جَمِيلُ النّبأ في تأويلِ انفراداتِ يعقوبَ ورويسٍ في سَبَأ

إنضم
30/04/2011
المشاركات
60
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
المدينة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
جَمِيلُ النّبأ في تأويلِ انفراداتِ يعقوبَ ورويسٍ في سَبَأ

الحمد لله الملك الخلّاق، الكريم الرزّاق، والصلاة والسلام على المبعوث متمّماً للأخلاق، نبيّنا محمدٍ المسبِّحِ بالعشيِّ والإشراق ما أينعت الأغصان واخضرّت الأوراق، وعلى آله وأصحابه الرفاق، ومن تبعهم على وفاق، صلاةً وسلاماً ممتدّين إلى يوم التلاق، وبعد:
فإنّي حينما كنت أقلّب النظر في صفحاتٍ من القرآن العظيم مستذكراً بعض الأوجه القِرائية، ومستصحباً شيئاً من الانفرادات الرّوائية؛ وقع بصري على سورة سبأ؛ فألفيتها تحتفل بعدّة انفرادات فرشية للإمام يعقوب الحضرمي، وراويه رويس؛ ثم أنعمتُ فيها النظر؛ وإذ بهذه المفردات الفريدة الفذّة حريٌّ بها وحقيقٌ، وقَمِنٌ وخليقٌ؛ بأن تُبحث في بحيثٍ يُبين وجوهها، ويكشف تأويلها، وينتصر لها؛ فاستعنت بالله المجيب القريب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب...
وإنّ هذه الانفرادات تكمن في ثلاثة مواضع؛ سأسوقها موضعاً تلو الآخر مبيناً وجهها، وتأويلها، وإعجازها؛ فإليكها:

الموضع الأول: قوله تعالى: "فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"
في قوله (تَبَيَّنَتِ الجِنُّ) قراءتان:
الأولى: قراءة جميع القراء إلا رويساً: (تَبَيَّنَتِ الجِنُّ).
الثانية: قراءة رويس: (تُبُيِّنَتِ الجِنُّ).

التوجيه: قد آتى الله سليمان الملك، وكان الجنّ خدماً له، ثم شاء اللهُ أن يموت سليمان وهو متكئٌ على منسأته؛ ولم تعلم الجن بذلك؛ فاستمرّت في الخدمة حولاً كاملاً؛ ثم شاء الله بعد انقضاء الحول أن تأكل الأرضة منسأته فخرّ عليه السلام ساقطاً بانكسار عصاه؛ حينئذٍ تبينت وعلمت وأدركت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب الذي كانوا يدّعونه ما لبثوا في الإهانة والخدمة، والعذاب والغفلة حولاً كاملاً؛ فيا للعار يدّعون الغيبَ وقد لبثوا في الخدمة حولاً كاملاً مليئاً بالمشقة والعنت، والهلكة والكبد؛ ومليكُهم ومخدومهم سليمان عليه السلام ميّتٌ ويحسبونه حيّاً؛ فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى؛ يقول الله: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله"
فهذا هو المعنى على قراءة الجماعة.
ومن لطيف وجميل ما أعجبني قول الزمخشري أبي القاسم: "علم المدّعون عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب؛ وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم وإنما أريد بهم التهكم كما يُتهكم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله"
أمّا قراءة فارسنا رويس بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله؛ فهي تشير وتلمح لمعنىَ آخرَ أشدّ خزياً وعاراً للجن؛ وهو تجاوز العلم والتبين بحال الجن الكاذب إلى أمة الإنس؛ حيث إنّ التقدير: تبينت الإنسُ الجنَّ؛ فالإنس علمت وتبينت، وأدركت وعقلت أن الجنّ كاذبون، وللغيب جاهلون؛ فتبيّن للإنس صَغار الجن واستكبارهم فيما يموهونه، وجهلهم وكذبهم فيما يدّعونه؛ فبانَ اللثام، وانكشف الغطاء على التمام.
ومن الشواهد على هذه القراءة القراءة الشاذّة: (تَبَيَّنَتِ الإنسُ أنّ الجنَّ...)، أو (أن لو كان الجنُّ)، حيث نقل النحاس في المعاني قول قتادة فقال: "قال قتادة: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: تبيّنت الإنسُ أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى الإعجاز الباهر، والمعنى العذب التى تحققه القراءتان بانضمامهما لبعضهما، ولاحظ كيف أنّ قراءة رويس أضفت معنىً آخر على الموقف؛ حيث قراءة الجماعة أعلمتنا أن الجنّ أنفسهَم علموا قصورهم، وأدركوا نقصهم، وتيقنوا كذبهم، وعرفوا جهلهم؛ وقد يكون المعنى كذلك أنّ صغار الجن كشفوا كذب كبرائهم الذين كانوا يموهون عليهم بادعاهم معرفة الغيب فلا منافاة!!
أما قراءة رويس فبيّنت تجاوز الأمر إلى عالم الإنس بعلمهم كذبَ الجن؛ وقد صورت هذه القراءة خزياً وعاراً، ومهانة وشناراً اكتنف الجنّ بكذبهم وادّعائهم ما ليس فيهم.
ومن تأمل بعين البصر والبصيرة علم صدق ما قعّده العلماء بقيلهم: "إن تعدد القراءات بمنزلة تعدد الآيات"
وفي الختام، ونهاية الكلام في هذا الموضع أنبّه على أمر؛ وهو أنّ قوله تعالى:
"أن لو كانوا يعلمون الغيب" تكون على قراءة الجماعة مؤولة بمصدر في محل نصب مفعول به؛ وقوله: (الجن) فاعل؛ والتقدير: تَبيَّنت الجنُّ كونَهم لو يعلمون الغيب...
أمّا على قراءة رويس فتكون مؤولة بمصدر في محل رفع بدل من (الجن) التي هي نائب فاعل والله أعلم.

• الموضع الثاني: قوله تعالى:"فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا"
فيها ثلاث قراءات:
الأولى: (ربَّنَا بَعِّدْ) وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وهشام.
الثانية: (ربُّنَا باعَدَ) وهي قراءة يعقوب.
الثالثة: (ربَّنَا باعِدْ) وهي قراءة الباقين.

التوجيه: لا شك أن التقدير في قراءة الجماعة: "يا ربنا باعد أو بعّد بين أسفارنا"؛ فهي دعاءٌ وطلبٌ ومسألةٌ من القوم لله بأن يجعل بينهم وبين الشام فلوات، ومفاوز، ونواهٍ، ونواحٍ ليسافروا إليها ركوباً على الرواحل، ويتزودوا في سفرهم الزوائد؛ وقد كان الله منّ عليهم؛ فقربّ بينهم المسافات، ومنعهم الفلوات، وجعل سيرهم بين القرى مقدّراً ميسوراً آمناً تمنناً وتفضلاً منه سبحانه؛ لكنّ الأشرين بطروا النعمة، وجهلوا العافية، ولم يعتدّوا بما أنعم الله عليهم؛ فسألوا ربهم أن يباعد أسفارهم تبرمّاً بالرخاء والرفاهية، وظنّاً منهم بأنّ المتعة كائنة في السفر ركوباً على الرواحل، والفرحةَ بالتزوّد للأسفار بالأكل والسوائل!!
أمّا قراءة يعقوب؛ فقوله (ربُّنا) مرفوعةٌ على وجه الابتداء، وفي القراءة إخبارٌ عن الله بأنه استجاب لطلبهم، وأعطاهم منالهم؛ وفيها أيضاً إشارة جميلة، وإلماحة جليلة، وصورة نبيلة تُصور بأنهم أخبروا ما فعل الله بهم على وجه الشكاية والتحسر والرجاء بأن يرجعهم الله كما كانوا؛ ولكنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم النعم؛ فمزقهم الله كل ممزق، وغدوا مثلاً يُضرب، ونحواً ينتحى؛ وفي ذلك يقول كثير:
أيادي سبا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكُمْ ** فلمْ يحْلُ للعَيْنَيْنِ بعدَكِ مَنظرُ
وقد أنزل الله هذه المعاني في العرضتين؛ مرّة بدعائهم وأخرى بإخبارهم ما حلّ بهم وشكايتهم إلى الله؛ فتأمّل ما أجمل القراءتين!!؛ فكلّ واحدةٍ مبنيةٌ على الأخرى؛ حيث إنّ كلّ قراءة صوّرت صورة تختلف عن أختها؛ وكأنّ التصوير في القراءتين يجعل الموقف مرّ بمراحل؛ حيث في بداية الأمر كانت قراهم قريبة لا بعدَ فيها نعمةً من الله؛ لكنّهم لم تعجبهم هذه النعمة؛ فكفروها، وبشموا الراحة وسئموها، وآثروا الشقّة وطلبوها؛ فطلبوا وألحوا على الله بطراً وأشراً؛ بأن يباعد بين أسفارهم ظانّين أنّ الحياة أحلى بركوب الرواحل، واجتياز المفاوز، وسكب العرق وصولاً إلى المبتغى؛ هذا ما تصوّره القراءة الأولى؛ أمّا قراءة يعقوب؛ فأخبرت استجابة الله دعاءهم، وإعطائهم سؤلهم؛ حيث باعد بين أسفارهم؛ بل أضفت معنىً جديداً -بعد نولهم المشقة-؛ وهو شكايتهم إلى الله البعد الحاصل الذي كان مرجواً، وتمنّيهم العودة على ما كانوا عليه من النعمة والإلى؛ كما فعل بنو إسرائيل في أكثر من مرة كما قصّ الله في كتابه.
لكنّ الله عاقبهم بكفرانهم النعماء، وجحودهم الآلاء؛ وهذا مصير كلّ من يكفر النعم؛ وما أجمل قول ابن عاشور في تحريره: "من أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها؛ قال الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري: "من لم يشكر النِّعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها"".

• الموضع الثالث: قوله تعالى: "فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا"
فيها قراءتان:
الأولى: (جزاءً الضِّعْفُ) وهي قراءة رويس مع كسر التنوين وصلاً للساكنين.
الثانية: (جزاءُ الضِّعْفِ) وهي قراءة الباقين.

التوجيه: هاتان القراءتان حالهما حالُ القراءتين في سورة الكهف في قوله تعالى: "وأما من آمن وعمل صالحاً فلح جزاءً الحسنى"
أمّا قراءة الجماعة فبيّنة المعالم؛ حيث إنّ (جزاء) مضاف على أنه مصدر مضاف لمفعوله؛ والتقدير: (يجازيهم الله الضعفَ) على المبني للمعلوم، أو على البناء للمجهول (يُجزون الضعفَ).
أمّا قراءة رويس ففيها إعرابان:
الأول: أنّ (أولئك) مبتدأ، و(لهم) خبر، و(الضعف) بدل من موقع (لهم)، و(جزاءً) حال، والعامل فيها الاستقرار، وما في (لهم) من معنى الفعل.
الثاني: أنّ (جزاءً) حال كذلك، و(أولئك) مبتدأ أول، و(الضعف) مبتدأ ثان، و(لهم) خبر لـ (الضعف)، والجملة خبر المبتدأ الأول.
وعلى كلّ حال؛ فليكن منك على بال؛ بأنّ قراءة رويس كقولك: في الدار قائماً زيدٌ؛ ويكون التقدير : (لهم الضعفُ مجزيّين به)، أو (لهم الضعفُ جزاءً)؛ والضعف قد يكون بعشر أمثال الحسنات، أو مطلقاً؛ وكأنه قال: جوزوا ذلك جزاءً.
والملاحظ أنّ التقدير في قراءة الجماعة يكون بجملة فعلية، أما على قراءة رويس فالتقدير جملة اسمية؛ والجملة الاسمية أثبت وأشدّ، وأقوى وآكد من الفعلية كما هو معلوم والله أعلم؛ ولذلك كانت تحية إبراهيم عليه السلام أحسن وآكد من تحية الملائكة الضيفان؛ فهم سلّموا بجملة فعلية وهو ردّ باسمية.
ومن جميل ما يُستنتج بعد التأمل في هذا الانفرادات بأنها من القوة بمكان؛ حيث كلها تأتي إلى غاية ما يصل إليه المعنى من مدىً؛ فليُنظر!!
وختاماً لا ريبَ أنّ تغيّر الحركات الإعرابية، أو البنائية في الحرف القرآني، وكذلك التنقلّ من المبني للمعلوم إلى المجهول؛ كلّ ذلك مؤذنٌ بتغير المعنى، أو تأكيده، أو إضافة معنىً لطيفٍ حسنٍ؛ فسبحان منزّل القرآن على سبعة أحرف تيسيراً وتسهيلاً!!
وبهذا قد انتهى الكلام على هذه الانفرادات الفرائد، المليئة بالفوائد، المستكملة العواضد؛ وإنّي بعد هذه الإطلالة السريعة، والتحليق الجميل في سماء لطيف هذه الانفرادات في هذا البحيث؛ لأوصي بمزيد العناية بانفرادات القراء توجيهاً وبياناً؛ حيث فيها الكمّ الهائل من المعاني اللطيفة الجسيمة؛ ولا شكّ أنها تُضفي على الآي القرآني جمالاً فوق جمال، وكمالاً على كمال؛ وإنّ القراءات إن حيكت ونسجت مع بعضها؛ فإنها تُنتج ثوباً جميلاً من الإعجاز الذي يدل على قوة بيان، وبلاغة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يستطيع أحد على معارضته؛ بصّرنا الله بدلائله، ولطيف إشاراته وبيّناته؛ اللهم آمين.
هذا والله أعلم وصلى الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
جزاكم الله خيرا على هذه الإفادة أخي الكريم ورفع قدرك وجعله في ميزان حسناتك، باب توجيه القراءات من الأبواب الهامة التي قل أصحابها الآن فمن الجميل أن نجد من يهتم به وينبه عليه بين الحين والآخر ويتحفنا ببعضه، فجزاكم الله عنا خيرا
 
آمين آمين؛ وإياكم أخي الكريم؛ ولا شك أنّ توجيه القراءات من أجمل علوم القراءات التي يلزم الاهتمام بها والكتابة فيها، وإظهار جمالها الباهر وإعجازها الساحر!!
 
جزاكم الله خيرا، أرجو وضع البحث بالحواشي في المرفقات بارك الله فيك
 
ما شاء الله بارك الله فيك اخى الكريم
وجزاك الله كل خير
 
عودة
أعلى