محمد محمود إبراهيم عطية
Member
حاجتنا إلى الاستغفار
إن الإنسان يتقلب في حياته بين أمور ثلاثة لا رابع لها : نِعَمٍ وابتلاءات وذنوب، وواجب الإنسان نحو النعم شكرها، ونحو الابتلاءات الصبر عليها، ونحو الذنوب التوبة والاستغفار. والعبد مهما اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر ، وحق الله سبحانه عليه أعظم ، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير ، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها ؛ وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح ، بحيث يفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم ؛ فمالك الملوك ورب السماوات والأرض أولى أن يعامل بذلك ، بل بأضعاف ذلك ، وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه ، ولا قريبًا من حقه علم تقصيره ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه وعدم القيام بما ينبغي له من حقه ، وأنه إلى أن يغفر له العبودية (التي فيها التقصير) ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثوابًا ، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي لكانت مستحقة عليه بمقتضى العبودية ، فإنَّ عمل العبد وخدمته لسيده مستحق عليه بحكم كونه عبده ومملوكه ، فلو طلب منه الأجرة على عمله وخدمته لعده الناس أحمق وأخرق ، هذا وليس هو عبد لسيده ولا مملوكه على الحقيقة ، بل عبد ومملوك على الحقيقة من كل وجه لله سبحانه ، فعمله وخدمته مستحق عليه بحكم كونه عبده ، فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنة وإحسان إليه لا يستحقه العبد عليه ( 1 ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله : فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر ، وذنب منه يحتاج فيه إلى استغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا ، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار .
ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال : قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ( آل عمران : 17 ) ؛ قال بعضهم: أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال : استغفر ثلاثا ، وقال : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . وقال تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } إلى قوله : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } ( البقرة : 198 ، 199 ) ، ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار ، كما قال الله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا } ( هود : 1-3 ) وقال تعالى: { فاستقيموا إليه واستغفروه } ( فصلت : 6 ) ، وقال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ( محمد : 19 ) ، ولهذا جاء في الحديث : " يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار " ، وقال يونس : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ( الأنبياء : 87 ) ؛ وكان النبي إذا ركب دابته يحمد الله ، ثم يكبر ثلاثا ، ويقول : " لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي " ؛ وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس والوضوء : " سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».ا.هـ ( 2 ) .
وهذه كلمات طيبات في معنى الاستغفار وأهميته في حياة المسلم ، دعانا إلى التذكير بها حاجتنا إلى الاستغفار ، فحاجة المؤمن إلى الاستغفار من الذنوب ، كحاجته إلى الماء للنظافة من أوساخ البدن ، فالذنوب وسخ القلب ، والاستغفار هو الماء الذي ينظفه من هذا الوسخ .
روى أحمد وأهل السنن إلا أبا داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، فإن زاد زادت ، حتى تعلو قلبه ؛ وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } (المطففين : 14) لفظ أحمد( 3 ) . فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم؛ وقد ذكر عن آدم أبى البشر انه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه، وذكر عن إبليس أبى الجن ـــ لعنه الله ـــ أنه أصر متعلقا بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب واستغفر وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن أذنب فأصر واستكبر فقد أشبه إبليس.
_______________
1 - انظر رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه: 42: 44 بتصرف يسير.
2 - التحفة العراقية: 1 / 79، 80.
3 – أحمد: 2 / 297، وابن جرير: 30 / 62، 63، والترمذي (3334) وصححه، والنسائي في الكبرى (10251، 11658)، وابن ماجة (4244). ورواه ابن حبان (930، 2787)، والحاكم: 2 / 517 وصححه ووافقه الذهبي، وإسناده حسن.