حاجتنا إلى الاستغفار

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
10
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
حاجتنا إلى الاستغفار
إن الإنسان يتقلب في حياته بين أمور ثلاثة لا رابع لها : نِعَمٍ وابتلاءات وذنوب، وواجب الإنسان نحو النعم شكرها، ونحو الابتلاءات الصبر عليها، ونحو الذنوب التوبة والاستغفار.
والعبد مهما اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر ، وحق الله سبحانه عليه أعظم ، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير ، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها ؛ وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح ، بحيث يفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم ؛ فمالك الملوك ورب السماوات والأرض أولى أن يعامل بذلك ، بل بأضعاف ذلك ، وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه ، ولا قريبًا من حقه علم تقصيره ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه وعدم القيام بما ينبغي له من حقه ، وأنه إلى أن يغفر له العبودية (التي فيها التقصير) ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثوابًا ، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي لكانت مستحقة عليه بمقتضى العبودية ، فإنَّ عمل العبد وخدمته لسيده مستحق عليه بحكم كونه عبده ومملوكه ، فلو طلب منه الأجرة على عمله وخدمته لعده الناس أحمق وأخرق ، هذا وليس هو عبد لسيده ولا مملوكه على الحقيقة ، بل عبد ومملوك على الحقيقة من كل وجه لله سبحانه ، فعمله وخدمته مستحق عليه بحكم كونه عبده ، فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنة وإحسان إليه لا يستحقه العبد عليه ( 1 ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله : فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر ، وذنب منه يحتاج فيه إلى استغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا ، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار .
ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال : قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ( آل عمران : 17 ) ؛ قال بعضهم: أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال : استغفر ثلاثا ، وقال : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . وقال تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } إلى قوله : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } ( البقرة : 198 ، 199 ) ، ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار ، كما قال الله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا } ( هود : 1-3 ) وقال تعالى: { فاستقيموا إليه واستغفروه } ( فصلت : 6 ) ، وقال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ( محمد : 19 ) ، ولهذا جاء في الحديث : " يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار " ، وقال يونس : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ( الأنبياء : 87 ) ؛ وكان النبي  إذا ركب دابته يحمد الله ، ثم يكبر ثلاثا ، ويقول : " لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي " ؛ وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس والوضوء : " سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».ا.هـ ( 2 ) .
وهذه كلمات طيبات في معنى الاستغفار وأهميته في حياة المسلم ، دعانا إلى التذكير بها حاجتنا إلى الاستغفار ، فحاجة المؤمن إلى الاستغفار من الذنوب ، كحاجته إلى الماء للنظافة من أوساخ البدن ، فالذنوب وسخ القلب ، والاستغفار هو الماء الذي ينظفه من هذا الوسخ .
روى أحمد وأهل السنن إلا أبا داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، فإن زاد زادت ، حتى تعلو قلبه ؛ وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } (المطففين : 14) لفظ أحمد( 3 ) . فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم؛ وقد ذكر عن آدم أبى البشر انه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه، وذكر عن إبليس أبى الجن ـــ لعنه الله ـــ أنه أصر متعلقا بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب واستغفر وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن أذنب فأصر واستكبر فقد أشبه إبليس.
_______________
1 - انظر رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه: 42: 44 بتصرف يسير.
2 - التحفة العراقية: 1 / 79، 80.
3 – أحمد: 2 / 297، وابن جرير: 30 / 62، 63، والترمذي (3334) وصححه، والنسائي في الكبرى (10251، 11658)، وابن ماجة (4244). ورواه ابن حبان (930، 2787)، والحاكم: 2 / 517 وصححه ووافقه الذهبي، وإسناده حسن.
 
معنى الاستغفار
الاستغفار في اللغة استفعال من الغفر، وأصل الغفر التغطية والستر، فالغفر والمغفرة التغطية من الذنوب والعفو عنها. والألف والسين والتاء للطلب، فالاستغفار طلب المغفرة، فالمستغفر طالب لمحو ذنبه وإزالة أثره ووقاية شره ، ويستلزم ذلك ستره. والله تعالى هو الغفور الغفار وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الستّيرُ لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم.
الاستغفار التام
قال بعض الصالحين: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين.
قال ابن جرير - رحمه الله: لو كان المواقِع الذنب مصرًّا بمواقعته إياه لم يكن للاستغفار وجه مفهوم ، لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ( 1 ) .
وقال القرطبي - رحمه الله : قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقدة الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه : استغفر الله ، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقة بالكبائر ، وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .
قلت : هذا يقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبًّا على الظلم ، حريصًا عليه ، لا يقلع ؛ والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه ؟! وذلك استهزاء منه واستخفاف ، وفي التنزيل : { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } (البقرة:231)( 2 ).
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله : وقوله تعالى : { ولم يصروا على ما فعلوا } (آل عمران:135) فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب ، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب ( 3 ). فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار ، كما مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة .
قال بعض العارفين : من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره .
وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي  قال: " ارحموا ترحموا ، واغفروا يغفر الله لكم ، ويل لأقماع القول ، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " ( 4 ).
______
1 - تفسير ابن جرير: 4: 98.
2 - تفسير القرطبي: 4: 210.
3 - فتح الباري: 11: 99.
4 - أحمد: 2 / 165، 219، وعبد بن حميد (320)، والبخاري في الأدب (380)، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب ، وحسنه الحافظ في الفتح : 1 / 112. (وأقماع القول) أي : الذين يجعلون آذنهم كالأقماع .
 
تذكرة ثمينة ؛ فبارك الله فيك وجزاك الجنة
 
بين الاستغفار والتوبة
بين الاستغفار والتوبة علاقة تضمن أو تلازم بحسب ورود لفظ الاستغفار مفردًا أو مقرونًا بلفظ التوبة.
قال ابن تيمية - رحمه الله : الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال ، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به ، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو ، وقد يدعو ولا يتوب ؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : " أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال الله تبارك وتعالى : [ أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ] ؛ ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : [ عبدي أذنب ذنبًا ، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ] ، ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تعالى : [ أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، قد غفرت لعبدي ] " وفي رواية لمسلم : " فليفعل ما شاء " ؛ والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة ، قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } ( سورة الزمر 53 ) وهذه لمن تاب ، ولهذا قال : { لا تقنطوا من رحمة الله } بل توبوا إليه ، وقال بعدها : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } ( الزمر: 54) .
وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب ( 1 ) .
وقال السبكي - رحمه الله - في ( قضاء الأرب في أسئلة حلب ) : والاستغفار طلب المغفرة ، إما باللسان ، أو بالقلب ، أو بهما . فالأول فيه نفع ، لأنه خير من السكوت ، ويتعود قول الخير ، لكن فيه نقص للغفلة . والثاني والثالث نافعان جدًّا ، ولا نقص فيهما ، لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، فإن الاستغفار غير التوبة ، لأن الاستغفار طلب المغفرة ، والعاصي المصر يطلب المغفرة( 2 ) .
قال مقيده عفا الله عنه : كأنه يريد أن يقول : إن الإصرار يضاد التوبة لكنه لا يضاد الاستغفار ، وهذا الذي دعا بعض العلماء أن يفرق بين الاستغفار والتوبة .
قال ابن القيم - رحمه الله : وأما الاستغفار فهو نوعان : مفرد ومقرون بالتوبة ؛ فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارًا } (نوح: 10، 11) ، وكقول صالح لقومه : { لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون } (النمل: 46) ، وكقوله تعالى : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } (البقرة: 199) ، وقوله : { وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } (الأنفال: 33) .
والمقرون كقوله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } (هود: 3) ، وقول هود لقومه : { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا } (هود: 52) ، وقول صالح لقومه : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب } (هود:61)، وقول شعيب : { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } (هود: 90) .
فالاستغفار المفرد كالتوبة ، بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله ، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره ؛ لا كما ظنه بعض الناس أنها (أي : المغفرة) الستر فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له ، ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه ، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم ، وحقيقتها : وقاية شر الذنب ، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى ، والستر لازم لهذا المعنى ، وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرًا ولا القبع ونحوه مع ستره ، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية ؛ وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } (الأنفال: 33) فإن الله لا يعذب مستغفرًا ، وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ، ولهذا لا يمنع العذاب ، فالاستغفار يتضمن التوبة ، والتوبة تتضمن الاستغفار ، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ؛ وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى ؛ والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله .
فهاهنا ذنبان : ذنب قد مضى ، فالاستغفار منه طلب وقاية شره ؛ وذنب يخاف وقوعه ، فالتوبة : العزم على أن لا يفعله ؛ والرجوع إلى الله يتناول النوعين : رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله ، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقًا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود ، فهو مأمور أن يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته والتي توصله إلى مقصوده ، وفيها فلاحه .
فهاهنا أمران لا بد منهما : مفارقة شيء ، والرجوع إلى غيره ؛ فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين ، ولهذا جاء – والله أعلم – الأمر بهما مرتبًا بقوله : { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } فإنه الرجوع إلى طريق الحق ( أي بالتوبة ) بعد مفارقة الباطل ( بالاستغفار ) .
وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة ، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب ، والتوبة أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه ، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم.ا.هـ ( 3 ) .
وقال ابن رجب - رحمه الله : وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة ، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان ، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح ؛ وتارة يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة كما ذكر في هذا الحديث ( لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك )( 4 ) ، وما أشبهه ؛ فقد قيل : إنه أريد به الاستغفار المقترن بالتوبة ؛ وقيل : إن نصوص الاستغفار كلها المفردة مطلقة تقيد بما ذكر في آية آل عمران من عدم الإصرار ، فإن الله وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يصر على فعله ، فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا القيد ، ومجرد قول القائل : اللهم اغفر لي طلب منه للمغفرة ودعاء بها ، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه ، لاسيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب ، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات ؛ ويروى عن لقمان أنه قال لابنه : يا بني عود لسانك : اللهم اغفر لي ، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا( 5 ) .
وصفوة القول : أن الاستغفار إذا أفرد ووافق اللسان القلب فيه تضمن التوبة ، أما إذا كان باللسان فقط مع إصرار صاحبه على الذنب ، فهذا استغفار يحتاج إلى استغفار .
أستغفر الله من أستغفر الله ... كلمة خرجت خالفت معناها​
يريد أن يقول إن استغفاره كان باللسان فقط ، ولكنه خالف مضمونها وهو الإقلاع ، فكان هذا الاستغفار يحتاج منه إلى استغفار ؛ وأما إذا اقترن مع التوبة فكل منهما يحمل معنى بذاته كما ذكر ابن القيم وابن رجب رحمهما الله . والعلم عند الله تعالى .
__________
1 - منهاج السنة النبوية: 6 / 211، 212.
2 - قضاء الأرب: 170، تحقيق محمد عالم - المكتبة التجارية - مكة المكرمة.
3 - مدارج السالكين ج: 1 ص: 307: 309.
4 - وهو جزء من حديث صحيح رواه الترمذي عن أنس.
5 - جامع العلو م والحكم: 394.
 
فضل الاستغفار
وقد ورد في الاستغفار وفضله والحث عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ، وأذكر ها هنا شيئًا من ذلك :
أولا: من القرآن الكريم :
اعلم – علمني الله وإياك الخير - أنه كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به كقوله سبحانه: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } (المزمل: 20) . وقوله تعالى: { وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } (هود: 3) .
وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: { والمستغفرين بالأسحار } ( آل عمران: 17 ) ، وقله عز وجل : { وبالأسحار هم يستغفرون } ( الذارايات ) ، وقوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } (آل عمران: 135).
وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى : { ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } (النساء: 110)؛ إلى غير ذلك من الآيات .
وأرجى آية في القرآن الكريم هي قوله تعالى : { قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يعفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } (الزمر: 53).
ثانيا : من السنة المطهرة :
جاءت الأحاديث في بيان فضل الاستغفار ، فمن ذلك :
1 – ما روى أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " ( 1 )
2 - وروى أحمد والطبراني والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي" ( 2 ).
3 - وروى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً " ( 3 ).
4 - روى أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه قال: " أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ " ( 4 ). لفظ مسلم .
والمعنى: مادمت تذنب ثم تتوب مقرًّا بالذنب غير مصر عليه، غفرت لك.
قال القرطبي في (المفهم على صحيح مسلم): يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان، لينحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث: " خياركم كل مفتن تواب "، ومعناه: الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، لا من قال: أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار.
وفائدة هذا الحديث : أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه.ا.هـ. وقال النووي في شرح مسلم: لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة قبلت توبته، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته. ا.هـ. قلت: دليل الأول حديث أبي هريرة المتقدم، ودليل الثاني حديث الذي قتل مائة نفس.
5 - وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف " ( 5 ) . والمراد ـــ كما سبق ـــ أن يقولها تائبا نادمًا ، لا مصرًّا على الذنب.
6 - وروى أحمد والأربعة عن علي رضي الله عنه قال : إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر رضي الله عنه ، وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ؛ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ } إِلَى آخِرِ الآيَةِ (آل عمران: 135)" ( 6 ) .
__________
1 - أحمد: 2 / 305، 309، ومسلم (2749).
2 - أحمد: 3 / 29، 41، 76، وإسناده صحيح، وأبو يعلى (1273)، والطبراني (8788)، والحاكم: 4 / 261، وصححه ووافقه الذهبي.
3 - الترمذي (3540)، وله شاهد عند أحمد: 5 / 167، من حديث أبي ذر، وفيه شهر بن حوشب، مختلف فيه، وقواه البخاري، فالحديث حسن بمجموعهما.
4 - أحمـد: 2 / 296، 405، 492، والبخاري (7507)، ومسـلم (2758)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (422).
5 - المستدرك: 1 / 511، وقال صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي فقال: أبو سنان هو ضرار بن مرة لم يخرج له البخاري. قلت: ترجم له ابن حجر في التقريب: 1 / 374 (22) قال: ثقة ثبت، وأشار أن البخاري روى له في الأدب المفرد. فالحديث صحيح على شرط مسلم.
6 - أحمد: 1 / 2، 9، وأبو داود (1521)، والترمذي (406، 3006)، وحسنه، والنسائي في اليوم والليلة (417: 420).
 
الرسول e والاستغفار

أمر الله نبيه بالاستغفار في مواضع من كتابه، فقال: )إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا . وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا( (النساء:105، 106) .
وأمره بعد العلم بالتوحيد أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات فقال: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ( (محمد:19) .
وأمره مع الصبر بالاستغفار ، فقال : )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ( (غافر: 55) .
وأمره بعد أن بلغ الرسالة ، وجاهد في الله حق جهاده ، وأتى بما أمر الله به مما لم يصل إليه غيره ، فقال : )إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( (سورة النصر) .
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي e بعد ما نزلت هذه السورة كان لا يدع أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي " يتأول القرآن .
وكان e يستغفر في جميع الأحوال :
روى أحمد والبخاري وأهل السنن إلا أبا داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله e يقول : " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ". وفي رواية عند أحمد: " كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ " ( [1] ) .
وروى أحمد ومسلم والنسائي عن الأغر المزني قال : قال رسول الله e : " إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ " .
قال القاضي عياض - رحمه الله - ما خلاصته : المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه ، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبًا فاستغفر عنه ؛ وقيل : هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس ، وقيل : هو السكينة التي تغشى قلبه ، والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه ، وقيل : هي حالة خشية وإعظام ، والاستغفار شكرها ([2]) .
وعند أحمد وأهل السنن عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي e كان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " . والغفران مصدر ، وهو منصوب بإضمار أطلب ، والمعنى : أطلب غفرانك . وفي معنى الحديث قولان : أحدهما : التوبة من تقصيره في شكر النعم التي أنعم بها عليه بإطعامه وهضمه وتسهيله مخرجه فلجأ إلى الاستغفار من التقصير . والثاني : أنه e كان لا يترك ذكر الله بلسانه وقلبه إلا عند قضاء الحاجة ، فكأنه رأى ذلك تقصيرا فتداركه بالاستغفار .
وروى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عَنْ ثَوْبَانَ t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ " قَالَ الْوَلِيدُ : فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ([3]) .
وروى الأربعة عن ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ : إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِـدِ مِائَةَ مَرَّةٍ " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " ([4]) .
وروى النسائي وابن حبان عن أبي هريرة t قال : ما رأيت أحدا أكثر أن يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، من رسول الله e ([5]) .
قال ابن حبان : ولاستغفاره e معنيان : أحدهما : أن الله جل وعلا بعثه معلمًا لخلقه قولا وفعلا ، فكان يعلم أمته الاستغفار والدوام عليه لما علم من مقارفتها المآثم في الأحايين. والمعنى الثاني : أنه e كان يستغفر لنفسه عن تقصير الطاعات لا الذنوب ، لأن الله جل وعلا عصمه من بين خلقه ، واستجاب له دعاءه على شيطانه حتى أسلم ، وذاك أنه e كان إذا أتى بطاعة لله عز وجل داوم عليها ولم يقطعها ، فربما شغل بطاعة عن طاعة حتى فاتته إحداهما ، كما شغل e عن الركعتين اللتين بعد الظهر بوفد بني عبد القيس حيث كان يقسم فيهم ويحملهم حتى فاتته الركعتان اللتان بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ، ثم دوام عليهما في ذلك الوقت فيما بعد، فكان استغفاره e لتقصير طاعة أن أخرها عن وقتها من النوافل لاشتغاله بمثلها من الطاعات التي كان في ذلك الوقت أولى من تلك التي كان يواظب عليها، لا أنه e كان يستغفر من ذنوب يرتكبها. ا. هـ .
هذا والعلم عند الله تعالى .


[1] - أحمد : 2 / 282، 341، والبخاري (6307)، والترمذي (3259)، والنسائي في اليوم والليلة (438: 443)، وابن ماجة (3816) .



[2] - انظر شرح النووي على مسلم: 17 / 23، 24، وفتح الباري: 11/ 104(الريان للتراث).



[3]- مسلم (591)، أبو داود (1512)، والترمذي (300)، وابن ماجة (928).



[4] - أبو داود (1516)، والترمـذي (3444)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في اليوم والليلة (462: 464)، وابن ماجة (384).


[5]- النسائي في الكبرى (10288)، وابن حبان كما في الإحسان: (928).
 
أهمية الاستغفار في حياة المسلم
إن المسلم في حياته اليومية يحتاج إلى كثير من الاستغفار: لغفلة أو تقصير أو زلة، ومن هنا يعلمنا النبي e من قوله وفعله أن نكثر من الاستغفار. وتتضح أهمية الاستغفار إذا علمنا أن الصلاة - وهي أفضل الأعمال بعد التوحيد – علمنا فيها النبي e كثيرا من الاستغفار، ففي دعاء الاستفتاح: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب … " الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة، وفي الركوع والسجود: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " متفق عليه من حديث عائشة. وبين السجدتين " رب اغفر لي رب اغفر لي رب اغفر لي " رواه أحمد وغيره عن حذيفة، وقبل السلام " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أتت " رواه مسلم من حديث علي، ولما سأله الصديق t عن دعاء يدعو به في صلاته قال e: " قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ". هذا داخل الصلاة، وعلمنا e أن نقول بعد السلام: " أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله ".
فإذا كان هذا والمسلم في أحب الأعمال إلى الله تعالى، فكيف وهو يعارك الحياة وأشغالها وهمومها فتصيبه الغفلة والزلة، ويقع منه الذنب والتقصير. روى البيهقي عن الحسن البصري قال: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأين ما كنتم فإنكم لا تدرون في أي وقت تنزل البركة ([1]). وروى أيضا عن قتادة قال: إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم: أما داؤكم فذنوبكم، وأما دواؤكم فالاستغفار ([2]). وروى أبو نعيم في الحلية أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال: أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وان الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها ([3]). قال ابن رجب رحمه الله: ومعنى هذا أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب كما قال النبي e: " كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة " ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب ومحاه بالتوبة والاستغفار، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب وإن أصر على الذنب هلك ([4]).
وللمرأة خصوصية في كثرة الاستغفار، فعند مسلم وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهُ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ " فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ: " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: " أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ" ([5]).



[1] - شعب الإيمان (656).

[2] - شعب الإيمان (7146).

[3] - حلية الأولياء: 5: 296.

[4] - جامع العلوم والحكم: 1: 165.

[5] - مسلم (80)، وابن ماجة (4003).
 
الاستغفار في يوم المسلم
مما تقدم نعلم أن المسلم يحتاج في نهاره وليله وجميع أحواله إلى كثرة استغفار ، وقد علَّمنا النبي e من قوله وفعله مواضع الاستغفار في يوم المسلم ؛ وإليك بيان ذلك على الاختصار :
1 – كان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك ".
2 - وروى أحمد والترمذي وابن ماجة والطبراني من حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى - رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله e إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك " .
3 – كان e يقول دبر الصلاة : أستغفر الله ، أستغفر الله، أستغفر الله . ومر بك - أيضًا - ما علَّمناه e داخل الصلاة .
4 - وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا t وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ " فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، ثُمَّ قَالَ: )سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ( ثُمَّ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ : " سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ " ثُمَّ ضَحِكَ ، فَقِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟! قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ e فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟! قَالَ " إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ : اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي " ([1]) .
5 - روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن شداد بن أوس t أن رسول الله e قال: " سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ " قَالَ: " وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان بنحوه عن بريدة بن الحصيب ([2]) .
وإنما كان سيد الاستغفار لأنه جُمع فيه توحيد الخالق سبحانه ، والإقرار بالعبودية له وحده ، والتزام أمره حسب الاستطاعة ، والإيمان بوعده وجزائه ، ثم رؤية النعم مع الإقرار بالتقصير وطلب المغفرة ، والعلم عند الله تعالى .
قال ابن القيم في ( طريق الهجريتين ) : فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له، والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه، ثم قال: " وأنا على عهدك ووعدك " فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه ، وهو عهده الذي عهده إلى عباده وتصديق وعده وهو جزاؤه من ثوابه ، فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب ، ثم لما علم أن العبد لا يوفي هذا المقام حقه الذي يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعداها ، فقال : " ما استطعت " أي التزم ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي ، ثم شهد مشهد القدرة والقوة من ربه، ومشهد التقصير من نفسه، فقال : " أعوذ بك من شر ما صنعت " فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معًا ، ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتدئ بها ، والذنب إلى نفسه وعمله ، فقال : " أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي " ، فأنت المحمود والمشكور الذي له الثناء كله ، والإحسان كله ، ومنه النعم كلها ، فلك الحمد كله ، ولك الثناء كله ، ولك الفضل كله ، وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه ، كما قال بعض العارفين : العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله ، ومطالعة عيب النفس والعمل ، فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناء عليه ، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه ؛ ثم لما قام هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال : " فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " ([3]) .
6 - روى أحمد والترمذي والطبراني والحاكم عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ". لفظ الترمذي ([4]) .
7 - الاستغفار بالأسحار ، وتقدم أن وقت السحر هو أفضل أوقات الاستغفار .
8 – ويضاف إلى ذلك ما كان من استغفاره e في مجالسه ، كما تقدم عن ابن عمر ، وما كان من استغفاره في يومه ، كما في حديث أبي هريرة والأغر المزني .


[1] - أحمد: 1 / 115، وأبو داود (2602)، والترمذي (3446)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في عمل اليوم والليلة (5096) .

[2] - أحمد : 4 / 125 ، والبخاري (6306، 6323) ، والترمذي (3393) ، والنسائي في السنن (5522) عن شداد بن أوس . ورواه أحمد : 5 / 356 ، وأبو داود (5070) ، والنسائي في اليوم والليلة (20) ، وابن ماجة (3872) ، وابن حبان كما في الإحسان (1035) عن بريدة ، وإسناده صحيح ، وصححه الحـاكم: 1 / 515 ووافقه الذهبي .

[3] - انظر طريق الهجرثين : 1 / 264، 265 .

[4] - حـديث صحيح : رواه أحمد: 2 / 369 ، والترمذي (3433) ، وصححه ، والطبراني في الدعاء (1913، 1914) ، والحاكم : 1 / 536، 537، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وله شواهد .
 
فوائد الاستغفار
اعلم - علمني الله وإياك الخير - أن فوائد الاستغفار كثيرة ، منها :
1 – أنه سبب من أسباب المغفرة ، ودليله ما مر معنا من الآيات والأحاديث .
2 – ومن آثاره المتعة الحسنة ، قال تعالى : ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ( (هود: 3) .
3– أنه سبب عظيم من أسباب الاستسقاء ، قال الله تعالى : ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ( ( نوح : 10، 11) ، وصح أن عمر t استسقى يومًا فما زاد على الاستغفار ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت ! قال : لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ( ، ) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ( (هود: 52).
4 – من أسباب الغنى والولد : ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ( (نوح: 10-12) ، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن سفيان الثوري قال : دخلت على جعفر بن محمد وهو في مسجده فقال : ما جاء بك يا سفيان ؟ قلت : طلب العلم ، فقال : يا سفيان إذا ظهرت عليك نعمة فاتق الله ، وإذا أبطأ عنك الرزق فاستغفر الله ، وإذا دهمك أمر من الأمور فقل : لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ ثم قال : يا سفيان ثلاثا وأيما ثلاث ( [1] ) .
5 – من أسباب القوة ودليله آية سورة هود المتقدمة .
6 – من أسباب ذهاب الغم والهم والضيق ، قال ابن القيم رحمه الله : وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فمما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب ، حتى أن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم ، كما قال شيخ الفسوق :
وكأس شربت على لذة ... أخرى تداويت منها بها

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار.ا.هـ ([2]) .

7 – الاستغفار أمان للناس ؛ قال الله تعالى : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( (الأنفال: 32) ؛ روى الحاكم عن أبي هريرة t قال : أمانان : مضت إحداهما وبقيت الأخرى : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (([3]).
قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : النبي e ، والاستغفار ؛ فذهب النبي e ، وبقي الاستغفار ([4]) .
8 – الاستغفار سبب لسرور العبد يوم القيامة : روى الطبراني والبيهقي والضياء في المختارة عن الزبير t أن رسول الله e قال : " من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار" ( [5] ) . وروى النسائي وابن ماجة والبيهقي عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ قال : قَالَ النَّبِيُّ e : " طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا " ( [6] ) .
وروى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء t قال : طوبى لمن وجد في صحيفته نبذة من الاستغفار ([7]) . وروى هناد في الزهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : طوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا ([8]) .
هذا بعض ما ظهر لي في فوائد الاستغفار ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - شعب الإيمان (650).

[2] - زاد المعاد: 4 / 208.

[3] - المستدرك: 1 / 726، وصححه على شرط مسلم ؛ ورواه أحمد 4 / 393، 403، والبخاري في التاريخ الكبير (46) والطبراني في الأوسط (3346)، والحاكم: 1 / 726، عن أبي موسى t .

[4] - رواه ابن جرير في تفسيره: 9 / 235 .

[5] - رواه الطبراني في الأوسط (839)، والبيهقي في شعب الإيمان (648)، والضياء في المختارة (892)، وقال الهيثمي في المجمع: 10: 208: ورجاله ثقات.ا.هـ. وقال المنذري في الترغيب : إسناده لا بأس به .

[6] - النسائي في الكبرى (10289) وابن ماجة (3818) والبيهقي في شعب الإيمان (647) وإسناده حسن وصححه المنذري في الترغيب، والبوصيري في مصباح الزجاجة .

[7] - ابن أبي شيبة (29446) .

[8] - الزهد لهناد (921) .
 
أنواع الاستغفار
صح عن النبي e أنواع من الاستغفار :
1 - أفضلها سيد الاستغفار كما تقدم .
2 - ومنها أن يقول العبد : " أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه " كما تقدم أيضا .
3 – وروى النسائي عن خباب بن الأرت قال: قلت : يا رسول الله ! كيف نستغفر ؟ قال: " قل اللهم اغفر لنا وارحمنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " ([1]) .
4 – ومنها ما كان يقوله e في مجلسه : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " كما تقدم .
5 – أستغفر الله . وهي التي كان يقولها e بعد الصلاة .
6 – وفي الصحيح أن رسول الله e كان يقول : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي هزلي وجدي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي " ([2]) .
7 - وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة : " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت إلهي لا إله إلا أنت " ( [3] ) .
8 - ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاقت العدد والإحصاء فليستغفر الله مما علم فإن الله قد علم كل شيء وأحصاه كما قال تعالى: ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( ( المجادلة : 6 ) ، وفي حديث شداد بن أوس t عن النبي e : " أسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب " ( [4] ) .

[1] - النسائي في الكبرى (10295: 10297)، وفي اليوم والليلة (461) .

http://vb.tafsir.net/tafsir33713/#_ftnref245 – البخاري (6398، 6399)، ومسلم (2719). ورواه أحمد : 4 / 417، وابن أبي شيبة (29392)، والطبراني في الأوسط (6552)، وابن حبان (954) كلهم عن أبي موسى.

http://vb.tafsir.net/tafsir33713/#_ftnref346 – مسلم (771). ورواه أحمد: 1 / 94، وأبو داود (760، 1506)، والترمذي (3421، 3422) وغيرهم عن علي .

[4] - أحمد: 4 / 123، 125، والترمذي (3407)، والنسائي (1304) .
 
الاستغفار يختم به الأعمال
فالعبد عليه الاجتهاد في الامتثال علما وعملا، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود؛ ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقد قال الله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } (آل عمران: 17)، فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار ، وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الطهور التوبة والاستغفار.، وآخر سورة نزلت قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا } ، وفى الصحيح أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " يتأول القرآن ، وذلك في نهاية أمره - صلوات الله وسلامه عليه - ولهذا فهم منها علماء الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنه أجل رسول الله أعلمه الله إياه ، فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره على ما كان عليه مقامًا وحالا ، وآخر ما سمع من كلامه - صلى الله عليه وسلم - عند قدومه على ربه : " اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى " ، وكان يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصوم والصلاة والحج والجهاد ، فإنه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال : " آيبون تائبون لربنا حامدون " ؛ وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار وإن كان مجلس خير وطاعة ، وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار فيقول عند النوم : " أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه " ، وأن ينام على سيد الاستغفار .
فمن شهد واجب ربه ، ومقدار عمله ، وعيب نفسه ، لم يجد بدًّا من استغفار ربه من عمله ، واحتقاره إياه واستصغاره( 1 ) .
________________
- انظر مدارج السالكين: 3: 436، ومجموع الفتاوى: 10 / 89، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض.
 
الخـاتـمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ؛ وما كان فيه من خير وصواب فمن الله وحده ، وله الحمد والمنة ؛ وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والله الكريم أسأل أن ينفع بها كاتبها وناشرها وقارئها والدال عليها، وأن يجعله في ميزان حسناتنا ) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله.
) رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( .
 
عودة
أعلى