عبدالمجيد سلامة
New member
حادثة الإفك : تفسير وهدايات
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
فهذه أوقات من العمر قضيتها مع بعض آيات من كتاب الله تعالى ، أسأل الله أن ينفعني بها والمسلمين .
حادثة الإفك وبراءة عائشة رضى الله عنها:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
سبب النزول:
لما قال أهل الإفك في عائشة رضى الله عنها ما قالوا، نزلت الآيات ببراءتها، وبيان طهرها، وفرض العقاب على المفترين عليها.
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام ترجمة عملية لآيت القرآن وآدابه وأحكامه، وما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في هذه الحادثة كان أنوذجا للتطبيق العملي لكتاب الله تعالى، ليبقى هذا التطبيق حجة على الأمة وعلى البشر جميعا إلى أن تقوم الساعة، فلا تبقي للناس حجة أمام الله تحول بينهم وبين إتباع أمر الله في كل الأمور، وكانت هذه الحادثة حادثة الإفك إحدى وقعات التطبيق العملي للكتاب والسنة، فقد كان فيها الصالح والطالح، والمتمسك بالدين ومن استزله الشيطان، ومن أمسك في الحديث ومن خاض، ومن زل بلسانه ومن حمى سمعه وبصره وأمسك لسانه، ومن ظن الخير بالمسلمين فمدح ومن عاتبه الله، كل هذا وأكثر نلمسه في هذه الآيات البينات.
التفسير والبيان:
11 - (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا) أي إختلقوا وإصطنعوا، (بِالْإِفْكِ) أي: بالكذب المتعمد يكون ضد الحقائق، فيقلب الأحكام، كما في قوله تعالى {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 53] وهي القرى التي جعل الله عاليها سافلها، وكذلك الإفك يغير الواقع، ويقلبه رأسا على عقب، وهو هنا رميهم أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بالفاحشة وهي الحصان الرزان سليلة بيت الطهر والعفاف، التي زكاها الله وأخواتها بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وهي التي إختارها الله زوجه لخير رسله وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم (عُصْبَةٌ) جماعة قليلة جدا متفقة جمعهم شيء ما، كما في قوله تعالى عن إخوة يوسف {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14]وكانوا أحد عشر رجلا (مِنْكُمْ) تنتسب إليكم فمنهم المؤمن ومنهم من ينافق (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) أي: لا تظنوا أن ما افتروه شر لكم والشر ما غلب ضرره على نفعه (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بل هو خير لما فيه من الثواب والتمحيص للمؤمنين، ولما يصحبه من تبرئة أم المؤمنين، والخير ما غلب نفعه على ضرره، فحادثة الإفك خير للمسلمين ولو كان معها كره كما في قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وقوله تعالى {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) لكل واحد شارك في رميها بالفاحشة عقاب جزاء (مَا اكْتَسَبَ) ما اقترف بقصد منه لإفترائه على أم المؤمنين أو لتكلمه في حقها، والكسب كما يكون بالجوارح يكون بالقلوب، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] (مِنَ الْإِثْمِ) أي: مما يستحق من العقوبة على قدر خوضه في رمى أم المؤمنين رضى الله عنها (وَالَّذِي) يشير إلى عبدالله بن أبي بن سلول هو شيخ المنافقين، كانوا في المدينة قبل الهجرة يصنعون له تاجا لينصبوه ملكا على المدينة فلما فوجئ برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه، وهو المقصود وأتباعه بقوله تعالى {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] وقوله تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] (تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تولي معظمه، فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه (مِنْهُمْ) أي: من العصبة (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي عذاب كبير لا مثيل له، في الدنيا بما أراده الله به، وفي الآخرة بخلوده في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]
من هدايات الآية:
- يبتلى الطيبون أحيانا بالأذى ممن لايظنون منهم الأذى ، لكن لحكمة الله البالغة تأتي العواقب طيبة ما دام العبد طيبا وإن تجرع في أثناء ذلك مرارات وألم الأذى.
- بينت الآية أثر قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، وسيجازيهم كل قدر ظلمهم، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}
- كل من تزعم شرا، فله النصيب الأكبر من العذاب عليه، ألا ترى الله قد جمع في ذكر الإثم لما قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} ثم أفرد في ذكر العذاب العظيم قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]
12 - (لَوْلَا) هلَّا، للتوبيخ والزجر، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) حين سمعتم هذا الإفك العظيم (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) أي: ظنوا بقلوبهم سلامة من افتُرِي عليه ذلك من إخوانهم المؤمنين، وهي عائشة رضى الله عنها لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وبصفوان إذا لو كانوا مكانه ما كان منهم إلا الخير، وما كان منه رضى الله عنه إلا الخير، والتعبير بأنفسهم عن غيرهم من إخوانهم المؤمنين بيان لعظم أمر الإخوة في الدين، التي تجعلهم كأنهم نفس واحدة، وشبيه بهذه الآية قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] والمقصود لا يكون هذا منكم في حق المؤمنين، فعبر عن المؤمنين بالأنفس، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) وقالوا: هذا كذب واضح، بالغ الغاية في البيان، كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره، ومثله في القرآن قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4].
سبب النزول:
روى ابن جرير الطبري: أن أبا أيوب الأنصارى، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك
من هداية الآية:
- عتاب الله للمؤمنين لعدم ظنهم الخير بأنفسهم ورد الأكاذيب في مهدها.
- حسن الإيمان يقتضى من العبد حسن الظن بالمؤمنين.
- اتهام المؤمن لأخيه بمثابة إتهامه لنفسه، وحسن ظنه به بمثابة حسن ظنه بنفسه، لقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]
- المؤمنون وإن كانوا إفرادا فبدخولهم خظيرة الإيمان يصيرون نفسا واحدة.
- وجوب رد الأشاعات الباطلة ورفضها بشدة، وينبغي على المسلم التحرى في الإخبار، قال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
- الإيمان يجعل للعبد فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، والصدق والإفك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقد بين هذا قوله تعالى هنا: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]
13 - (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) هلَّا أتى المفترون على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - على فريتهم العظيمة بأربعة شهود يشهدون على صحة ما نسبوا إليها، (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ) - ولن يأتوا بهم أبدًا- (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) فهُم كاذبون في حكم الله، وصيغة الحصر في قوله: {عند الله} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
من هدايات الآية:
- هدت الإية إلى قاعدة مهمة، وهي أن كل إتهام يلزمه، وبعدمها فالمدعي كاذب حتى يأتي بها، إلا في الملاعنة بين الزوجين تقوم الأيمان بدل الأدلة.
- رحمة الله بالمؤمنين، إذ جعل الكذب عليهم كذبا عنده، مما يغلظ ويبشع جريمة الإفتراء على المسلمين.
- من رمى المؤمنين لابد له من أربعة شهداء فإن أتى بثلاثة ولم يأت بالرابع كان هو والثلاثة كذبة، يقام عليهم الحد جميعا.
14 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ) الفضل: الزيادة، أي لولا فضل الله عليكم وزيادته التي تفضل بها عليكم من جلب الخير ودفع الضرر، وتوبته وعفوه وتجاوزه عنكم، إلا في حد التأديب وهو فضل من الله أيضا (عَلَيْكُمْ) الخطاب للذين خاضوا في حديث الإفك من المسلمين (وَرَحْمَتُهُ) بكم سبحانه وتعالى حيث لم يأخذكم بأمر عارض، بل غفر لكم، وأي رحمة أعظم من غفران لعمل كان منهم بجهالة، ثم تابوا من قريب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) - حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، وتاب على من تاب منكم - (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) لأصابكم بسبب ما خضتم فيه من الكذب والافتراء، والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم، (عَذَابٌ عَظِيمٌ) وقد نجا منه التائبون، واكتفي الله في أمرهم بالحد وهو الجلد، لأن قذف المؤمنين أذى لهم ولا تتم التوبة إلا برد المظالم لأهلها، ورد المظلمة للمقذوف بالزور أن يقام الحد على قاذفه، أما أهل النفاق فهم المستحقون للعذاب العظيم له لقوله تعالى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]
من هدايات الآية:
- بيان حلم الله تعالى، وأنه لم يأخذ النفر الذين زلوا وخاضوا في حديث الإفك مع المنافقين، بل أمهلهم، وشرع لهم الحد الدنيوي ليطهرهم ويؤدبهم به في الدنيا فلا يؤاخذهم به في الآخرة، مع أنه فعل شنيع.
15 - (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) إذ يرويه بعضكم عن بعض وتتناقلونه بأفواهكم مع بطلانه، من وَلْقِ الكذب، وهو الاستمرار عليه؛ فذمّهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به، وهو نحو قوله: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء: 36]، ولذلك قال (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) أي و تقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب (مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) وتظنون أن ذلك سهل هين لا إثم فيه بالنسبة لكم، (وَهُوَ) أي: هذا الذي خضتم فيه (عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) كبير إثمه لما فيه من الكذب على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فاق في الحرمة عرض أي مسلم لأن ما نسب إلى الله عظم أمره.
من هدايات الآية:
- الخوض باللسان قد يوقع الإنسان في الآثام العظيمة، التي تفوق جرما غيرها من فعل الجوارح.
- بيان شناعة رمي بيت النبوة بهذه الجريمة الأخلاقية، التي هم أنزه خلق الله من الإنس والجن عنها وأطهرهم منها.
- بيان علو ورفعة منزلة بيت النبوة عند الله تعالى، لقوله تعالى هنا: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وقد ذكر عظم شأن بيت النبوة بقوله في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]
16 - (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) وهلَّا إذ سمعتم هذا الإفك (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا) أي: ما يجوز ولا يصح لنا (أَنْ نَتَكَلَّمَ) بألسنتنا (بِهَذَا) أي بحديث الإفك، وما تناولته الألسنة، وهذا حال المؤمن ألا يتكلم أو يخوض في شيء بغير حق، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] (سُبْحَانَكَ) تنزيهًا لك ربنا أن يقال هذا عن عرض حليلة نبيك وخليلك (هَذَا) الَّذي رموا به أم المؤمنين (بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) أي كذب لفظاعته يتحير منه المؤمن عند سماعه، والبهتان أن يقال في الإنسان بالكذب ما ليس فيه، كما في قوله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، وما حدث لأم المؤمنين عائشة من الرمي بهتانا فقد حدث لمريم ابنة عمران من قبلها، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156]، فهي السنن في الأمم.
من هدايات الآية:
- وجوب الإمساك والبعد عن الخوض في الأحاديث الباطلة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16]
- بيان أن الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من التفوه بكل ما وصل أذنه، ولهذا لما سمعت أمن المؤمنين زينب رضى الله عنها ذلك، أمسكت، كما صح في السنة من حديث عائشة رضى الله عنها، أنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي مَا عَلِمْتِ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا.
- على المؤمن أن ينزه الله عما لا يليق به، لقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، ووجه تسبيح الله وتنزيهه هنا، أن الله تعالى تنزه عن أن يجعل مثل هذا في بيت النبوة، وقد زكاه في غيره من الآيات الكريمات، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فما كان الله ليطهرهم ويزكيهم ويكون هذا منهم، لذا قال العالمون ومن أشرقت في نفوسهم وقلوبهم أنوار الإيمان: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
17 - (يَعِظُكُمُ اللَّهُ) يذكِّركم الله وينصحكم وينهاكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أي: أن تعودوا لمثل هذا الإفك فترموا بريئًا بالفاحشة (أَبَدًا) أي مدة حياتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان ينهى عن هذا الخلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فإن كان هذا أثر الصلاة وهي إحدى شعب الإيمان، فكيف بأثر الإيمان بشعبه جميعا؟
من هدايات الآية:
- بيان شأن أهل الإيمان عند الله تعالى، إذ تولى موعظتهم بنفسه مرتين، كما في قوله (يَعِظُكُمُ اللَّهُ) المرة الأولى، لأجل شأن عرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لأجل شأن عائشة رضى الله عنها، ثم لأجل الموعظين أنفسهم ثالثا، والكل ذو منزلة في ولاية الله تعالى.
- بيان السنة الربانية في الدفاع عن أهل الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، فقد تولي الله تعالى تبرئة عائشة في كتابه الكريم.
- بيان أن الأمر إذا كان بين المؤمنين فإن الله يتولي الفريقين ولا يحابي أحدا على حساب أحد، فقد تولي تبرئة عائشة وفي الوقت نفسه وعظ المؤمنين ومن ضمنهم الذين خاضوا، وطهرهم بإقامة الحد عليهم، فشملت رحمته، المعتدي والمعتدي عليه من أهل الإيمان كل بما ناسب عمله، والله أعلم.
- وعظ الله المؤمنين بنهيهم للعودة إلى مثل هذا الخوض نهى مؤبد لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]
- من كمال الإيمان عدم العودة إلى مثل ذلك من الوقوع في أعراض المسلمين، لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]
18 - (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) ويوضّح الله لكم ويفصل الآيات المشتملة على أحكامه ومواعظه ليزكيكم، كما في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بأفعالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيكم عليها، (حَكِيمٌ) في تدبيره وشرعه.
من هدايات الآية:
- تبين الآيات والأحكام الشرعية منحة ربانية للمجتمع المسلم، إذ كان يكفي أن يذكر الله أنه يبين الآيات، ولكنه قال ((لكم) وهذا زيادة في مبنى الكلام، والقاعدة أن زيادة المبنى زيادة المعني، وزيادة المعني هنا منها بيان تفضل الله ونعمتة كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
- تبيين الله للآيات الشرعية والكونية، حجة على خلقه، لذا ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يكون منكم بعد هذا التبيين، حكيم بوضع الأمور في مواضعها من ثواب أوعقاب.
19 - (إِنَّ الَّذِينَ) توكيد وإشارة إلى أن المنافقين (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أي: إن الذين يحبون أن تنتشر المنكرات وأن ينتشر قذفهم (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: أم المؤمنين وصفوان ومن له صلة بهما، فالمنافقون دوما يحبون الشر للمؤمنين، كما في قوله تعالى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا) أي: لهم عذاب موجع في الدنيا بإقامة حد القذف عليهم، (وَالْآخِرَةِ) أي: يوم القيامة لهم عذاب جهنم، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) والله يعلم كذبهم، وما في إشاعة الفاحشة وتداول ذكرها من مفاسد يؤول أمر العباد إليها، فالله يعلم مصالح عباده، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) تجهلون حقائق ما يكون وتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم} [النور: 15].
من هدايات الآية:
- أن الله جعل لمن يحبون (مجرد الحب) أن تشيع الفاحشة وتنتشر في المجتمع المسلم، قد جعل الله لهم العذاب الأليم الذي يصلونه، ويكتون بناره، والذي قد يطول ذواتهم أو أقاربهم وأحبابهم من الذرية والأهل، سواء شاهد المجتمع عذابهم أو لم يشاهدوه، فهذه هي الحقيقة التي أخبرنا عنها علام الغيوب المطلع على خفايا الأمور، فكيف بمن يبذلون الأسباب من سن قوانيين ومحاربة الدين لأجل أن تشيع الفاحشة في المؤمنين؟
- إثبات علم الله التام بكل شيء، لقوله تعالى: {يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فهو العليم بما كان من أمر المنافقين وترصدهم لإصطياد ما يثيرون به الفتن في المجتمع المسلم، وهو العليم بما يكون من عواقب الأمور، وهو الحكيم في أفعاله القدير على كل شيء، والذي حول المحنة في حق عائشة إلى منحة وتزكية سجلت في كتابه الكريم الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار في مشارق الأرض ومغاربها إلى آخر الزمان.
20 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ولولا تفضّل الله عليكم يا من تكلمتم بألسنتكم وخضتم في حديث الإفك مثل مسطح وحمنة بنت جحش وغيرهما (وَرَحْمَتُهُ) بكم (وَأَنَّ اللَّهَ) أي: ولولا أن الله (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) بكم، لعاجلكم بالعقوبة، فالله يتفضل على المؤمنين ليزكيهم قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] فالله يتفضل على من يشاء من عباده كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]
من هدايات الآية:
-أن الله ذو فعل على عباده المؤمنين، ولا يمنع فضله عنهم ولو وقع بعضهم فيما لا يحبه ويرضاه، فهو الحليم الذي يمهل المذنب، والرحيم الذي يتولي المؤمن.
- على العبد أن يستحي من الله، الذي يتولاه برأفته ورحمته، فلا يقابل من فعله من حيث الرأفة والرحمة بما لا يحبه وبما لا يرضيه.
- إثبات إسمين من أسماء الله تعالى وهما الرؤوف والرحيم.
21 - (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ينادي الله الذين عرفت قلوبهم التوحيد وأقرت به وعملوا بشرع الله بالله (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: لا تتبعوا طرق الشيطان في تزيينه للباطل، وذلك لعداوته، فتزيين الباطل وستر مضاره من مسالك الأعداء، وقد بين ذلك سبحانه في سورة الانعام، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142] فتزيين الباطل وما جاء بعد أعداء الدين من نظم وأفكار يناهضون به تشريعات الإسلام إنما هو شغل أعدائنا من بني جلدتنا ولو كانت إسماءهم عربية، تلقونه عنهم ويشيعونه في بلادنا، فلقد أقسم الشيطان بعزة الله أن يغوي بني آدم قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] لذا حذرنا الله من الشيطان وخطواته (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: ومن يتبع طرقه (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) يحبب ويزين للعبد ليأتي (بِالْفَحْشَاءِ) بالقبيح من الأفعال والأقوال (وَالْمُنْكَرِ) ويأمر بالأمر السيء الذي ينكره الشرع، لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168 - 169] (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي: ولولا فضل الله عليكم -أيها المؤمنون- (مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) زكى: بمعنى طهر، طهارة معنوية من دنس الشرك والذنوب، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10]، والمعنى هنا: ما طهر منكم من أحد أبدًا بالتوبة إن تاب، ولا إهتدى أحد منكم لشئ من الخير أيها العصبة (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي) أي: يطهّر بقبول توبة وبهداية (مَنْ يَشَاءُ) من يريد من عباده، فالتزكية هنا هي محض فضل الله ورحمته، فلولا الله ما زكا أحد من خلقه، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم، (عَلِيمٌ) بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيكم عليها.
من هدايات الآية:
- بيان أهمية ما في هذه الآية لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد صدر الخطاب بالنداء للتنبيه والإهتمام بما سيتلى.
- تشريف الله للمؤمنين إذا ناداهم بوصف الإيمان فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
- أن بعض الأعمال تكون من مستصغر الأمور والخواطر، فالشيطان لا يأتي للإنسان ويقول له إفعل الفاحشة أو أقتل من أول لحظة، بل يأتي خطوة خطوة، يبدأ بأمور قد لا تبدو خطورتها ولكنه يواصل في الإغواء بما هو أعلى، خطوة بعد خطوة حتى يوقع الإنسان في عظائم الأمور.
- أفضال الله على عباده متتالية متوالية، فمن شكرها زيد حظه منها.
- الهداية إلى تزكية النفوس محض فضل من الله.
22 - (وَلَا يَأْتَلِ) أي لا يحلف ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي: أصحاب الغني واليسر، والمقصود هنا الصديق رضى الله عنه، لأن الآية أنزلت فيه، (وَالسَّعَةِ): الغنى والطول، لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] (أَنْ يُؤْتُوا) أي: على ترك إعطاء (أُولِي الْقُرْبَى) أي: أقاربهم الفقراء (وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لذنب ارتكبوه، والمسكين: هو الذي لا يجد ما يكفيه، ولا يمنع أن يكون عنده بعض المال، لكن لا يكفيه، كأصحاب السفينة في سورة الكهف قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]، فكونهم يملكون سفينة لم يرفع عنهم حكم المسكنة، لأنهم لا يجدون ما يكفيهم، وسمى مسكين لأن الفقر أسكنه وأذله (وَلْيَعْفُوا) عنهم، وأصل العفو: من عفت الريح الأثر إذا طمسته (وَلْيَصْفَحُوا) عنهم، والصفح: ترك التثريب واللوم، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته قال تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، ولقد حث الله المؤمنين على العفو عن بعضهم في غير آية كقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، وبين سبحانه هنا أنه بعفوهم وصفحهم ينالون مغفرة الله لما قال: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) ذنوبكم إذا عفوتم عنهم وصفحتم؟! ففهم من هذا أن العفو والصفح يستلزمان مغفرتهم لذنوب إخوانهم المؤمنين، لأنه سبحانه وتعالى علق المغفرة في آية أخرى على العفو والصفح والمغفرة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14] فزاد هنا ذكر المغفرة، ووهذا المعنى موجود في قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133 - 134]
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب من عباده، رحيم بهم، فليتأسّ به عباده. نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وبعض الصحابة لما حلفوا على ترك الإنفاق على من خاض حديث الإفك، وهذا المعنى الذى أشارت إليه الآية من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين، جاء في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً للامتناع من فعل الخير.
سبب النزول: أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، فقال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه: واللَّه لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى .. ) الآية قال أبو بكر: بلى والله إني لأُحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
من هداية الآية:
- أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن عفى وصفح عن مقدرة، كافأه الله بمغفرته.
- رحمة الله بالتائبين، وإقالة عثراتهم، إذ يحث الله أبو بكر رضى الله عنه على العفو والصفح عن مسطح رضى الله عنه، وقد تاب.
- الله حث أبا بكر على الإحسان لمسطح في هذه الآية ثلاث مرات، الأولى لأنه من قرابة أبي بكر، والثانية لأنه من المساكين، والثالثة لأنه من المهاجرين في سبيل الله، وهذا يبين عظم رحمة الله وسعة رحمته بالتائبين.
- في الآية بيان صدق توبة مسطح رضى الله عنها، لأنه لولا صدقه في توبته ما لقى كل هذه الرحمة من الله تعالى ظن فلا يحسبن التائب أنه بتوبته يضيع، بل يدخل في واسع رحمة رب العالمين.
- وفي الآية حث للمذنبين على التوبة، لأن بها يلقى العبد من عناية الله به ما لا يجده وهو مقيم على الذنوب والمعاصي.
-حث المؤمن على مداومة الخير الذي يفعله، ولا يمنعه لسوء صدر ممن أحسن إليه، فإنما الباذل يبذل لطيب معدنه، فلا ترده إساءة المسيء عن ما جبله الله عليه من خصال الخير، فالبقاء عليها شكر لها، ودوام النعم بشكرها.
- وفي الآية رد على المعتزلة الذين قالوا إن الكبائر تحبط العمل، فمع ما أتاه مسطحا، فإن الله رغبه في التوبة وفتح له بابها، وأثبت له هجرته في سبيل الله، لقوله تعالى: (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومن المقصودين بها مسطح، لأنه الخائض من ذوي القرابة لأبي بكر ومن المساكين الذين حث الله أبا بكر على منع خيره عنهم.
- قوة إستجابة الصحابة للقرآن، فها هو أبو بكر رضى الله عنه، يستجيب ويعزم على عدم العود لمنع إحسانه إلى مسطح رضى الله عنها ويقول: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
- من حلف على شيء ووجد الأفضل في غيره، فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير.
- دل إجتماع إسمى الله الغفور والرحيم على زوال ما يرهبه التائبون، وحصول ما يرجونه من رحمة الله بسبب توبتهم.
23 - (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) أي يتهمون العفائف بالزنا، ولم يذكر هنا المؤمنين لأن من رمى إمرأة رمى معها رجل، وهذا كمثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وتقيكم البرد أيضا (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا) واللعن في الدنيا: التفسيق، وحد القذف، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، فليس لهم فيها ذكر طيب، ولا كرامة لهم، ولا احترام لخساسة نفوسهم (وَالْآخِرَةِ) واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله، وقال تعالى فيمن يؤذون رسول الله، ورمي زوجه إيذاء له {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: عذاب جهنم، إن لم يتوبوا ويصلحوا، لقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 59]
من هدايات الآية:
- ولاية الله للمؤمنين، وإنزاله العقوبات، الدنيوية والأخروية لمن يعتدي عليهم.
- صلاح حال العباد وصلاح معاشهم، نعمة من الله، فالطرد والإبعاد من رحمة الله في الدنيا من صورها، فساد أحوالهم وتعثر معاشهم وسوء خلطتهم بغيرهم من الناس.
24 - يحصل لهم ذلك العذاب يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) بما نطقوا به من الباطل، وتشهد عليهم (وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وفي آية أخرى جعل الله الختم على الأفواه والنطق للأيدى والشهادة للأرجل، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، أما هنا فجعل الشهادة للألسن لأنها الأصل في إشاعة الإفك، فأنظق الله أحق الشهداء عليهم وهي ألسنتهم، والله أعلم، وقد ناسب ذكر هذه الأعضاء لأن لها عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
من هدايات الآية:
- المرء في الآخرة على طبعه وخلقه الذي كان عليه في الدنيا، فالذين يرمون المحصنات ويجحدون في الدنيا عفة المؤمنين والمؤمنات، يجحدون في الآخرة جريمتهم، فينطق الله ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم لتنطق بالحق عليهم.
- أن جوارح الإنسان وهي منه تشهد عليه بما كسب من الإثم، فالإثم رذيلة يأباهاكل الخلق إلا خبيثو الإنس والجن، بل تأباها الجوارح التي فعلتها، ولولا تسخيرها للإنسان ما فعلتها.
- أساس التكليف على النفس، وما الجوارح إلا وعاء لتلك النفس.
25 - (يَوْمَئِذٍ) أي: يوم القيامة (يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ) أي يؤدي إليهم كاملا (دِينَهُمُ) أي: جزاءهم بعدل، لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: يوم الجزاء، ولقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] أي يوم القيامة، (الْحَقَّ) أي: الواجب عليهم جزاء ما إقترفوه، وقد بين الله عز وجل في آيات آخر هذا المعني قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبين} [الأنبياء: 47]، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فكل ما يصدر عنه من خبر أو وعد أو وعيد حق واضح لا مرية فيه، وهذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين، لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين، أما غير المؤمن فبالموت يعاين الحقائق حيث لا ينفعه ساعتها إيمان، مثلما كان من فرعون لما عاين الغرق كما في قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 90 - 92] وقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، فحين يوفيهم الله جزاءهم الحق يعلمون ساعتها أن الله هو الحق المبين.
من هدايات الآية:
- أن أعمال العباد تسجل، لا يضيع منها شيء، ليجازوا بها يوم القيامة.
- أن الجزاء الكامل على الأعمال إنما يكون في الآخرة.
- أن الله حكم عدل، لا يظلم ولا يجور، إنما هي أعمال العباد يوفيهم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
26 - (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) أي: كلّ خبيث من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مناسب وموافق لما هو خبيث، والخبيث: هو الخسيس الحقير، وفي هذا الجزء من الآية تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الخبيثات للخبيثين} تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك، أما عائشة والمؤمنون فمبرأون من مثل هذا الخبائث (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) وكل طيب من ذلك مناسب وموافق لما هو طيب، والطيب: المتحلي بالخير والصلاح، وقد بين الله أنه إن أبدل نبيه بزوجات غير اللاتي معه فسيبدله بالطيبات فهو الطيب سيد الطيبين فلا تناسبه إلا الطيبات قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] والصفات المذكورة هي من صفات الطيبات، فالطيب لا يسأل إلا طيبا ولا يرغب إلا في طيب فها هو نبي الله زكريا لما طلب الذرية، ما طلب مجرد الذرية ولكنها طلبها طيبة، قال تعالى حكاية عنه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وهذا الجزء من الآية (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) كفيل وحده برد الطعن عن أم المؤمنين رضى الله عنها، لأنها لو لم تكن طيبة ما إختارها الله زوجا لنبيه صلى الله عليه وسلم، لهذا أتبعه سبحانه بقوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي عائشة وصفوان رضى الله عنهما، مُبَرَّؤون مما يقوله عنهم الخبيثون والخبيثات، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي: للطيبين وللطيبات مغفرة من الله يغفر بها ذنوبهم، ولهم عطاء من الله حسن وفير في الجنّة، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]
من هدايات الآية:
- كل جنس له ما يلائمه من نوعه، من الأقوال والأعمال والذوات، فلا يتوافق الخبيث إلا مع الخبث، ولا تستقيم حياة الطيب مع الخبيث، ولا يهنأ الخبيث بمعاشرة الطيب، لأن نفسه الخبيثة لا يسرها العيش إلا مع خبيث مثلها، وقد بين الله تعالى ذلك في قوله عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
- بيان براءة عائشة رضى الله عنها، وذلك لأن الطيب وهو الرسول ما كان ليخالط غير طيبة وهي عائشة رضى الله عنها.
- وبراءتها من جهة أخرى وهي ما كان ليصدر منها وهي الطيبة إلا الطيب من الأقوال والأعمال.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
فهذه أوقات من العمر قضيتها مع بعض آيات من كتاب الله تعالى ، أسأل الله أن ينفعني بها والمسلمين .
حادثة الإفك وبراءة عائشة رضى الله عنها:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
سبب النزول:
لما قال أهل الإفك في عائشة رضى الله عنها ما قالوا، نزلت الآيات ببراءتها، وبيان طهرها، وفرض العقاب على المفترين عليها.
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام ترجمة عملية لآيت القرآن وآدابه وأحكامه، وما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في هذه الحادثة كان أنوذجا للتطبيق العملي لكتاب الله تعالى، ليبقى هذا التطبيق حجة على الأمة وعلى البشر جميعا إلى أن تقوم الساعة، فلا تبقي للناس حجة أمام الله تحول بينهم وبين إتباع أمر الله في كل الأمور، وكانت هذه الحادثة حادثة الإفك إحدى وقعات التطبيق العملي للكتاب والسنة، فقد كان فيها الصالح والطالح، والمتمسك بالدين ومن استزله الشيطان، ومن أمسك في الحديث ومن خاض، ومن زل بلسانه ومن حمى سمعه وبصره وأمسك لسانه، ومن ظن الخير بالمسلمين فمدح ومن عاتبه الله، كل هذا وأكثر نلمسه في هذه الآيات البينات.
التفسير والبيان:
11 - (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا) أي إختلقوا وإصطنعوا، (بِالْإِفْكِ) أي: بالكذب المتعمد يكون ضد الحقائق، فيقلب الأحكام، كما في قوله تعالى {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 53] وهي القرى التي جعل الله عاليها سافلها، وكذلك الإفك يغير الواقع، ويقلبه رأسا على عقب، وهو هنا رميهم أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بالفاحشة وهي الحصان الرزان سليلة بيت الطهر والعفاف، التي زكاها الله وأخواتها بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وهي التي إختارها الله زوجه لخير رسله وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم (عُصْبَةٌ) جماعة قليلة جدا متفقة جمعهم شيء ما، كما في قوله تعالى عن إخوة يوسف {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14]وكانوا أحد عشر رجلا (مِنْكُمْ) تنتسب إليكم فمنهم المؤمن ومنهم من ينافق (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) أي: لا تظنوا أن ما افتروه شر لكم والشر ما غلب ضرره على نفعه (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بل هو خير لما فيه من الثواب والتمحيص للمؤمنين، ولما يصحبه من تبرئة أم المؤمنين، والخير ما غلب نفعه على ضرره، فحادثة الإفك خير للمسلمين ولو كان معها كره كما في قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وقوله تعالى {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) لكل واحد شارك في رميها بالفاحشة عقاب جزاء (مَا اكْتَسَبَ) ما اقترف بقصد منه لإفترائه على أم المؤمنين أو لتكلمه في حقها، والكسب كما يكون بالجوارح يكون بالقلوب، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] (مِنَ الْإِثْمِ) أي: مما يستحق من العقوبة على قدر خوضه في رمى أم المؤمنين رضى الله عنها (وَالَّذِي) يشير إلى عبدالله بن أبي بن سلول هو شيخ المنافقين، كانوا في المدينة قبل الهجرة يصنعون له تاجا لينصبوه ملكا على المدينة فلما فوجئ برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه، وهو المقصود وأتباعه بقوله تعالى {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] وقوله تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] (تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تولي معظمه، فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه (مِنْهُمْ) أي: من العصبة (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي عذاب كبير لا مثيل له، في الدنيا بما أراده الله به، وفي الآخرة بخلوده في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]
من هدايات الآية:
- يبتلى الطيبون أحيانا بالأذى ممن لايظنون منهم الأذى ، لكن لحكمة الله البالغة تأتي العواقب طيبة ما دام العبد طيبا وإن تجرع في أثناء ذلك مرارات وألم الأذى.
- بينت الآية أثر قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، وسيجازيهم كل قدر ظلمهم، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}
- كل من تزعم شرا، فله النصيب الأكبر من العذاب عليه، ألا ترى الله قد جمع في ذكر الإثم لما قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} ثم أفرد في ذكر العذاب العظيم قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]
12 - (لَوْلَا) هلَّا، للتوبيخ والزجر، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) حين سمعتم هذا الإفك العظيم (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) أي: ظنوا بقلوبهم سلامة من افتُرِي عليه ذلك من إخوانهم المؤمنين، وهي عائشة رضى الله عنها لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وبصفوان إذا لو كانوا مكانه ما كان منهم إلا الخير، وما كان منه رضى الله عنه إلا الخير، والتعبير بأنفسهم عن غيرهم من إخوانهم المؤمنين بيان لعظم أمر الإخوة في الدين، التي تجعلهم كأنهم نفس واحدة، وشبيه بهذه الآية قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] والمقصود لا يكون هذا منكم في حق المؤمنين، فعبر عن المؤمنين بالأنفس، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) وقالوا: هذا كذب واضح، بالغ الغاية في البيان، كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره، ومثله في القرآن قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4].
سبب النزول:
روى ابن جرير الطبري: أن أبا أيوب الأنصارى، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك
من هداية الآية:
- عتاب الله للمؤمنين لعدم ظنهم الخير بأنفسهم ورد الأكاذيب في مهدها.
- حسن الإيمان يقتضى من العبد حسن الظن بالمؤمنين.
- اتهام المؤمن لأخيه بمثابة إتهامه لنفسه، وحسن ظنه به بمثابة حسن ظنه بنفسه، لقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]
- المؤمنون وإن كانوا إفرادا فبدخولهم خظيرة الإيمان يصيرون نفسا واحدة.
- وجوب رد الأشاعات الباطلة ورفضها بشدة، وينبغي على المسلم التحرى في الإخبار، قال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
- الإيمان يجعل للعبد فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، والصدق والإفك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقد بين هذا قوله تعالى هنا: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]
13 - (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) هلَّا أتى المفترون على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - على فريتهم العظيمة بأربعة شهود يشهدون على صحة ما نسبوا إليها، (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ) - ولن يأتوا بهم أبدًا- (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) فهُم كاذبون في حكم الله، وصيغة الحصر في قوله: {عند الله} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
من هدايات الآية:
- هدت الإية إلى قاعدة مهمة، وهي أن كل إتهام يلزمه، وبعدمها فالمدعي كاذب حتى يأتي بها، إلا في الملاعنة بين الزوجين تقوم الأيمان بدل الأدلة.
- رحمة الله بالمؤمنين، إذ جعل الكذب عليهم كذبا عنده، مما يغلظ ويبشع جريمة الإفتراء على المسلمين.
- من رمى المؤمنين لابد له من أربعة شهداء فإن أتى بثلاثة ولم يأت بالرابع كان هو والثلاثة كذبة، يقام عليهم الحد جميعا.
14 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ) الفضل: الزيادة، أي لولا فضل الله عليكم وزيادته التي تفضل بها عليكم من جلب الخير ودفع الضرر، وتوبته وعفوه وتجاوزه عنكم، إلا في حد التأديب وهو فضل من الله أيضا (عَلَيْكُمْ) الخطاب للذين خاضوا في حديث الإفك من المسلمين (وَرَحْمَتُهُ) بكم سبحانه وتعالى حيث لم يأخذكم بأمر عارض، بل غفر لكم، وأي رحمة أعظم من غفران لعمل كان منهم بجهالة، ثم تابوا من قريب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) - حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، وتاب على من تاب منكم - (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) لأصابكم بسبب ما خضتم فيه من الكذب والافتراء، والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم، (عَذَابٌ عَظِيمٌ) وقد نجا منه التائبون، واكتفي الله في أمرهم بالحد وهو الجلد، لأن قذف المؤمنين أذى لهم ولا تتم التوبة إلا برد المظالم لأهلها، ورد المظلمة للمقذوف بالزور أن يقام الحد على قاذفه، أما أهل النفاق فهم المستحقون للعذاب العظيم له لقوله تعالى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]
من هدايات الآية:
- بيان حلم الله تعالى، وأنه لم يأخذ النفر الذين زلوا وخاضوا في حديث الإفك مع المنافقين، بل أمهلهم، وشرع لهم الحد الدنيوي ليطهرهم ويؤدبهم به في الدنيا فلا يؤاخذهم به في الآخرة، مع أنه فعل شنيع.
15 - (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) إذ يرويه بعضكم عن بعض وتتناقلونه بأفواهكم مع بطلانه، من وَلْقِ الكذب، وهو الاستمرار عليه؛ فذمّهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به، وهو نحو قوله: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء: 36]، ولذلك قال (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) أي و تقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب (مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) وتظنون أن ذلك سهل هين لا إثم فيه بالنسبة لكم، (وَهُوَ) أي: هذا الذي خضتم فيه (عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) كبير إثمه لما فيه من الكذب على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فاق في الحرمة عرض أي مسلم لأن ما نسب إلى الله عظم أمره.
من هدايات الآية:
- الخوض باللسان قد يوقع الإنسان في الآثام العظيمة، التي تفوق جرما غيرها من فعل الجوارح.
- بيان شناعة رمي بيت النبوة بهذه الجريمة الأخلاقية، التي هم أنزه خلق الله من الإنس والجن عنها وأطهرهم منها.
- بيان علو ورفعة منزلة بيت النبوة عند الله تعالى، لقوله تعالى هنا: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وقد ذكر عظم شأن بيت النبوة بقوله في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]
16 - (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) وهلَّا إذ سمعتم هذا الإفك (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا) أي: ما يجوز ولا يصح لنا (أَنْ نَتَكَلَّمَ) بألسنتنا (بِهَذَا) أي بحديث الإفك، وما تناولته الألسنة، وهذا حال المؤمن ألا يتكلم أو يخوض في شيء بغير حق، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] (سُبْحَانَكَ) تنزيهًا لك ربنا أن يقال هذا عن عرض حليلة نبيك وخليلك (هَذَا) الَّذي رموا به أم المؤمنين (بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) أي كذب لفظاعته يتحير منه المؤمن عند سماعه، والبهتان أن يقال في الإنسان بالكذب ما ليس فيه، كما في قوله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، وما حدث لأم المؤمنين عائشة من الرمي بهتانا فقد حدث لمريم ابنة عمران من قبلها، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156]، فهي السنن في الأمم.
من هدايات الآية:
- وجوب الإمساك والبعد عن الخوض في الأحاديث الباطلة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16]
- بيان أن الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من التفوه بكل ما وصل أذنه، ولهذا لما سمعت أمن المؤمنين زينب رضى الله عنها ذلك، أمسكت، كما صح في السنة من حديث عائشة رضى الله عنها، أنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي مَا عَلِمْتِ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا.
- على المؤمن أن ينزه الله عما لا يليق به، لقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، ووجه تسبيح الله وتنزيهه هنا، أن الله تعالى تنزه عن أن يجعل مثل هذا في بيت النبوة، وقد زكاه في غيره من الآيات الكريمات، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فما كان الله ليطهرهم ويزكيهم ويكون هذا منهم، لذا قال العالمون ومن أشرقت في نفوسهم وقلوبهم أنوار الإيمان: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
17 - (يَعِظُكُمُ اللَّهُ) يذكِّركم الله وينصحكم وينهاكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أي: أن تعودوا لمثل هذا الإفك فترموا بريئًا بالفاحشة (أَبَدًا) أي مدة حياتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان ينهى عن هذا الخلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فإن كان هذا أثر الصلاة وهي إحدى شعب الإيمان، فكيف بأثر الإيمان بشعبه جميعا؟
من هدايات الآية:
- بيان شأن أهل الإيمان عند الله تعالى، إذ تولى موعظتهم بنفسه مرتين، كما في قوله (يَعِظُكُمُ اللَّهُ) المرة الأولى، لأجل شأن عرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لأجل شأن عائشة رضى الله عنها، ثم لأجل الموعظين أنفسهم ثالثا، والكل ذو منزلة في ولاية الله تعالى.
- بيان السنة الربانية في الدفاع عن أهل الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، فقد تولي الله تعالى تبرئة عائشة في كتابه الكريم.
- بيان أن الأمر إذا كان بين المؤمنين فإن الله يتولي الفريقين ولا يحابي أحدا على حساب أحد، فقد تولي تبرئة عائشة وفي الوقت نفسه وعظ المؤمنين ومن ضمنهم الذين خاضوا، وطهرهم بإقامة الحد عليهم، فشملت رحمته، المعتدي والمعتدي عليه من أهل الإيمان كل بما ناسب عمله، والله أعلم.
- وعظ الله المؤمنين بنهيهم للعودة إلى مثل هذا الخوض نهى مؤبد لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]
- من كمال الإيمان عدم العودة إلى مثل ذلك من الوقوع في أعراض المسلمين، لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]
18 - (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) ويوضّح الله لكم ويفصل الآيات المشتملة على أحكامه ومواعظه ليزكيكم، كما في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بأفعالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيكم عليها، (حَكِيمٌ) في تدبيره وشرعه.
من هدايات الآية:
- تبين الآيات والأحكام الشرعية منحة ربانية للمجتمع المسلم، إذ كان يكفي أن يذكر الله أنه يبين الآيات، ولكنه قال ((لكم) وهذا زيادة في مبنى الكلام، والقاعدة أن زيادة المبنى زيادة المعني، وزيادة المعني هنا منها بيان تفضل الله ونعمتة كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
- تبيين الله للآيات الشرعية والكونية، حجة على خلقه، لذا ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يكون منكم بعد هذا التبيين، حكيم بوضع الأمور في مواضعها من ثواب أوعقاب.
19 - (إِنَّ الَّذِينَ) توكيد وإشارة إلى أن المنافقين (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أي: إن الذين يحبون أن تنتشر المنكرات وأن ينتشر قذفهم (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: أم المؤمنين وصفوان ومن له صلة بهما، فالمنافقون دوما يحبون الشر للمؤمنين، كما في قوله تعالى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا) أي: لهم عذاب موجع في الدنيا بإقامة حد القذف عليهم، (وَالْآخِرَةِ) أي: يوم القيامة لهم عذاب جهنم، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) والله يعلم كذبهم، وما في إشاعة الفاحشة وتداول ذكرها من مفاسد يؤول أمر العباد إليها، فالله يعلم مصالح عباده، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) تجهلون حقائق ما يكون وتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم} [النور: 15].
من هدايات الآية:
- أن الله جعل لمن يحبون (مجرد الحب) أن تشيع الفاحشة وتنتشر في المجتمع المسلم، قد جعل الله لهم العذاب الأليم الذي يصلونه، ويكتون بناره، والذي قد يطول ذواتهم أو أقاربهم وأحبابهم من الذرية والأهل، سواء شاهد المجتمع عذابهم أو لم يشاهدوه، فهذه هي الحقيقة التي أخبرنا عنها علام الغيوب المطلع على خفايا الأمور، فكيف بمن يبذلون الأسباب من سن قوانيين ومحاربة الدين لأجل أن تشيع الفاحشة في المؤمنين؟
- إثبات علم الله التام بكل شيء، لقوله تعالى: {يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فهو العليم بما كان من أمر المنافقين وترصدهم لإصطياد ما يثيرون به الفتن في المجتمع المسلم، وهو العليم بما يكون من عواقب الأمور، وهو الحكيم في أفعاله القدير على كل شيء، والذي حول المحنة في حق عائشة إلى منحة وتزكية سجلت في كتابه الكريم الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار في مشارق الأرض ومغاربها إلى آخر الزمان.
20 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ولولا تفضّل الله عليكم يا من تكلمتم بألسنتكم وخضتم في حديث الإفك مثل مسطح وحمنة بنت جحش وغيرهما (وَرَحْمَتُهُ) بكم (وَأَنَّ اللَّهَ) أي: ولولا أن الله (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) بكم، لعاجلكم بالعقوبة، فالله يتفضل على المؤمنين ليزكيهم قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] فالله يتفضل على من يشاء من عباده كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]
من هدايات الآية:
-أن الله ذو فعل على عباده المؤمنين، ولا يمنع فضله عنهم ولو وقع بعضهم فيما لا يحبه ويرضاه، فهو الحليم الذي يمهل المذنب، والرحيم الذي يتولي المؤمن.
- على العبد أن يستحي من الله، الذي يتولاه برأفته ورحمته، فلا يقابل من فعله من حيث الرأفة والرحمة بما لا يحبه وبما لا يرضيه.
- إثبات إسمين من أسماء الله تعالى وهما الرؤوف والرحيم.
21 - (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ينادي الله الذين عرفت قلوبهم التوحيد وأقرت به وعملوا بشرع الله بالله (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: لا تتبعوا طرق الشيطان في تزيينه للباطل، وذلك لعداوته، فتزيين الباطل وستر مضاره من مسالك الأعداء، وقد بين ذلك سبحانه في سورة الانعام، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142] فتزيين الباطل وما جاء بعد أعداء الدين من نظم وأفكار يناهضون به تشريعات الإسلام إنما هو شغل أعدائنا من بني جلدتنا ولو كانت إسماءهم عربية، تلقونه عنهم ويشيعونه في بلادنا، فلقد أقسم الشيطان بعزة الله أن يغوي بني آدم قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] لذا حذرنا الله من الشيطان وخطواته (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: ومن يتبع طرقه (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) يحبب ويزين للعبد ليأتي (بِالْفَحْشَاءِ) بالقبيح من الأفعال والأقوال (وَالْمُنْكَرِ) ويأمر بالأمر السيء الذي ينكره الشرع، لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168 - 169] (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي: ولولا فضل الله عليكم -أيها المؤمنون- (مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) زكى: بمعنى طهر، طهارة معنوية من دنس الشرك والذنوب، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10]، والمعنى هنا: ما طهر منكم من أحد أبدًا بالتوبة إن تاب، ولا إهتدى أحد منكم لشئ من الخير أيها العصبة (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي) أي: يطهّر بقبول توبة وبهداية (مَنْ يَشَاءُ) من يريد من عباده، فالتزكية هنا هي محض فضل الله ورحمته، فلولا الله ما زكا أحد من خلقه، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم، (عَلِيمٌ) بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيكم عليها.
من هدايات الآية:
- بيان أهمية ما في هذه الآية لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد صدر الخطاب بالنداء للتنبيه والإهتمام بما سيتلى.
- تشريف الله للمؤمنين إذا ناداهم بوصف الإيمان فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
- أن بعض الأعمال تكون من مستصغر الأمور والخواطر، فالشيطان لا يأتي للإنسان ويقول له إفعل الفاحشة أو أقتل من أول لحظة، بل يأتي خطوة خطوة، يبدأ بأمور قد لا تبدو خطورتها ولكنه يواصل في الإغواء بما هو أعلى، خطوة بعد خطوة حتى يوقع الإنسان في عظائم الأمور.
- أفضال الله على عباده متتالية متوالية، فمن شكرها زيد حظه منها.
- الهداية إلى تزكية النفوس محض فضل من الله.
22 - (وَلَا يَأْتَلِ) أي لا يحلف ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي: أصحاب الغني واليسر، والمقصود هنا الصديق رضى الله عنه، لأن الآية أنزلت فيه، (وَالسَّعَةِ): الغنى والطول، لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] (أَنْ يُؤْتُوا) أي: على ترك إعطاء (أُولِي الْقُرْبَى) أي: أقاربهم الفقراء (وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لذنب ارتكبوه، والمسكين: هو الذي لا يجد ما يكفيه، ولا يمنع أن يكون عنده بعض المال، لكن لا يكفيه، كأصحاب السفينة في سورة الكهف قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]، فكونهم يملكون سفينة لم يرفع عنهم حكم المسكنة، لأنهم لا يجدون ما يكفيهم، وسمى مسكين لأن الفقر أسكنه وأذله (وَلْيَعْفُوا) عنهم، وأصل العفو: من عفت الريح الأثر إذا طمسته (وَلْيَصْفَحُوا) عنهم، والصفح: ترك التثريب واللوم، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته قال تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، ولقد حث الله المؤمنين على العفو عن بعضهم في غير آية كقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، وبين سبحانه هنا أنه بعفوهم وصفحهم ينالون مغفرة الله لما قال: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) ذنوبكم إذا عفوتم عنهم وصفحتم؟! ففهم من هذا أن العفو والصفح يستلزمان مغفرتهم لذنوب إخوانهم المؤمنين، لأنه سبحانه وتعالى علق المغفرة في آية أخرى على العفو والصفح والمغفرة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14] فزاد هنا ذكر المغفرة، ووهذا المعنى موجود في قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133 - 134]
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب من عباده، رحيم بهم، فليتأسّ به عباده. نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وبعض الصحابة لما حلفوا على ترك الإنفاق على من خاض حديث الإفك، وهذا المعنى الذى أشارت إليه الآية من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين، جاء في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً للامتناع من فعل الخير.
سبب النزول: أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، فقال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه: واللَّه لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى .. ) الآية قال أبو بكر: بلى والله إني لأُحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
من هداية الآية:
- أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن عفى وصفح عن مقدرة، كافأه الله بمغفرته.
- رحمة الله بالتائبين، وإقالة عثراتهم، إذ يحث الله أبو بكر رضى الله عنه على العفو والصفح عن مسطح رضى الله عنه، وقد تاب.
- الله حث أبا بكر على الإحسان لمسطح في هذه الآية ثلاث مرات، الأولى لأنه من قرابة أبي بكر، والثانية لأنه من المساكين، والثالثة لأنه من المهاجرين في سبيل الله، وهذا يبين عظم رحمة الله وسعة رحمته بالتائبين.
- في الآية بيان صدق توبة مسطح رضى الله عنها، لأنه لولا صدقه في توبته ما لقى كل هذه الرحمة من الله تعالى ظن فلا يحسبن التائب أنه بتوبته يضيع، بل يدخل في واسع رحمة رب العالمين.
- وفي الآية حث للمذنبين على التوبة، لأن بها يلقى العبد من عناية الله به ما لا يجده وهو مقيم على الذنوب والمعاصي.
-حث المؤمن على مداومة الخير الذي يفعله، ولا يمنعه لسوء صدر ممن أحسن إليه، فإنما الباذل يبذل لطيب معدنه، فلا ترده إساءة المسيء عن ما جبله الله عليه من خصال الخير، فالبقاء عليها شكر لها، ودوام النعم بشكرها.
- وفي الآية رد على المعتزلة الذين قالوا إن الكبائر تحبط العمل، فمع ما أتاه مسطحا، فإن الله رغبه في التوبة وفتح له بابها، وأثبت له هجرته في سبيل الله، لقوله تعالى: (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومن المقصودين بها مسطح، لأنه الخائض من ذوي القرابة لأبي بكر ومن المساكين الذين حث الله أبا بكر على منع خيره عنهم.
- قوة إستجابة الصحابة للقرآن، فها هو أبو بكر رضى الله عنه، يستجيب ويعزم على عدم العود لمنع إحسانه إلى مسطح رضى الله عنها ويقول: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
- من حلف على شيء ووجد الأفضل في غيره، فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير.
- دل إجتماع إسمى الله الغفور والرحيم على زوال ما يرهبه التائبون، وحصول ما يرجونه من رحمة الله بسبب توبتهم.
23 - (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) أي يتهمون العفائف بالزنا، ولم يذكر هنا المؤمنين لأن من رمى إمرأة رمى معها رجل، وهذا كمثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وتقيكم البرد أيضا (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا) واللعن في الدنيا: التفسيق، وحد القذف، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، فليس لهم فيها ذكر طيب، ولا كرامة لهم، ولا احترام لخساسة نفوسهم (وَالْآخِرَةِ) واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله، وقال تعالى فيمن يؤذون رسول الله، ورمي زوجه إيذاء له {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: عذاب جهنم، إن لم يتوبوا ويصلحوا، لقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 59]
من هدايات الآية:
- ولاية الله للمؤمنين، وإنزاله العقوبات، الدنيوية والأخروية لمن يعتدي عليهم.
- صلاح حال العباد وصلاح معاشهم، نعمة من الله، فالطرد والإبعاد من رحمة الله في الدنيا من صورها، فساد أحوالهم وتعثر معاشهم وسوء خلطتهم بغيرهم من الناس.
24 - يحصل لهم ذلك العذاب يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) بما نطقوا به من الباطل، وتشهد عليهم (وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وفي آية أخرى جعل الله الختم على الأفواه والنطق للأيدى والشهادة للأرجل، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، أما هنا فجعل الشهادة للألسن لأنها الأصل في إشاعة الإفك، فأنظق الله أحق الشهداء عليهم وهي ألسنتهم، والله أعلم، وقد ناسب ذكر هذه الأعضاء لأن لها عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
من هدايات الآية:
- المرء في الآخرة على طبعه وخلقه الذي كان عليه في الدنيا، فالذين يرمون المحصنات ويجحدون في الدنيا عفة المؤمنين والمؤمنات، يجحدون في الآخرة جريمتهم، فينطق الله ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم لتنطق بالحق عليهم.
- أن جوارح الإنسان وهي منه تشهد عليه بما كسب من الإثم، فالإثم رذيلة يأباهاكل الخلق إلا خبيثو الإنس والجن، بل تأباها الجوارح التي فعلتها، ولولا تسخيرها للإنسان ما فعلتها.
- أساس التكليف على النفس، وما الجوارح إلا وعاء لتلك النفس.
25 - (يَوْمَئِذٍ) أي: يوم القيامة (يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ) أي يؤدي إليهم كاملا (دِينَهُمُ) أي: جزاءهم بعدل، لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: يوم الجزاء، ولقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] أي يوم القيامة، (الْحَقَّ) أي: الواجب عليهم جزاء ما إقترفوه، وقد بين الله عز وجل في آيات آخر هذا المعني قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبين} [الأنبياء: 47]، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فكل ما يصدر عنه من خبر أو وعد أو وعيد حق واضح لا مرية فيه، وهذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين، لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين، أما غير المؤمن فبالموت يعاين الحقائق حيث لا ينفعه ساعتها إيمان، مثلما كان من فرعون لما عاين الغرق كما في قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 90 - 92] وقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، فحين يوفيهم الله جزاءهم الحق يعلمون ساعتها أن الله هو الحق المبين.
من هدايات الآية:
- أن أعمال العباد تسجل، لا يضيع منها شيء، ليجازوا بها يوم القيامة.
- أن الجزاء الكامل على الأعمال إنما يكون في الآخرة.
- أن الله حكم عدل، لا يظلم ولا يجور، إنما هي أعمال العباد يوفيهم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
26 - (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) أي: كلّ خبيث من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مناسب وموافق لما هو خبيث، والخبيث: هو الخسيس الحقير، وفي هذا الجزء من الآية تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الخبيثات للخبيثين} تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك، أما عائشة والمؤمنون فمبرأون من مثل هذا الخبائث (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) وكل طيب من ذلك مناسب وموافق لما هو طيب، والطيب: المتحلي بالخير والصلاح، وقد بين الله أنه إن أبدل نبيه بزوجات غير اللاتي معه فسيبدله بالطيبات فهو الطيب سيد الطيبين فلا تناسبه إلا الطيبات قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] والصفات المذكورة هي من صفات الطيبات، فالطيب لا يسأل إلا طيبا ولا يرغب إلا في طيب فها هو نبي الله زكريا لما طلب الذرية، ما طلب مجرد الذرية ولكنها طلبها طيبة، قال تعالى حكاية عنه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وهذا الجزء من الآية (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) كفيل وحده برد الطعن عن أم المؤمنين رضى الله عنها، لأنها لو لم تكن طيبة ما إختارها الله زوجا لنبيه صلى الله عليه وسلم، لهذا أتبعه سبحانه بقوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي عائشة وصفوان رضى الله عنهما، مُبَرَّؤون مما يقوله عنهم الخبيثون والخبيثات، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي: للطيبين وللطيبات مغفرة من الله يغفر بها ذنوبهم، ولهم عطاء من الله حسن وفير في الجنّة، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]
من هدايات الآية:
- كل جنس له ما يلائمه من نوعه، من الأقوال والأعمال والذوات، فلا يتوافق الخبيث إلا مع الخبث، ولا تستقيم حياة الطيب مع الخبيث، ولا يهنأ الخبيث بمعاشرة الطيب، لأن نفسه الخبيثة لا يسرها العيش إلا مع خبيث مثلها، وقد بين الله تعالى ذلك في قوله عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
- بيان براءة عائشة رضى الله عنها، وذلك لأن الطيب وهو الرسول ما كان ليخالط غير طيبة وهي عائشة رضى الله عنها.
- وبراءتها من جهة أخرى وهي ما كان ليصدر منها وهي الطيبة إلا الطيب من الأقوال والأعمال.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين