حاجة الباحث في العلم الشرعي إلى فقه المصطلح القرآني

إنضم
06/01/2014
المشاركات
10
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
العمر
52
الإقامة
المغرب
تمهيد :
ألقى أستاذي الفاضل الدكتور صالح أزوكاي الأستاذ المحاضر بكلية الآداب التابعة لجامعة ابن زهر بمدينة أكادير-المغرب محاضرةً على غاية من الأهمية حول « فقه المصطلح القرآني، والحاجة إليه» لفائدة الطلبة الباحثين، أضع بين يدي رواد مركز تفسير أهم خلاصاتها:
أقر الدكتور صالح أزوكاي حفظه الله في بداية المحاضرة بأنه مدين بالفضل فيها لفضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله عميد الدراسة المصطلحية بدون منازع، وفارسها الذي لا يجارى من حيث الاستيعاب النظري والضبط المنهجي والقوة البيانية، وجمهور الباحثين في هذا الباب عالة عليه بفضل ما أرسى من منهج قويم، وأصَّـلَ من مصطلح في الكتابة البحثية مبين. وقد لا تسعف طالبَ العلمِ العبارةُ المناسبةُ؛ فلا يجد مندوحة من اختيار ذات العبارة التي استقر الكثير منها في المخزونِ البياني بفعل طول المزاولة، والتي لها من الدقة والجمال والجاذبية ما يجعل الإنسان أحيانا عاجزا عن اختيار عبارة أدق منها وأبين وأبلغ. وغاية ما يسعى المرء إليهِ هي أن يكون من طلاب الشيخ المُـجِدِّين.
ورحم الله فقيدَ المصطلح الأصولي الأستاذَ فريد الأنصاري، التلميذَ النجيب للشيخ الشاهد، وقد قال فيه منوها ما لم يقل في غيره: "الحمد لله الذي أخرجَ من صُلبي العلمي منْ هو خير مني".
والمحاضرة هي بعنوان: حاجة الباحث في العلم الشرعي إلى فقه المصطلح القرآني، وهي موجهة في الدرجة الأولى إلى عموم طلاب الدراسات العليا، و قد جعلها حفظه الله في ثلاث مقدمات، وثلاثة مباحث:
المقدمة الأولى في المصطلح
المقدمة الثانية في المصطلح القرآني
المقدمة الثالثة في الحاجة إلى المصطلح القرآني
أما المباحث فهي في موجبات الحاجة إلى المصطلح القرآني:
المبحث الأول في الموجب العلمي
المبحث الثاني في الموجب الشرعي
المبحث الثالث في الموجب الحضاري





المقدمة الأولى:
في المصطلح
أولاً : لماذا المصطلح؟
تأتي مركزيةُ المصطلح وأهميتُـه من نواحٍ عدة:
المصطلحات بادئَ ذي بدء هي مفاتيح العلوم، "ببدايتها يبدأ الوجود العلني للعلم، وفي تطورها يتلخص تطور العلم. وإذا كان لكل قوم ألفاظ، ولكل صناعة ألفاظ، فإنه من البديهي ألا تُـفهم تلك الصناعة، ولا آثار أولئك القوم، إلا بمعرفة تلك الألفاظ. « وما القواعد والمناهج، ولا القضايا ولا الإشكالات إلا آبـار العلم، وإنما المصطلحات دلاؤها، وهل من سبيل إلى الماء الغور بغير دلاء » (مقدمة المصطلح الأصولي عند الشاطبي)
ومن ثمَّ كانت دراسة المصطلحات من أوجب الواجبات وأسبقها وآكدها على كل باحث في أي فن من فنون التراث، (وهي) الخطوة الأولى للفهم السليم الذي ينبني التقويم السليم والتاريخ السليم"( مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين/ د. الشاهد)
ومن جهة أخرى فالمصطلح هو « عنوانُ المفهوم، ونظَّارةُ الإبصار، فإن تم فقهه وضبطُه أراكَ الأشياء على حقيقتها، وإلا أراكها مكبرة أو مصغرة، أو ملونة أو مقعرة »، والدراسة المصطلحية هي كالطبيب الذي يُقَوم نظَّارةَ الإبصار لتصير الرؤية سديدة قويمة.
ثانيا: المصطلح والمفهوم، والتنازع المصطلحي والمفهومي،
المصطلح هو الاسم، والمفهوم هو المسمى، ولهذا الفرق أهميته المصطلحية، وتترتب عنه ـ من وجهة الدراسة المصطلحية ـ أمور في غاية الأهمية:

  1. المفهوم أسبق في الظهور من المصطلح،
  2. قد يكتب لبعض المصطلحات الاستمرار، وقد ينقرض بعضها وتظهر مكانها أسماءُ أخرى،
  3. قد يقع تحريف في مفاهيم بعض المصطلحات توسعة أو تضييقا أو قلبا،
  4. قد تسمى بعض المفاهيم بأكثر من اسم بسبب تعدد العلوم والمذاهب واختلاف العصور...

  • فهناك مصطلحات يتنازعها أكثر من مفهوم،
  • ومفاهيم يتنازعها أكثر من مصطلح.
وهاكم أمثلة تعكس بعض تجليات التنازع المصطلحي، وذلك حين يتنازعُ المصطلحَ الواحد مفهومان:
المثال الأول: سبيل الرشاد في القرآن:
بين مفهوم فرعون ، و مفهوم رجل من آل فرعون، فبينما كان مؤمنُ آل فرعون يستصرخ قومه باسطا بين أيديهم سبل النجاة:﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾[غافر:38 ]، نجد فرعون لا يرى الرشاد إلا في ما تخلَّجَ في خاطره من الآراء الفاترة والأهواء الردِيَّـة:
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾[غافر: 29].
المثال الثاني: القرية
فقد حرفها فرطُ الاستعمال من مفهوم المدينة الرحيب إلى المفهوم الضيق للبادية المعاصرة، بينما نجد القرية في القرآن الكريم قد أجراها الله تعالى على معهود كلام العرب، وهي غير الدلالة المتداولة عندنا اليوم.
المثال الثالث:قعد / جلس:
القعود يكون من قيامٍ، وشاهدهُ قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا ﴾[آل عمران: 191]، بينما يكون الجلوس من الاتكاء و الاضطجاع، وشاهدهُ حديثُ : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور » (متفق عليه)
المثال الرابع:
تسمية الأعمى بصيرا تلطفا، واللديغ سليما تيمنا، وتسمية البشير نذيرا تهكما.
المثال الخامس: قدَّ وقطَّ:
كلاهما دالان على القطع، لكن قدَّ تستعملُ للقطع طولا ، بينما تستعمل قطَّ للقطع عرضا.
المثال السادس: إنْ و إذا:
كلتاهما تدل على الشرط، لكنَّ إذَا تكون للمتيقن من جوابه، خلافا لأداة إنْ التي تفيد الاحتمال.
وبالجملة فباب الفروق في العربية بابٌ لطيف، وقد تضمن كتاب الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري من هذا الفن لطائف دقيقة، ولذلك نقول لقد أبعدَ النجعة من وصم العربية بالحشو ، بل قوله مردود عليه، لأن كل مصطلح يصف وضعا مستقلا يمنع من تطابق الألفاظ من كل وجه.

ثالثا: تفاوت المصطلحات في حجم القوة المصطلحية

تتفاوت المصطلحات من حيثُ قوتها المصطلحية، والضابط في ذلك معايير عدة منها:
المعيار الأول: حجم الورود وكثرة النصوص والمشتقات،
المعيار الثاني: العلاقات ائتلافا واختلافا / كالإنسان المهم وغير المهم،
المعيار الثالث: وهو معيار الضمائم كـالعطف والوصف والإضافة...
وبناءً على هذه المعايير تُرتبُ المصطلحات حسب قوتها ترتيبا هرميا، حيث يوضَعُ المصطلح الأقوى في القمة (مثل العناوين) ، بينما توضع الضعيفة في القاعدة.


المقدمة الثانية:
لماذا المصطلح القرآني؟
للمصطلح القرآني فضل على سائر المصطلحات، والحاجة إليه ماسة أكثر من أي مصطلح آخر، ومردُّ ذلك إلى أمور عديدة هذا تفصيلها:
أولا: المصطلح القرآني هو الأصل الذي يجب أن يكون عليه مدار ما سواه من مصطلحات بقية العلوم، « وما سواه تبع له وفي مقدمة ذلك السنة البيان ».
و بيان ذلك أنَّ المصطلحات في الدراسة المصطلحية ثلاثة أصناف: المصطلح الأصل، والمصطلح الفرع، والمصطلح الوافد، والمصطلح الفرع هو« الذي يمثل خلاصة تفاعل الأمة مع التاريخ، ويمثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات: مصطلح العلوم والفنون والصناعات ».
ثانياً: اضطراب المصطلحات الفرعية:
لم يستقر مفهوم هذا النوع من المصطلحات الفرعية في الغالب على المفهوم القرآني، وإنما تعرضت لأشكال من الانحراف والتغيير نتيجة ثقافة العصور وحواجز القرون، والمذاهب الفكرية، وبسبب الفهوم الطارئة،: « فلكم ضيقت مفاهيم بعد أن كانت واسعة، ولكم وسعت مفاهيم بعد أن كانت ضيقة، ولكم غيرت وشوهت وحذفت وعوضت؛ ولا يصلح كل هذا إلا بالرجوع إلى الأصل ».
ثالثا: المصطلح القرآني ضمانةُ صفاء الرؤية:
« ولقد كانت مهمة الأنبياء جميعا هي حفظ مصطلح الذِّكر من أن يُمس بسوء، وأن يصيب مفهومَه تغيير أو تبديل؛ فتفسُد الرؤية ويقع الإفساد في الأرض »، فحين يصاب المصطلح تصاب الرؤية، ونتيجة لذلك يقع الإفساد في الواقع.
رابعاً: الرهان التاريخي للمفسدين على تبديل المصطلح:
فلقد كانت في المقابل مهمة الشيطان ومن في حزبه منذ إبليس إلى قيام الساعة هي تغيير المفهوم وتبديل المصطلح، أي تغيير الدين، والفطرة، والخلق ﴿ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾[النساء : 119]، وفي الحديث القدسي: « خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم » (صحيح الجامع: حديث رقم 2637).
والاجتيال هو الذَّهاب بالشيء وإزالته عن مكانه ، وتحويله عن قصده.
خامساً : المصطلح القرآني محفوظ
القرآن الكريم صانه الله وحفظه من أن يُمس لفظه بتبديل أو تغيير: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9]، ولأستاذنا الدكتور الشاهد عبارة ذهبية جميلة يقول فيها: « القرآن يحمل معجمه ويحميه ».
سادساً : المصطلح القرآني جهاز مفهومي متكامل
إنه ليس ألفاظا منفصلة، وإنما هو من منظور الدراسة المصطلحية أنساق، وجهاز مفهومي وفق الرؤيـة القرآنية، ولأستاذنا الشاهد أيضا عبارة ذهبية جميلة: « المصطلح القرآني عربي اللفظ قرآنيُّ المفهوم ».
سابعاً: دخول مفاهيم طارئة على المصطلح القرآني:
لقد دخلت على ألفاظ القرآن الكريم ومفاهيمه وزاحمتها ألفاظ ومفاهيم أخرى طارئة بفعل اتساع مجال الاستعمال وامتداد زمنه، وتعدد مذاهبه، وهو ما يوجب عملا جادا في تبديد هذا الالتباس، و تحرير الألفاظ القرآنية من كل دخن يغشى صفاءها المفهومي.
إنَّ هذه العوامل مجتمعةً تحتمُ الاعتصام بالمصطلح القرآني غضا طريا بريئاً من المفاهيم التي دخلت عليه، لييبقى كما أراد له الله عز وجل الأصلَ الذي تتأسس عليه المصطلحات، و المصدر الذي تلوذ به كل الألفاظ والدلالات، يصحح للأمة رؤيتها، ويهديها سواء السبيل في سيرها واستخلافها.







المقدمة الثالثة:
في فقه المصطلح القرآني[SUP]([1])[/SUP]:

الفرع الأول:
الفقه في معاجم اللغة:
أولا: تعريف الفقه:
مدار الفقه في أغلب معاجم اللغة حول: « العلم بالشيء والفهم له » ، و الباء للتمكين والتعمق في الفهم، وله مدار آخر تفرد به لسان العرب نقلا عن ابن الأثير ، وهو الشق والفتح: « واشتقاقه من الشق والفتح »، ولم يذكر شاهده، وهو قول الأعشى: « وفي كل عام بيضة تفقهونها »، وفي رواية « تفقأونها »، والتقارب في اللفظ مظنةُ التقارب في المعنى.
والسياق القرآني يفيد هذا المعنى؛ إذ يأتي في تضاد مع مفهومي الختم والطبع:
قال تعالى: ﴿ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾[المنافقون:3]، وقال أيضا: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾[البقرة: 73].
ثانيا: الدلالة الاصطلاحية للفقه:
أما المعاجم المصطلحية وما في حكمها فقد تعمقت في المفهوم، فذكرت من معانيه ما يلي:
أولا: "التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد"
قال الراغب الأصفهاني: « الفِقْهُ : هو التّوصل إلى علم غائب بعلم شاهد ».
ففيه نوع من الاستنباط والاستدلال، وإدراكٌ خاص لأشياء غير موجودة في اللفظ مباشرة، أي شيء خفي، لا يوصل إليه إلا بفهم دقيق وعميق.
ثانيا: « الفقه بالشيء هو معرفة باطنه ، والوصول إلى أعماقه » [ تحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذى 320 هـ]
قال الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار: « وقال ابن الأثير في النهاية : إن اشتقاقه من الشق والفتح . أي هذا معناه الأصلي فهو كالفقء بالهمزة ، وهي تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما ، وذكر الحكيم الترمذي هذا ، واستدل به على أن الفقه بالشيء هو معرفة باطنه ، والوصول إلى أعماقه ، فمن لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها ».
و التعبير بالباطن والأعماق يندرج في الفقه المقاصد والمآلات.


ثالثا: الفقه نوع خاص من دقة الفهم.
قال الشيخ رشيد رضا:
« المراد به نوع خاص من دقة الفهم ، والتعمق في العلم ، الذي يترتب عليه الانتفاع به ».
فيتحصلُ إذاً أن الفقه فهم دقيق يتجه إلى الأعماق والبواطن والمقاصد ، وهو نوع خاص من أنواع العلم.
الفرع الثاني:
الفقه درجات ومراتب

الفقه درجات ومراتب يتدرج من الفعل إلى الصفة:
الانتقال من فَقِه ـ بكسر ثانيه فهو فاقِهٌ إلى فَقُهَ ـ بالضم ـ فهو فقيه، بواسطة تفقَّهٍ.
الانتقال من الفقه الفعل إلى الفقه الصفة عبر درجة التفقه،
فالانتقال من الفعل إلى الصفة يتم بالمزاولة والمجاهدة أي بالتفقُّه.
يقول ابن عاشور في « التحرير والتنوير»: « التفقه تكلفُ الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقه(...)، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه. »
الفقه تذوق للمصطلح:
المصطلح له قدر من الجمال لا يُسْتَكنه إلا بالفقه، فمن حرم ملكة الفقه حرم ما في المصطلح القرآني من الأسرار والحقائق واللطائف العجيبة التي لا يستمرئ حلاوتها إلا الفقيه، والمدخل إلى ذلك التمرس بلسان العرب،، على أساس أن الله تعالى أجرى اللفظ القرآني على معهود كلام العرب، لكنه اتجه به إلى آفاق قرآنية رحبة وفق تصور رباني جديد.

الفرع الثالث:
بين الفقه والعلم عموم وخصوص

العلم أعم من الفقه، بينما الفقه علم خاص.
سُمي الله عالما ولم يسم فقيها لاستغناء علمه عن الاستدلال، فهو عالم الغيب والشهادة، وعالم بالنجوى، يعلم ذلك دون حاجة إلى فقه وتدبر واستدلال. قال تعالى:﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[طه:7]
وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾[الأنعام:73]
فأما الانسان فعلمه محدود، لقصر بصره وقصور فهمه، فلا يتمكن من إبصار البعيد إلا بالاستدلال بما هو قريب؛ ولا يتمكن من إدراك الخفي إلا بالاستدلال بما هو جلي؛ وذلك عين الفقه.
ولذلك كان الفقه جزءا من العلم، فبينهما عموم وخصوص، فكل فقه علم ولا عكس.
الفرع الرابع:
مجالات الفقه في القرآن الكريم
مفهوم الفقه في القرآن واسع ورحيب:
أولا: فقه الحديث وما في حكمه:
من ذلك قوله تعالى: ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾[النساء: 78].
وقوله عز وجل: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ﴾[هود: 91]
وقوله عز من قائل:﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء:44]
نخلص من هذه الآيات إلى أنَّ الكائنات لها نطق، و هذا النطق عند الله تسبيح، لكن لمحدودية فقهنا لا نفقهه، وإن كنا نسمعه.
ومن ثمَّ لا معنى للمقولة التي تُعرِّف الإنسان بأنه: "حيوان ناطق"، فهي أكذوبة تاريخية؛ لأنها تحصر النطق في الإنسان، وتجعل ذلك وصفا مانعا من دخول الغير فيه، والله عز وجل يؤكد الاشتراك في هذه الخاصية، مثل قوله تعالى:
﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴾[النمل: 16]
ثانياً : فقه القرآن:
ورد هذا الاقتران في عشرين موضعاً:
من ذلك قوله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾[الأنعام:25]
وقوله تعالى: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴾[الأنعام:46]
ثالثا: فقه الأكوان وفقه التاريخ وفقه الحياة وفقه السنن وفقه المجتمعات
نضرب لذلك مثلا بفقه الأكوان حيث يقول عز من قائل:
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ[الأنعام:98]
الفرع الخامس:
القلب هو آلة الفقه و المستهدف به:
الفقه فعل قلبي، لا علاقة له بالحواس وإن كانت هي المدخل إليه، والفقه لهذا الاعتبار لا يتحقق إلا إذا اشتغلت آلة القلب، إذ القلب ـ في حالة التفقه أي في حالة الاشتغال ـ هو الصلة التي توصل الفقيه بعالم الغيب.
ولهذا الملحظ وصف القرآن الكريم الكافرين والمنافقين بالصم والبكم رغم أنهم يسمعون ويبصرون ماديا وفزيائيا، لكنهم بالميزان القلبي هم كذلك كما قال عز من قائل:
ـ ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾[البقرة:18]
ـ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج: 46]
ـ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾[ق:37]
الخلاصة
خلص الدكتور صالح أزوكاي من تتبع مدارات الفقه في القرآن إلى نتائج مهمة:
أولا: إن الفقه ينتهي بصاحبه إلى مفهوم واسع وضخم يتصل بأمور ضخمة وكبيرة، وليست مجرد فقه الأحكام التي انحصر فيها المفهوم أعني ما اصطلح عليه بالفقه الأصغر.
ثانيا: الفقه في القرآن يمتد من فقه القول إلى فقه القرآن وفقه الإيمان لينتهي إلى فقه الأكوان وفقه التاريخ وفقه الحياة وفقه السنن وفقه المجتمعات، والأمة وقد انشغلت كثيرا بفقه الأحكام، أي ما أطلق عليه تاريخيا الفقه الأصغر، هي في حاجة إلى أن تجدد فهمها للفقه في ضوء مفهومه الواسع والغني.
ثالثا: إن المدخل إلى ذلك كله هو فقه المصطلح، فهو المفتاح الواصل بإذن الله إلى درك تلك المدارات.


وإذ فرغ من المقدمات التي لم يكن بد من بحثها، فقد انتقل حفظه الله إلى بحث الموجبات التي تستتبع الحاجة إلى المصطلح القرآني.
المبحث الأول:
الموجب العلمي للحاجة إلى المصطلح القرآني:
آية ذلك أنَّ المصطلحات هي المفاتيح. يفسرهُ ما يلي:
أولا: إنه من باب تحصيل الحاصل القول بأن أي بحث في أي تخصص وفي أي مجال إذا لم يلتفت إلى أمر المصطلح فهو ضرب من الدخول إلى البيت من غير بابه الطبيعي، اقتحاما أو تنقيبا أو تسورا...
ثانيا: لا قيمة لأي بحث في أي مستوى من مستويات البحث العلمي، ولا في أي تخصص من التخصصات، ولا في معالجة قضية أو موضوع إذا لم يلتفت الباحث إلى شأن المصطلح ضربا من الالتفات،
ثالثا: لا غرو، فالمصطلح فضلا عن كونه مفتاح العلم فهو عنوان المفهوم ومنطلق الرؤية، فهو بمثابة " نظارة الإبصار التي تريك الأشياء كما هي بأحجامها وأشكالها وألوانها الطبيعية أو تريكها على غير ما هي مصغرة أو مكبرة، محدبة أو مقعرة، مشوهة النسق والخلقة، أو ملونة بألوان كالحمرة أو الزرقة، وما عهد قراءة الغرب بعينيه الزرقاء والحمراء لتراثنا ببعيد، وما أثر نظارتيه الزرقاء والحمراء فينا بخفي" ( أنظر: الاهتمام بالمصطلح العلمي في التراث .. الواقع والتحديات/ د الشاهد / مجلة الإحياء).
ومن ثم وجب البدء بالمصطلح في أي بحث، وضبطه وفقهه؛ لأنَّ من شأن ذلك أن يسدد الرؤية ويقوم التصور في الاتجاه السليم نحو الفهم القويم لاستخلاص النتائج العلمية ذات الكفاية الوصفية والتفسيرية المطلوبة والمقبولة.
رابعا: فقه المصطلحات وضبط المفاهيم من شأنه أن يجنب الباحث آفة الإسقاط المعرفي التي يعاني منها عموم الباحثين المعاصرين اليوم.



المبحث الثاني:
الموجب الشرعي للحاجة إلى المصطلح القرآني:
المصطلح القرآني، والمصطلح النبوي تبعا له، هو الأصل الذي ينبغي أن تدار حوله بقية مصطلحات علوم الأمة، وأن تنسجم مع تصوره العام، لأنه مصطلح الوحي قرآنا وسنة، وهو ألفاظ رب العزة، وألفاظ خير البرية المعصوم:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾[النجم:3]
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾[النجم: 1-4]
تُصنفُ المصطلحات مصنفة من وجهة الدراسة المصطلحية إلى ثلاثة أصناف:
المصطلح الأصل، والمصطلح الفرع، والمصطلح الوافد.
الفرع الأول:
الموجبات الشرعية لصيانة المصطلح القرآني

الألفاظ التي يستعملها علماء الأمة في جميع العلوم والتخصصات يجب بمقتضى الموجب الشرعي أن تنبعث من المصطلح الأصل، وتنسجم الانسجام التام مع مفهومه، ويجب على علماء الأمة ـ وفي طليعتهم أهل العلم الشرعي ـ الحرصُ الشديد على استعمال المصطلح الأصل في اللغة العلمية،
وأهل العلم الشرعي هم أحوج من غيرهم لمجاراة المصطلح الأصل لأنهم القدوة لغيرهم في التخصصات الأخرى سواءٌ كانت علوماً إنسانيةً، أو علوماً ماديةً.
إنَّ التخصصات العلمية الأخرى ينبغي أن تصير كلها فرعا عن الأصل تابعة له ودائرة في فلكه، منسجمة مع رؤيته المفهومية.
وكذلك شأن المصطلح الوافد، فلا ينبغي ألا يتعارض من حيث الرؤية مع المصطلح الأصل كالذي يحصل في الترجمة والتعريب، حيث يَجلُب المصطلح الوافد معه الرؤية المادية الغربية التي تتعارض مع الرؤية الإسلامية، من باب الغزو الفكري والاستلاب الثقافي، وهو ما تمارسه اليوم العولمة المتغوِّلة في إطار الحرب المصطلحية تحريفا للمصطلحات وقلبا للمفاهيم.
والأمة مطالبة بإقامة الدين، ولا سبيل إلا إقامة الدين إلا بإقامة مصطلحات القرآن والسنة البيان.
ولا سبيل إلى إقامة المصطلح الأصل إلا بفقهه والعودة إليه بعيدا عما لحقه عبر العصور من أشكال التحريف والتغيير؛
ذلك أن ألفاظ القرآن الكريم أصابها ما أصاب غيرها من التغيير والابتعاد قليلا أو كثيرا عن المفهوم الأصلي زمن التنزل حيث كانت الملكة صافية لم تشبها شائبة من لحن أو تحريف.
أجلْ، لقد طرأ على ألفاظ القرآن الكريم تغييرٌ حرفَ مفاهيمها في الأذهان، وبقدر ما يزداد الناس ابتعادا عن زمن التنزل يزداد التحريف والتغيير، « ولقد مرت على الأمة قرون أَهمَلتْ فيها بعض ألفاظ ربها، أو استَحدَثت أو استوردت بدلا منها، وكل ذلك صرْفٌ للأمة... وصدٌّ لها عن سواء السبيل » (أنظر: مصطلح الأمة بين الإقامة والتقويم والاستقامة)

الفرع الثاني:
أسباب التغيير في المصطلح وآثاره

ومن الأسباب المسؤولة عن ذلك أثر المذاهب الكلامية والفكرية التي شحنت ألفاظ القرآن الكريم بدلالات طارئة شكلت حاجزا ثقافيا بينها وبين كلام ربها، وطالما تأثرت الفهوم المتأخرة بل والمعاصرة بفهوم من سبق من أهل الكلام والمتصوفة وغيرهم من العلماء، حالت ولا شك دون فقه المصطلح القرآني والنبوي الفهم الصحيح.
وهو أمر نجمت عنه خلافات كثيرة جرت أحيانا للخروج عن الصواب، « وما كان ذلك ليحصل قطعا لو استقام الفهم وأقيم المصطلح »
وقد أشار ابن تيمية في الفتاوى إلى هذا فقال:
« ومن هنا غلط كثير من الناس ; فإنهم قد تعودوا ما اعتادوه إما من خطاب عامتهم وإما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النَّـبَـطِيَّة وعادتهم الحادثة . وهذا مما دخل به الغلط على طوائف ».
وقال أيضا: « ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسِّر كلام الله بذلك الاصطلاح ،ويحملَه على تلك اللغة التي اعتادها » (مجموع الفتاوى 12/ 106).
وذلك كله موجب لفقه المصطلح القرآني، فهو أضمن لتسديد الفهم، وتقويم الإبصار، حتى يتهيأ الوقوع على الرؤية المفهومية الدقيقة.
ومن صور تحريف المصطلحات القرآنية:
أولا: القلب من المدح إلى الذم:
مثال: الجهاد و الإرهاب و الاستعمار، وهي مصطلحات ممدوحة في القرآن الكريم، ثم صرفها الاستعمال إلى الذم، فصارت عنوانا على الهمجية والعدوان:
يقول الأستاذ الشاهد في هذا السياق:
« وها هو اليوم مصطلح شريف كالجهاد، يغير مفهومه المتكبرون في الأرض، ويبدلون مصطلحه ليصير إرهابا، بعد أن غيروا مفهوم الإرهاب ليصير فعلا بعد أن كان حالا، ومكروها بعد أن كان مطلوبا. وكذلك الأمر في أغلب المصطلحات التي تقوم عليها الحياة؛ كالخير والشر، والعدل والظلم، والحق والباطل، والسلام والإجرام،.. غيّر مفاهيمها العالون في الأرض أصحاب الأهواء، ولووا أعناقها كما لوى فرعون عنق مفهوم الفساد... » (نحو تصور حضاري شامل للدراسة المصطلحية)
ثانيا: القلب من الذم إلى المدح
مثال : اللغة، والتغيير.
ورد التغيير في القرآن الكريم في كل موارده مذموما، لأنه فعل شيطاني :
قال تعالى: ﴿ ولآمرنهم فليغيرُن خلق الله ﴾[النساء: 119].
وهاهنا وقفة عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، فقد شاع عند عموم الناس أن "التغيير" فيه بمعنى الإصلاح:
بينما نجد التفاسير المشهورة قد أجمعت على أن تفسير هذه الآية هو: "إن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والحالة الحسنة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان والطاعة".
قال الرازي في تفسير هذه الآية: « أما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد». يتأكد ذلك من خلال الملاحظات التالية:

  1. العربية الأصيلة التي نزل بها القرآن ونطق بها النبي العدنان لا يفيد فيها "التغيير" غير الإفساد،
  2. وسياق الآية بلواحقها وسوابقها يؤكد هذا المعنى: "وإذا أراد الله بقوم سوء"،
  3. ومن كلام العرب: "غير الدهر": أي مصائبه ونوائبه،
  4. ويقال: "تغيرت حاله" : أي فسدت وساءت
  5. "لغيار" بالدارجة، والأمازيغية الأصيلتان، ومنه في الأمازيغية: "أمْغْيّْر" و "تمغيّْرت"
وأدعوكم هاهنا إلى مراجعة شريط جميل ومفيد للراحل فريد الأنصاري رحمه الله تحت عنوان: التغيير أم الإصلاح.
ثالثا: مصطلحات اتسعت مفاهيمها في الأصل ثم ضيقها الاستعمال، أو العكس:
ومثاله الواضح: مصطلح الجهاد، فقد حصره الاستعمال في القتال، ثم حرفه من المدح ليصير عدوانا...
رابعاً ـ هجرة المصطلح القرآني وتبديله بمصطلح طارئ:
من ذلك مصطلح اللسان الذي استعمله القرآن، لكن ما لبث أن أُبعد المصطلح القرآني على اتساعه وسموه وجماله، وتقلص في دائرة اللغة على ضيق مفهومها، وعلى إحالتها على لفظ "اللغو" المذموم أصلا.
ومنه مصطلح الطهارة القرآني بما يحمله من مفهوم رحب، ورؤية عميقة يتمازج فيها الروحي مع المادي، فزُهد في هذه المصطلح القرآني،وانصُرفَ عنه إلى لفظ النظافة، بما يطفح به من رؤية مادية مسدودة، ثم ضُيق عليه خناق الدلالة حتى حُول إلى إلى مجال الصرف الصحي/ التطهير : Assinisment (!!)
ومنه أيضاً مصطلح الإيمان الذي يفيض برؤية قلبية، فعُدل عنه إلى مصطلح العقيدة، وهو كما ترون مصطلح عقلي مجرد.
ومنه مصطلح الخلق الذي ورد في القرآن مرات عديدة بما يعكسه من رؤية إيمانية يرتبط فيها الخلق بالخالق، ليقام مكانه مصطلح مادي تنتفي فيه تلك العلاقة، وكأن الكون أو الطبيعة قد وُجدا من تلقاء نفسيهما....
وذلك كله موجب لتخطي الحواجز الثقافية التي رسختها في الأذهان ثقافة العصور، والتي تحول دون الفهم السليم والصحيح للمصطلح القرآني والنظر إليه وفقهه ضمن رؤية نسقية شاملة.
ولا سبيل في تجاوز تلك الحواجز إلا بفقه المصطلح القرآني، تمحيصا وضبطا حتى يكون التلقي عن الله وعن رسوله تلقيا سليما وصحيحا.

المبحث الثالث:
الموجب الحضاري للحاجة إلى المصطلح القرآني:
إنَّ إقامة المصطلح القرآني مطلب حضاري، وذلك لدواع عظيمة ذكر منها حفظه الله:
أولا: الأمة اليوم ـ وقد هُجر المصطلح القرآني في حياتها، وشُوه مفهومه تحريفا أو تضييقا أو توسعة أو قلبا ـ هي في أمس الحاجة إلى أن يكون على رأس أولياتها إقامة المصطلح الأصل المكون للذات ، وذلك بالحرص على استعماله في التواصل بين الناس بإقامة لفظه وضبط مفهومه، ومن باب الأولى استعماله بين العلماء والباحثين بيانا وتبينا، « لأنه المختار من رب للناس لكل الناس، من هجره فقد هجر كتاب الله، ومن اختار غيره فقد اختار غير ما اختار الله » ، « ومهما بذل الأولون والآخرون فلن يختاروا أحسن مما اختاره الله » .
ثانيا: وإذا كانت إقامة الدين واجبا مؤكدا، فلا يصح أبدا إقامة الدين « بغير إقامة لفظه ».
ثالثا: وإقامة لفظ القرآن الكريم لا تتم إلا بإقامة مفهومه أيضا، وذلك بالحرص على أن «يُفهم من لفظه ما فَهِمه أو فُهِّمه الرسول عليه السلام أول مرة قبل أن يصيبه ما أصابه من التغيير » ، « فلا يُفهم اللفظ بدلالة ما بعده زمن التنزل تضييقا أو توسعة » ، أو تحريفا أو قلبا أو تبديلا.
رابعا: إقامة المصطلح القرآن وبعثه وإحياؤه لا يتم إلا بفقهه.
خامسا: التأصيل مطلب حضاري عند كل أمم الأرض، فمع كون الأمة مطالبة بمسايرة الركب الحضاري، والانفتاح على ثقافة الغير ومنجزاته العلمية، فإنها مطالبة من باب الأولى بتحصين ذاتها والتمسك بدينها وشرعها، وذلك أضمن لإقلاعها الحضاري.
سادساً: ولا سبيل إلى كل ذلك إلا بالاستمساك بالمصطلح الأصل المفتاح ، الذي هو مفتاح الدخول إلى كل خير.



الخاتمة
خلص الدكتور صالح أزوكاي في نهاية محاضرته إلى نتائج بالغة الأهمية:

  • إن إحياء المصطلح القرآني واجب شرعي تأثم الأمة ولا شك إذا فرطت فيه،
  • ويلحق بذلك من باب الواجب ضبط المفهوم القرآني وتمحيصه مما علق به من الفهوم الطارئة والحادثة، مما يشكل حاجزا يحول دون الوصول إلى الرؤية القرآنية السديدة والقويمة،
  • يتحمل أهل العلم الشرعي مسؤولية كبيرة في هذه المهمة، فهم مطالبون باستعمال المصطلح القرآني في لغة التخاطب، وفي لغة العلم والبحث العلمي من باب الأولى،
  • يأتي بعد ذلك في الرتبة عموم علماء الأمة في كل التخصصات بدون استثناء، فهم مطالبون بإخضاع المتداول من ألفاظ العلم للرؤية القرآنية وجعلها منسجمة مع المفهوم القرآني،
  • ولا غرو فالقرآن كلام الخالق، وفيه أصول كل ما تصل إليه عقول الخلق من الابتكار والإبداع،
  • ثم تأتي في الرتبة الدنيا الأمة كلها فهي مطالبة بفقه المصطلح القرآني قدرا من الفقه،
  • ثم إن فقه المصطلح القرآني لا يتم إلا إذا أحدث أثرا بينا ملموسا في الذات المتفقهة، يحمله على الاستمساك به، والاستعصام بدلالاته الرحبة الطليقة، والفرح به، والانتصار له فخرا واعتزازا، واستشعارا لما يؤديه من استئناف دورة نهضة الأمة، و إعادة بنائها من جديد.
    والله ولي التوفيق.


( [1] ) يراجع في الباب مدارسة رائدة وبديعة للأستاذ الشاهد: « مفهوم الفقه في القرآن الكريم » على الشابكة / شريط مرئي.
 
تنبيه: وقع سهو في عنوان المقدمة الثالثة في تصميم العرض، وصوابه:
"المقدمة الثالثة في فقه المصطلح القرآني"
وذلك انسجاما مع ما ورد في متن العرض
 
عودة
أعلى