جُرادة تفسير " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " للطبري (ت310هـ)

إنضم
31/07/2006
المشاركات
896
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب - الجديدة
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين
( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )

جُرادة تفسير " جامع البيان عن تأويل آي القرآن "
لأبي جعفر محمدبن جرير الطبري ( ت 310هـ) .
مهداة إلى روح شيخنا محمود محمد شاكر ــ رحمه الله ـ


تمهيد :

( جرد) جرد الشيء يَجْرُدُه جَرْداً و جَرَّدَه: قَشَرَهُ .
واسم ما جُرِدَ منه : الجُرادَةُ .
وجرَّدَ الكتاب و المصحف: عَرَّاه من الضبط، و الزيادات، و الفواتح.
كل شيء قشرته عن شيء، فقد جَرَدْتَهُ عنه، و المقشور مجرود، و ما قُشِرَ عنه : جُرادَةٌ .
" لسان العرب لابن منظور( ت 711هـ )، مادة ( جرد)، ج1،ص587/589 "

تدخل هذه الجُرادة التفسيرية ضمن مشروع " مدونة التفسير" ، و هي عبارة عن جرد تاريخي للتفسير، حيث عملنا على استخراج تفاسير المفسرين من كتب التفسير، فاجتمع لدينا البيان النبوي، وتفاسير الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين، و أعلام المفسرين الذين لم تصلنا تفاسيرهم كاملة و مدونة. و كذلك تفاسير المفسرين الذين وصلتنا تفاسيرهم كاملة، و لكنها مزيج من أقوالهم و أقوال غيرهم، فعملنا على تجريدها و جردها، لتكون بين أيدينا ـ في نهاية المطاف ـ مدونة تفسيرية تعتمد الترتيب التاريخي لأقوال المفسرين، و آرائهم، واجتهاداتهم، و اختياراتهم، و انتقداتهم، مما يشكل إضافة نوعية إلى مجال التفسير، و ليست اجترارا لتفاسير سابقة، وبذلك يمكننا الوقوف على المعنى القرآني المستفاد في كل عصر، أو المعاني القرآنية التي سادت في كل عصر، بناء على الأنموذج المعرفي السائـد و المهيمن في ذلكم العصر. مما يجعل معرفتنا بالتطور التاريخي لأقوال المفسرين ـ تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين التفاسير و أقوال المفسرين ـ معرفة دقيقة، و موضوعية، بحيث تصبح لدينا القدرة العلمية والمنهجية على التمييز بين الثابت و المتطور في التفسير، كما أنه سيكون بمقدورنا وضع اليد على منطقة الفراغ التفسيري، الذي يدخل ضمن قول عبد الله بن عبــــــــــــاس ( ت 68 هـ ) :
" من القرآن ما يفسره الزمان ".
مما سبق يتبين لنا أمران :
1. نسبية أقوال المفسرين باعتبارها مجهودا بشريا محدودا في الزمان و المكان .
2. أهمية ربط التفاسير بالواقع الثقافي : "قراءة التفاسير في إطار الأنموذج المعرفي السائد والمهيمن".

تفسير سورة الفاتحة :
القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب :

وسمّيت " فاتحة الكتاب "، لأنها يُفتتح بكتابتها المصاحف، ويُقرأ بها في الصلوات، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة .
وسمّيت " أم القرآن " لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخُّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة. وذلك من معناها شبيهٌ بمعنى فاتحة الكتاب. وإنما قيل لها ــ بكونها كذلك ــ أمَّ القرآن، لتسمية العرب كل جامع أمرًا ـــ أو مقدِّمٍ لأمر إذا كانت له توابعُ تتبعه ، هو لها إمام جامع ـــ " أمًّا ".
فتقول للجلدة التي تجمع الدّماغ : " أم الرأس ". وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش " أمًّا ".
وقد قيل إن مكة سميت " أمّ القُرى "، لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها. وقيل: إنما سُميت بذلك، لأن الأرض دُحِيَتْ منها فصارت لجميعها أمًّا.
وأما تأويل اسمها أنها " السَّبْعُ "، فإنها سبعُ آيات، لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك. وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات: فقال عُظْمُ أهل الكوفة : صارت سبع آيات ب ]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ ورُوي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين .
وقال آخرون : هي سبع آيات ، وليس منهن ]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[ ،ولكن السابعة " أنعمت عليهم". وذلك قول عُظْم قَرَأةِ أهل المدينة ومُتْقنيهم .
وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهن مَثان، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة وتطوُّع ومكتوبة . وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك .
وليس في وجوب اسم " السبع المثاني " لفاتحة الكتاب، ما يدفع صحة وجوب اسم "المثاني" للقرآن كله . ولما ثَنَّى المئين من السور . لأن لكلٍّ وجهًا ومعنًى مفهومًا، لا يَفْسُد ـــ بتسميته بعضَ ذلك بالمثاني ـــ تسميةُ غيره بها .
" يتبع "
 
الموضوع جميل ، والعرض جميل .
لكن ليسمح لي الدكتور / أحمد بزوي أن أقول : فيه ملاحظتان :
الأولى : لا يعزى إلى ( لسان العرب ) بـ ( المادة ) ، وإنما بالباب والفصل ، فيقال : باب الدال فصل الجيم .
الثانية : المعروف عن ابن عباس قوله : ( التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ) رواه ابن جرير ؛ وليس فيه : ( من القرآن ما يفسره الزمان ) ، فهذه اللفظة ليست ثابتة عن ابن عباس ، والعلم عند الله تعالى ... وتقبلوا تحياتي .
 
أشكر د محمد عطية على تعقيبه وليسمح لي بتعقيب:
الأولى : لا يعزى إلى ( لسان العرب ) بـ ( المادة ) ، وإنما بالباب والفصل ، فيقال : باب الدال فصل الجيم .
العزو إلى مادة في المعجم منهج متبع في بعض الجامعات،ومنها جامعتي،حيث بينوا في دليل الدراسات العليا ان توثيق النص من المعجم يكون بالعزو إلى المادة دون ذكر الباب أو الفصل ،كما فعل أخي الكريم،وتقبلوا بقبول فائق الاحترام والتقدير .
 
العزو إلى لسان العرب بالباب والفصل ، أظنها طريقة متجاوزة .
وفي هذا المجال أذكر نموذجا صدر عن جامعة المدينة العالمية بعنوان (الدليل الموجز في الدراسات العليا) فبراير 2012 ، جاء فيه مثالا لتوثيق المعلومة :
" إذا كان المصدر معجماً لغوياً: الفيروز آبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، ط 4 (مصر: مطبعة دار المأمون، 1357هـ 1938 م)، مادة: نجح، 75/3 "
وننتظر من الدكتور بزوي الضاوي أن يفيدنا في هذا المجال ، ونحن على أبواب الجامعة الخريفية الدولية ، التي ننتظر عطاءاتها في موضوع : تقنيات البحث ومناهجه في العلوم الشرعية .

مع فائق التقدير والاحترام
 
مشروع رائد بارك الله في جهدكم وعلمكم، ما هي الجهة البحثية القائمة على المشروع؟
 
لقد جربت الجرد التاريخي في تفسير بعض الآيات والنتائج التي توصلت لها مذهلة، لهذا فأنا أعتقد أن الجرد التاريخي سيكون فتحاً في علم التفسير.
 
الأخ / عمر شنك
العزو إلى المعاجم منهج علمي معروف ، ومعظم المعاجم يُعزى إليها بالمادة ، وهناك من المعاجم ما لا يعزى إليه بالمادة ، ولكن يعزى إليه بالباب والفصل ، لأنه منهج مصنفه ... ومنها ( لسان العرب ) .. فليتنبه .
 
الأخ / عبد الكريم عزيز
ومن المعاجم التي لا يعزى لها بالمادة ( القاموس المحيط ) فقد اختار مصنفه الباب والفصل ، ولكن الباب عنده أول حرف ، والياب عند ابن منظور آخر حرف ... فليتنبه .
ولو أنك رجعت للمعاجم لما تجاوزت بمقولتك : ( العزو إلى لسان العرب بالباب والفصل ، أظنها طريقة متجاوزة ) .
 
أخي الكريم محمد عطية ، جزاك الله خيرا وأحسن إليك
(التجاوز) فرضه التطور الذي طرأ على الوصول إلى المادة المعجمية ، وذلك من خلال المعاجم الإلكترونية المتعددة ، مما جعل البحث العلمي يواكب هذا التطور . وهذا التجاوز يعني البحث العلمي لا غير .
نسأل الله التوفيق والسداد .
مع فائق التقدير والاحترام
 
الأخ الكريم / عبد الكريم
لا يخفاك الفرق بين تسهيل الوصول إلى المادة المعجمية ، والتوثيق ؛ وكلامنا عن التوثيق بالعزو .. دمت بخير .
 
والملاحظة الثانية التي أثارها أخي محمد عطية ، والمتعلقة بالقولة المسندة إلى ابن عباس ، قد نبه إليها الدكتور مساعد الطيار في مشاركة سابقة ، كسؤال عن أصل هذه القولة : (من القرآن ما يفسره الزمان) . فلم نتوصل بالجواب من أحد إلى الآن .
أما المشروع الذي أشار له الدكتور بزوي الضاوي ، فهو حقا (مشروع) كبير ، يحتاج إلى إمكانيات كبيرة . مع الالتزام بإكمال المشروع . بخلاف المشاريع التي تنتهي قبل أن تكتمل هنا وهناك .
مع فائق التقدير والاحترام
 
بسم1​

القول في تأويل الاستعاذة

تأويل قوله : " أَعُوذُ " .
و الاستعاذة : الاستجارة . وتأويل قول القائل : " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "
أستجيرُ بالله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان أن يضرَّني في ديني ، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي .
تأويل قوله : " مِنَ الشَّيْطَانِ "
والشيطان ، في كلام العرب : كل متمرِّد من الجن والإنس والدوابِّ وكل شيء . وكذلك قال ربّنا جل ثناؤه :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ }
"سورة الأنعام : 112"
فجعل من الإنس شياطينَ ، مثلَ الذي جعل من الجنّ .
وإنما سُمي المتمرِّد من كل شيء شيطانًا ، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاقَ سائر جنسه وأفعاله ، وبُعدِه من الخير .
وقد قيل : إنه أخذ من قول القائل : شَطَنَتْ دَاري من دارك - يريد بذلك : بَعُدت .
ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان :
نأتْ بِسُعَادَ عَنْك نَوًى شَطُونُ ---فبانَت ، والفؤادُ بها رَهِينُ
والنوى : الوجه الذي نَوَتْه وقصَدتْه . والشَّطونُ : البعيد . فكأن الشيطان - على هذا التأويل - فَيعَالٌ من شَطَن .
ومما يدلّ على أن ذلك كذلك ، قولُ أميّة ابن أبي الصّلت :
أَيُّمَا شاطِن عَصَاه عَكاهُ ---ثُم يُلْقَى في السِّجْن والأكْبَالِ
ولو كان فَعلان ، من شاطَ يشيط ، لقال أيُّما شائط ، ولكنه قال : أيما شاطنٍ ، لأنه من " شَطَن يَشْطُنُ ، فهو شاطن " .
تأويل قوله : " الرَّجِيمِ " .
وأما الرجيم فهو : فَعيل بمعنى مفعول ، كقول القائل : كفٌّ خَضيبٌ ، ولحيةٌ دَهينٌ ، ورَجُلٌ لَعينٌ ، يريد بذلك : مخضوبة, ومدهونة, وملعون .
وتأويل الرجيم : الملعون المشتوم . وكل مشتوم بقولٍ رديء, أو سبٍّ فهو مَرْجُوم .
وأصل الرجم الرَّميُ ، بقول كان أو بفعل .
ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم صلوات الله عليه :
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ }
"سورة مريم : 46 " .
وقد يجوز أن يكون قِيل للشيطان رجيمٌ ، لأن الله جل ثناؤه طرَدَهُ من سَمواته ، ورجمه بالشُّهب الثَّواقِب .
أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يتعوذ بالله دون خلقه .
 
بسم1​

القول في " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ " .

إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنةً يستنون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، في افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم، وحاجاتهم ، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل " بسم الله " ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف .

وذلك أن الباء من " بسم الله " مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل " بسم الله " معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً ، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل ، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه ، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قيل له : ما أكلت اليوم ؟ فقال : طعاما، عن أن يكرّر المسئول مع قوله " طعاما " أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه، بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل . فمعقول إذن أن قول القائل إذا قال :" بِسم الله الرحمن الرحيم " ثم افتتح تاليا سورة، أن إتباعه " بسم الله الرحمن الرحيم " تلاوةَ السورة ، ينبىء عن معنى قوله : " بسم الله الرحمن الرحيم " ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم الله الرحمن الرحيم .
وكذلك قوله : " بسم الله " عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله ، ينبىء عن معنى مراده بقوله " بسم الله " ، وأنه أراد بقيله " بسم الله " : أقوم بسم الله ، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الأفعال .
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس .
فإن قال لنا قائل : فإن كان تأويل قوله " بسم الله " ما وصفت ، والجالب " الباء " في " بسم الله " ما ذكرت ، فكيف قيل " بسم الله "، بمعنى " اقرأ بسم الله " ، أو " أقوم أو أقعد بسم الله " ؟ وقد علمت أن كل قارىء كتاب الله ، فبعون الله وتوفيقه قراءتُه ، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلاً ، فبالله قيامُه وقعوده وفعله ؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك ، قيل : " بالله الرحمن الرحيم "، ولم يقل " بسم الله " فإن قول القائل : أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم ، أو أقرأ بالله ، أوضح معنى لسامعه من قوله " بسم الله " ، إذ كان قوله أقوم أو أقعد باسم الله ، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله .
قيل له : إن المقصود إليه من معنى ذلك ، غير ما توهمته في نفسك . وإنما معنى قوله " بسم الله " : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء ، أو أقرأ بتسمية الله ، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره, لا أنه يعني بقيله " بسم الله " : أقوم بالله ، أو أقرأ بالله فيكون قول القائل : " أقرأ بالله " ، و" أقوم وأقعد بالله "، أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله " بسم الله " .
فإن قال : فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ ، فكيف قيل " بسم الله " وقد علمت أن الاسم اسم ، وأن التسمية مصدر من قولك سَمّيت ؟ .
قيل : إن العرب قد تخرج المصادر مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامةً، وإنما بناء مصدر «أفعلتُ » إذا أُخرج على فعله: «الإفعالُ »، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما . وبناء مصدر "فعّلت" التفعيل، ومن ذلك قول الشاعر :
أكُفْرا بَعْدَ رَدّ المَوْتِ عَنّي وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرّتاعا
يريد : إعطائك . ومنه قول الاَخر :
وَإنْ كانَ هَذا البُخْلُ مِنْكَ سَجِيّةً لَقَدْ كُنْتُ في طَوْلي رَجاءَكَ أشْعَبا

يريد : في إطالتي رجاءك . ومنه قول الاَخر :
أظَلُومُ إنّ مُصَابكُمْ رَجُلا أهْدَى السّلامَ تَحِيّةً ظُلْمُ

يريد إصابتكم، والشواهد في هذا المعنى تكثر، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وفق لفهمه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا، تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل : " بسم الله "، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول : أبدأ بتسمية الله ، قبل فعلي، أو قبل قولي .
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن : " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ " إنما معناه : أقرأ مبتدئا بتسمية الله ، أو أبتدىء قراءتي بتسمية الله ، فجعل الاسم مكان التسمية ، كما جعل الكلام مكان التكليم، والعطاء مكان الإعطاء .
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوي الخبر عن عبد الله بن عباس .
وهذا التأويل من ابن عباس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته : " بسم الله الرحمن الرحيم " : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله ، بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله : بالله الرحمن الرحيم في كل شيء ، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته ، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد، وعند المطعم والمشرب ، وسائر أفعالهم ، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم .
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام : " بالله " ، ولم يقل " بسم الله " ، أنه مخالف بتركه قيل " بسم الله" ما سُنّ له عند التذكية من القول . وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله : " بسم الله"، " بالله " كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، هو الله لأن ذلك لو كان كما زعم ، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته " بالله " قائلاً ما سُنّ له منّ القول على الذبيحة . وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول على ذبيحته، إذْ لم يقل " بسم الله "، دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل " بسم الله " وأنه مراد به بالله، وأن اسم الله هو الله .
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم ، أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به ، وإنما هو موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله ، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل : فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة :
إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ
فقد تأوّله مقدم في العلم بلغة العرب، أنه معنيّ به : ثم السلام عليكما ، وأن اسم السلام هو السلام .
قيل له: لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويل من تأوّل قول لبيد: "ثم اسم السلام عليكما "، أنه أراد : ثم السلام عليكما، وادعائه أن ادخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز ، إذْ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه .
ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل، يعني بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام عليك ، وأنتم تريدون السلام عليك ؟ فإن قالوا : نعم خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا لا سئلوا الفرق بينهما، فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟ قيل له : يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدهما: أن " السلام " اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله : " ثم اسم السلام عليكما ": ثم الْزَمَا اسم الله وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء عليّ على وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذْ أخّر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر.
ومن ذلك قول الشاعر :
يا أيّها المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا إني رأيْتُ النّاس يَحْمَدُونَكا
فأغرى ب " دونك "، وهي مؤخرة وإنما معناه: دونك دلوي . فذلك قول لبيد :
إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا
يعني : عليكما اسم السلام ، أي : الزما ما ذكر الله ، ودعا ذكري والوجد بي لأن من بكى حولاً على امرىء ميت فقد اعتذر . فهذا أحد وجهيه .
والوجه الاَخر منهما : ثم تسميتي الله عليكما ، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه : «اسم الله عليك » يعوّذه بذلك من السوء ، فكأنه قال : ثم اسم الله عليكما من السوء . وكأن الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد .
ويقال لمن وجّه بيت لبيد هذا إلى أن معناه : " ثم السلام عليكما ": أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا، أو أحدهما، أو غير ما قلت فيه ؟ فإن قال: لا أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال : بلى قيل له : فما برهانك على صحة ما ادّعيت من التأويل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك. وأما الخبر الذي
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام، عن عطية، عن أبي سعيد، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أسْلَمَتْهُ أُمّهُ إلى الكُتّابِ لِيُعَلّمَهُ ، فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى : وَما بِسْمِ ؟ فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ : الباءُ : بَهاءُ اللّهِ ، وَ السّينُ: سَناؤُهُ، وَالمِيمُ : مَمْلَكَتُهُ " . [1]

فأخشى أن يكون غلطا من المحدث، وأن يكون أراد : " ب س م"، على سبيل ما يعلم المبتدى من الصبيان في الكتاب حروفَ أبي جاد . فغلط بذلك، فوصله فقال : " بسم" لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي " بسم الله الرحمن الرحيم " على ما يتلوه القارىء في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويله على ذلك .

1 ـ حديث موضوع لا أصل له .
 
نشكر الدكتور أحمد بزوي الضاوي على هذه الجرادة التفسيرية الممتعة ، وننتظر المزيد إن شاء الله تعالى .
وعلى الهامش أسطر أن الذين ادعوا أن " بسم الله " هو الله ، قد خالفوا روح القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وانطبق عليهم قوله تعالى : {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...}[الأنعام:91]
والله أعلم وأحكم
مع فائق التقدير والاحترام
 
بسم1​
القول في تأويل قوله تعالى : ( الله ) .

وأما تأويل قول الله تعالى ذكره : ( الله ) ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس ( ت 68 هـ ) : هو الذي يَأْلَهه كل شيء ، ويَعبدُه ُكُلُّ خَلْقٍ .

فإن قال لنا قائل : فهل لذلك في " فَعَلَ ويَفْعَل " أصل كان منه بناءُ هذا الاسم ؟ .
قيل : أما سماعا من العرب فلا ، ولكن استدلالاً .
فإن قال : وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعل ويفعل؟ .
قيل : لا تمانُعَ بين العرب في الحكم لقول القائل ـــ يصف رجلاً بعبادة, وبطلب ما عند اللهِ جلَّ ذِكره : " تألّه فلان " ـــ بالصحة ولا خلاف .
ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لِلّهِ دَرّ الغانِياتِ الـمـُـــدَّهِ °°° سَبّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلـُّـــهـِــي
يعني من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي .
ولا شك أن التألُّــه " التفعُّل " من : أَلَهَ يَأْلَهُ ، وأن معنى " أَلَه " إذا نُطق به : عَبَدَ اللهَ . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب " فَعَل يفعل " بغير زيادة .
ولا شك أن الإلاهة ــ على ما فسره ابن عباس ومجاهد ـــ مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللّهَ فلانٌ إلاهةً ، كما يقال : عبدَ اللهَ فلانٌ عِبادةً ، وعَبَر الرُؤيا عِبارةً . فقد بيّن قول ابن عباس ومجاهد هذا أن ألَه : عَبد ، وأن الإلاهة مصدرُه .
فإن قال : فإن كان جائزاً أن يقال لمن عَبَدَ اللهَ : ألَـهَهُ ـــ على تأويل قول ابن عباس ومجاهد ـــ فكيف الواجب في ذلك أن يقال ، إذا أراد الـمُخْبِـرُ الـخَبـَــرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْدِه ؟
أن يقال : الله جَلَّ جلالُه أَلَهَ العَبْدَ ، والعبدُ ألَـهَهُ . وأن يكون قولُ القائلِ " الله " من كلام العرب أصله " الإِلهُ " .
فإن قال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما ؟
قال : كما جاز أن يكون قوله :
{ لكِنَّ هُوَ اللهُ رَبـِّي } "
سورة الكهف ، الآية 38 "
أصله : لكن أنا ، هو الله ربي،
كما قال الشاعر :
وَتَرْمِيننِي بالطّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِبٌ °°° وتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إيّاكِ لا أَقْلِي
يريد : " لكنْ أنا إياك لا أقلي " فحذف الهمزة من " أنا "، فالتقت نون " أنا " ونون " لكن " وهي ساكنة، فأدغمت في نون أنا، فصارتا نوناً مشددة. فكذلك الله أصله الإله، أسقطت الهمزةُ، التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله :
{ لَكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي }.
 
بسم1​
القول في تأويل قوله تعالى : ) الرّحْمنِ الرّحِيمِ (.
أما الرحمن ، فهو " فَعلان " ، من رَحم ، و " الرحيم " فعيل منه .
والعرب كثيرا ما تبني الأسماء من فعل يفعل على فعلان ، كقولهم :
1. من غَضِب غَضْبان .
2. ومن سَكر سَكْران .
3. ومن عطش عَطْشان .
فكذلك قولهم رحمَن من رَحم ، لأن " فَعِلَ " منه : رَحِمَ يَرْحم .
وقيل " رحيم " وإن كانت عين فعل منها مكسورة ، لأنه مدح .
ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذمّ على فعيل، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا :
1. من عَلِمَ : عالم وعليم .
2. ومن قدَر: قادر وقدير .
وليس ذلك منها بناءً على أفعالها لأن البناء من " فَعِلَ يَفْعَل " و " فَعَلَ يَفْعَلُ " و " فعلَ يفعِل " فاعل . فلو كان " الرحمن والرحيم " خارجين على بناء أفعالهما، لكانت صورتهما " الراحم ".
فإن قال قائل : فإذا كان الرحمَن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الاَخر ؟.
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى ؟.
قيل: أما من جهة العربية، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أن قول القائل " الرحمن " ـ عن أبنية الأسماء من " فَعِلَ يَفْعَل " ـ أشد عدولاً من قوله " الرَّحيم " . ولا خلاف مع ذلك بينهم، أن كل اسم كان له أصل في " فَعِلَ يَفْعَل " ـ ثم كان عن أصله من " فَعِل يفعَلُ " أشدّ عدولاً ـ أن الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من " فَعِلَ يَفْعَل ", إذا كانت التسمية به مدحاً أو ذماً. فهذا ما في قول القائل " الرحمَن " من زيادة المعنى على قوله : " الرحيم " في اللغة .
وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف .
I. دل أحدهما على معنيين :
1. الرحمن بجميع الخلق، الرحيم بالمؤمنين.
2. الرحمن رحمن الآخرة و الدنيا، و الرحيم رحيم الآخرة .
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو " رحمن "، و تسميته باسمه الذي هو " رحيم "، و اختلاف معنيي الكلمتين ـ و إن اختلفتا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا، و دلَّ الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال : فأيّ هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟.
قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولى بالصحة. وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم, هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال . فلا شكّ ـ إذا كان ذلك كذلك ـ أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الاَخرة، أو فيهما جميعا.
فإذ كان صحيحا ما قلنا من ذلك ـ وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا , بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه, مما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه, ما أعد في أجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين, لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته, خالصا دون من أشرك وكفر به ـ كان بيِّناً أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والاَخرة، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البَسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغَيْثِ، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والاَخرة، ورحيمُ المؤمنين خاصة في الدنيا والاَخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته، فكان رحماناً لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه:
) وإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها (
" سورة إبراهيم ، الآية 34 ، و سورة النحل ، الآية 18 "
وأما في الاَخرة، فالذي عمَّ جميعهم به فيها من رحمته . فكان لهم رحماناً. في تسويته بين جميعهم جل ذكرُه في عدله وقضائه، فلا يظلم أحداً منهم مِثْقَالَ ذَرّةٍ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرا عَظِيما، وتُوفّى كل نفس ما كسبتْ. فذلك معنى عمومه في الاَخرة جميعَهم برحمته، الذي كان به رحماناً في الاَخرة .
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره:
) وكانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيما (
" سورة ألأحزاب ، الآية 43 "
فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصَّهم به, دونَ من خذَله من أهل الكفر به. وأمَّا ما خصَّهم به في الاَخرة، فكان به رحيماً لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصرُ عنها الأماني .
II. وأما القول الاَخر في تأويله، فهو :
1. من ابن عباس( ت 68 هـ )، يدل على أن الذي به ربنا رحمن، هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله " الرحمن " من المعنى، ما ليس لقوله " الرحيم ". لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رقَّ عليه، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به .
2. والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس. وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلاً غيرَ تأويل الرحمن .
III. والقول الثالث في تأويل ذلك :
أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذّاب مسيلمة ــ وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه ــ أخبر الله جلَّ ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم، ليفصِل بذلك لعباده اسمَه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يُسمّى أحد الرحمن الرحيم, فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره, وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما، أو يتسمى رحمن، فأما " رحمَن رحيم "، فلم يجتمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره . فكأن معنى قول عطاء هذا : أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه ، اختلف معناهما أو اتفقا .
والذي قال عطاء من ذلك غيرُ فاسدِ المعنى، بل جائز أن يكون جلَّ ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه ، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الاَخر منهما .
وقد زعم بعضُ أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي e:
) وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لما تَأْمُرُنَا (
" سورة الفرقان، الآية 60 "
إنكارا منهم لهذا الاسم . كأنه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قولَ الله :
) الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ (
يعني محمدا e
) كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ (
" سورة البقرة، الآية 146 "
وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبّوته جاحدون .
فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقةَ ما قد ثبت عندهم صحتُه, واستحكمتْ لديهم معرفتُه . وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء :
ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَها *** ألاَ قَضَبَ الرّحْمَنُ رَبّي يَمِينَها
وقال سلامة بن جندل الطهوي :
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنا عَلَيْكُمُ *** وَما يَشاء الرّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن " الرحمن " مجازه " ذو الرحمة "، و" الرحيم " مجازه " الراحم " . ثم قال : قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد ، وذلك لاتساع الكلام عندهم . قال : وقد فعلوا مثل ذلك ، فقالوا : ندمان ونديم . ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي :
ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَا *** سَقَيْتُ وقَدْ تَغَوّرَتِ النّجُومُ
واستشهد بأبيات نظائر له في النَّديم والنَّدمان . ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل ، لقوله : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم : الراحم . وإن كان قد ترك بيان تأويل معنييهما على صحته . ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد ، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين ، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ .
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثَـبت أن له الرحمة ، وصحَّ أنها له صفة، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه . ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة, إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله، من معنى الكلمتين تأتيان مقدَّرَتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ؟.
ولكن القولَ إذا كان غير أصلٍ مُعتمد عليه كان واضحاً عُوَارُه .
وإن قال لنا قائل: ولِــمَ قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، واسمهُ الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم ؟.
قيل : لأن من شأن العرب, إذا أرادوا الخبر عن مُـخْبَر عنه أن يقدِّموا اسمه، ثم يُتبعوه صفاتِه ونعوتَه. وهذا هو الواجب في الحُكم: أن يكون الاسم مقدَّماً قبل نعته وصِفَته، ليعلم السامع الخبرَ, عمَّن الخبرُ. فإذا كان ذلك كذلك ـــ وكان لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرم على خلقه أن يتسمَّوا بها, خَصَّ بها نفسه دونهم، ذلك مثل " الله " ، و" الرحمن " و" الخالق "، وأسماءٌ أباحَ لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيم، والسميع، والبصير، والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء ـــ كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامعُ ذلك من تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ, ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني . فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو " الله " لأن الألوهية ليست لغيره جلَّ ثناؤه من وجه من الوجوه ، لا من جهة التسمِّي به ، ولا من جهة المعنى . وذلك أنا قد بيَّنا أن معنى " الله " تعالى ذكره معنى المعبود، ولا معبود غيرهُ جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرَّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقيّ ، وبحَسَنٍ وهو قبيح .
أَوَ لا ترى أن الله جلَّ جلاله قال في غير آية من كتابه :
)أإله مَعَ اللَّهِ (
" سورة النمل ، الآية 64 "
فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن :
) قُلِ ادْعُوا اللّهَ أو ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا ما تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى (
" سورة الإسراء، الآية 110 "
ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذْ كان قد مَنع أيضا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه . وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمَن ثانيا لاسمه الذي هو " الله ".
وأما اسمه الذي هو " الرحيم " فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان ـ إذ كان الأمرُ على ما وصفنا ـ واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنَّ توابعُها بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو " الله " على اسمه الذي هو " الرحمن "، واسمه الذي هو " الرحمن " على اسمه الذي هو " الرحيم " .
وقد كان الحسن البصري ( ت 110 هـ ) يقول في الرحمن مثل ما قلنا ، أنه من أسماء الله التي منعَ التسميَ بها العبادَ .
مع أن في إجماع الأمة مِن منع التسمِّي به جميعَ الناس, ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره .


 
القول في تأويل فاتحة الكتاب

القول في تأويل فاتحة الكتاب

بسم1​

)الْحَمْدُ للّهِ(

)الحَمْدُ لِلّهِ( : الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه، ودون كلِّ ما بَرَأَ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الاَلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فَرائِضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغَذَاهُم به من نعيم العيْش، منْ غيرِ استحقاقٍ منهم لذلك عَليْه، ومع ما نَبَهَهُم عليه، ودَعاهُم إليه من الأسْبابِ الـمُـؤدِّية إلى دوام الخلود في دار الـمُـقام في النَّعيم الـمُـقيم . فلِرَبنا الحمدُ على ذلك كلِّه أولاً وآخراً .
وقد قيل إن قول القائل: الحَمْدُ لِلَّهِ ثَناءٌ على الله بأسمائه وصفاته الـحُسنى، وقوله : " الشكر لله " ثناء عليه بنعمه وأياديه .
ولا تَمَانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم ــ لقول القائل : " الحَمْدُ لِلّهِ شكرا " ـــ بالصحة . فقد تبيَّن إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا ــ أنَّ الحمد لله قد يُنْطَق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك, لما جاز أن يقال " الحمد لله شكرا "، فيُخْرِج من قول القائل " الحمد لله " مُصَدَّرَ " أشكُرُ "، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه .
فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلاّ قيل : حَمداً لله ربّ العالمين؟ .
قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل " حَمْداً "، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبـِىءٌ على أن معناه : جميعُ الـمـَحامدِ والشكرُ الكاملُ لله . ولو أُسقطتا منه لما دَلَّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك للهِ، دون المحامدِ كُلها. إذْ كان معنى قول القائل : " حمدا لله " أو " حَمْدٌ اللهَ " : أحمدُ اللهَ حمداً، وليس التأويل في قول القائل:
)الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ(
تاليا سورة أم القرآن : أحمدُ اللهَ، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ من أنَّ جميع المحامدِ لله بألوهيَّتِهِ وإِنْعامِهِ على خَلْقِهِ، بما أنعمَ به عليهمِ من النعمِ التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا, والعاجل والاَجل .
ولذلك من المعنى، تتابعتْ قِراءةُ القُرَّاءِ وعُلماءِ الأُمة على رفعِ الحمدِ من :
)الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمينَ دون نصبها(
دون نصبها الذي يؤدي إلى الدِلالةِ على أنَّ مَعنى تَالِيهِ كَذلكَ : أحمدُ الله حمداً . ولو قرأ قارىء ذلك بالنصب، لكان عندي مُـحيلاً معناهُ, ومُسْتَحِقّاً العقوبةَ على قراءته إياه كذلك, إذا تعمَّدَ قراءتَه كذلك, وهو عالمٌ بخطئه وفسادِ تأويلِه .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : " الحمد لله " ؟ أَحَمِدُ اللّهَ نفسَه جل ثناؤه فأثنى عليها، ثم عَلَّمَناهُ لنقولَ ذلك كما قالَ ووصفَ به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذاً :
)إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ(
وهو عزَّ ذِكْرُه معبودٌ لا عابدٌ ؟ أم ذلك من قيلِ جبريلَ , أو محمدٍ رَسولِ الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ؟ فقدْ بَطُلَ أنْ يكونَ ذلكَ لله ِكَلاماً .
قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه, ولكنه جلَّ ذكره حَمِدَ نفسَهُ وأَثْنى عليها بما هو له أهلٌ، ثم عَلَّم ذلك عِبادَه, وفرضَ عليهم تلاوته، اختباراً منه لهم وابتلاءً، فقال لهم : قولوا :
)الحمدُ لِلّه رَبِّ العالَمينَ(
وقولوا :
)إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ(
فقوله: )إياك نعبد(، مما عَلَّمَهم جلَّ ذؤكره أن يَقولوه ويَدينوا له بمعناه . وذلك موصول بقوله :
)الحمدُ للّه ربّ العالمين (
وكأنه قال : قولوا هذا وهذا .
فإن قال : وأين قوله : " قولوا " فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ ؟
قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب ــ من شأنها إذا عرفتْ مكان الكلمة, ولم تَشَكَّك أن سامعها يعرف, بما أظهرت من منطقها, ما حذفت ــ حَذْفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت, قولاً , أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر :
وأعْلَمُ أنّني سأكُونُ رَمْساً *** إذَا سارَ النَّوَاعِجُ لا يَسيرُ
فَقالَ السّائلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ ؟ *** فَقالَ المُخْبِرُونَ لَهُمْ وَزيرُ
يريد بذلك, فقال المخبرون لهم : الـميِّت وزيرٌ، فأسقط " الميت "، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلَّ على ذلك .
وكذلك قول الاَخر :
ورَأيْتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
وقد علم أنَّ الرمح لا يُتَقَلَّد به، و أنه إنما أراد : وحاملاً رمحاً. ولكن لما كان معلوماً معناه, اكتفى بما قد ظَهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه . وقد يقولون للمسافر إذا ودّعوه : مُصَاحَباً مُعافىً ، يحذفون " سِرْ واخْرُجْ " إذْ كان معلوماً معناه وإن أسقطَ ذِكْرَه . فكذلك ما حُذِف من قول الله تعالى ذكره :
)الحمدُ لِلّهِ ربّ العَالمينَ (
لَمَّا عُلِم بقوله جل وعزّ :
)إياك نَعْبُد(
ما أراد بقوله :
)الحمد لله ربّ العالمين(
من معنى أمره عبادَه ، أغْنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف .
وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله :
)الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ(
عن ابن عباس ( ت 68 هـ ) ، وأنه كان يقول : إن جبريل قال لمحمد : قل يا محمد :
) الحمدُ لله ربّ العالمين (
وبَيّنا أن جبريل إنما عَلَّمَ محَمّداً ــ صلى الله عليه وسلم ــ ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر يُنبىء عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك .
 
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ } .

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى ( رَبّ )

قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو "الله " في " بسم الله " ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع .

وأما تأويل قوله " رَبّ " ، فإنالربّ في كلام العرب متصرفٌ على معان : فالسيد المطاع فيهم يدعى ربّاً ، ومن ذلكقول لبيد بن ربيعة :

وأهْلَكْنَ يَوْما رَبَّ كِنْدَةَ وابنَه ***وَرَبَّ مَعَدّ بينَ خَبْتٍوعَرْعَرِ


يعني بربّ كندة : سيدَ كندة . ومنه قول نابغة بني ذبيان :


تَخُبُّ إلى النُّعْمانِ حَتّى تَنالَهُ *** فِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفي وتالِدِي


والرجل المصلح للشيء يدعى رَبّا . ومنه قول الفرزدق بن غالب :


كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَت *** سِلأَها في أدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ


يعني بذلك في أديم غير مصلح . ومن ذلك قيل : إن فلانا يَرُبّ صنيعته عند فلان ،إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها . ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :


فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَيْكَ رِبابَتي *** وقَبْلَكَ رَبّتْني فَضِعْتُ رُبُوبُ


يعني بقوله أفضت إليك : أي أوصلت إليك ربابتي ، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لماخرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده. وهم الرّبوب : واحدهم رَبّ . والمالك للشيء يدعى رَبّه . وقد يتصرّف أيضا معنى "الرب " في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة .
فربنا جل ثناؤه ، السيد الذي لا شِبْه له ، ولا مثل في سؤدده ، والمصلح أمر خلقهبما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه ( رَبّ العالَمِينَ ) جاءت الرواية عن ابن عباس .
 
القول في تأويل قوله تعالى : ( العَالَمِينَ ) .

القول في تأويل قوله تعالى : ( العَالَمِينَ ) .


بسم الله الرحمن الرحيم


القول في تأويل قوله تعالى : ( العَالَمِينَ) .

والعالَمون جمع عالَم، والعالَم جمعٌ لاواحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش, ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعاتعلى جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه .
والعالَم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منهاعالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالَم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم،وكل أهل زمان منهم عالَمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالَم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلجنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمِع فقيل " عالَمون " ، وواحده جمعٌ لكونعالَم كلّ زمان من ذلك عالَم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج :
فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العالَمِ
فجعلهم عالم زمانه . وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس ( ت 68 ه ) وسعيد بن جبير (ت 95 هـ)، وهو معنى قول عامّة المفسرين .



 
القول في تأويل قوله تعالى : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )

القول في تأويل قوله تعالى : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )


بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :

( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )
"سورة الفاتحة : الآية 3 "

قد مضى البيان عن تأويل قوله « الرحمن الرحيم » ، في تأويل " بسم الله الرحمنالرحيم "، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . ولم يحتج إلى الإبانة عن وجهتكرير الله ذلك في هذا الموضع ، إذ كنا لا نرى أن "بسم الله الرحمن الرحيم "من فاتحة الكتاب آية، فيكون علينا لسائلٍ مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذاالموضع ، وقد مضى وصف الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله "بسم الله الرحمن الرحيم"، مع قرب مكان إحدى الاَيتين من الاَخرى ومجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجةعلى خطأ دعوى من ادعى أن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب آية، إذ لو كانذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بمعنى واحد ولفظ واحد مرتين من غير فصل يفصل بينهما.وغير موجود في شيء من كتاب الله آيتان متجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد،لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما، وإنما يأتي بتكرير آية بكمالها فيالسورة الواحدة، مع فصول تفصل بين ذلك، وكلام يُعترض به بغير معنى الاَياتالمكرّرات أو غير ألفاظها، ولا فاصل بين قول الله تبارك وتعالى اسمه "الرحمنالرحيم " من "بسم الله الرحمن الرحيم "، وقول الله : "الرحمنالرحيم "، من "الحمد لله رب العالمين ".

فإن قال قائل : فإن "الحمد لله ربالعالمين " فاصل بين ذلك . قيل : قد أنكر ذلك جماعةٌ من أهل التأويل ، وقالوا: إن ذلك من الموخّر الذي معناه التقديم ، وإنما هو : الحمد لله الرحمن الرحيم ربالعالمين ملك يوم الدين . واستشهدوا على صحة ما ادّعوا من ذلك بقوله: "مَلِكِيَوْم الدّين" فقالوا : إن قوله : "ملك يوم الدين" تعليم من اللهعبده أن يصفه بالمُلْك في قراءة من قرأ مَلِك، وبالمِلْك في قراءة من قرأ "مالك". قالوا: فالذي هو أولى أن يكون مجاور وَصْفه بالمُلْك أو المِلْك ما كان نظير ذلك منالوصف، وذلك هو قوله "رَبّ العالمين"، الذي هو خبر عن ملكه جميع أجناسالخلق، وأن يكون مجاور وصفه بالعظمة و الألوهة ما كان له نظيرا في المعنى منالثناء عليه، وذلك قوله: "الرّحْمَنِ الرّحيم". فزعموا أن ذلك لهم دليلعلى أن قوله "الرحمن الرحيم " بمعنى التقديم قبل "رب العالمين"،وإن كان في الظاهر مؤخرا. وقالوا: نظائر ذلك من التقديم الذي هو بمعنى التأخيروالمؤخر الذي هو بمعنى التقديم في كلام العرب أفشى وفي منطقها أكثر من أن يحصى، منذلك قول جرير بن عطية :
طافَ الخَيالُوأيْنَ منْكَ لِمَاما *** فارْجِعْ لزَوْرِكَ بالسّلام سَلاما
بمعنى طاف الخيال لماما وأين هو منك . وكماقال جل ثناؤه في كتابه : ( الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتابَوَلمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما ) المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتابقيما ولم يجعل له عوجا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهد على صحة قول من أنكر أنتكون " بسم الله الرحمن الرحيم " من فاتحة الكتاب آية .
 
القول في تأويل قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )

القول في تأويل قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )

بسم الله الرحمن الرحيم


القول في تأويل قوله تعالى :
[FONT=QCF_BSML]([/FONT]مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [FONT=QCF_BSML])[/FONT]

القُرَّاء مُختلفون فيتلاوة ( ملك يوْمِ الدِّين )، فبعضهم يتلوه : (مَلِكِ يومِ الدِّين)، وبعضهم يتلوه: (مَالِكِ يومِ الدِّين)، وبعضهم يتلوه : (مالِكَ يوم الدين) بنصب الكاف. وقداستقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في "كتاب القراءات"،وأخبرنا بالذي نختار من القِراءة فيه، والعلةِ الموجبة صحَّة ما اخترنا من القراءةفيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قَصَدْنا له في كتابنا هذا البيانَعن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها .
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِكَ من " المُلْك " مشتقّ، وأن المالك من " المِلْك "مأخوذٌ. فتأويل قراءة من قرأ ذلك : (مَالِكِ يَوْمِ الدّين) أن لله المُلْك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه, الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكاً جبابرة يُنازعونه المُلْك, ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية. فأيقنوا بلقاءالله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلة، وأن له ــ من دونهم, ودون غيرهم ــ المُلْك والكبرياء, والعزّة والبهاء، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله :
( يَوْمَهُمْ بَارزُونَ لاَ يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَلِلّهِ الوَاحدِ القَهّارِ)
" سورة غافر, الآية 16 " .
فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذٍ بالمُلْكدون ملوك الدنيا, الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلَّة وصَغَار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار.

وأماتأويلُ قراءة من قرأ: (مالكِ يَوْمِ الدّينِ)، فما: حدثنا به أبو كريب، قال : حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، قال : حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبدالله بن عباس : ( مالكِ يَوْمِ الدّينِ ) يقول : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكماً كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال :
( لاَ يَتَكَلّمُونَ إِلاّ مَنْ أذِنَ لَهُالرّحْمَنُ وقالَ صَوَابا )
" سورة النبأ، الآية 38 " ,
وقال: (وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ)
" سورة طه، الآية 108 "
وقال: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِارْتَضَى ) " سورة الأنبياء, الآية 28 ".

وأولى التأويلين بالآية, وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي, التأويلُ الأول, وهي قراءةُ من قرأ " مَلِك " بمعنى " المُلْك ". لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك, إيجاباً لانفراده بالملك, وفضيلةَ زيادة المِلْك على المالك، إذْ كان معلوماً أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا مَلِكاً.
وبعدُ: فإن الله جلَّ ذكره قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله : (مَالِك يَوْمِالدينِ) أنه مالكُ جميع العالمين, وسيِّدهم، ومُصلحُهم, والناظرُ لهم، والرحيم بهمفي الدنيا والاَخرة بقوله: ( الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ) .
وإذْكان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكهِ إياهم كذلك بقوله : ( رَبّ العَالمينَ) , فأولى الصفات من صفاته جل ذكره، أن يَتْبَع ذلك, ما لم يحْوِه قوله: ( رَبّ العَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ), مع قرب ما بين الاَيتين من المواصَلة والمجاورة، إذ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ . وكان في إعادة وصفه جلَّ ذِكره بأنه ( مالِكِ يوم الدين ) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله : ( رَبّ العَالَمِينَ ) مع تقارب الاَيتين وتجاور الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعانٍ متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّرَ منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله : ( مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ) المعنى الذي في قوله : "مَلِك يوم الدين "، وهو وصْفُهُ بأنه المَلِك .
فبيِّنٌإذاً أن أولى القراءتين بالصواب, وأحق التأويلين بالكتاب, قراءةُ من قرأه : ( مَلِك يوم الدِّين )، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ : ( مالك يوم الدين بمعنى ) : أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء, متفرِّداً به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله : ( رَبّ العَالَمِينَ ) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الاَخرة يوجب وصلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه : مَنْ مَلَكهم في الاَخرة على نحوِ مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله : ( مالك يوم الدين )، فقد أغفلَ وظنَّ خطأ.
وذلك أنه لو جاز لِظانّ أن يظنّ أن قوله : ( ربّ العالمين ) محصورٌ معناه على الخبر عن رُبوبِيَّة عالم الدنيا دون عالم الاَخرة,مع عدم الدلالة على أن معنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول، لجاز لاَخر أن يظنَّ أنذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نَزل قوله : ( رب العالمين ) دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحاً بما قد قدَّمنا من البيان,أن عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.
فإن غَبِيَ ــ عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا ــذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه :
( ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيل َالكِتابَ وَالحُكْمَ والنبُوَّةَ وَرَزَقَنَاهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلْناهُمْ على العَالَمِينَ )
" سورة الجاثية, الآية 16 "
دلالةً واضحةً على أن عالَم كلّ زمان, غيرُعالم الزمان الذي كان قَبله, وعالَم الزمان الذي بعدَه, إذ كان الله جلّ ثناؤه قدفضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ )
الآية
"سورة آل عمران, الآية 110" .
فمعلومٌ بذلك أن بني إسرائيل في عصرنبينا، لم يكونوا مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتبِعون منهاجهُ، دونَ منْ سواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.

وإذْ كان بيِّناً فساد تأويل متأوِّل لو تأوّل قوله : ( ربّ العالمين ) أنه معنيٌّ به : أن الله ربُّ عالميْ زَمن نبيِّنا محمدصلى الله عليه وسلم, دون عالمي سائر الأزمنة غيره، كان واضحا فساد قول من زعم أنَّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دون عالَمِ الاَخرة، وأن ( مالك يوم الدين ) استحقَّ الوصلَ به ليُعلمَ أنه في الاَخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.
وَيُسْألُ زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله ــ في تأويل قوله : (رب العالمين)، تحكَّم فقال: إنه إنما عني بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمد صلى الله عليه، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالم الدنيا دُون عالم الاَخرة ــ من أصل أو دلالة. فلن يقول في أحدهما شيئاً إلاأُلزم في الاَخر مثله .
وأماالزاعم أن تأويل قوله : ( مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قائلَ هذا القول الذي قبله له لازمٌ، إذ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وهُمُ العالَمون الذين قدأخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله : ( رَبّ العَالَمِينَ ).
وأماتأويل ذلك في قراءة من قرأ : ( مالكَ يَوْمِ الدِّينِ ) فإنه أراد : يا مالك يوم الدين، فنصبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جلّ ثناؤه :
( يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْهَذَا )
" سورة يوسف، الآية 29 "
بتأويل : يا يوسف أعرضْ عن هذا. وكما قالالشاعر من بني أسد، وهو شعر فيما يقال جاهلي:
إنْكُنْتَ أزْنَنْتَنِي بِها كَذِباً *** جَزْءُ ، فَلاقَيْتَ مِثْلَها عَجِلاَ
يريد : يا جزءُ . وكما قال الاَخر :
كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللّهِ لا تَنْكِحُونَها *** بَنى شابَ قَرْنَاها تَصُرُّ وتَحْلُبُ
يريد : يا بني شابَ قرْناها .
وإنما أوْرطه في قراءة ذلك ــ بنصب الكاف من " مالك " على المعنى الذي وصفت ُــ حيرتهُ في توجيه قوله : ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِين ) وِجْهَته، مع جرّ : ( مالِكِ يَوْمِ الدّين ) وخفضِه، فظنَّ أنَّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه: (مالكِ يَوْمِ الدّينِ) فنصب: " مالكَ يَوْم الدّينِ " ليكون إياكَ نعبد له خطاباً، كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين. ولو كانَ علم تأويل أول السورة، وأن (الحمدُ لله ربّ العالمين)، أمرٌ من الله عبدَه بقيل ذلك ـكما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس : أن جبريل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ،عن الله : قل يا محمد : ( الحمدُ لله ربّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين )وقل أيضا يا محمد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وكان عَقَل عن العرب أنَّ من شأنهاإذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن غائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل : قد قلتُ لأخيك : لو قمتَ لقمتُ، وقد قلت لأخيك : لو قام لقمتُ، لسهل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر: ( مالك يَوْمِ الدّينِ ) .
ومن نظير "مالك يوم الدين " مجروراً، ثم عَوْده إلى الخطاب ب(إِياك نعبد) كماذكرنا قبل، البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي :
يالَهْفَ نَفْسِي كانَ جِدَّةُ خالِدٍ *** وبَياضُ وَجْهِكَ للتُّرَابِ الأعْفَرِ
فرجعَ إلى الخطاب بقوله : " وبياضُ وَجْهك "، بعد ما قد قضى الخبرُ عن خالدعلى معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة :
بَاتَت ْتَشَكَّى إليّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً *** وقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْد سَبْعِينَا
فرجعإلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول الله، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ :
( حتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَبِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ )

" سورة يونس، الآ]’ 22 "

فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: " وجَرَين بكم " . والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.



فقراءة: " مَالِكَ يَوْمِ الدّينِ " محظورة غير جائزة ، لإجماع جميع الحجة منالقرّاء وعلماء الأمة على رفض القراءة بها .


 
جزاكم الله خيرا أ.د/ الضاوي، ولو كان في الإمكان وضع ملف لتحميل المشاركة كاملة لكان ذلك أمرا محمودا
 
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين
الأستاذ الفاضل محمد شلبي
أشكركم على تواصلكم و اهتمامكم
سأعمل على جمع كل ما يتعلق بسورة الفاتحة في ملف واحد بعد الانتهاء من تحريرها .
و تفضلوا بقبول فائق التحيات والتقدير
 
القول في تأويل قوله تعالى : ( إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ )

القول في تأويل قوله تعالى : ( إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ )


القول في تأويل قوله تعالى :
[FONT=QCF_BSML]( [/FONT]إِيَّاكَ نَعْبُدُ [FONT=QCF_BSML])[/FONT]
وتأويل قوله : إِيّاكَ نَعْبُدُ : لك اللهم نخشعُ، ونَذِلُّ، ونستكينُ، إقراراً لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك .
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع، ونذلّ، ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف، وإن كان الرَّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية، عند جميع العرب أصلها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذَلَّلَ الذي قد وطِئته الأقدام وذلَّلته السابلة: مُعَبَّداً. ومن ذلك قولَ طَرَفة بن العَبْد:
تُبارِي عِتَاقاً ناجياتٍ وأتْبَعَتْ *** وَظِيفاً وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
يعني بالمَوْر : الطريق، وبالمعبَّد : المذلَّل الموطوء . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج : مُعَبَّد، ومنه سمي العبْدُ عبداً لذلّته لمولاه . والشواهد علىذلك ــ من أشعار العرب وكلامها ــ أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى .

القول في تأويل قوله تعالى :

[FONT=QCF_BSML]([/FONT] وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [FONT=QCF_BSML])[/FONT].
ومعنى قوله : [FONT=QCF_BSML]([/FONT] و إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [FONT=QCF_BSML])[/FONT] و إيّاك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك، وطاعتنا لك في أمورنا كلها لا أحد سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة .
فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته ؟ أوَ جائزٌ، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعينُ على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ؟ وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّهما قد أعطاهُ إيَّاهُ ؟ .
قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ، إليه وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلَّفه من طاعته،دون ما قد تَقَضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره .
وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك لأن إعطاء الله عبده ذلك ــ مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه ــ فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه، وليس في ترَكه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق ــ مع اشتغال عبده بمعصيته ، وانصرافه عن محبَّته،ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم ، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته ــ فسادٌ في تدبير، ولا جورَ في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمره عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته .
وفي أمر الله جلّ ثناؤه عبادَه أن يقولوا : [FONT=QCF_BSML]([/FONT] إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ[FONT=QCF_BSML])[/FONT]، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة, أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر، الذين أحلوا أن يأمُرَ الله أحداً من عباده بأمرٍ أو يكلِّفه فرضَ عمل إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلهِ وعلى تركِه .
ولوكانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته.إذ كان ــ على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف ــ حقّاً واجباً على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله ذلك عبدُه أو تركَ مسألة ذلك. بل تَركُ إعْطائِه ذلك عندهم منه جَوْرٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكن القائل: [FONT=QCF_BSML]([/FONT] إِيّاكَ نَعْبُدُ و إيّاكَ نَسْتَعِينُ[FONT=QCF_BSML]) [/FONT]إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور . وفي إجماع أهل الإسلام جميعا ــ على تصويب قول القائل : "اللهم إنا نستعينك"،وتخطئَتِهم قول القائل : "اللهم لا تجر علينا" ــ دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم.إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم : " اللهم إنَّا نستعينك "ــ اللهم لا تترك مَعونتنا التي تَرْكُكَهَا جَوْرٌ منك .
فإن قال قائل : وكيف قيل : [FONT=QCF_BSML]([/FONT] إيّاكَ نَعْبُدُ و إيّاكَ نَسْتَعِينُ[FONT=QCF_BSML])[/FONT] فقدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّ بالتقديم قبلَ الـمُعانِ عليهمن العمل، والعبادةُ بها .
قيل : لـمَّا كان معلوماً أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلَّ ثناؤه، وكان محالاً أن يكون العبْد عابداً إلا وهو على العبادة مُعانٌ، وأن يكون معاناً عليها إلا وهو لها فاعل، كان سواءً تقديمُ ما قُدم منهما على صاحبه. كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها :"قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ"، فقدَّمْتَ ذِكر قضائه حاجتَك.أو قلتَ: أحسنتَ إليَّ فقضيتَ حاجتي"، فقدمت ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة.لأنه لا يكون قاضياً حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسناً إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إيّاك نعبُدُ فأعِنّا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنَّا على عبادتك فإنَّا إيَّاك نعبُدُ .
وقدظنَّ بعض أهل الغفلة أنَّ ذلك من المقدَّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤالقيس:
ولَوْأَنّ ما أسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ *** كَفانِي ولَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
يريد بذلك: كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيراً. وذلك ــ من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرىء القيس ــ بمعْزلٍ . من أجل أنَّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوُجودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالاًّ على الاَخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منه ماقبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعاً في درجته ومرتَّباً في مرتَبتِه.

فإن قال : فما وجْه تكراره : "إ ِيّاكَ"مع قوله : "نَسْتَعِينُ" ، وقد تقدَّم ذلك قَبْل نعبد؟ وهلاَّ قيل: "إياك نعبد ونستعين"، إذْ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ ؟ .
قيل له: إن الكاف التي مع "إيّا"، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعـــل ــ أعني بقوله: "نَعْبُدُ" ــ لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُـــثِّــرت ب "إيّا" متقدِّمَةً، إذ كانت الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمَّا كانت الكاف من "إياكَ" هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافاً وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال: "اللهم إنا نعبدكَ و نستعينكَ ونحمدكَ ونشكركَ"، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب، من أن يقال: "اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد" كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً ب " إيّا "، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادتَها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتهاجائزاً. وقدظنَّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ أنّ إعادة " إياك " مع " نستعين "بعد تقدّمها في قوله : [FONT=QCF_BSML]([/FONT]إياكَ نَعْبُدُ[FONT=QCF_BSML])[/FONT] بمعنى قول عديّ بن زيد العِبَاديّ:
وجاعل ُالشَّمْس مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ *** بيْنَ النَّهارِ وبيْنَ اللّيْل قَدْ فَصَلاَ
و
كقول أعشى هَـمْدان :

بيْنَالأشَجِّ وبيْنَ قَيْسٍ باذِخٌ *** بَخْ بَخْ لوَالدِه وللمَوْلُودِ
وذلك من قائله جهل؛ من أجل أن حظ "إياك" أن تكون مكرّرة مع كل فعل لما وصفنا آنفاً من العلة، وليس ذلك حُكم "بين" لأنها لا تكون ـ إذا اقتضت اثنين ـ إلاّ تكريراً إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين كان الكلام كالمستحيل . وذلك أن قائلاً لو قال: "الشمس قد فَصَلت بين النهار"، لكان من الكلام خَلْفاً لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيـــــــــه "بين".

ولوقال قائل: "اللهمّ إياك نعبد" لكان ذلك كلاما تامّاً. فكان معلوما بذلك أنّ حاجةَ كل ّكلمةٍ كانت نظيرةَ "إياك نعبد" إلى "إياك"كحاجة "نَعبد" إليها، وأن الصواب أن تكونَ معها "إياك"، إذ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّناً حُكم مخالفة ذلك حُكم "بين" فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله .

 
القول في تأويل قوله تعالى : اهْدِنا

القول في تأويل قوله تعالى : اهْدِنا

القول في تأويل قوله تعالى :

) اهْدِنَا (
ومعنى قوله :
) اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيم (
في هذا الموضع عندنا : وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس (ت 68ه). وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنافي تأويله .ومعناه نظير معنى قوله :
( إيّاكَ نَسْتَعِين )
في أنه مسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابةِ الحق والصواب فيما أمرَه به ونهاه عنه فيما يَستَقبِلُ من عُمُره دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره، كما قوله :
( إِيّاكَ نَسْتَعِين )
مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته فيما بقي من عُمُره. فكان معنى الكلام: اللهم إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك منالاَلهة والأوثان، فأعِنَّا على عبادتك، ووفِّقنا لما وفَّقت له من أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك من السبيل والمنهاج . فإن قال قائل : وأنَّى وجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق ؟ قيل له : ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد، فمن ذلك قول الشاعر :
لا تَحْرِمَنِّي، هَدَاكَ اللّهُ، مَسْألتي /// ولا أكُونَنْ كمَنْ أوْدَى بِهِ السَّفَرُ
يعني به : وفَّقك الله لقضاء حاجتي.
ومنه قول الاَخر :
وَلا تُعْجِلَنِّي هَدَاكَ المَلِيكُ /// فإنّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالاَ
فمعلوم أنه إنما أراد : وفقك الله لإصابة الحقّ في أمري . ومنه قول الله جل ثناؤه :
) واللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ (
فيغير آيَةٍ من تنزيله . وقد عُلم بذلك أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّن للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه ؟ ولكنه عنى جلّ وعزّ، أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحقوالإيمان صدورَهم . وقدزعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهْدِنا ) زدْنا هداية . وليس يخلُو هذا القولُ من أحدِ أمرين: إماأن يكون ظنّ قائلُه قد أن النبي e أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيـان، أوالزيادةَ في المعونة والتوفيق.
فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له، لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبداً فرضاً من فرائضه،إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان معنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ،لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه، وذلك من الدعاء خَلْفٌ[1]، لأنه لا يَفْرِضُ فَرْضاً إلا مبيَّناً لمن فرضَهُ عليه، أو يكونَ أمِرَ أن يدعوَ ربَّه أن يفرضَ عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها. وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أنمعنى:
( اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ )
غير معنى بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك. أويكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قدمضى من عمله، أو على ما يحدُث. وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تَقَضَّى من عمله[2] ما يُعلِمُ أنَّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث منعمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك : من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنَّ كل مأمور بأمــرٍ أو مكلف فرضا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه، لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه :
) إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ` اهْدِنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم (
وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا فسادُ قولهم . وقد زعم بعضُهم أنَّ معنى قوله :
) اهْدِنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم (
أَسْلِكْنا طريق الجنة في المعاد، أي قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جلَّ ثناؤه :
) فاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيمِ (
" سورة الصافات، الآية 23 "
أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعنى بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهْدِي الساقَ القدمُ، نظيرَ قول طرفة بن العبد:
لَعِبَتْ بَعْدِي السُّيُولُ بِهِ /// وجَرَى في رَوْنَقٍ رِهمُهْ
للفَتى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ /// حَيْثُ تَهْدِي ساقَهُ قَدَمُهُ

أي ترِدُ به الموارد . وفيقول الله جل ثناؤه :
) إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ (
ما ينبىء عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته . وذلك أنَّ جميع المفسِّرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنَّ معنى " الصراط " في هذا الموضع غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله :
( إِيّاكَ نَسْتَعِينُ )
مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته،فكذلك قوله " اهْدِنا "، إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره. والعربُ تقول : هديتُ فلاناً الطريقَ، وهديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق: إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جلَّ ثناؤه :
) وقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا لَهَذَا (
" سورة الأعراف، الآية 43 "
وقال في موضع آخر :
) اجْتبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ (
" سورة النحل، الآية 121"
وقال :
) اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (
وكل ذلك فاشٍ في منطقها، موجودٌ في كلامها، من ذلك قول الشاعر :
أسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبا لَسْتُ مُحْصِيَهُ /// رَبَّ العِبادِ، إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
يريد : أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه:
) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (
" سورة غافر، الآية 55 "
ومنه قول نابغة بني ذُبْيان :
فَيَصِيدُنا العَيْرَ المُدِلَّ بِحُضْرِهِ /// قَبْلَ الوَنى، والأشْعَب النَبَّاحَا
يريد : فيصيدُ لنا . وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية .


[1]ـ ردىء من القول .
[2]ـ زال و ذهب .
 
عودة
أعلى