ما تضر نفوس أصحابها عاجلًا وآجلًا. وﭐللَّاهُ غالبٌ على أمره ولو كره ﭐلمشركون.

ومن حيث إن "ﭐلقرآن ﭐلكريم" تم تدوينه، نهائيا، في عهد ﭐلخليفة ﭐلراشد عثمان بن عفان وَفق ﭐلرسم ﭐللذي عُرِف منذئذ باسمه (ﭐلرسم ﭐلعثماني)، فإن معظم ﭐلمسلمين يعتقدون أن رسم ﭐلقرآن -بالشكل ﭐللذي تم في عهد عثمان وتواتر نقله إلى ﭐلْآن- يُعَدُّ هو أيضا مقدسا لَا يجوز تغيير أي شيء فيه. إنه، في ظنهم، توقيفي مثلما هو ﭐلْأمر بالنسبة لتأليف ألفاظ ﭐلقرآن وترتيب آياته وسوره ووجوه قراءته. وعلى هذا، فإن "ﭐلرسم ﭐلعثماني" يُنظر إليه، من طرف ﭐلسواد ﭐلْأعظم من ﭐلمسلمين، بأنه أكمل رسم ممكن في ﭐلخط ﭐلعربي، وبأنه يزداد شرفا وقُدسية لكونه حُفظ بتواتر ﭐلنص ﭐلقرآني. وهكذا نجد أن بعض ﭐلناس -حتى بين ﭐلعلماء- لَا يكتفون بالحديث عن وجود "إجماع" حصل بين أمة ﭐلمسلمين (أي "إجماع" يجعل وُرُود ﭐلمصحف مكتوبا ومُرَتَّبًا بذالكـ ﭐلنحو يكتسي طابعا "قطعيا" مُلزِما لكل مسلم)، بل إن هناكـ من ذهب إلى ﭐلحديث عن وجود أسرار من ﭐلعلم ﭐلْإلَاهي في "ﭐلرسم ﭐلعثماني" تمثل نوعا من أنواع ﭐلغيب ﭐللذي لَا يُحيط به إلَّا ﭐللَّاهُ –عز وجل- أو من أُوتي ﭐلحكمة من عباده [9].

من أجل ذالكـ، فإن أي ﭐهتمام بتحسين تلقي ﭐلقرآن في ﭐلعصر ﭐلحالي (وﭐلعصور ﭐللتي تليه) يُواجِه -لَا محالة- إشكال "ﭐلرسم ﭐلعثماني" كما يظهر في ﭐلمصحف ﭐلشريف. ومن ثم، فإن ﭐلسؤال ﭐلمطروح يمكن أن يتحدد على هذا ﭐلنحو: هل كتابة ﭐلمصحف وفق "ﭐلرسم ﭐلعثماني" توقيف من طرف ﭐلرسول -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم- وحيا من ﭐللَّاهِ تعالى أم أنها مجرد "ﭐتفاق" (أو "ﭐصطلاح") حصل بين ﭐلصحابة ﭐللذين جمعوا ﭐلمصحف على عهد عثمان بن عفان، رضي ﭐللَّاهُ عنهم؟ هل هناكـ إجماع من طرف علماء ﭐلْأمة حول وجوب ﭐلِالتزام برسم ﭐلمصحف ﭐلعثماني أم أن ﭐلْأمر يتعلق بمذهب يتفق حوله جمهور ﭐلعلماء؟ وما هو ﭐلْأساس ﭐللذي ﭐعتمده ﭐللذين يقولون بأن "ﭐلرسم ﭐلعثماني" توقيفي؟ هل هو أساس شرعي وعملي يقتضي فقط ﭐلْإيمان وﭐلتسليم أم أنه أساس علمي أو سياسي يقبل ﭐلنقاش وﭐلنقد؟ وبإيجاز، هل رسم ﭐلمصحف وحي إلَاهي-رباني يُؤخذ كما هو من دون أدنى تردد أم أنه عمل بشري-إنساني يمكن ﭐلتصرف فيه بحسب ﭐلحاجة؟

يروي ﭐلْإمام ﭐلبخاري -رحمه ﭐللَّاهُ (194-256هـ)- في صحيحه عن زيد بن ثابت -رضي ﭐللَّاهُ عنه- قال: «أرسل إليَّ أبو بكر، مقتلَ أهل ﭐليمامة، فإذا عمر بن ﭐلخطاب عنده، قال أبو بكر رضي ﭐلله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن ﭐلقتل قد ﭐستحَرَّ يوم ﭐليمامة بقراء ﭐلقرآن، وإني أخشى أن يستحرّ ﭐلقتل بالقراء بالمَواطن، فيذهب كثير من ﭐلقرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع ﭐلقرآن. فقلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول ﭐلله صلى ﭐلله عليه وسلم؟! قال عمر: هذا وﭐلله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح ﭐلله صدري لذلك، ورأيت في ذلك ﭐلذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب ﭐلوحي لرسول ﭐلله صلى الله عليه وسلم، فتتبع ﭐلقرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع ﭐلقرآن. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول ﭐلله صلى ﭐلله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يُراجعني حتى شرح ﭐلله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبعت ﭐلقرآن أجمعه من ﭐلعُسُب وﭐللِّخاف وصدور ﭐلرجال، حتى وجدت آخر سورة ﭐلتوبة مع أبي خزيمة ﭐلأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره ("لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم") حتى خاتمة براءة. فكانت ﭐلصحف عند أبي بكر حتى توفاه ﭐلله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي ﭐلله عنه» [10].

فـﭑنظر، على إثر حديث ﭐلبخاري، كيف بدأ جمع "ﭐلقرآن ﭐلكريم" بعد وفاة رسول ﭐللَّاهِ -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم-، وكيف أن ﭐلصديق أبا بكر –رضي ﭐللَّاهُ عنه- تردد في قَبُول ما عرضه عليه عمر بن ﭐلخطاب -رضي ﭐللَّاهُ عنه-، حتى ﭐحتاج إلى أن يُراجعه وقتا طويلًا أو مرات عديدة، علما بأن ﭐلْأمر لم يكن يتعلق بشيء آخر غير جمع "ﭐلقرآن"، وهو كلَام ﭐللَّاهِ، لكي لَا يضيع بذهاب حَمَلته من ﭐلصحابة ﭐلقُرّاء! وﭐنظر كيف أن زيد بن ثابت رضي ﭐللَّاهُ عنه -كاتب ﭐلوحي بين يدي رسول ﭐللَّاهِ- عَجِب من أمر أبي بكر وعمر وهما يُهُمَّان أن يفعلَا ما لم يفعله رسول ﭐللَّاهُ -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم-، بل يدعوانه أن يفعله هو! وﭐنظر كيف ﭐستعظم ﭐلْأمر فوجده أثقل عليه من نقل جبل! وإنما كان هذا كله، لِأن ﭐلْأمر يتعلق بتناول كتاب ﭐللَّاهِ عز وجل، ليس بما يُسيء إليه أو يضره، بل بما يحفظه من ﭐلضياع!

ثم إن ﭐلْإمام ﭐلبخاري يروي في صحيحه مباشرة بعد ﭐلحديث ﭐلسالف، أن أنس بن مالكـ قال: «إن حذيفةَ بن ﭐليمان قَدِم على عثمان، وكان يُغازي أهل ﭐلشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل ﭐلعراق، فأفزع حذيفةَ ﭐختلافُهم في ﭐلقراءة، فقال حذيفةُ لعثمان: يا أمير ﭐلمؤمنين، أدرك هذه ﭐلْأمة قبل أن يختلفوا في ﭐلكتاب، ﭐختلَاف ﭐليهود وﭐلنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في ﭐلمصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيدَ بن ثابت وعبدَ ﭐلله بن ﭐلزبير وسعيدَ بن ﭐلعاص وعبدَ ﭐلرحمن بن ﭐلحارث بن هشام، فنسخوها في ﭐلمصاحف. وقال عثمان للرهط ﭐلقرشيين ﭐلثلاثة: إذا ﭐختلفتم أنتم وزيدُ بن ثابت في شيء من ﭐلقرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا ﭐلصحف في ﭐلمصاحف، رد عثمان ﭐلصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من ﭐلقرآن، في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق» [11].

وﭐنظر، من جديد، كيف أن كل ما كان يجده أصحاب رسول ﭐللَّاهِ في جمع ﭐلقرآن وحفظه قد زال في ﭐلجمع ﭐلثاني، وصار مكانَه سعيٌ جادٌّ وعزمٌ ماضٍ يتمثل في ﭐلْأمر وﭐلتنفيذ وﭐلتنظيم. إذ حذيفة يُشير، وعثمان يأمر وينظم، وكل من حفصة وﭐلرهط ﭐلقرشيين ينفذون! وﭐنظر إلى مبدإ ﭐلعمل وﭐلِاتفاق: إذا ﭐختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من ﭐلقرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم (أو كما في ﭐلرواية ﭐلْأخرى: "إذا ﭐختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربيةٍ من عربيةِ ﭐلقرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن ﭐلقرآن أُنزل بلسانهم"[12]). ويروي أبو عمرو ﭐلداني (444هـ)، في كتابه "ﭐلمقنع في رسم مصاحف ﭐلْأمصار"، أن زيد بن ثابت قال: «فجعلنا نختلف في ﭐلشيء، ثم نجمع أمرنا على رأي واحد. فاختلفوا في "ﭐلتابوت"، فقال زيد: "ﭐلتابوه"، وقال ﭐلنفر: "ﭐلتابوت" ؛ قال: فأبيت أن أرجع إليهم وأبوا أن يرجعوا إلي، حتى رفعنا ذلك إلى عثمان، فقال عثمان: اُكتبوه "ﭐلتابوت"، فإنما أنزل ﭐلقرآن على لسان قريش».

وإنكـ لترى من هذا أن رئيس لجنة ﭐلتدوين قد واجه صعوبات ﭐلِاختلَاف وﭐلخلَاف ﭐلناتجة عن ﭐلفروق بين لُغات ﭐلعرب وخبرات ﭐلرجال. ولم يكن أمامه من سبيل لتجاوز ذالكـ سوى ﭐلقياس على لسان قريش، أي ضرورة تنميط نص ﭐلقرآن كلسان عربي مُبين، به أُنزل ﭐلذكر الحكيم وبه يجب أن يحفظ .

ويروي ﭐلْإمام ﭐلبخاري أن عبد ﭐلله بن عمرو ذكر عبد ﭐلله بن مسعود فقال:« لَا أزال أحبّه، سمعت ﭐلنبي صلى ﭐلله عليه وسلم يقول: خُذُوا ﭐلقرآن من أربعة، من عبد ﭐلله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبَيّ بن كعب»[13]. ويروي ﭐلبخاري أيضا أن شقيق بن سَلَمة قال: «خَطَبنا عبد ﭐلله [بن مسعود]، فقال: وﭐلله لقد أخذت من فِيِّ رسول ﭐلله صلى ﭐلله عليه وسلم بِضعًا وسبعين سورةً. وﭐللهِ لقد علم أصحاب ﭐلنبي صلى ﭐلله عليه وسلم أنّي من أعلمهم بكتاب ﭐلله، وما أنا بخيرهم. قال شقيق: فجلست في ﭐلْحِلَق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادًّا يقول غير ذلك» (في عبارة ﭐلْإمام مسلم: "فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يَعيبه")[14]. ويروي ﭐبن أبي داود ﭐلسجستاني (230-316هـ) أن عبد ﭐلله بن مسعود -بعد جمع ﭐلمصحف ﭐلعثماني وإحراق ما سواه- خطب ﭐلناس على ﭐلمنبر فقال: "ومن يَغْلُل يأت بما غَلَّ يوم ﭐلقيامة"، غُلّوا مصاحفكم، وكيف يأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من فيّ رسول ﭐلله صلى ﭐلله عليه وسلم بضعا وسبعين سورةً، وإنّ زيد بن ثابت ليأتي مع الغِلْمان له ذُؤابتان، وﭐلله ما نزل من ﭐلقرآن إلَّا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب ﭐلله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه ﭐلْإبل أعلم بكتاب ﭐلله مني لَأتيته. قال أبو وائل: فلما نزل عن ﭐلمنبر جلست في ﭐلْحِلَق، فما أحد يُنكر ما قال.»[15].

يقول ﭐلْإمام ﭐلنووي (631-676هـ) في شرحه على "صحيح مسلم": «وقال لِأصحابه "غُلُّوا مصاحفكم"، أي ﭐكتموها، "ومن يَغلُل يأت بما غَلَّ يوم ﭐلقيامة"، يعني: فإذا غللتموها جئتم بها يوم ﭐلقيامة، وكفى بكم به شرفا.». أما ﭐبن حجر ﭐلعسقلَاني (773-852هـ)، فيقول، في "فتح ﭐلباري": «وكان مُراد عبد ﭐلله بن مسعود بـ"غَلِّ ﭐلمصاحف"، كتمها وإخفاؤها لئلَّا تخرج فتُعدم. وكأنَّ ﭐبن مسعود رأى خِلَاف ما رأى عثمان ومن وافقه على ﭐلِاقتصار على قراءةٍ واحدة وإلغاء ما عدا ذلك، أو كان لَا يُنكر ﭐلِاقتصار لِما فيه عدمه من ﭐلِاختلَاف، بل كان يُريد أن تكون قراءته هي ﭐلتي يُعوَّل عليها دون غيرها، لِمَا له من ﭐلمزية في ذلك مما ليس لغيره، كما يُؤخذ ذلك من ظاهر كلَامه. فَلَمَّا فاته ذلك ورأى أن ﭐلِاقتصار على قراءة زيد ترجيحٌ بدون مرجح عنده، ﭐختار ﭐستمرار ﭐلقراءة على ما كانت عليه»[16].

ويأتي ﭐلقاضي أَبو بكر ﭐبن ﭐلطيب ﭐلباقلَاني (338-403هـ/950-1013م)، فيعقد، في كتابه "ﭐلِانتصار للقرآن"، فصلًا مُهِمًّا حول كيفية توجيه ﭐلقول باللحن ﭐلمنسوب إلى كل من عثمان بن عفان وأم ﭐلمؤمنين عائشة رضي ﭐلله عنهما. وفي خلَال ذالكـ يقول: «ومما يُعتمد في تأويل قول عثمان "أرى فيه لحنا"، هو أن ﭐلمقصود به ما وُجِد فيه من حذف ﭐلكاتب وﭐختصاره في مواضع وزيادة أحرُف في مواضع أُخَر، وأن ﭐلكاتب لو كان كتبه على مخرج ﭐللفظ وصُورته لَكَان أحق وأولى وأقطع للقالة وأنقى للشُّبهة عَمَّن ليس ﭐلكلَام باللسان طبعًا له. وقولُه "لَتُقيمَنَّهُ ﭐلعربُ بألسنتها"، معناه أنها لَا تلتفتُ إلى ﭐلمرسوم ﭐلمكتوب ﭐلذي وُضِع للدلَالة فقط، وأنها تتكلم به على مقتضى ﭐللغة وﭐلوجه ﭐلذي أُنزل عليه من مخرج ﭐللفظ وصُورته.»[17]. ويُورِدُ ﭐلباقلَاني في عقب ذالكـ بعض ﭐلْأمثلة، فيقول: «فمن هذه ﭐلحروف وﭐلكلمات ما كُتِب في ﭐلمصحف من "ﭐلصلَاة" و"ﭐلزكاة" و"ﭐلحياة" بالواو دون ﭐلْألف، وكان ﭐلْأَولى أن تُكتب "ﭐلصلَاة" و"ﭐلزكاة" و"ﭐلحياة" على مخرج ﭐللفظ ومطابقته. وكذلك "إبراهيم" و"إسماعيل" و"إسحاق" و"صالح" و"ﭐلرحمان"، وأمثال هذه ﭐلْأسماء ﭐلتي تُسقط ﭐلْألف منها وهي ثابتة في ﭐللفظ وﭐلمخرج ؛ ونحو إلحاقهم في آخر ﭐلكلمة من "قالوا" و"قاموا" و"كانوا" وأمثال ذلك ألفا، وﭐلْألف غير ثابتة ولَا بَيِّنة في ﭐللفظ. فرأى عثمان [أن] كتابة هذه ﭐلكلمات أو ﭐلْأسماء ورسمها على مطابقة ﭐللفظ ومخرجه أولى وأحق، وأن ﭐلمتكلم إن تكلم بها وتلَاها على حَدِّ ما رُسِمت في ﭐلمصحف، كان مُخطئا لَاحِنًا خارجا عن لغة ﭐلعرب وعادتها ومتكلمًا بغير لسانها. غير أنه عَرَف هو وكُلُّ أحد من [كَتَبة] ﭐلمصحف وغيرهم من أهل ﭐلعلم باللغة أن ﭐلعرب لَا تَلْفِظ بـ"ﭐلصلاة" و"ﭐلزكاة" و"ﭐلحياة" بالواو، وتُسقط ﭐلْألف، ولَا تحذف ﭐلْألف في لفظها بـ"ﭐلرحمان" و"سلمان" و"إسماعيل" و"إسحاق" و"صالح" ونحو ذلك، ولَا تأتي بألف في "قاموا" و"قالوا" و"كانوا" وأمثال ذلك، وأنها لَا تتكلم بذلك إلَّا على مقتضى ﭐللفظ ووضع ﭐللغة لشهرة ذلك وحُصُول ﭐلعلم به، وتَعَذُّر ﭐلنطق به على ما رُسِم في ﭐلمصحف. فلذلك قال "ولَتُقيمَنَّه ﭐلعرب بألسنتها"، أي أنها تنطق به على واجبه، ولَا تَشُكُّ في ذلك لِأجل أن ﭐلرسمَ في ﭐلخط بِخِلَافِه.»[18].

ويستنتج ﭐلباقلَاني من ذالكـ ﭐلْأمر فيقول: «فوجب أنه إنما أراد بذكر ﭐللحن ﭐلهجاء ﭐلذي رُسم على غير مطابقة ﭐللفظ ومنهاجه، وأنه لَمَّا رأى ذلك قد ﭐتّسع وكَثُر في ﭐلمصحف -كثرةً يَطُول تتبعها، ويحتاج معها إلى إبطال ﭐلنسخة ﭐلتي رُفعت إليه، وﭐستئناف غيرها [بـ]إلزام ﭐلكَتَبة في ذلك وسائر من عنده نسخة منه-، [بدا له أن في ﭐلْأمر] كلفةً ومشقةً شديدةً، وعَلِم أن ذلك يصعب على أهل ﭐلذكاء وﭐلفطنة ﭐلذين نصبهم لِكَتْب ﭐلمصحف وعرضه، لِأنهم لم يعتادوا ﭐلكتابة إلَّا على ذلك ﭐلوجه، وأن أيديهم لَا تجري إلَّا به، أو خاف نُفُورهم من ذلك وتنكرهم له ونسبتهم إلى ميل عليهم وقدح فيهم، وخشي حصول قالةٍ وتَفَرُّق ﭐلكلمة. فأبقاه على ما رُفِع إليه من لحن، وقال "إن ﭐلعرب ستُقيمُه بألسنتها"، لِمَوْضِع شهرة تلك ﭐلْألفاظ، وعِلْمه وعِلْم ﭐلناس بأن ﭐلعرب لَا تتكلم بها أبدًا على ما قِيلت ورُسِمت في ﭐلخط.»[19].

وبعد ذالكـ مباشرة، يُورِد ﭐلباقلَاني ﭐعتراضَ ﭐلمُعترضين: « فإنْ قالوا: على هذا ﭐلجواب، فقد صِرْتُم إلى أنه قد وقع في خط ﭐلمصحف ورسمه خطأ، وما ليس بصواب، وما كان غيرُه أولى منه، وأن ﭐلقوم أجازوا ذلك وأمضوه وسَوّغُوه. وذلك إجماع منهم على خطإ، وإقرار بما ليس بصواب». ثم يدفع هذا ﭐلِاعتراض بما يلي: «يُقال لهم: لَا يجب ما قُلتم، لِأجل أنَّ ﭐلله إنما أوجب على ﭐلقُرّاء وﭐلْحَفَظة أن يقرؤوا ﭐلقرآن ويُؤدُّوه على منهاجٍ محدود، وسبيل ما أنزل عليه ؛ وأن لَا يُجاوزوا ذلك ولَا يؤخروا منه مُقَدَّمًا ولَا يُقدِّموا مُؤخرا، ولَا يزيدوا فيه حرفا ولَا ينقصوا منه شيئا ولَا يأتون به على ﭐلمعنى وﭐلتعريب دون لفظ ﭐلتنزيل على ما بَيَّنّاه فيما سلف ؛ ولم يأخذ على كُتّاب ﭐلقرآن وحُفّاظ ﭐلمصاحف رسمًا بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وحَظَر ما عداه ؛ لِأن ذلك لَا يجب –لو كان واجبا- إلَّا بالسمع وﭐلتوقيف. وليس في نص ﭐلكتاب، ولَا مضمونه ولحنه، أن رسم ﭐلقرآن وخطه لَا يجوز إلَّا على وجهٍ مخصوص وحَدٍّ محدود، ولَا يجوز تجاوزُه إلى غيره ؛ ولَا في نص ﭐلسنة أيضا ما يُوجب ذلك ويدل عليه ؛ ولَا هو مما أجمعت عليه ﭐلْأمة، ولَا دلّت عليه ﭐلمقاييس ﭐلشرعية ؛ بل ﭐلسنة قد دلَّت على جواز كَتْبه بأي رسمٍ سهل وسَنَح للكاتب، لِأن رسول ﭐلله -صلى ﭐلله عليه- كان يأمر برسمه وإثباته على ما بيّنّاه سالفا، ولَا يأخذ أحدًا بخط محدود ورسم محصور، ولَا يسألهم عن ذلك، ولَا يُحفظ عنه حرف واحد. ولِأجل ذلكـ ﭐختلفت خطوط ﭐلمصاحف، وكان منهم من يكتب ﭐلكلمة على مطابقة مخرج ﭐللفظ، ومنهم من يحذِف أو يزيد مما يعلم أنه أولى في ﭐلقياس بمطابقته وسياقه ومخرجه. غير أنه يستجيز ذلك لعلمه بأنه ﭐصطلَاحٌ وأن ﭐلناس لَا يخفى عليهم. ولِأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف ﭐلكوفية وﭐلخط ﭐلْأول، وأن يجعل ﭐللَّام على صورة الكاف، وأن يُعوّج ﭐلْألفات، وأن يكتب أيضا على غير هذه ﭐلوجوه ؛ وساغ أن يكتب ﭐلكاتب ﭐلمصحف على ﭐلخط وﭐلهجاء ﭐلقديمين، وجاز أن يكتب بالهجاء وﭐلخطوط ﭐلمحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا عُلِم وثَبَت أن خطوط ﭐلمصاحف وكثيرا من حروفها مختلفة متغايرة ﭐلصورة، وأن ﭐلناس قد أجازوا ذلك أجمع ولم يُنكِر أحد منهم على غيره مخالفة لرسمه وصورة خطه، بل أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وﭐشتهر عنده، وما هو أسهل وأولى من غيرِ تأثيمٍ ولا تناكر لذلك، عُلِم أنه لمْ [يُؤخذ] في ذلك على ﭐلناس حدٌّ محدودٌ محصور، كما أُخِذ عليهم في ﭐلقراءة وﭐلْأداء. وﭐلسبب في ذلك أن ﭐلخطوط إنما هي علَامات ورسومٌ تجري مجرى ﭐلْإشارات وﭐلعقود وﭐلرموز. وكل شيء يدل على ﭐللفظ ويُنبئ عنه. وإذا دَلَّ ﭐلرسمُ على ﭐلكلمة وطريقها وﭐلوجه ﭐلذي يجب ﭐلتكلم عليه بها، وجب صحتُه وصوابُ ﭐلكاتب له على أي صورة كان وأي سبيل كَتَب. وإذا كان ذلك كذلك، بطل ما تَوَهَّمُوه. وفي ﭐلجملة، فإن كل من ﭐدعى أنه قد ألزم ﭐلناس وأخذ عليهم في كَتْب ﭐلمصحف رسمًا مخصوصًا وصورةً محدودةً لَا يجوز ﭐلعُدُول عنها إلى غيرها، لَزِمَهُ إقامة ﭐلحجة وإيراد ﭐلسمع ﭐلدال على ذلك. وأَنَّى لَهُ به!»[20].

وبَيِّنٌ من هذا ﭐلنص أن ﭐلْإمام ﭐلباقلَاني يُؤكِّد بكل وضوح أن رسم ﭐلمصحف ﭐصطلَاح لَا توقيف فيه، حيث يجوز (بل يجب) أن يُكتَب ﭐلقرآن بما هو أيسر وأسهل. لَاكِنَّ ﭐلباقلَاني نفسه يُورِدُ بعد ذالكـ، بخصوص ﭐلحروف ﭐلمُشكِلة أو ﭐلمتشابهة، كَلَامًا قد يُفهَم منه ﭐلعُدُول عما سبق أن أكَّدَه. إذ يقول: « أما إطباق ﭐلجماعة على كتابة هذه ﭐلحروف على خلَاف ﭐلوجه ﭐلْأظهر، فهو أصَحُّ دليل على أنهم مأمورون بذلك و[موقوفون] عليه و[مأخوذون] به، وأنه لَوْلَا إلزامهم ذلك وجواز ﭐلقراءة ببعضها مع إطلَاق ﭐلقراءة بغيره رحمةً، وتضييقه ﭐلقراءة ببعضها على وجه ما ثبت، وموافقة خط ﭐلمصحف، لَكَتَبُوهُ على ﭐلوجه [ﭐلْأظهر] ﭐلْأشهر، لَا سيما وليس في ذلك ما يتعلق باختلَاف منفعة أو دفع مضرة، أو يعود بإثبات إمامة وتأثيل مَحَلّ ورئاسة وتفضيل قوم وبنقص آخرين، ولَا يضر بهم إثباته على ﭐلوجه ﭐلْأشهر في باب دنيا ولَا دين، وإثباته له على ما أثبتوه. [و] إذا كانت ﭐلحال على ما وصفناه، [فهو] من أدل ﭐلْأمور على أنهم مأمورون بذلك ومُخبَرون بصحته وجوازه.»[21]. غير أن ﭐلنظر إلى هذا ﭐلنص في سياقه يجعله خاصا بالكلمات أو ﭐلحروف ﭐللتي تكلم عنها ﭐلباقلَاني في ﭐلصفحات ﭐلسابقة من كتابه[22]، حيث نجده يُورِد ﭐلِاعتراض ﭐلتالي: «فإنْ قالوا: إذا أجَزْتم قراءة هذا ﭐلحرف بالجزم وﭐلنصب [يقصد "أَكُنْ" أو "أكون" كقراءتين جائزتين في ﭐلْآية "فأَصَّدَّق وأَكُنْ من ﭐلصالحين"، ﭐلمنافقون:10]، وأجزتم أيضا قراءة قوله "إِنَّ هاذان لساحران"، تارةً كذلك، وتارة :"إنَّ هذين لساحران"، فألَا أجزتم أيضا قراءة قوله: "وﭐلمقيمين ﭐلصلَاة"، بالرفع، وأن يقرأوا: "وﭐلمقيمون ﭐلصلَاة"، وكذلك فألَا أجزتم قراءة قوله: "وﭐلصابئون" بالنصب، وأن يقرأوا: "وﭐلصابئين" منصوبا، وإن كان ذلك مخالفًا لِخَطِّ ﭐلمصحف كما صنعتم ذلك في "أصّدّق وأكن"، و"إن هذين لساحران"، وإن خالفت ﭐلقراءة خط ﭐلمصحف حيث تكونوا قد أعطيتم ﭐلقياس حقه ومضيتم مع مُوجبه.». وبعد ذالكـ يُجيب عنه قائلًا: «يُقَالُ لهم لَا يجب ما قُلْتُم لِأجل أننا قد بيَّنّا جواز قراءة ﭐلحرفين ﭐلْأولين على ﭐلوجهين جميعا، وبيَّنّا أن قومًا من ﭐلسلف وخَلْقًا من ﭐلْخَلَف قرأوا بذلك، فاشتهر عنهم وقامت الحُجّة به من غير تَنَاكُر ولَا تَرَافُع، وأوضحنا ذلك بما يُغني عن رده، فوجب تجويز ﭐلوجهين جميعا في "أصَّدَّق وأكُن" وفي "إن هذين لساحران". ولم يُنْقَل عن ﭐلسلف، ولَا قامت ﭐلحجة بأن أحدًا منهم قرأ: "وﭐلمقيمين ﭐلصلَاة" بالرفع، و"ﭐلصابئين بالنصب"، وهو إذا قُرِئَ كذلك مخالفٌ لِخَطِّ ﭐلمصحف، وإذَا قُرِئَ على مُوافقة خط ﭐلمصحف فقد قُرئ بوجهٍ صحيح جائز. وقد بَيَّنّا صحته وسلَامته لغير وجه. فلَا يَسُوغُ لِأحد ترك قراءتهما على موافقة خط ﭐلمصحف ﭐلذي نَتَّفِقُ أنه أُنْزِلَ كذلك، وقُرِئَ به إلى مخالفة ﭐلخط في ﭐلمصحف ﭐلذي لَا يُؤْمَن معه أن يكون ﭐلله سبحانه ما أنزله على ذلك ﭐلوجه، وإن كان جائزًا سائغًا. وقد أوضحنا فيما سلف أن ﭐلقراءة تُثْبِتُ تارةً جواز ما بخط ﭐلمصحف ونقله وﭐلشهادة بصحته، وتَثْبُت تارة بالنقل عن ﭐلسلف وظهور ﭐلقراءة للحرف بينهم، وإن خالف خط ﭐلمصحف. فوجب لِأجل هذه ﭐلجملة جواز قراءة ما قُلناه على ﭐلوجهين جميعا، ولم يَجُز قراءة: "وﭐلمقيمين ﭐلصلَاة" [و]"ﭐلصابئون" بخلَاف ﭐلمصحف، وعلى ما لَا نعلم أن ﭐلله سبحانه أنزله عليه، وإن كان سائغا ظاهرا وكان هو ﭐلْأشهر في ﭐللغة ﭐلعربية، لِأنه قد يجوز أن يترك ﭐلحرف وﭐلحرفان على خِلَاف ﭐلوجه ﭐلْأظهر ﭐلْأشهر على ما بَيَّنَّاه من قبل، إذا كان لِإنزاله على خلَاف ذلك في ﭐللغة تَوَجُّهًا صحيحًا. وإذا كان كذلك، بطل ما سألوا عنه وطالبوا به.»[23].

وهكذا يتبين أن ﭐلْإمام ﭐلباقلَاني يذهب إلى أن رسم ﭐلمصحف ﭐلعثماني تجوز مخالفته إلى ﭐلرسم ﭐلهجائي ما لم يتعارض ﭐلْأمر مع قراءة ثابتة عن سلف ﭐلْأمة. ومن هنا يَثْبُتُ أن ﭐلرسم في ﭐلمصحف ﭐصطلَاحي، في حين أن ﭐلقراءة وﭐلْأداء توقيفٌ يُؤخَذُ فيهما بالسماع عن ﭐلسلف. وبالتالي فإن رَسْمَ ﭐلمصحف يجوز تغييره وَفْقَ ما تقتضيه ﭐلكتابة ومن دون تجاوز ضوابط ﭐلقراآت ﭐلمتواترة[24].

وعلى ضوء كل ما سبق، يُمكننا أن نفهم ما يُورِدُه أبو عمرو ﭐلداني (444هـ) في "ﭐلمقنع" من أن ﭐلْإمام مالكـ -رحمه ﭐلله- سُئِلَ: "هل يُكتَب ﭐلمصحف على ما أحدثه ﭐلناس من ﭐلهجاء؟ فقال: لَا، إلَّا على ﭐلكِتْبة ﭐلْأُولى" (أو، كما في رواية أشهب، "فقال: لَا أرى ذلك، ولكن يُكتَب على ﭐلكِتْبة ﭐلْأولى."). قال أبو عمرو ﭐلداني: "ولَا مُخالف له في ذلك من علماء ﭐلْأمة". فأنت ترى أن ﭐلْإمام مالكـ -رحمه ﭐلله- ذهب إلى أن ﭐلمصحف يجب أن يُكتَب فقط على هيئة ﭐلرسم ﭐلعثماني. وهذا رأيه وﭐختياره ﭐلخاص به. أما قول ﭐلداني بأنه لَا أحد من ﭐلعلماء خالف رأي مالكـ، فغير صحيح ؛ لِأنه يتجاوز دلَالة موقف عبد ﭐلله بن مسعود في معارضته للمصحف ﭐلعثماني، كما يُغفل موقف ﭐلْإمام ﭐلباقلَاني. وعليه، لَا يصح ﭐلحديث عن وجود "إجماع" حول "ﭐلرسم ﭐلعثماني"، كما لَا يمكن إغفال رأي ﭐللذين قالوا بأن هذا ﭐلرسم ليس سوى "ﭐتفاق" أو "ﭐصطلَاح" بين كَتَبة ﭐلمصحف-ﭐلْإمام في خلَافة عثمان بن عفان، رضي ﭐللَّاه عنه.

ولعل عبد ﭐلرحمان ﭐبن خلدون (1332-1406م) كان أكثر من أجاد في تعليل حقيقة "ﭐلرسم ﭐلعثماني" للقرآن ﭐلكريم، إذ أنه يقول -على أساس أن ﭐلخط وﭐلكتابة في عِداد ﭐلصنائع ﭐلْإنسانية ﭐللتي ترتبط بمدى ﭐزدهار ﭐلعمران ﭐلبشري- «وكان ﭐلخط ﭐلعربي لِأوَّل ﭐلْإسلَام غيرَ بالغٍ إلى ﭐلغاية من ﭐلْإحكام وﭐلْإتقان وﭐلْإجادة، ولَا إلى ﭐلتوسط، لِمَكانِ ﭐلعرب من ﭐلبداوة وﭐلتوحش وبُعْدِهم عن ﭐلصنائع. وﭐنْظُر ما وقع لِأجل ذلك في رسم ﭐلمصحف، حيث كتبه ﭐلصحابةُ بخطوطهم -وكانت غيرَ مُستحكِمَةٍ في ﭐلْإجادة-، فخالفَ ﭐلكثيرُ من رسومهم ما ﭐقتضته أقيسةُ رسوم صناعة ﭐلخط عند أهلها. ثم ﭐقتفى ﭐلتابعون من ﭐلسلف رسمَهم فيها تَبَرُّكًا بما رسمه أصحاب رسول ﭐلله صلى ﭐلله عليه وسلم وخيرُ ﭐلخلق من بعده ﭐلمُتَلَقُّون لوحيه من كتاب ﭐلله وكلامه، كما يُقْتَفى لهذا ﭐلعهد خَطُّ وَلِيٍّ أو عالمٍ تَبَرُّكًا ويُتَّبع رسمُه خطأً أو صوابًا. وأين نِسبةُ ذلك من ﭐلصحابة وما كتبوه! فاتُّبِع ذلك وأُثْبِت رسمًا، ونَبَّه ﭐلعلماءُ بالرسم على مَوَاضِعه. ولَا تَلْتَفِتَنَّ في ذلك إلى ما يزعمه بعض ﭐلمُغَفَّلِينَ من أنهم كانوا مُحْكِمينَ لصناعة ﭐلخط، وأن ما يُتخيل من مخالفةِ خطوطهم لِأصُول ﭐلرسم ليس كما يُتخيل، بل لِكُلِّهَا وَجْهٌ. ويقولون في مثل زيادة ﭐلْألف في "لا أذبحنه" أنه تنبيه على أن ﭐلذبح لم يقع، وفي زيادة "ﭐلياء" في قوله "بأييد" أنه تنبيه على كمال ﭐلقدرة ﭐلربانية. وأمثال ذلك، مما لَا أصل له إلَّا ﭐلتحكم ﭐلمحض. وما حَمَلَهُمْ على ذلك إلَّا ﭐعتقادُهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن تَوَهُّم ﭐلنقص في قِلَّةِ إجادة ﭐلخط. وحَسِبُوا أن ذلك ﭐلخط كمال، فَنَزَّهُوهُم عن نقصه، ونسبوا إليهم ﭐلكمال بإجادته، وطلبوا تعليلَ ما خالف ﭐلْإجادة من رَسْمِه، وذلك ليس بصحيح.»[25].

ويأتي في ﭐلعصر ﭐلحديث محمد عبد ﭐلعظيم ﭐلزرقاني (1367هـ/1947؟) في كتابه مناهل ﭐلعرفان في علوم ﭐلقرآن، ليؤكد أن: « للعلماء في رسم ﭐلمصحف آراءٌ ثلَاثةٌ: ﭐلرأي ﭐلْأول، أنه توقيفي لَا تجوز مخالفتُه، وذلك مذهب ﭐلجمهور. وﭐستدلوا بأن ﭐلنبي -صلى ﭐلله عليه وسلم- كان له كُتَّابٌ يكتبون ﭐلوحي، وقد كتبوا ﭐلقرآن فِعْلًا بهذا ﭐلرسم وأَقَرَّهُم ﭐلرسول على كتابتهم. ومضى عهده -صلى ﭐلله عليه وسلم- وﭐلقرآن على هذه ﭐلكِتْبَة لم يحدث فيه تغيير ولَا تبديل، بل وَرَدَ أنه -صلى ﭐلله عليه وسلم- كان يضع ﭐلدستور لِكُتَّابِ ﭐلوحي في رسم ﭐلقرآن وكتابته. [...]؛ ومُلَخَّصُ هذا ﭐلدليل أن رسم ﭐلمصاحف ﭐلعثمانية ظَفِرَ بأُمور كل واحد منها يجعله جديرًا بالتقدير ووُجوب ﭐلِاتباع. تلك ﭐلْأمور هي إقرار ﭐلرسول صلى ﭐلله عليه وسلم عليه، وأمره بدستوره. وإجماع ﭐلصحابة -وكانوا أكثر من ﭐثني عشر ألف صحابي- عليه، ثم إجماع ﭐلْأمة عليه بعد ذلك في عهد ﭐلتابعين وﭐلْأئمة ﭐلمجتهدين. [...]. ويُمكن مناقشة هذا ﭐلرأي ﭐلْأول بأن ﭐلْأدلة ﭐلتي ساقوها لَا تدل على تحريم كتابة ﭐلقرآن بغير هذا ﭐلرسم ؛ إذ ليس فيها زجر ﭐلْإثم ووعيدُه، ولَا نهي ﭐلحرام وتهديدُه. إنمّا قُصَاراها ﭐلدلَالة على جَوَازِ ﭐلكتابة بالرسم ﭐلعثماني ووَجَاهتِه ودِقَّتِه. وذلك مَحَلُّ ﭐتفاقٍ وتسليمٍ[26]. ﭐلرأيُ ﭐلثاني: أن رسم ﭐلمصاحف ﭐصطلَاحي لَا توقيفي، وعليه فتجوز مخالفتُه. ومِمَّنْ جَنَح إلى هذا ﭐلرأي ﭐبن خلدون في مقدمته. وممن تحمس له ﭐلقاضي أبو بكر في "ﭐلِانتصار"، [...]. ونُوقِش هذا ﭐلمذهبُ: أولًا، بالْأدلة ﭐلتي ساقها جمهورُ ﭐلعلماء لتأييد مذهبهم. وها هي بين يديك عن كثب، بعضها من ﭐلسنة وبعضها من إجماع ﭐلصحابة وﭐلتابعين وتابعيهم[27]. ثانيا، أن ما ﭐدَّعاه من أنه ليس في نصوص ﭐلسنة ما يُوجِب ذلك ويَدُلُّ عليه مردودٌ بما سبق من إقرار ﭐلرسول كُتَّاب ﭐلوحي على هذا ﭐلرسم، ومِنْهم زيد بن ثابت ﭐلذي كتب ﭐلمصحف لِأبي بكر وكتب ﭐلمصاحف لعثمان وﭐلحديث ﭐلْآنف، وفيه يقول ﭐلرسول لمعاوية "أَلْقِ ﭐلدواة وحَرِّف ﭐلقلم، إلخ."، فإنه حُجّة على أنه -صلى ﭐلله عليه وسلم- كان واضع دستور ﭐلرسم لهم[28]. ثالثا، أن قول ﭐلقاضي أبي بكر "ولذلك ﭐختلفت خطوطُ ﭐلمصاحف، إلخ"، لَا يُسَلَّم له بعد قيام ﭐلْإجماع وﭐنعقاده ومعرفة ﭐلناس بالرسم ﭐلتوقيفي وهو رسم عثمان على ما قرروه هناك. ونزيدك هنا ما ذَكَره ﭐلعلَّامة ﭐبن ﭐلمبارك نقلًا عن ﭐلعارف بالله شيخه عبد ﭐلعزيز ﭐلدباغ، إذ يقول في كتابه "ﭐلْإبريز" ما نصه: "رَسْمُ ﭐلقرآن سِرٌّ من أسرار ﭐلله ﭐلمشاهدة وكمال ﭐلرِّفْعة. قال ﭐبن ﭐلمبارك: فَقُلْتُ له: هل رسم "ﭐلواو" بدل "ﭐلْألف" في نحو "ﭐلصلَاة" و"ﭐلزكاة" و"ﭐلحياة" و"مشكاة"، وزيادة "ﭐلواو" في "سَأُوريكم" و"أولئك" و"أولَاء" و"أولَات"، وكـ"ﭐلياء" في نحو "هُدَيهُم" و"مَلائه" و"بأييكم" و"بأييد"، هذا كله صادر من ﭐلنبي (صلى ﭐلله عليه وسلم) أو من ﭐلصحابة؟ فقال: "هو صادر من ﭐلنبي (صلى ﭐلله عليه وسلم) وهو ﭐلذي أَمَر ﭐلكُتَّاب من ﭐلصحابة أن يكتبوه على هذه ﭐلهيئة، فما نقصوا ولَا زادوا على ما سَمِعُوهُ من ﭐلنبي، [...] ما للصحابة ولَا لغيرهم في رسم ﭐلقرآن ولَا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من ﭐلنبي، وهو ﭐلذي أمرهم أن يكتبوه على ﭐلهيئة ﭐلمعروفة بزيادة ﭐلْألف ونقصانها لِأسرار لَا تهتدي إليها ﭐلعقول، وهو سِرٌّ من ﭐلْأسرار خَصَّ ﭐلله به كتابه ﭐلعزيز دون سائر ﭐلكتب ﭐلسماوية. وكما أنَّ نَظْمَ القرآن مُعْجِزٌ، فَرسمُه أيضا مُعجِز[29]. [...]. ﭐلرأي ﭐلثالث: يميل صاحب "ﭐلتبيان" ومن قبله صاحب "ﭐلبرهان" إلى ما يُفهم من كلَام ﭐلعز ﭐبن عبد ﭐلسلَام من أنه يجوز، بل يجب كتابة ﭐلمصحف ﭐلْآن لعامة ﭐلناس على ﭐلِاصطلَاحات ﭐلمعروفة ﭐلشائعة عندهم، ولَا تجوز كتابتُه لهم بالرسم ﭐلعثماني ﭐلْأول، لِئَلَّا يُوقِع في تغيير من ﭐلجُهَّال. ولكن يجب في ﭐلوقت نفسه ﭐلمحافظة على ﭐلرسم ﭐلعثماني، كأثر من ﭐلْآثار ﭐلنفيسة ﭐلموروثة عن سلفنا ﭐلصالح، فلَا يُهمَل مراعاةً لجهل ﭐلجاهلين، بل يبقى في أيدي ﭐلعارفين ﭐلذين لَا تخلو منهم ﭐلْأرض. [...]، أقول: وهذا ﭐلرأي يقوم على رعاية ﭐلِاحتياط للقرآن من ناحيتين، ناحية كتابته في كل عصر بالرسم ﭐلمعروف فيه، إبعادًا للناس عن ﭐللَّبس وﭐلخلط في ﭐلقرآن وناحية إبقاء رسمه ﭐلْأول ﭐلمأثور يقرؤُه ﭐلعارفون ومن لَا يُخشى عليهم ﭐلِالتباس. ولَا شك أن ﭐلِاحتياط مطلبٌ دينيٌّ جليلٌ، خُصوصا في جانب حماية ﭐلتنزيل»[30].

وبعد ذالكـ، يقول ﭐلزرقاني: «يقولون إن كثيرا من ﭐلمتعلمين لَا يحفظون ﭐلقرآن ولَا يُحسنون قراءته في ﭐلمصحف لعدم معرفتهم ﭐلرسم ﭐلعثماني. فلماذا نتقيد بهذا ﭐلرسم ولَا نكتب ﭐلمصاحف ﭐليوم باصطلَاح ﭐلكتابة ﭐلمعروف، تسهيلًا على ﭐلناشئة وتيسيرا على ﭐلناس؟ وﭐلجواب: أولًا، أن للعلماء آراء في ذلك بالجواز، بل قال بعضهم -وهو ﭐلعز بن عبد ﭐلسلَام- بوجوب كتابة ﭐلمصحف للعامة باصطلاح كتابتهم ﭐلحديث خشية ﭐلِالتباس، كما يجب كتابته بالرسم ﭐلعثماني محافظة على هذا ﭐلتراث ﭐلعزيز[31]. [...] ؛ ثانيا، أن في ﭐلرسم ﭐلعثماني مزايا وفوائد، ذكرناها سابقا[32]؛ ثالثا، أن مذهب ﭐلجمهور قائم على أدلة متوافرة على وجوب ﭐلتزام هذا ﭐلرسم عندهم[33]. [...]. رابعا، أن مصطلح ﭐلخط وﭐلكتابة في عصرنا عُرْضَة للتغيير وﭐلتبديل. ومن ﭐلمبالغة في قداسة ﭐلقرآن حمايته من ﭐلتغيير وﭐلتبديل في رسمه[34]. خامسا، أن إخضاع ﭐلمصحف لمصطلحات ﭐلخط ﭐلحديثة ربما يَجُرُّ إلى فتنة أشبه بالفتنة ﭐلتي حدثت أيام عثمان وحملته على أن يجمع ﭐلقرآن. فربما يقول بعض ﭐلناس لبعض أو بعض ﭐلشعوب لبعض عند ﭐختلَاف قواعدهم في رسم ﭐلمصحف: رسمي خيرٌ من رسمك أو مُصحفي خير من مصحفك، أو رسمي صواب ورسمك خطأ. وقد يجر ذلك إلى أن يُؤَثِّم بعضهم بعضا أو يقاتل بعضهم بعضا. ومن ﭐلمقرر أن درء ﭐلمفاسد مُقَدَّمٌ على جلب ﭐلمصالح[35]. سادسا، أن ﭐلرسم ﭐلعثماني أشبه بالرسم ﭐلعام ﭐلذي يجمع ﭐلْأمة على كتابة كتاب رَبِّها في سائر ﭐلْأعصار وﭐلْأمصار كاللغة ﭐلعربية، فإنها ﭐللسان ﭐلعام ﭐلذي يجمع ﭐلْأمة على قراءة كتاب رَبِّها في سائر ﭐلْأعصار وﭐلْأمصار[36]. وما يكون لنا أن نُفَرِّط في أمر هذا شأنه يجمع ﭐلشتات ويَنْظِم ﭐلْأمة في سلك واحد لَا فرق بين ماض وحاضر وآت[37]. سابعا، أنه يمكن تسهيل ﭐلقراءة على ﭐلناس بإذاعة ﭐلقرآن كثيرا إذاعةً مضبوطةً دقيقة وبإذاعة من ﭐلتجويد في ﭐلمدارس وفي أوساط ﭐلمتعلمين[38]. وأخيرًا، يمكن -كما قالت مجلة ﭐلْأزهر- أن نُنَبِّه في ذيل كل صفحة من صفحات ﭐلمصحف على ما يكون فيها من ﭐلكلمات ﭐلمخالفة للرسم ﭐلمعروف وﭐلِاصطلَاح ﭐلمألوف، لَا سيما أن رسم ﭐلمصاحف ﭐلعثمانية لَا يُخالف قواعدنا في ﭐلخط وﭐلْإملَاء إلَّا قليلًا وفي كلمات معدودة، أضف إلى ذلك أن ﭐلفرق بين ﭐلرسمَيْن لَا يُوقِع ﭐلقارىء ﭐليَقِظ في لَبْس عند تأمله وإمعانه غالبا[39]. ولقد مرت على ﭐلْأمة أجيال وقرون، وما شعرت بِغَضاضةٍ في ﭐلتزامها ﭐلرسم ﭐلعثماني. على أن ﭐلمُعَوَّل عليه أولًا وقبل كل شيء هو ﭐلتلقي من صدور ﭐلرجال. وبالتلقي يذهب ﭐلغموض من ﭐلرسم كائنا ما كان[40]. وليس بعد ﭐلْعِيَان بيانٌ»[41].

وفي أعقاب ذالك كله، يأتي صبحي ﭐلصالح -رحمه ﭐللَّاهُ- فيقول: «وﭐحترام ﭐلرسم ﭐلعثماني وﭐستحسان ﭐلتزامه يختلف ﭐختلَافًا جوهريا عن ﭐلقول بالتوقيف فيه. فقد تضافرت آراء ﭐلعلماء على ضرورة ﭐلتزام هذا ﭐلرسم حتى قال ﭐلْإمام أحمد بن حنبل "تَحْرُم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك"، وسُئِل ﭐلْإمام مالك: أرأيت من ﭐستكتب مُصحفا، أترى أن يكتب على ما ﭐستحدثه ﭐلناس من ﭐلهجاء ﭐليوم؟ فقال:"لَا أرى ذلك، ولكن يكتب على ﭐلكِتْبة ﭐلْأولى". ورُوِي في فقه ﭐلشافعية وﭐلحنفية أقوال من هذا ﭐلقبيل. ولكن أحدًا من هؤلَاء ﭐلْأئمة لم يَقُل: إن هذا ﭐلرسم توقيفي، ولَا سِرٌّ أزلي، وإنما رأوا في ﭐلتزامه ضربا من ﭐتحاد ﭐلكلمة وﭐعتصام ﭐلْأمة بشعار واحد، وﭐصطلَاح واحد،...»[42]. ويُضيف صبحي ﭐلصالح: «على أن من ﭐلعلماء من لم يكتف بإباحة مخالفة ﭐلرسم ﭐلعثماني، بل صَرَّح فوق ذلك بأنه ﭐصطلَاحي، ولَا يُعقل أن يكون توقيفيا.». ويَذكُر –رحمه ﭐللَّاه- على رأس هؤلَاء ﭐلعلماء ﭐلباقلَاني، فيُعَقِّب على نصه ﭐلسالف بقوله: «وإن رأي ﭐلقاضي أبي بكر هذا لجدير بأن يُؤخَذ به، وحُجته ظاهرة ونظره بعيد. فهو لم يَخلط بين عاطفة ﭐلْإجلَال للسلف وبين ﭐلتماس ﭐلبرهان على قضية دينية تتعلق برسم كتاب ﭐلله. أما ﭐلذين ذهبوا إلى أن ﭐلرسم ﭐلقرآني توقيفي أزلي، فقد ﭐحتكموا في ذلك إلى عواطفهم، وﭐستسلموا ﭐستسلَاما شِعْريًّا صُوفيًّا إلى مَذَاويقهم ومَوَاجيدهم، وﭐلْأذواق نسبية، لَا دخل لها في ﭐلدين، ولَا يُستنبط منها حقيقة شرعية.». وينتهي صبحي ﭐلصالح إلى ﭐلقول: «وإنَّا لنذهب في رسم ﭐلقرآن مذهبًا أبعد من هذا، فلَا نرى جواز مخالفته لمجرد ﭐلحجج ﭐلتي أوردها ﭐلباقلَاني، بل نأخذ برأي ﭐلعز بن عبد ﭐلسلَام ﭐلذي يقول "لَا تجوز كتابة ﭐلمصحف ﭐلْآن على ﭐلرسوم ﭐلْأولى باصطلَاح ﭐلْأئمة، (...) لِئَلَّا يُؤدي إلى دُرُوس ﭐلعلم. وشيءٌ أحكمته ﭐلقدماء لَا يُترك مُراعاةً لجهل ﭐلجاهلين. ولن تخلو ﭐلْأرض من قائم لله بالحجة»[43]. وعلى ﭐلرغم من أن ﭐلمرحوم صُبحي ﭐلصالح يُؤكد أن « ﭐلعامة لَا يستطيعون أن يقرؤوا ﭐلقرآن في رسمه ﭐلقديم، فيحسن، بل يجب أن يُكتَب لهم بالِاصطلَاحات ﭐلشائعة في عصرهم»، فإنه يعود ليقول -وكأنه يستدركـ حتى لَا يفوته شيء مما يحرص عليه عادةً مُقَدِّسو ﭐلرسم ﭐلعثماني!-:« ولكن هذا لَا يعني إلغاء ﭐلرسم ﭐلعثماني ﭐلقديم، لِأَنَّ في إلغائه تشويهًا لرمز ديني عظيم ﭐجتمعت عليه ﭐلكلمة، وﭐعتصمت به ﭐلْأمة من ﭐلشِّقَاق، ففي ﭐلْأُمة دائما علماء يُلَاحظون هذه ﭐلفُروق ﭐلضئيلة في ﭐلرسم ﭐلعُثماني. ومن ﭐلممكن -مع ذلك- كما ﭐقترحت مجلة ﭐلْأزهر أن يُنَبَّه في ذيل كل صفحة من صفحات ﭐلمصحف على ما عسى أن يكون فيها من ﭐلْألفاظ ﭐلمخالفة لِلِاصطلَاح ﭐلحديث في ﭐلخط وﭐلْإملَاء.»[44].

أما موسى شاهين لاشين، فيذهب في ﭐللَّآلِئ ﭐلحِسَان في علوم ﭐلقرآن -بعد أن ﭐستعرض أدلةَ ﭐلقائلين بتوقيفية رسم ﭐلقرآن فردَّ عليها- إلى أن «ﭐلظاهر أن هذا ﭐلرسم ﭐلمخالف لقواعد ﭐلْإملَاء إنما كان من فعل ﭐلكُتَّاب وتَوَارُدهم على ﭐلكتابة. فمن ﭐلمعلوم أن ﭐللجنة ﭐلتي تكونت لنسخ ﭐلمصاحف في عهد عثمان رضي ﭐلله عنه، كانت تضم ﭐثني عشر كاتبا، يُملي بعضهم، ويكتب بعضهم. وقد نسخوا خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية مصاحف. فتوارُدُهم على كتابة ﭐلمصحف ﭐلواحد، جعل بعضهم يكتب هاء ﭐلتأنيث مثلًا تاء مربوطة وبعضهم يكتبها في كلمة أخرى من سورة أخرى مفتوحة، وهكذا. وليس ذلك على سبيل ﭐلخطإ، بل على أساس أن قواعدهم آنذاك كانت تُبيح ﭐلْأمرين على ﭐلسواء، لِأن ﭐلمصاحف عُرِضت بعد ﭐلكتابة، ورُوجِعت مراجعةً دقيقةً، فلو كانت هذه ﭐلمخالفات خطأً عندهم لَأَصلحوها. أما ﭐليوم -وقد أصبحت خطأً إملَائيا يُوقِع في ﭐللَّبْس، ويدفع بالمبتدئ وغير ﭐلماهر إلى ﭐلتحريف-، فإنه يجب رسمه بالرسم ﭐلصحيح.أأ ونحن لَا نُنَادي بتغيير رسم ﭐلمصاحف كلها، وﭐلقضاء على ﭐلْأثر ﭐلكريم ﭐلذي وضعه ﭐلسلف ﭐلصالح، وإنما ﭐلذي نحرص عليه، وندعو له، أن يُفتَح ﭐلباب أمام مصاحف تُطبَع على رسم ﭐلْإملَاء ﭐلحديث، لِتَسِيرَ جنبًا لجنب مع ﭐلمصاحف ﭐلتي تُطبع بالرسم ﭐلعثماني، فيكون لتلك قُرَّاؤُها من ﭐلمبتدئين وﭐلمُطالِعين، وتكون هذه لِأهلها من ﭐلْحُفَّاظ وﭐلمَهَرة وﭐلمُتخصِّصِين، وبذا تُيَسَّر قراءة ﭐلقرآن، ونَحفَظ له رسمه ﭐلْأول ﭐلمأثور. وما دام ﭐلمُعَوَّل عليه في ﭐلقرآن، قديما وحديثا، هو ﭐلتلقي، وما دام تغيير ﭐلرسم لَا يُغير في ﭐلنطق بل يُحسِّنُه، فإنه لَا ضير على ﭐلقرآن ولَا على ﭐلْإسلَام من تعديل ﭐلرسم ﭐلمُخالِف. وحيث ﭐنتفت ﭐلمفسدة، وتحققت ﭐلمصلحة وجب ﭐلمصير إليها.»[45].

وهكذا ترى أنه يصعب -رغم تأكيد بعض كبار ﭐلعلماء أن "ﭐلرسم ﭐلعثماني" ليس توقيفيا ولَا مقدسا، وإنما هو ﭐتفاقي وﭐصطلَاحي- على كثيرين من ﭐلمسلمين، بمن فيهم ﭐلعلماء، ﭐلِانتهاء -من ثَمَّ- إلى تأكيد أن ذالكـ ﭐلرسم ليس سوى إرث أو تقليد يُمكن (ويجب) تركه إذا ظهر ما هو أحسن وأيسر منه، بل إذا دَعَتِ ﭐلحاجةُ إلى ﭐطِّراحه تماما كما هو ﭐلواقع ﭐلْآن.

لذالكـ، يَحِقٌّ لنا، بِناءً على كل ما سبق، أن نَخْلُص إلى إثبات جازم بأن رَسْمَ ﭐلْمُصْحَفِ يَقْبَلُ مبدئيا وشرعيا كُلَّ ﭐلتَّحْسِينَاتِ ﭐللَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ ﭐلْقُرْآنَ أَسْهَلَ فِي ﭐلتِّلَاوَةِ عَلَى ﭐلْعِبَادِ. غير أن معظم ﭐلمتخصصين في علم ﭐلقراآت ورسم ﭐلمصحف لَا يكادون يرون مَحِيدًا عنِ "ﭐلرسم ﭐلعثماني"، حتى في أبرزِ ﭐلثغرات ﭐللتي شابته لِضُعف صناعة ﭐلكتابة في عهد تدوينِ ﭐلمصحف.

وَلَعَلَّ مِنَ ﭐلْمُفِيدِ، هُنَا، ﭐلتَّذْكِيرُ بِأَنَّ ﭐلْخَطَّ ﭐلْعَرَبِيَّ مَا فَتِئَ يَتَطَوَّرُ عَبْرَ ﭐلزَّمَنِ وَأَنَّهُ مَرَّ، عَلَى ﭐلْأَرْجَحِ، بِثَلَاثِ حَلَقَاتٍ حَدَّدَتْ تَسَلْسُلَهُ مِنَ ﭐلْخَطِّ ﭐلْمِصْرِيِّ بِأَنْوَاعِهِ ﭐلْمُخْتَلِفَةِ إِلَى ﭐلْخَطِّ "ﭐلْفِنِيقِيِّ"، ثُمَّ إِلَى ﭐلْخَطِّ ﭐلْمُسْنَدِ. وَأَنَّ هَذَا ﭐلْأَخِيرَ أَنْوَاعٌ، أَهَمُّهَا أَرْبَعَةٌ: ﭐلصَّفَوِيُّ وَﭐلثَّمُودِيُّ وَﭐللِّحْيَانِيُّ وَﭐلسَّبَئِيُّ. وَمِنَ ﭐلْمُسْنَدِ ﭐلصَّفَوِيِّ تَفَرَّعَ ﭐلْخَطُّ ﭐلْكِنْدِيُّ وَﭐلنَّبَطِيُّ، وَمِنَ ﭐلنَّبَطِيِّ تَحَدَّرَ ﭐلْحِيرِيُّ وَﭐلْأَنْبَارِيُّ، وَمِنْهُ كَانَ ﭐلْخَطُّ ﭐلْحِجَازِيُّ ﭐللَّذِي هُوَ ﭐلنَّسْخِيُّ ﭐلْعَرَبِيُّ، ﭐللَّذِي يُعَدُّ ﭐلْكُوفِيُّ تَنْظِيمًا فَنِّيًّا فِيهِ[46].

يَبْدُو من المؤكد، إِذًا، أَنَّ ﭐلْخَطَّ ﭐلْعَرَبِيَّ قَدْ خَضَعَ لِلتَّطَوُّرِ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَمْنَعُهُ، بِـﭑلتَّالِي، مِنَ ﭐلْخُضُوعِ لِلتَّطْوِيرِ. وَيُضَافُ إِلَى هَذَا أَنَّ "ﭐلرَّسْمَ ﭐلْعُثْمَانِيَّ" نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنَقَّطَ ﭐلْحُرُوفِ وَلَا مَشْكُولًا، بَلْ إِنَّ عَلَامَاتِ ﭐلْوَقْفِ ذَاتَهَا وَﭐصْطِلَاحَاتِ ﭐلضَّبْطِ ﭐللَّتِي وَضَعَهَا ﭐلْقُرَّاءُ كُلَّهَا أُضِيفَتْ، فِيمَا بَعْدُ، إِلَيْهِ لِتَكْمِيلِهِ وَتَحْسِينِهِ حَتَّى تَسْهُلَ تِلَاوَةُ ﭐلْقُرْآنِ. وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا هَذَا، لَكَانَ سببا كافِيا إِلَى ﭐلطَّمَعِ فِي تَطْوِيرِ وَتَجْوِيدِ ﭐلْخَطِّ ﭐلْعَرَبِيِّ، ﭐللَّذِي يُمَثِّلُ أَصل "ﭐلرسم ﭐلعثماني" كما هو في ﭐلقرآن ﭐلكريم.

ولقد أصبحت ﭐلْكِتَابَةُ ﭐلعربية ﭐلْآن -إلى حدٍّ ما- كتابةً مِعْيَارِيَّةً، حيث إنها تُوجِبُ إِظْهَارَ ﭐلْهَمْزَةِ فِي "بسم" حَتَّى تَكُونَ "بِاسْمِ" (لَا "بَسَمَ") وَﭐلْأَلِفِ فِي "ﭐللَّـهِ" حَتَّى تَكُونَ "ﭐللَّاهُ" (وأصلها ﭐلِاشتقاقي، بعيدا عن كل ﭐلتوهمات، ليس سوى لفظ "ﭐلْـ[إِ]ـلَاهُ") وفِي "ﭐلرَّحْمَنِ" لِكَيْ يُعْلَمَ أَنَّهَا صفة مبالغة عَلَى وَزْنِ "فَعْلَانَ"، وَأَنَّ "ﭐلْمائة" يَجِبُ أَنْ تُحْذَفَ أَلِفُ ﭐلْمَدِّ مِنْهَا لِتَكُونَ "مِئَةٌ" (وَفْقَ ﭐلْقَرَارِ ﭐلْمَجْمَعِيِّ)، وَأَنَّ "ءَامَنُوا" وَ"ﭐلْأَخِرَةَ" بالْمَدِّ "آمَنُوا" وَ"ﭐلْآخِرَة"، وَأَنَّ "ﭐلْحَيَاةَ" وَ"ﭐلصَّلَاةَ" يَجِبُ أَنْ تُكْتَبَا هَكَذَا حَتَّى لَا تُقرآ "حَيَوَاتٍ" أَوْ "صَلَوَاتٍ".

وليس يخفى أن أي مطالبة بتغيير "ﭐلرسم ﭐلعثماني" في ﭐلقرآن ﭐلكريم لن تلقى -بين علماء ﭐلمسلمين بالحال ﭐللذي هم عليه ﭐلْآن- سوى ﭐلمعارضة ﭐلشديدة، بل إن منهم من لن يتردد طَرْفَةَ عَيْنٍ في تكفير صاحبها أيا يكن. وإِنه لَمِنْ سوء حَظِّ ﭐلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ كِتَابُهُمْ ﭐلْمُقَدَّسُ حكرا بَيْنَ أَيْدِي فِئَةٍ مَا فَتِىءَ أَصْحَابُهَا يَتَفَنَّنُونَ فِي جَعْلِهِ كِتَابًا مَكْنُونًا لَا يَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهُ إِلَّا حَمَلَةُ ﭐلْأَسْفَارِ مِنَ ﭐللَّذِينَ أَتْلَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي لُزُومِ مَا لَا يَلْزَمُ. وَيَا حَسْرَةً عَلَى لِسَانٍ يُحْرَمُ أَهلُه من مُلَابسة بيانِ أعظم نص كُتب فِيه، وَرَغِمَتْ أُنوفُ ﭐلجاحدين إلى يوم ﭐلدين!

وبعيدًا عن صنيع ﭐللذين لَا يُحسنون شيئا سوى سوء ﭐلفهم وإساءة ﭐلظن بالناس، ما ﭐللذي يُمكننا فعلُه، مما لَا يمس ﭐلْأمور ﭐلتوقيفية، وإِنَّما يَأتِي بمزيدٍ من ﭐلتحسين وﭐلتجويدِ في نص ﭐلمصحف ﭐلشريف؟

إنما هي ثَلَاثةُ أمور:

1- كتابة ﭐلحروف بشكل معياري و، من ثم، إعادة كتابة إملَاء بعض ﭐلْألفاظ ؛

2- كتابة ﭐلْآيات بترتيب تنازُلِي (لِأن ﭐلقرآن كَلَامٌ منزل) وليس بترتيب خطي كما هو شائع ؛

3- توقيفُ ﭐلنص بوضع عَلَامات ﭐلوقف ﭐلمتعارفة (ﭐلنقطة، ﭐلفاصلة، علَامة ﭐلسؤال، عَلَامة ﭐلتأثر، إلَخ.) ؛

إنها أمورٌ قد تبدو لكثيرين شكليَّةً تماما. ولَاكِنَّها، في ﭐلعمق، تجعل كتاب ﭐللَّاهِ في متناول كل من أمكنه أن يتهجى ﭐلِألفباء ﭐلعربي. وهل من غاية أخرى يطلبها ﭐلمسلم سوى أن يكون كتابُ ﭐللَّاهِ مُيَسَّرًا للتلَاوة آناء ﭐلليل وﭐلنهار بين ﭐلناس، صغيرهم وكبيرهم، مُتعبِّدِهم ومتعلمهم، ﭐلمؤمن منهم وﭐلمرتاب!

ومن أجل ذالكـ، فإنه قد صار يتعين ﭐلْآن -لو أمكن لعلماء ﭐلمسلمين أن يفقهوا مدى أهمية هذا ﭐلْأمر في تيسير وحفظ كتاب ﭐللَّاهِ تعالى- أن تتم كتابة نص ﭐلقرآن ﭐلكريم على ﭐلنحو ﭐلتالي:

﴿ﭐلفاتحة:

(1) بِـﭑسم ﭐللَّاهِ، ﭐلرحمان، ﭐلرحيم.
(2) ﭐلحمدُ لِلَّاهِ، رب ﭐلعالمين،
(3) ﭐلرحمان، ﭐلرحيم،
(4) ملكـ يوم ﭐلدين ؛
(5) إياكـ نعبد وإِياكـ نستعين ؛
(6) ﭐهدنا ﭐلصراطَ ﭐلمستقيمَ،
(7) صراطَ ﭐللذين أنعمت عليهم، غيرِ ﭐلمغضوب عليهم ولَا ﭐلضالين.﴾ ؛

وإلى أن يُيَسِّر ﭐللَّاهُ -عز وجل- ﭐلقيام بذالكـ، لَا يسع ﭐلمرءَ إلَّا أن يؤكد أن ﭐلدعوة إلى تنميط (أو تَقْيِيس) كتابة ﭐلقرآن ﭐلكريم وَفْقَ ما تقتضيه ﭐلكتابة ﭐلمعيارية أمرٌ تُوجبه خدمة كتاب ﭐللَّاهِ بكل ما يجعله كتابا مُيَسَّرا لِلذِّكر كما قضى رب ﭐلعالمين، ويسمحُ به أيضا عملُ سلفِ ﭐلْأمة ﭐللذين ما فَتِئوا يُدخلون على نص ﭐلقرآن كل ﭐلتحسينات ﭐللتي يقتضيها تطور حاجات ﭐلمسلمين. وإن هذا ﭐلْأمر قد صار واحدا من ﭐلْإصلَاحات ﭐلمستعجلة ﭐللتي تستدعي من علماء ﭐلمسلمين أن يقفوا عندها على نحو علمي، بعيدا عن كل ﭐلِاعتقادات ﭐلواهية وﭐلمخاوف ﭐلزائفة ﭐللتي دفعت في ﭐلماضي، كما يُمكنها أن تدفع في حاضرنا، بعض ﭐلناس -ولو بِحُسْنِ نِيَّةٍ وشيء من ﭐلْإيمان- إلى حفظ رسم يُفْقِدُ لُغَةَ ﭐلقرآن ﭐلكريم ﭐتِّسَاقَها ﭐلكتابيَّ وقُوَّتَها ﭐلخِطابيةَ، وهما ﭐلْأمران ﭐللذان من دونهما يَفقد ﭐللِّسانُ ﭐلعربي نفسُه أساسَه ﭐلبياني وسلَاستَه ﭐلتعليمية، كما هو حاصل ﭐلْآن بين ﭐلعرب وﭐلمسلمين ﭐللذين يَنْدُر بينهم من يُجيد هذا ﭐللسان على ﭐلنحو ﭐللذي ﭐسْتُعْمِل به في نص ﭐلقرآن ﭐلكريم.

واللَّاه أعلم. إنه نعم ﭐلمولى ونعم ﭐلنصير.

ــــ الحواشي : ــــــــــ
[1] أحمد ﭐلأخضر غزال، ﭐلحلول ﭐلتقنية لمشاكل ﭐلكتابة ﭐلعربية، طبع معهد ﭐلدراسات وﭐلأبحاث للتعريب-ﭐلرباط، نشرات ﭐلباب، (1994)، ص.7.

[2] طه عبد ﭐلرحمن، روح ﭐلحداثة: ﭐلمدخل إلى تأسيس ﭐلحداثة ﭐلْإسلَامية، ص.193، ﭐلمركز ﭐلثقافي ﭐلعربي، بيروت/ﭐلدار البيضاء، ط1، 2006 .

[3] يُبَالغ، بهذا ﭐلخصوص، كثير من ﭐلباحثين بين ﭐلمستشرقين خاصةً إذ يظنون أن خُلُوّ ﭐلتدوين ﭐلْأول من نُقَط ﭐلْإعجام يصلح سببًا لتأكيد وجود تطور حقيقي في ﭐستواء "ﭐلقرآن" كنص مكتمل. ذالكـ بأن هذا ﭐلْأمر يرتبط، في ﭐلواقع، بجملة من ﭐلمُحدِّدات (ﭐلسماع، ﭐلحفظ، ﭐلتأليف ﭐلتركيبي وﭐلدلَالي) ﭐللتي تجعل مثل ذالكـ ﭐلِاحتمال ظنا بعيدا. وحتى لو صدق، فإنه لَا يصح إلَّا بالنسبة إلى بعض ﭐلْألفاظ ﭐلقليلة ﭐللتي لَا تشتبه إلَّا على عامة ﭐلناس.

[4]اُنظر: صحيح ﭐلبخاري، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب ﭐلسابع، ﭐلحديث رقم 4997 وكذا 4998.
[5] ﭐلمصدر نفسه، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب ﭐلثامن: ﭐلقراء من أصحاب ﭐلنبي صلى ﭐلله عليه وسلم، ﭐلحديثان 5003 و5004.
[6] ﭐلمصدر نفسه، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب الرابع، ﭐلحديث رقم 4989، وكذا 4990.
[7] ﭐلمصدر نفسه، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب ﭐلثالث، باب جمع ﭐلقرآن، ﭐلحديث رقم 4986.
[8] ﭐلمصدر نفسه، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب ﭐلثالث، باب جمع ﭐلقرآن، ﭐلحديث رقم 4987.
[9] كما فعل ذالكـ، في ﭐلماضي، ﭐبن ﭐلبناء ﭐلمراكشي في "عنوان ﭐلدليل من مرسوم ﭐلتنزيل"، وتابعه ﭐلزركشي في "ﭐلبرهان في علوم ﭐلقرآن" ؛ وكما نجده، بالخصوص، عند ﭐلشيخ عبد ﭐلعزيز ﭐلدباغ في "ﭐلْإبريز" ؛ أو أيضا في ﭐلعصر ﭐلحاضر عند: ﭐلتهامي ﭐلراجي ﭐلهاشمي في "ﭐلقراءات ﭐلمتواترة وﭐلرسم ﭐلقرآني"، درس حسني، 1419هـ/1999م ؛ وأيضا محمد شملول في "إعجاز رسم ﭐلقرءان وإعجاز ﭐلتلَاوة"، تقديم ﭐلشيخ علي جمعة مفتي ﭐلديار ﭐلمصرية، دار ﭐلسلَام للطباعة وﭐلنشر،1427هـ/2006م.

[10] اُنظر: صحيح ﭐلبخاري، كتاب فضائل ﭐلقرآن، ﭐلباب ﭐلثالث (باب جمع ﭐلقرآن)، ﭐلحديث 4986. وقارن به ما عند ﭐبن أبي داود ﭐلسجستاني، كتاب ﭐلمصاحف، تحقيق د. محب ﭐلدين عبد ﭐلسبحان واعظ، دار ﭐلبشائر ﭐلْإسلَامية، ط2، 1423هـ/2002م، ص.163، وما بعدها.

[11] ﭐلمصدر نفسه، الحديث 4987، ﭐلتشديد من طرفنا.
[12] ﭐلمصدر نفسه، ﭐلحديث 4984. وﭐنظر أيضا صحيح مسلم، كتاب فضائل ﭐلصحابة، ﭐلحديث 2464 وما يليه.
[13] ﭐلمصدر نفسه، باب ﭐلقراء من أصحاب ﭐلنبي صلى ﭐلله عليه وسلم، ﭐلحديث 4999. وﭐنظر أيضا صحيح مسلم، كتاب فضائل ﭐلصحابة، ﭐلحديث 2464، وما يليه.
[14] ﭐلمصدر نفسه، ﭐلحديث 5000، وﭐنظر صحيح مسلم، كتاب فضائل ﭐلصحابة، ﭐلحديث 2462.
[15] اِبن أبي داود ﭐلسجستاني، مصدر سابق، أثر 55 وما يليه.
[16] ﭐلمصدر ﭐلسابق نفسه، هامش ﭐلمحقق بصدد ﭐلْأثر 52.
[17] ﭐلقاضي أبو بكر ﭐبن ﭐلطيب ﭐلباقلَاني، ﭐلِانتصار للقرآن، تحقيق ﭐلدكتور محمد عصام ﭐلقضاة، دار ﭐلفتح ودار ﭐبن حزم، ط 1، 1422هـ/2001م، مج2، ص. 444-445.
[18] ﭐلمصدر نفسه، ص. 545. مع بعض ﭐلْإضافات من طرفنا في إبراز بعض ﭐلْألفاظ أو تصويبها، ومع ﭐلعلم أن ﭐلْأمر كان يقتضي كتابة ﭐلْأمثلة بالرسم ﭐلعثماني حتى في ﭐلنص ﭐلمحقق لبيان ﭐلفرق بينه وبين ﭐلرسم ﭐلهجائي.
[19] ﭐلمرجع نفسه، ص.547. مع بعض ﭐلْإضافات ﭐللتي تصعب قراءة ﭐلنص بدونها.
[20] ﭐلمصدر ﭐلسابق نفسه، ص. 547-548، وﭐلعبارات مشددة من طرفنا. وﭐعلم أن هذا هو نص ﭐلباقلَاني كما حققه محمد عصام ﭐلقضاة. ولقد أورده ﭐلزرقاني مختصرًا ومُعدلًا في "مناهل ﭐلعرفان" (ج1، ص. 273-278) وقام بالرد عليه، وتابعه صبحي ﭐلصالح في "مباحث في علوم ﭐلقرآن" (ﭐلفصل ﭐلسابع، ص.278-279) ﭐللذي قام باعتماده وتأييده.
[21] م. س. ن.، ص. 563-564. (ﭐلْإضافات وﭐلتصويبات من طرفنا).
[22] م. س. ن، بين ص. 554 وص. 561.
[23] م. س. ن، ص.560-561.
[24] كثيرون لَا يُميزون في ﭐلقول بالتوقيف بين "رسم ﭐلخط" و"كيفية ﭐلقراءة". ومن هنا يأتي ﭐلْإشكال في معظمه. لذا، يلزم تأكيد أنه إذا كانت "كيفية ﭐلقراءة" توقيفيةً ومَكَّن "ﭐلرسم العثماني" من أداء ﭐلقراآت ﭐلمختلفة، فإن "رسم ﭐلخط" ليس كذالكـ، بل يقبل ﭐلتغيير وﭐلتحسين بما يجعل "كيفية ﭐلقراءة" تكون أيسر وأنسب. وقد يقتضي ﭐلْأمر إخراج مصاحف تختلف إملَائيا باختلَاف ﭐلقراآت، وهو أمر لَا ضَيْر فيه.

[25] اِبن خلدون، ﭐلمقدمة، ﭐلفصل 30 من ﭐلباب ﭐلخامس، وأيضا ﭐلفصل 11 من ﭐلباب ﭐلسادسِ.
[26] نُدرِكُـ من خلَال مناقشة ﭐلزرقاني للدليل ﭐلْأول أن كل ما ﭐدعاه سابقا من صفات فيه ليست من ﭐلقوة بحيث تُوجب ﭐتباعه على سبيل ما هو قطعي ومجمع عليه، وإلَّا لما صَحَّ له إيراد هذه ﭐلمناقشة. فحديث معاوية ضعيف، وﭐلرسول ﭐلْأمي لم يكن بكاتب، ولا إجماع بين ﭐلصحابة (حالة عبد ﭐلله بن مسعود) ولَا بين ﭐلْأئمة (ﭐلباقلَاني، ﭐلعز بن عبد ﭐلسلَام، ﭐبن خلدون). لذا، فإن إجماع ﭐلْأمة ﭐلمفترض ليس سوى عمل بظاهر ﭐلِاتباع، لَا خضوعا لما يقتضيه ﭐلدليل. وفي أحسن ﭐلْأحوال، فإنه عمل بضرورة تقديم درء ﭐلمفسدة على جلب ﭐلمصلحة (حفظ ﭐلرسم العثماني بنواقصه أفضل من ﭐلسماح بتغييره ﭐللذي قد يؤدي إلى فتنة عظمى).

[27] يُشير إلى ﭐلْأدلة ﭐللتي عرضها سابقا وأبدى قابليتها للمناقشة وﭐللتي كان يعرفها كل من ﭐلباقلَاني وﭐلعز بن عبد ﭐلسلَام وﭐبن خلدون. لكنها ليست بأدلة قطعية على توقيفية "ﭐلرسم ﭐلعثماني" وعلى وجود إجماع حوله، وإلَّا لما جاز لِأُولَائكـ ﭐلعلماء تجاوزُها إلى ﭐلقول بأنه رسم ﭐصطلَاحي فقط حاز قَبُول جمهور ﭐلعلماء.

[28] ﭐلحديث ﭐلمشار إليه معروفٌ ضعفُه (ﭐبن حجر ﭐلعسقلَاني، فتح ﭐلباري:7/504) ولَا يُمكن ﭐلتعويل عليه في هذا ﭐلْأمر. وﭐلقولُ بأن إقرار ﭐلرسول -صلى ﭐللَّاهُ عليه وسلم- دليلٌ على توقيفية رسم ﭐلقرآن فيه إشكالٌ كبيرٌ. فهو إقرار لكتابة ﭐلقرآن كأمر واجب وليس لرسم مُعَيَّن، لِأن رسول ﭐللَّاهِ -وهو ﭐلنبي ﭐلْأمي- لم يكن قطعا يعرف ﭐلكتابة، وإلَّا لكتب هو نفسه على ﭐلنحو ﭐللذي يؤمر به. وﭐلِاحتجاج بهذا ﭐلْأمر يفتح ﭐلباب لِشُبهات لَا تكاد تنتهي ومآلها ﭐلبعيد هو نفي ﭐلوحي نفسه كما يحاول إثباته ﭐلمستشرقون وبعض مُقلِّديهم بيننا، أعني إثبات عدم أمية ﭐلنبي بالمعنى ﭐلمعروف (اُنظر إحدى ﭐلمحاولَات ﭐلسخيفة نحويًّا ومعرفِيًّا في: محمد عابد ﭐلجابري، مدخل إلى ﭐلقرآن: ﭐلجزء ﭐلْأول في ﭐلتعريف بالقرآن، مركز دراسات ﭐلوحدة ﭐلعربية، ط1، 2006، ﭐلفصل ﭐلثالث).

[29] اُنظر كيف ينتهي ﭐلْأمر إلى نوع من ﭐلتطرف في ﭐلقول بقدسية رسم كتابة ﭐلمصحف. ولكـ أن تعجب كل ﭐلعجب إذا عرفت أنه أتى على لسان رجل (ﭐلشيخ عبد ﭐلعزيز ﭐلدباغ، رحمه ﭐللَّاهُ) كان هو نفسه أميا لَا علم له بحقيقة ﭐلخط ولَا سر ﭐلكتابة! وحَسْبُنا في رد هذا ﭐلرأي تأكيد أن ذالكـ ﭐلنهج لم يَطَّرِد في رسم ﭐلمصحف ﭐلعثماني نفسه (اُنظر مثلًا: د. موسى شاهين لَاشين، ﭐللَّآلِئ ﭐلحِسَان في علوم ﭐلقرآن، دار ﭐلشروق، ط1، 1423هـ/2002م، ص.72-76)، وأن ألفاظا مثل "صلَاة"، "زكاة"، و"حياة" كُتِبت بـ"ﭐلواو" لِأن أصلها ﭐلْأكادي كان كذالكـ. وثمة كثير من ﭐلْألفاظ في ﭐللسان ﭐلعربي لَا تعليل لكتابتها ﭐلحالية سوى ﭐختلَاف نُطقها ﭐلعتيق عن نطقها ﭐلحالي، ولعل أشهرها لفظ "مائة" ﭐللذي كان ينطقه ﭐلْأكاديون بهذا ﭐلنحو (اُنظر مثلًا: د. محمد بهجت قبيسي، ملَامح في فقه ﭐللهجات ﭐلعربيات من ﭐلْأكادية وﭐلكنعانية وحتى ﭐلسبئية وﭐلعدنانية، دار شمأل-دمشق، 1999).

[30] محمد عبد ﭐلعظيم ﭐلزرقاني، مناهل ﭐلعرفان في علوم ﭐلقرآن، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، دار ﭐلكتاب ﭐلعربي-بيروت، ط1، 1415هـ/1995م، ج 1، ص.310-316 (ﭐلعبارات ﭐلمشددة من طرفنا).

[31] تُرى، لو كان حقا "ﭐلرسم ﭐلعثماني" توقيفا ومقدسا، هل يجوز لِأحد -كائنا من كان- أن يفعل ذالكـ، حتى بدعوى مساعدة ﭐلعامة ودرءا للِالتباس وﭐلتحريف؟ أليس ذالكـ ﭐلتجويز هو نفسه ﭐللذي يسمح بالمطالبة بتنميط معياري لرسم ﭐلقرآن بالنسبة لكل قارئ؟ ومن ثم، أليس هذا ﭐلتنميط ﭐلمعياري أقدر على حفظ كتاب ﭐللـه من ﭐلتحريف وأنسب لجعله مُيَسرا في تلَاوته على كل ﭐلناس؟

[32] يُتَحَدَّث، في ﭐلغالب، عن مزيا هذا ﭐلرسم وفوائده وحدها دون ما له من عيوب كثيرة بَيِّنة ؛ مع ﭐلعلم أنه صار ﭐلْآن مُمْكنا إظهار ﭐلفُروق بين ﭐلقراآت في ﭐلهامش على نحو لم يكن ممكنا في زمن تدوين ﭐلمصحف ﭐلعثماني.

[33] تلكـ ﭐلْأدلة ﭐللتي يتكرر ذكرها ليست قطعية إلَّا في إفادة أن كتاب ﭐللَّاهِ حُفِظ بالكتابة على هيئة معينة (ﭐلرسم ﭐلعثماني) هي ﭐللتي كانت ممكنة في زمن ﭐلتدوين، وليس بصفتها أفضل هيئة ممكنة على ﭐلْإطلَاق، وإلَّا لما جاز تحسين هذه ﭐلهيئة مرات بعد ذالكـ بِنُقَط ﭐلْإعجام وعلَامات ﭐلشكل وﭐلوقف.

[34] لَاحظ أن ﭐلْأمر هنا يتعلق بـ"ﭐلمبالغة" في حفظ قداسة ﭐلقرآن، وكأن ﭐلدعوة إلى تنميط هذا ﭐلرسم على نحو معياري لَا تُعبر -وهي وحدها- عن ﭐلرغبة في حفظ كتاب ﭐللَّاهِ!

[35] ورغم ذالكـ، فإن هناكـ تهويلًا كبيرا لهذا ﭐلمَحْذُور بخصوص ﭐختلَاف ﭐلقراآت وﭐلخطوط نفسها بين ﭐلشعوب وﭐلجهات ﭐلْإسلَامية. فلَا شيء من ذالكـ يحدث، على ﭐلْأقل بين أيدينا ﭐليوم ؛ وذالكـ على ﭐلرغم من وجود تلكـ ﭐلِاختلَافات ﭐلمذكورة. ثم إن كتابة ﭐلمصحف ليست من شأن عامة ﭐلناس حتى يختلفوا ويتقاتلوا بينهم، وإنما هي من أمر خاصة ﭐلعلماء ﭐللذين يحرصون -بصفتهم أئمة مُتَّبَعِين- على حفظ وتيسير كتاب ﭐللَّاهِ بين عباده.

[36] يَحْسُن ﭐلِانتباه، بهذا ﭐلصدد، إلى أن "ﭐللسان ﭐلعربي" لَا يملكـ في ذاته أن يكون جامعا لِأمة من ﭐلشعوب ﭐلمتباعدة وﭐلمختلفة إلَّا على أساس كون "ﭐلقرآن ﭐلكريم" ﭐلمصدر ﭐلرئيس لِلِّسان ﭐلمُبين. ولكي يستمر كتاب ﭐللَّاهِ قائما بهذا ﭐلدور ﭐلعظيم لَا بُدَّ من تنميط كتابته حتى يتيسر تداوله قراءةً وتِلَاوةً بين مختلف مستعملي ﭐلعربية. فلَا لسانَ عربيَّ مبينٌ إلَّا بِمُلَابسة ﭐلبيان ﭐلْإلَاهي في "ﭐلقرآن ﭐلكريم".

[37] كأنَّ ﭐلتنميط ﭐلمعياري لرسم ﭐلمصحف سيُؤدي حتمًا إلى تقسيم ﭐلمسلمين وتمزيق شَمْلهم وقطعهم عن "ﭐلقرآن ﭐلكريم"، وليس إلى جمعهم على رسم مُيَسَّر وجامع لِلِّسان ﭐلعربي ﭐلمُبين. أَلَا إن مثل تلكـ ﭐلتبريرات ﭐلمُتكلَّفة هي ﭐللتي تزيد في فساد ﭐللسان ﭐلعربي و، من ثم، إبعاد ﭐلناس عن كتاب ﭐللَّاهِ.

[38] ننسى أن كتاب ﭐللَّاهِ قرآنٌ يُتْلى وكتابٌ يجب أن يكون مُيَسَّرا للذكر. وكل هذا لَا يكون بمجرد ﭐلْإذاعة كما هو حاصل منذ زمان، في حين أن ﭐلناس يُخطئون كثيرًا في نُطق وكتابة كلَام ﭐللَّاهِ.

[39] لَا سبيل إلى حصول ﭐليقظة إلَّا بِمُلَابسة لغة ﭐلقرآن ﭐلكريم على نحو مُيَسَّرٍ. وهذا ما لَا يُتيحه "ﭐلرسمُ ﭐلعثماني" وما لَا يُمكن إلَّا بتنميط كتابة تلكـ ﭐلْألفاظ ﭐلمشكلة ﭐللتي ليست بقليلة كما يُقال.

[40] ﭐلتعويل على ﭐلتعليم وﭐلتلقين يَخُصُّ فقط ﭐلقراءات كما هو معروف. أما ﭐلتلَاوة وﭐلتدبر، فلَا بُدَّ أن يكونا في مُتنَاول كل من يستطيع تهجي حروف ﭐلْألفباء ﭐلعربي. وهذا غير ممكن إلَّا بإصلَاح رسم "ﭐلقرآن ﭐلكريم" بعيدًا عن كل ﭐلمخاوف ﭐللتي تُبقي إفساد لغته على ألسنة ﭐلناس بفساد رسمه.

[41] ﭐلمصدر ﭐلسابق نفسه، ص. 325-326.

[42] صُبْحِي ﭐلصَّالِحِ، مَبَاحِثُ فِي عُلُومِ ﭐلْقُرْآنِ، دار ﭐلعلم للملَايين، (ط1، 1959)، ط22، 1999، ﭐلفصل ﭐلسابع، ص. 275-280.

[43] اُنظر: ﭐلزركشي، ﭐلبرهان في علوم ﭐلقرآن، ج1، فصل "مرسوم الخط"، ص379. لَاكن سقط في ﭐلِاقتباس أعلَاه "لِئَلَّا يُوقع في تغيير من ﭐلجُهَّال. ولكن لَا ينبغي إجراء هذا على إطلَاقه، لِئَلَّا يؤدي إلى دروس ﭐلعلم". ولعل صبحي ﭐلصالح -رحمه ﭐللَّاهُ- وضع في ﭐلْأصل علَامات ﭐلحذف (...)، كما فعلنا أعلَاه، فسقطت عند ﭐلطبع لِوُجود "لِئَلَّا" مكررة. ولقد صَحَّح -رحمه ﭐللَّاهُ- "مراعاته" بـ"مراعاةً".

[44] صبحي ﭐلصالح، ﭐلمصدر ﭐلسابق نفسه، ص.280.
[45] د. موسى شاهين لاشين، مصدر سابق، ص. 81.
[46] حنا ﭐلفاخوري، ﭐلجامع في تاريخ ﭐلْأدب ﭐلعربي، دار ﭐلجيل-بيروت، 1986، ص. 53-55.

المصدر : الملتقى الفكري للإبداع هنا .
 
هذه مقالة بعنوان (حداثةُ ﭐلقرآن: إشكالُ ﭐلرسم ﭐلعثماني وضرورةُ تنميط ﭐلكتابة ﭐلقرآنية ) للباحث عبد الجليل الكور ، منشورة بموقع الملتقى الفكري للإبداع . وقد قدم لها الموقع بقوله (ملاحظة:إن نشر هذا المقال لا يعني تبني هيئة تحرير الموقع ما يدعو إليه الكاتب، إنما ينشر في سياق ما ينشره الموقع من أفكار تستحق النقاش والحوار) .
وقد رأيتُ بعد قراءتها نقلها للزملاء في ملتقى القراءات والتجويد ورسم المصحف وضبطه ليطلعوا عليه أولاً ، ويعرفوا ما يستجد من دعوات حول إعادة كتابة القرآن بغير الرسم العثماني ثم ليناقشوا ما ورد فيها ثانياً باعتبارهم المعنيين بببيان الصواب في مثل هذه المسائل .[/url] .


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
فضيلة الشيخ الدكتور / عبد الرحمن الشهرى ، حفظه الله تعالى
السلا م عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد

قرأت المقال المنقول بتدقيق شديد ( المتن وهوامشه جميعا ) ، ووعيت كل ما جاء فيه ، ووجدت أن أهم ما اشتمل عليه تمثله الفقرات التالى ذكرها والتى يجب أن ننتبه اليها جيدا ونعطيها حقها من الأهمية والاعتبار :

ومن ﭐلمتواتر، أيضا، أن "ﭐلقرآن" قد جُمع كتابةً، أولًا، من طرف كُتَّاب ﭐلوحي بأمر وتلقين من رسول ﭐللَّاهِ

أنه ( رسم المصحف ) توقيفي لَا تجوز مخالفتُه، وذلك مذهب ﭐلجمهور. وﭐستدلوا بأن ﭐلنبي -صلى ﭐلله عليه وسلم- كان له كُتَّابٌ يكتبون ﭐلوحي، وقد كتبوا ﭐلقرآن فِعْلًا بهذا ﭐلرسم وأَقَرَّهُم ﭐلرسول على كتابتهم. ومضى عهده -صلى ﭐلله عليه وسلم- وﭐلقرآن على هذه ﭐلكِتْبَة لم يحدث فيه تغيير ولَا تبديل، . [...]؛ ومُلَخَّصُ هذا ﭐلدليل أن رسم ﭐلمصاحف ﭐلعثمانية ظَفِرَ بأُمور كل واحد منها يجعله جديرًا بالتقدير ووُجوب ﭐلِاتباع. تلك ﭐلْأمور هي إقرار ﭐلرسول صلى ﭐلله عليه وسلم عليه، وأمره بدستوره. وإجماع ﭐلصحابة -وكانوا أكثر من ﭐثني عشر ألف صحابي- عليه، ثم إجماع ﭐلْأمة عليه بعد ذلك في عهد ﭐلتابعين وﭐلْأئمة ﭐلمجتهدين
ثانيا، أن ما ﭐدَّعاه من أنه ليس في نصوص ﭐلسنة ما يُوجِب ذلك ويَدُلُّ عليه مردودٌ بما سبق من إقرار ﭐلرسول كُتَّاب ﭐلوحي على هذا ﭐلرسم، ومِنْهم زيد بن ثابت ﭐلذي كتب ﭐلمصحف لِأبي بكر وكتب ﭐلمصاحف لعثمان

وعليه أرى أن خط المصحف الشريف توقيفى لا تجوز مخالفته فى طباعة المصاحف

كما يجب التنبيه الى أمر خطير لا يصح اغفاله : ان تعليل بعض ظواهر الرسم القرآنى بارجاعها الى خطأ الصحابة - رضى الله عنهم - لكونهم لم يكونوا متقنين لصناعة الكتابة كما قال الباقلانى وابن خلدون ، أقول : هذا الاتجاه ظاهر البطلان من أكثر من وجه :
فهو أولا يتعارض مع ما وعد الله تعالى به من حفظ كتابه فى قوله جل وعلا : " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحفظون " ولا يعقل أن يحافظ الله عز وجل على ألفاظ يوصف رسمها بأنه خطأ !!
كما أنه من جهة أخرى يوجد ما يدل على خلافه من كون كتبة الوحى لم يرسموا شيئا الا على أصل وقصد ، وتأملوا هذا السر العجيب على سبيل المثال فحسب :
كل ( امرأة ) وردت فى القرآن مضافة الى زوجها فانها تكتب بتاء مفتوحة هكذا ( امرأت ) ، أما فيما عدا ذلك فانها تكتب بتاء مربوطة على الأصل !!
وهكذا يهدينا التدبر الى وجود علل دقيقة وأسرار خفية تكمن وراء رسم المصحف الشريف ، وهذه العلل والأسرار انما ندركها بالبحث والاستقراء وليس برفض توقيفية الرسم
وكما قلت فهذا مثال واحد ، والا فالأمثلة كثيرة ، وتوجد كتب مخصوصة قد رصدت أمثال هذه الظواهر وكشفت عن اعجاز متحقق فى الرسم بحد ذاته ، ومنها كتاب قدم له وأثنى عليه فضيلة مفتى الديار المصرية الأستاذ الدكتور على جمعة
ثم تأملوا معى فى الفكرة التالية :
ان كان الرسم توقيفيا : كان اتباعنا له ألزم
وان كان اصطلاحا من الصحابة : كان عملنا به أحق !!
فعلى كلا القولين يلزمنا اتباعه !!
وأقول : هذه الفكرة ليست الا افتراضا محضا ، والا فانى على يقين من القول الأول ( كونه توقيفيا )

وأخيرا شيخنا الفاضل مع علمى بأن فضيلتكم ربما تميل الى رأى صاحب المقال الذى نقلته لنا ، ولكنى أتفهم أن اختلاف الآراء أمر وارد ، ولا يؤثر أدنى تأثير فيما نكنه لفضيلتكم من احترام وتقدير

شكر الله لكم على النقل ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى أله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مع حبي واحترامي وتقدير لشخصكم الكريم أخي عبد الرحمن الشهري ، إلا أنني أجد البحث الذي أوردتموه سالفا بما فيه من شبهات أوهن من بيت العنكبوت ؛
وقد أجاب الأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه رسم المصحف دراسة لغوية وتاريخية عن الكثير من هذه الشبهات ، ووضع خمس قواعد لدراسة ظواهر الرسم منها استبعاد فكرة الخطأ أو جهل الكُتّاب بالرسم ...
وإذا كانت دراسة الأستاذ الدكتور غانم اعتمدت على الجانب اللغوي والتاريخي ، فإن الحق في المسألة ما يخبر عنه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:21-22) ، فهذا الكتاب الكريم مثبت في اللوح المحفوظ بلسان عربي ، ورسمه نفس الرسم الذي كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .
ولتقريب هذه المسألة أضرب مثلا ولله سبحانه وتعالى وكلامه المثل الأعلى
ألا ترانا نجمع في السي دي أو الديفيدي آلاف الكتب العربية ، فهي مثبتة في السي دي باللغة العربية لكن أسلوب إثباتها بطريقة حرق مسارات معينة منها ما هو طويل وقصير لتشكل لغة البرمجة صفر وواحد .
وهنالك بعض الآثار تدل صراحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه النجم من القرآن دعا بعض الصحابة فيكتب ما يقول ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم ردّه علي فإذا كان فيه سقط أقامه ، ---ومعلوم أن السقط قد يكون في عدم إثبات كلمة أو الخطأ في إثباتها-- ثم نخرج به إلى الناس ...
ثم وصف الله تعالى لكتابه الكريم بـ كتاب ، مع أن النازل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن ، أليس يدل ذلك على أن كتابته توقيف من الله تعالى
وهذا الأثر الذي حاول الباحث أن يغمز فيه بالقرآن حين قال لم يجد آخر التوبة إلى عند خزيمة بن ثابت الأنصاري ، ألم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة هذا الرجل بشهادتين؟؟؟؟
ثم لم يكن اعتماد سيدنا زيد رضي الله عنه في الجمع الأول على شاهدين من الرجال ، بل على نوعين من الشهادة ، شهادة كتابية (صحيفة كتب فيها القرآن) ورجلان يشهدان على أن ما في هذه الصحيفة قد كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لذلك كان سيدنا زيد إذا وصل إلى آيات كتبها أحد وسافر يترك فراغا بقدر الآيات حتى يعود المسافر من سفره فيأتي بالذي كتبه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ويأتي بالشهود على ذلك .
أما أمر اختلاف الصحابة في الجمع الثاني في التابوت أو التابوه ، فهذا محلّ نظر وقد قرأت في بعض المخطوطات في العراق وأنا أبحث في موضوع رسالتي للدكتوراه ما تشير إلى أن هذه الكلمة التابوت قد أصابها شيء من الرطوبة فتفشى الحبر في آخر حرف وهو التاء . هذا من جانب ومن جانب آخر وهو الأدق ألم يؤخذ الوقف فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أليس الوقوف عليها إذا رسمت بالتاء المربوطة يكون بالهاء الخالصة ، وإذا رسمت بالتاء المبسوطة بالتاء الخالصة ، أليس الله تعالى تكفّل بحفظ كتابه ، هل للصابة يد في أي قراءة وبأي أسلوب .

ثم أخي الحبيب ألم تتنبّه إلى كيفية رسم لفظ الجلالة في كلام الباحث ورسم الكاف المتطرفة ، هذا الباحث لم يكن بدعا في هذا الأمر فقد سبقه كثيرون وردّ عليهم العلماء بالوجه الحق ، ظهر في السابق من يدعون إلى رسم الكلام العربي بحروف مقطّعة محتجين بأن أشكال الحرف تكثر في ترابط الكلام العربي ، فإذا رسم بحروف مقطعة أخذ كل حرف صورة واحدة ؛ فعلى قولهم إن قلت جاء الرجل تكتب : ج ا ء ال ر ج ل

وهناك الكثير الكثير في هذه المسائل
أما ما أورده ابن خلدون في مقدمته عن رسم المصحف الشريف فلا يعوّل عليه في شيء ، وقد قرأت كتابه مرات عدّة وما كان إلا يأخذ من كل علم بطرف دون أن يتحقق بما يأخذ . ولعل عبارتي الآتيه ستغضب البعض منّي إلا أنني في دفاعي عن كتاب الله لا أخشى لومة لائم ، فهذا ابن خلدون الذي يعدّه أصحاب علم الاجتماع عالما ومحققا ما هو إلا حاطب ليل ، إقرأ أخي الحبيب إن شئت النسخ القديمة من مقدمته ، وانظر إلى علم السيمياء وخارطة العالم السبتي وما حوته ، ثم اقرأ عن البَعَّاجين في مقدّمته ...
وأقترح عليكم عقد مؤتمر عالمي حول رسم المصحف الشريف يشارك فيه علماء محققون ، فيجمعون رأيهم بالحجة والبرهان اليقين ليكون فيصلا للحق عن الباطل فينشر في جميع الجامعات التي تعنى بأمور الدين الإسلامي . وأنتم لذلك الأهل .

وتأمل أخي الحبيب قول الله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (القيامة:17) ، هل الجمع في هذه الآية مخصوص بالجمع في الصدر أم اللفظ عام ، وكذلك قرآنه .
والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل
 
السلام عليكم أهل القرآن ورحمة الله وبركاته
هذه نقطة لا تمس كتابة المصحف نفسها بل تتناول عمل النُّقَّاط
في رأيي أن الصور الإملائية المغايرة للعُرف الكتابي الحادث بعد نسخ مصاحف عثمان اتسعت الشقة بينها وبين الكتابة المتعارف عليها بما وضعه النقاط من توزيع للهمزات بصورة خاصة توزيعا لا يقوم على فهم الأسس التي اتبعها زيد بن ثابت ومن معه في الكتابة ، ولعل النقاط من أهل المغرب والأندلس كانت رواية ورش مرشدا لهم في التعامل مع رسم صورة الهمزة ، فلقيت منهم توزيعا انتقائيا وغير مطّرد ، وهذا مما جعل كتابة المصحف تحتاج إلى كتب تشرح الصور المغايرة للمألوف في الكتابة العادية .
لعل الاتجاه إلى النظر فيما سبق يضيق الفجوة بين رسم المصحف وكتابة ما سواه .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أخي الحبيب أبو هاني
إن كل ما أضيف للمصحف من نقط أوغيره من العلامات الأخرى لم يمس بنيان الأحرف في شيء فلم يزد أحد في القرآن الكريم حرفا ولم ينقص حرفا ، حتى النبرة في الرسم .
فكيان الأحرف ذاتها لم يمس وحوفظ على قدسيته منذ نزول القرآن الكريم إلى يومنا الحاضر .
أما قولكم : ( وهذا مما جعل كتابة المصحف تحتاج إلى كتب تشرح الصور المغايرة للمألوف في الكتابة العادية ) فأرى أن الصحّة بمنأى عنه ، ذلك أن العرب لها ثلاثة أساليب في الخط :
الخط العروضي ؛ وهو ما وافق فيه الرسم اللفظ تماما .
والخط الإملائي : وهو ما وافق فيه الرسم اللفظ في الغالب ؛ فعندما نقول عمرو ، تأتي الواو هنا للدلالة على حركة العين والميم عَمْر ، وغير صحيح أن تلفظ الواو في النطق ...
والخط المصحفي ، وإن نسب شهرة إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه إلا أنه الخط الذي كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولست أتحدث عن أنواع الخط من رقعة ونسخ وكوفي .... بل عن هيكليّة بناء الكلمات القرآنية .
وهذه الأساليب الثلاثة في الرسم لا يقاس أحدها على الآخر . فلا يجوز أن نحكم على الرسم الإملائي مقارنة مع رسم العروض ، ولا على الرسم المصحفي مقارنة بالرسم الإملائي .
 
الأخوة الكرام،

ملاحظات سريعة على المقال:
1. هذه مسألة تم مناقشتها مطولاً، وكانت النتيجة أن أطبق أهل العلم على أن الرسم إن لم يكن توقيفياً فلا بد من التزامه لأمور فصّلوها.
2. وجدت في القرون القريبة السابقة تجارب تعاملت بالرسم الإملائي، ونشرت هذه المصاحف في كل فج، وانتشرت هذه التجربة وأخذت فرصتها، ولكنها أخفقت، ومن هنا لا نجد اليوم إلا المصاحف التي أخذت عن مصاحف عثمان رضي الله عنه، التي أخذ رسمها عن صحف أبي بكر التي أخذ رسمها عن صحف الرسول عليه السلام.
3. أهل الصين واليابان يتمسكون إلى الآن بحروفهم التي هي غاية في التخلف، وهي مشكلة حقيقية، حيث يلزمك أن تحفظ خمسة آلاف حرف حتى تتقن الكتابة تماماً. ثم يأتينا بعضهم فيزعمون أن لدينا مشكلة مع رسم المصحف، وأطفالنا لا يجدون صعوبة في قراءة المصحف، ولا توجد شكوى حقيقية.
4. انظروا إلى رسم لفظة (الله) وانعكاساتها في ضمير المسلم، ثم انظر إلى اقتراح الكاتب أن تكتب (اللاه). ثم ألا تلتبس هذه بـ اللاهي. فما هي الضرورة المزعومة التي تجعلنا نحرّف صورة هذه اللفظة الجليلة.
5. واضح أن الكاتب غير ملم بالمسألة ومن هنا تجده يقفز في عماء.
6. عندما يعجز البعض عن الإبداع الحقيقي تجده يجتر ما طواه التاريخ.
 
6. عندما يعجز البعض عن الإبداع الحقيقي تجده يجتر ما طواه التاريخ.

استوقفتني هذه الكلمة الجميلة..
واللافت أن المقال معروض في الملتقى الفكري للإبداع ، فهل قصدت هذه القفشة يا أبا عمرو ؟!

(للعلم: لا أقصد تنقصا للموقع، فهو يحوي مقالات نفيسة، كما لا أقصد ذكر رأي في المسألة، إنما هي مجرد عابرة استدعتها كلمة أخي البيراوي حفظه الله)
 
الأخ الكريم العبادي،

في الحقيقة لم أنتبه إلى ما تنبّهتَ إليه أنت.

واضح أن الرجل غير مختص، وهو ينقل الأقوال المرجوحة والفجة، وجاء متأخراً بعد أن استقرت الأمور، ومن هنا لا أظن أن إبداعه المزعوم سيلفت الانتباه، أي أن إبداعه البعيد عن الإبداع قد ولد ميتاً.
 
الرسم العثماني هكذا ( روس ) فنقطها النقاط هكذا ( رءوس ) فلماذا لا يكون الضبط هكذا ( رؤوس ) وأحسب أن الكاتب عنى بالواو صورة الهمزة ( ؤ ) لا واو المد ؛ لأن أحرف العلة المدّيّة كانت كثيرا ما لا تثبت .
للدكتور حسن عبد الجليل ، طبعا الثلاثة الأنواع معروفة ، والخط العروضي ليس في موضع النقاش ، والرسم الإملائي مأخوذ من رسم المصحف الأصلي قبل نقط النقاط ، لذا أقول إن نقط النقاط باعد بين رسم المصحف والرسم الإملائي لأنهم لم يكونوا لغويين في الأساس .
 
الرسم العثماني هكذا ( روس ) فنقطها النقاط هكذا ( رءوس ) فلماذا لا يكون الضبط هكذا ( رؤوس ) وأحسب أن الكاتب عنى بالواو صورة الهمزة ( ؤ ) لا واو المد ؛ لأن أحرف العلة المدّيّة كانت كثيرا ما لا تثبت
أخي الحبيب بإمكانك مراجعة كتاب الأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد ( رسم المصحف دراسة لغوية وتاريخية) حيث ناقش هذه المسألة . وهناك بحث لأستاذي الأستاذ الدكتور حسام النعيمي نشره في مجلة الضاد حول هذا الموضوع
وإذاأحببت أن نأخذ هذه الكلمة مثالا للنقط أقصد كلمة (روس)
فأقول في أصل الرسم المصحفي يترك فراغ للهمزة والذي وضع فيما بعد مكانه نقطة مستديرة حمراء اللون أكبر من نقط الإعراب ونقط الإعجام ، والتي استعاض عنها الخليل بن أحمد الفراهيدي برأس العين للدلالة على الهمزة المحققة .
فيكون الرسم الأساسي لها على هذا النحو بترغ فراغ بعد العين حفاظا على موضع الهمزة ( ر وس) وما أضافه النقاط لا يعدّ تغييرا في بنية الحرف نفسه .
أما إذا أردت أن تثبت واوا صورة للهمزة تكون ( رؤوس) نجد أننا قد أدخلنا في القرآن حرفا لم يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهذ غير صحيح ، وهناك تنوع في رسم صورة هذه الهمزة بين المدرسة المصرية والمدرسة العراقية نحو ما نجده في كلمة شؤون فهل نرسمها (شئون) منعا لتكرار صورة الواو أو تصور(شؤون) قياسا
تأمل أخي الحبيب كيف أثبتت الهمزة في الآية 23 من سورة الكهف في قوله تعالى (لشايء) حيث أثبتت الهمزة بعد الياء .
ولا شك أن إضافة حرف في رسم المصحف الشريف سيوقعنا في خلاف لسنا في حاجة له

والرسم الإملائي مأخوذ من رسم المصحف الأصلي قبل نقط النقاط ، لذا أقول إن نقط النقاط باعد بين رسم المصحف والرسم الإملائي لأنهم لم يكونوا لغويين في الأساس
أخي الحبيب هذا الأمر أخالفك الرأي فيه فالرسم الإملائي موجود قبل نزول القرآن الكريم ، وهناك نقوش أوردها الدكتور غانم قدوري في كتابه رسم المصحف وأوردها كثيرون ممن تابعوا تطور الرسم الإملائي قبل نزول القرآن الكريم . تدل صراحة على أن الرسم الإملائي لم يؤخذ من الرسم المصحفي .
أما وصف كتاب المصاحف أو النُّقاط بمثل هذه الأوصاف فهذا أمر بعيد عن الصّحة ، وقد بحثه الدكتور غانم تفصيلا ووضع عدّة قواعد لمناقشة ظاهرة الرسم منها استبعاد فكرة الخطأ .
وقول ابن خلدون - الذي يردده الكثيرون - في أن العرب بسبب بعدهم عن المدنية والحضارة ، وتعمقهم في البداوة ظهرت منهم مثل هذه الأخطاء في رسم مصحفهم فهذا القول بينه وبين الصحة ما بين المشرق والمغرب ...
 
وجود فراغ بين الراء والواو أمر لا دليل عليه ، والكتاب ما كانوا ليتركوا فراغا فيتوهم انقطاع الكلمة قبله وابتداء أخرى ، وإلا فما سبب وجود ألف بعد واو الجماعة في الأفعال التي ليس في نهايتها نون الرفع ، بل في بعض جمع المذكر السالم المضاف !!
أما وجود رسم إملائي قبل الإسلام كالذي ( أحدثه الناس ) زمن الإمام مالك وسئل عنه فهذا أيضا من الأفكار التي انضافت فيما بعد ، وإلا ما كان للرسم المصحفي أن يفارقه !!
 
عودة
أعلى